محمد إقبال

سيرته وفلسفته وشعره

تأليف : الدكتور عبد الوهاب عزام

بقلم : الدكتور طه حسين

يرحم الله صديق الكريم عبد الوهاب عزام فقد كان مصدر نفع أي نفع وخير أي خير لوطنه ولغته . كان رائداً من رواد الحياة الأدبية العليا بأدق معانيها وأصدقها في الوطن العربي كله ثم في التقريب بين هذا الوطن العربي وبين أوطان أخرى بعيدة في الشرق والغرب .

عرفته طالباً في مدرسة القضاء الشرعي مختلفاً إلى دروس الجامعة الحرة ، وكنت في تلك أيام أستاذاً للتاريخ اليوناني الروماني القديم ، فكان يختلف إلى الدروس التي كنت ألقيها . واشهد لقد كان أبرع الطلاب الذين كانوا يشهدون دروسي في تلك الأيام وأنجبهم . كان أرقهم قلباً وأدقهم شعوراً واصفاهم ذوقاً وأبعدهم أفقاً .

لم يكن يكتفي بدروسه في مدرسة القضاء على عسرها وتعقدها ، وإنما كان يقبل عليها وجه النهار ثم يسعى من آخر النهار إلى الجامعة فيشهد ما كان يلقى فيها من دروس . فإذا فرغ لنفسه حين يقبل الليل جد في الدرس والاستذكار لما كان يسمع في المعهدين من دروس .

ثم لم يكن يكتفي بهذا كله وإنما كان يضيف إليه نشاطاً جديداً لم يكن مألوفاً في مصر أثناء ذلك العصر.

كان يحاول أن يتعلم اللغة التركية ، وكنت إذا أردت أن أدرب طلاب الجامعة على قراءة نص من النصوص الفرنسية التي تتصل بتاريخ الحضارة اليونانية أو الرومانية أو بالأدبين اليوناني واللاتيني كلفته هو القراءة والتفسير، وقمت منه مقام الأستاذ الذي يعلم تلاميذه كيف يقرؤون وكيف يفقهون .

وكان زملاؤه يألفونه ويعجبون به ، وكنت له محباً وبه معجباً كزملائه . وقد ظفر بالليسانس من الجامعة القديمة وتخرج في مدرسة القضاء الشرعي ، ثم أرسل إلى السفارة المصرية في بلاد الإنجليز حيث استطاعت مصر أن ترسل السفراء إلى البلاد الأجنبية . فلم يكتف بعمله فيها وإنما اختلف إلى جامعة لوندرة ، فسمع لدروس المستشرقين فيها وجعل يدرس اللغة الفارسية وآدابها وظفر منها بدرجة الماجستير. ثم دعوته إلى الجامعة المصرية بعد أن أصبحت حكومية فعلم في كلية الآداب مع أستاذه وكان يعلم اللغة العربية واللغتين الفارسية والتركية . ولم يكن يكتفي بهذا أيضاً وإنما كان يستزيد من العلم باللغات الشرقية حتى أتقن الفارسية والتركية ، وأصبح مؤسساً للقسم الذي كانت تدرس فيه هاتان اللغتان . فهو أول مصري علم في جامعة وطنه اللغات الشرقية الإسلامية .

وفي أثناء ذلك ظفر بترجمة عربية للشاهنامه ، فصححها وأكملها ثم نشرها وتقدم بها وبدراسة للشاهنامه ، لنيل درجة الدكتوراه من الجامعة المصرية . وكان يوم مناقشته في رسالته يوماً مشهوداً من أيام الجامعة شارك في مناقشته أستاذته الذين صاروا له زملاء ، وحضر هذه المناقشة تلاميذه ، كما شهدها مدير الجامعة ووزير المعارف إذ ذاك .

فكان امتحانه عيداً من أعياد الآداب بل من أعياد الجامعة ، رأت فيه مصر شاباً من شبابها يتخصص في الأدب الفارسي ويشارك الغربيين في إحيائه ، ثم يحييه للأمة العربية التي بعد عهدها بمثل هذه الدراسات . ثم صار أستاذاً للغة الفارسية وآدابها ورئيساً للدراسات الشرقية الإسلامية ، ولم يلبث أن برز في هذه الدراسات فأتقن العلم بها إتقاناً نادراً . وكان في الوقت نفسه كثير البحث عن القديم من الأدب الفارسي كثير العكوف على دراسته مغرقاً في دروس التصوف الفارسي حتى تأثر بهذا التصوف في حياته اليومية وفي سيرته مع من يألف من الأساتذة ومن يعلم من الطلاب . وظفر ذات يوم بنسخة مخطوطة من كتاب كليلة ودمنة الذي نقل إلى العربية في القرن الثاني للهجرة ، وكانت نسخته تلك أقدم النسخ المعروفة من هذا الكتاب ، فأسرع إلى تحقيقها ونشرها . ثم أنفق حياته الجامعية كلها في تثبيت هذه الدراسات الشرقية الإسلامية فتخرج عليه تلاميذ وبرعوا في هذا اللون من العلم كما برع أستاذهم وأصبحوا الآن أساتذة لهذه الدراسات في الجامعات المصرية .

فهو لم يهد علمه إلى وطنه العربي فحسب وإنما أهدى إلى هذا الوطن علماء نابهين يسيرون الآن سيرته ، فيهدون علمهم إلى وطنهم وينشئون لهذا الوطن علماء مثلهم . فقد كان عبد الوهاب عزام إذن شخصية مباركة على العالم العربي الحديث لم يؤثر نفسه بالخير، بل لم يؤثر نفسه بخير ما ، وإنما آثر وطنه بالخير كله وبالجهد كله وبالإخلاص كله . فإذا عدا عليه الموت فاختطفه من بين تلاميذه وزملائه ومحبيه ، فإن الموت لم يقدر عليه ولم يقطع صلته بالحياة لأنه ما زال يحيا بيننا بعلمه الذي انتشر في الشرق العربي كله بل في الشرق الإسلامي كله ، وبتلاميذه الذين يبذلون من الجهد مثل ما بذل ويجدون في الدرس كما جد ، ويخلصون قلوبهم لوطنهم وأمتهم وللعلم كما أخلص جهده لوطنه وأمته وللعلم . وقد استكشف فيما استكشف نابغة من نوابغ الشرق هو الشاعر العظيم محمد إقبال شاعر الهند والباكستان ، فلم يختص نفسه بما درس من شعره وأدبه ، وإنما قدم طائفة صالحة رائعة من آثاره لوطنه وللغته العربية ، وألف عنه كتاباً ممتعاً هو الذي أشرف بتقديمه إلى قراء العربية في طبعته الثانية .

وهو كتاب أقل ما يوصف به أنه صورة صادقة رائعة لكاتبه ولموضوعه جميعاً . فهو لا يصور إقبالاً وحده وإنما يصور معه مؤلفه عبد الوهاب عزام . كلا الرجلين كان عذب الروح محبباً إلى القلوب ، وكلا الرجلين كان بعيد المرامي . لم يكن عبد الوهاب عزام يكتفي بأن يكون مصرياً عربياً وإنما كان يريد ـ وقد حقق ما كان يريد ـ أن يكون عربياً إسلامياُ . فأتقن العلم بأمور المسلمين جميعاً قريبهم وبعيدهم ، وسار سيرة المسلم الصادق في إسلامه والمتصوف المخلص في تصوفه . ولم يكن إقبال يكتفي بأن يكون هندياً يفكر دائماً في أن يستقل المسلمون بالباكستان ، وإنما كان حريصاً على أن يكون كذلك ، وعلى أن يكون مسلماً صادق الإسلام ومتصوفاً خالص التصوف .

فكان لقاء هذين الرجلين الكريمين لقاء روحي ائتلفا فتحابا في ذات الله وفي ذات الإسلام . وكلا الرجلين كان شاعراً كاتباً . أدى إقبال أكثر آثاره شعراً وترجم عبد الوهاب عزام إلى العربية كثيراً من آثاره شعراً أيضاً . ثم لم يقف عزام عند اللغة الفارسية وحدها ، وإنما أتقن معها التركية ونقل منها إلى العربية أشياء كثيرة متفرقة . ولم ينفع وطنه بالعلم ولا بالعلم والأدب وحدهما ، وإنما كان سفيراً لبلاده في الباكستان ، فأحسن السفارة وبلغ من التقريب بين المسلمين من العرب والمسلمين من الشرق البعيد ما لم يبلغه مصري قبله .

ثم يريد الله لعبد الوهاب عزام أن يختم حياته مديراً للجامعة الأولى التي أنشئت في أعماق نجد في عاصمة البلاد العربية السعودية . ولو قدمت له أسباب الحياة هناك لكان لتأثيره في العقل العربي شأن أي شأن ، ولكن لله حكمة هو بالغها وأمراً هو منفذه ؛ فقد اختار لعبد الوهاب عزام أن يلم بوطنه وأهله وأصدقائه مودعاً أو كالمودع ، ثم يسافر إلى جامعته في الرياض فيكون هذا آخر العهد به آخر العهد بشخصه الحبيب ، فأما علمه وأدبه فباقيان ما بقيت اللغة العربية والأمة العربية .