ايريك بينيه بيركيل

ايريك بينيه بيركيل

يتهمونه بمعاداة السامية ويؤاخذونه علي إهدائه روايته للعرب والزنوج:  الروائي ايريك بينيه بيركيل يثير زوبعة في الوسط الأدبـي الفرنسي بـرواية إبـادة

عبدالإله الصالحي

قبل أربعة أسابيع وعلي هذه الصفحات في إطار تغطية القدس العربي للموسم الأدبي الفرنسي لهذا العام، حدثناكم عن ولع الساحة الثقافية الفرنسية بالفضائح الأدبية وكيف أن كل موسم أدبي يسعي بكل الوسائل الممكنة إلي خلق ضجة اعلامية حول كتاب ما يكون بمثابة الشجرة التي تخفي الغابة ويتيح للصحافة الثقافية فتح باب الجدل علي مصراعيه وهو تقليد دأب الفرنسيون علي ممارسته منذ بداية القرن وصار جزءاً من الأعراف الأدبية الفرنسية الراسخة. وكنا لفتنا الانتباه في مقالنا ذاك إلي كاتب فرنسي شاب اسمه إيريك بينيه بيركيل Eric Benier Burckel أصدر رواية لافتة تحت عنوان إبادة وهي الرواية الثالثة بعد روايتين متميزتين، أستاذ تحت المجهر عام 2000 و مهووس عام 2002، أبانتا عن موهبة واعدة وأسلوب متميز تختلف جذريا عن مئات الروايات التي تزدحم بها المكتبات عند كل موسم أدبي. وكنا نود أن نحاور هذا الكاتب الشاب حول روايته ونسأله عن لغز اهدائه الرواية للعرب والزنوج كما جاء ذلك في الصفحة الأولي وأيضا عن سر احدي شخصيات الرواية الثانوية واسمها مراد والهجوم العنيف الذي جاء علي لسانها ضد اليهود والصهيونية. وكنا نعرف سلفا أن هذا الكاتب كان أعرب قبل سنتين بمناسبة صدور روايته الثانية مهووس عن تعاطفه مع الفلسطينيين واستنكاره للعصبية الصهيونية وإمتداداتها الفرنسية. لكن الأسبوع الماضي حدث ما لم يكن في الحسبان وتحول ايريك بيركيل وكتابه إلي موضوع ضجة إعلامية صاخبة وتم اتهامه بمعاداة السامية والتحريض علي كره اليهود. بدأ مسلسل هذه الحملة حين نشرت صحيفة لوموند في صفحتها الثقافية مقالا عنيفا من توقيع الكاتبين والناشرين برنار كومون وأوليفيه رولان تحت عنوان كتاب شنيع في إشارة إلي اسم الشخصية الأساسية في الرواية الشنيع . المقال وصف الكتاب بكونه عبارة عن شلال من القيء المثير للغثيان وبأنه يحفل بالكليشهات الفاشية وبكره صريح لليهود وللنساء وبأنه نص مريض يحتفي بالموت وبكره الذات . واستشهد الكاتبان بمقاطع من فصل قصير تتحدث فيه إحدي الشخصيات العربية، اسمها مراد، عن كرهها لليهود بأسلوب هذياني ينم عن حالة عصابية ومرضية. ورغم أن هذه المقاطع التي استشهد بها المعلقان جاءت علي لسان شخصية روائية فإنهما أصرا علي أنها تعكس وجهة نظر الكاتب نفسه الذي يعادي السامية ويمقت اليهود ويتلذذ بذلك. وفي نهاية المقال يحمل المعلقان علي ناشر الرواية فريديريك بيغبيدي وهو مدير دائرة الرواية في دار فلاماريون التي أصدرت الرواية. ورغم تأكيدهما علي أنهما ضد منع الكتب اعتبرا أن المسؤولية في النهاية تقع علي عاتق الناشر الذي سمح لنفسه بنشر كتاب كله حقد وتحامل علي اليهود. وانتقد المعلقان بشدة المقالات التي مدحت الكتاب، منبهين إلي خطورة تصاعد معاداة السامية في فرنسا. والواقع أن هذا المقال يحمل في طياته عدة ثغرات منها أنه كان في غاية التحامل بجزه لمقاطع من سياقها الروائي ونسبها عنوة للكاتب مباشرة .كما أن الهجوم استهدف بشكل واضح الناشر والكاتب فريديريك بيغبيدي الذي تخوض الدار التي يشتغل فيها أي:  فلاماريون منافسة حادة مع دار سوي التي يشتغل فيها كاتبا المقال وكان آخر فصولها انسحاب الكاتبة كاثرين مييه التي حققت كتبها مبيعات هائلة في السنوات الأخيرة من سوي والتحاقها بفلاماريون وهذا ما قد يعطي الانطباع بأن الهجوم علي كتاب ايريك بيركيل هو بمثابة تصفية حسابات بين دارين ليس إلا. ولم تتوقف الأمور عند هذا الحد ففي نفس اليوم الذي صدر فيه مقال لوموند أطلق رئيس الوزراء الفرنسي جون بيار رافاران، هو الذي يشكل الأدب بالتأكيد آخر همومه، تصريحا ناريا أدان فيه الكُتاب والفنانين الذين، حسب تعبيره، يوظفون معاداة السامية للترويج لكتبهم . لكن بمعرفة السبب يبطل العجب، كما يقول المثل الشهير، فجون بيار رافاران أطلق تصريحه هذا خلال العشاء السنوي الذي يقيمه اتحاد الجمعيات اليهودية في فرنسا والذي حضره إلي جانب 16 وزيرا فرنسيا (نعم ستة عشر وزيرا في عشاء لا علاقة له بعمل الحكومة!!) والعشرات من الشخصيات الفرنسية المعروفة في عالم السياسة والاقتصاد. وخلال هذا العشاء اضطر المدعوون إلي سماع خطبة عصماء لرئيس اتحاد الجمعيات اليهودية في فرنسا روجيه كوكيرمان حمل فيها بقوة علي تهاون السلطات الفرنسية ـ في حضور رئيس الحكومة ووزرائه ـ في الحد من تصاعد معاداة السامية في فرنسا وانتقد بشدة السياسة الفرنسية المتعاطفة مع الفلسطينيين وذهب حد القول بأن اليهود مهددون في الضواحي الفرنسية أكثر مما هم مهددون في القدس وبأن فرنسا بالغت في الاحتفاء بجنازة الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات...

علي أيٍّ حال تصريح رافاران بشأن كتاب بروكيل بعد مقال لوموند سَيُعَرِّضُ بين عشية وضحاها كاتبنا الشاب إلي ضغوط شديدة أججتها أسبوعية لونوفيل أوبسيرفاتور في عددها الصادر أمس الأربعاء والتي خصصت ملفا ضخما من 14 صفحة تصدَّرها مقال لرئيس التحرير لوران جوفران تحت عنوان لا لُبْسَ فيه لا لرواية إبادة أتهم فيه كاتب الرواية بمعاداة السامية وبأن ما تقوله الشخصية العربية في حق اليهود يعكس كره الكاتب نفسه لليهود والدليل، يواصل رئيس تحرير لونوفيل أوبسيرفاتور ، هو أنه أهدي الرواية للعرب والزنوج! واعتبر أن جمال أسلوب الرواية لا يجب أن يحجب حقيقة مضامينها العنصرية في حق اليهود. وتنصل رئيس التحرير في موقف يثير الضحك من محرره الأدبي الذي كتب مقالا في العدد السابق من المجلة يكاد يمتدح فيه الرواية. وفي نفس الملف قامت احدي صحافيات المجلة بطرح سؤالين اثنين علي 27 اسما من مختلف المجالات الثقافية ناشرين ومثقفين وكُتابا وصحافيين: هل يجب منعُ رواية إبادة ؟ ثم: لو كنتَ ناشرا هل تُصدر هذه الرواية؟ وكانت نتيجة هذا الاستفتاء في غاية التعسف حيث جاءت الأجوبة، باستثناء جواب صحافي واحد من مجلة تيكنيكارت ، وكأن الأمر يتعلق بجوقة موسيقية تعزف نفس النشيد. أي ما معناه أن الرواية تافهة فنيا وعنصرية من ناحية المضمون وأن الناشر يتحمل مسؤولية كبري في إصدار كهذا. وكان بالأحري علي منجزة الاستفتاء علي الأقل أن تفسح المجال لكاتب الرواية وللناشر فريديريك بيغبيدي كي يدافعا عن نفسيهما وسط هذا الطوفان من الانتقادات المتحاملة. كما أنها لم تراع، وهذه أبسط قواعد العمل الصحافي، تعدد الآراء فيما يخص الأسماء المستجوبةَ لذا أتت الأجوبة في الاتجاه الهجومي الذي ابتغاه رئيس تحرير المجلة من دون إنصاف ولا موضوعية.

ومع اشتداد الحملة وتزايد اللغط اضطر ايريك بينيه بوركيل إلي كتابة رسالة إلي صحيفة لوموند يرد فيه علي مقال برنار كومون واوليفييه رولان ويدافع فيه عن التهم الموجهة إليه بأسلوب راق ورؤية ثاقبة تجدون نصها الكامل في هذه الصفحة.

لكن الصحيفة وهذا أمر يدعو فعلا إلي الاستغراب والاستنكار نشرت رسالة الكاتب في بريد القراء ولم تعطها المكانة التي تستحقها والأهمية ذاتها التي مُنِحَتْ للمقال الذي هاجمه.

هكذا إذن في فرنسا تستطيع أن تكون كاتبا، حتي من الدرجة العاشرة، وتكتب رواية تنسج فيها شخصية تشتم العرب والزنوج وتتباهي بكونها عنصرية. ولن تجد أحدا يري مانعا في ذلك. فللأدب حرية مقدسة وتجد دائما من ينبهك إلي الحذر من الخلط، فالشخصيات الروائية شيء والكاتب شيء آخر. لكن أن تكون روائيا، وموهوبا، وتكتب رواية تتضمن شخصية ثانوية لا تحب اليهود فذلك يعرضك علي الفور لاستهجان منقطع النظير ووابل من التهديدات بالملاحقة القضائية. لكن أين كان رئيس الوزراء الفرنسي وأين كان هؤلاء الكتاب والناشرون والصحافيون الذين يتحاملون الآن علي ايريك بينيه بوركيل حين أصدر ميشال ويلبيك رواية بلاتفورم التي تضمنت شتائم بذيئة في حق الإسلام والمسلمين وفي حق المهاجرين العرب وذهب حتي ترديدها في الحوارات التي أُجريت معه؟ إنها سياسة الكيل بمكيالين مرة أخري في الأدب كما في السياسة. فالغالبية التي دافعت عن ويلبيك واعتبرت هجومه علي الإسلام موقفا فنيا وروائيا رغم تصريحه علنا بأن الإسلام أتفه دين في العالم هي نفس الغالبية التي تهاجم بنزق مذهل بروكيل متهمة إياه بمعاداة السامية رغم أنه يؤكد بأنه براء من ذلك.

لكن لنترك الجدل حول معاداة السامية الذي سيضر حتما بقيمة هذه الرواية التي تظل في اعتقادنا من أهم الروايات الفرنسية الصادرة هذا العام رغم أنف بعض النقاد الفاشلين. إنها قصة تدور حول شخصية الشنيع أستاذ ينحدر من أصول اجتماعية فقيرة يشتغل بإحدي المؤسسات التعليمية في ضواحي باريس ويحلم بوضعية اجتماعية مريحة تتيح له تحقيق حلم يراوده منذ زمان ويتمثل في كتابة رواية. وتجمع الصدف شخصية الشنيع بامرأة عجوز في غاية الثراء تسكن في بيت فخم في الدائرة السادسة في باريس وهي دائرة بورجوازية غير بعيدة عن الحي اللاتيني. تسقط هذه المرأة التي سماها الكاتب المُضيفة في حب الشنيع وتقترح عليه السكن معها في بيتها علي أن تهتم به وترعاه ماديا ليتفرغ لكتابة روايته. ورغم تقززه منها يقبل بالعرض وهو مدرك تماما أن عليه تحملها طيلة المدة التي ستستغرقها الرواية.

وعبر هذا البناء البسيط يصف الكاتب العلاقة المازوشية التي تجمع بين الاثنين والتي يمتزج فيه الحب بالكراهية حيث تثير فيه المضيفة الرغبة في القتل والتعذيب. فالمضيفة  تتعامل معه وكأنها اشترت روحه وهي تحاول يوميا السيطرة عليه وتمنعه من التدخين ومن السهر ورؤية أصدقائه وتطالبه بممارسة الجنس من دون أن تحترم رغبته.

لكن المهم في الرواية ليست هذه العلاقة بل التداعيات التي تطبع شخصية الشنيع وتأملاته في المجتمع الفرنسي والوسط الأدبي والمدرسة والكتابة علي وجه الخصوص.

ثمة مقاطع في هذه الرواية تلمع كالسكين في العتمة :الشنيع يكتب ليغتال جسده. يدمر نفسه ليل نهار بالقلم والسجائر. إنه يشفق علي طبعه الانتحاري. انه غير ناضج. وإن هو ارتمي في أحضان الكتابة فلأنه رعديد ويخاف من مواجهة الحياة. ولأن كبرياءه تمنعه من العيش مثل الآخرين .

وفي الواقع يبدو الكاتب جارحا مع النساء. كل النساء. وأحيانا يفلح في التقاط حقائق صادمة مثلما كتب متحدثا عن زميلة في الثانوية يعاشرها من حين لآخر: أن تخرج مع أستاذ فلسفة شاب مثلكَ أمر يبعث فيها نوعا من الفخر بلا شك. فهي ليست من النوع الذي يطارده الرجال. إنها من النوع الذي لا يمسه الواحد إلا إذا كان سكرانا أو في غاية الكبت. لكنك تحب المؤخرات البدينة والصدور الممتلئة.

ليست لديك مشكلة في ممارسة الجنس مع الدميمات. وأنت لا تحب النوم مع الجميلات النحيفات. فهن عادة ما يكن رديئات في السرير. ولأنهن يدركن أنهن جميلات فهن لا يبذلن جهودا كبيرة لإمتاعكَ فغيرك في المتناول. بينما الدميمات يبذلن ما في وسعهن لإرضائك. ذلك أن الوحدة عادة ما تنتظرهن بعد الجنس .

وفي الرواية مقاطع أخري شديدة القسوة علي القارئات أن يتسلحن بشجاعة وصبر كبيرين لقراءتها ونحجم عن إعطاء أمثلة منها لكي لا نخدش حياء القراء. لكن الإشكال لا يكمن في النفس الخليع أو البورنوغرافي الذي يطبع بعض الفصول لأن هذا النفس يدخل في النسيج العام للرواية ويشكل جزءا متناسقا مع رؤيتها للعالم وليس بالتأكيد خلفية ايروسية مصطنعة كما يسرف في ذلك بعض الكُتاب الفرنسيين.

كما أن تناوله للجنس يضعه في إطار العلاقات السلطوية اجتماعية كانت أو اقتصادية.

وهناك أيضا مواضع شتي يتهكم فيها الكاتب علي شريحة من الكتاب الفرنسيين الذين يجنون مبيعات هائلة لكتب تدور حول قصص حب تافهة أو حبكات عاطفية مملة.

وثمة فصل في الكتاب يصور فيه ببراعة تفاهة بعض كتاب حي السان جرمان الذين يرتادون المقاهي الأدبية ويقضون وقتهم في النميمة والتباهي بالبرامج التلفزيونية التي يظهرون فيها.

يبقي أن ايريك بروكيل روائي شاب لا يتجاوز عمره الثالثة والثلاثين وسبق وأن رسخ اسمه عبر روايتيه السابقتين اللتين حظيتا باستحسان النقاد والصحافة الثقافية التي ركزت علي أسلوب الروائي المتميز وتأثره بالأدب الأمريكي ذي النزعة العدمية. وبالفعل فبروكيل يكتب رواية تستلهم الكثير من الواقع اليومي ومن الاحتدامات الاجتماعية والسياسية والعرقية التي تطبع المجتمع الفرنسي.

وأسلوبه يشبه إلي حد كبير أسلوب الكُتاب الأمريكيين من طراز بريت ايستو إليس أو دون ديليلو. وهو يزاوج بين نفس درامي متصاعد وبين سخرية لاذعة كثيرة القسوة والاستفزاز. وهو يفلح كثيرا في خلق شعرية نافرة في نصه تنبع ليس فقط من المجازات والصور بل من الاحتدام الداخلي والبركان الهائل الذي يلقي بحممه الغاضبة علي الصفحة. كما أن الكاتب، وهو أستاذ فلسفة، يكتب بخلفية فكرية واعية وليس عن جهل أو فراغ فكري ومن هنا تصديره للرواية بقولتين بليغتين إحداهما للفيلسوف جيل دولوز والأخري لسبينوزا الأمر الذي يميزه عن العديد من الروائيين الشباب الذين وإن توفرت لدي بعضهم ما يكفي من الموهبة فهم يصرون علي الكتابة من الصفر من دون معرفة بانجازات الرواية الحديثة والفكر الغربي المعاصر.

رسالة ايريك بينيه بيركيل إلي صحيفة لوموند :

في مقال نشرته لوموند مؤخرا احتج كل من برنار كومون وأوليفييه رولان علي روايتي الأخيرة إبادة إن الجمل التي استشهدا بها في معرض مقالهما أُخرجت عنوة من سياقها الروائي العام لذا فهي قد تثير بالتأكيد الاستنكار والتساؤل. من هو مؤلف هذه السطور المروعة إن لم يكن الكاتب نفسه؟ لكن هذا التساؤل تطبعه السهولة وفيه نوع من الإجحاف لأنه ببساطة يحجب حقيقة أن العمل الروائي يستثمر الأدوات الفنية من اجل استكشاف الشر في صيغه وتعبيراته الأكثر راديكالية من دون أن يقصد الإساءة إلي أي أحد وإن كانت هناك ثمة إساءة فهي تتوجه إلي الشر نفسه.

إن الردود العاطفية التي أثارها مقال كومون ورولان الذي عنوناه كتاب شنيع استندتْ علي سوء فهم كبير ومرعب. فإذا عبرتْ شخصيةٌ ثانوية في روايتي، قدمتها علي أساس أنها شخصية تافهة، عن مواقف مهينة في حق الطائفة اليهودية فهذا لا يعني قطعا أنني أتبني هذه المواقف بل أنني بالعكس قمت بتبيان فظاعتها.

من المفيد أن أقول هذا بصوت عال بما أن البعض تسرع وخلط بيني وبين شخصية روائية. أنا لست معاديا للسامية: أنا روائي. أكتب قصصا. أستلهم الواقع. أتخيل مشاهد. أوظف كليشيهات. أتقمص جلد بعض الأفراد الذين لا أخلاق لهم. لماذا كل هذا؟ قطعا ليس للتلذذ، كما زعم البعض، بل لفهم كيف يمكن لبعض الكائنات أن تنزلق في الفظاعة دون أدني إحساس بالندم.

إن المعادين للسامية موجودون بل إن أعدادهم تتكاثر اليوم في فرنسا. أنا أشتغل كمدرس في ثانوية في الضاحية الباريسية، وهذا يتيح لي أن أري وأسمع أشياء قد ترتعد لها فرائص السكان البورجوازيون التي تقطن في الدائرة السادسة. هل لا حق للروائي في تأمل السفالة التي تحيط به؟ إن روايتي إبادة ذَمَّت الناس أجمعين ولم تستثن شيئا ولا أحدا: النساء، العِشرة الزوجية، الوسط الأدبي الباريسي، الطائفية، المدرسة، المال... ومن خلال شخصيةٍ أساسية تتميز بالمقت والدناءة، سمَّيتُها عن قصد الشنيع ، تحاول الرواية سبر أغوار العدمية المعاصرة في صيغها المختلفة. والرواية مبنية علي إيقاع تصاعدي يبلغ ذروته في الخمس صفحات التي جاءت علي لسان شخصية مراد. وهي خمس صفحات من نص يبلغ 250 صفحة يصر البعض علي تقديم محتواها وكأنه الموضوع الوحيد والأوحد للرواية.

لست الكاتب الأول الذي بادر إلي الاهتمام بالمخيف والوحشي والقميء كمادة أدبية.

لقد سبقني إلي ذلك ماركيز دو ساد ولوتريامون ودوستيوفسكي وميشال ويلبيك وبريت ايستون إيليس وغيرهم ممن حاولوا مقاربة الجحيم الإنساني.

في زماننا هذا حيث يتفادي الجميع النظر إلي الشَّر يتملكني اعتقاد راسخ بأن دور الكاتب هو التذكير بأنه لا يكفي للمرء أن يشيح بوجهه عن الشر أو أن يدينه لكي يتلاشي. وإذا كانت الهمجية تصدم مُثُلَنا العليا، إن هي خدشت بقسوة الإنسانيَ فينا فلنتذكر أن مهدها هو القلب الإنساني ذاته، لذا يتحتم علي الأدب أن يسبر أغوارها.

إنني أتفهم الإزعاج الذي انتاب من توهموا بأن عملي ينقل أفكارا معادية للسامية.

لكن مرة أخري أؤكد أن هذا التأويل مجحف في حقي. فأنا لم أقصد أبدا الإساءة إلي أيٍّ كان وكل ما تمنيته من خلال روايتي هو التأمل في وجه الشر والتقاط تجلياته.

وبما أن الأمر يتعلق بعمل أدبي فمن الطبيعي أن أفسح المجال لشخصيات ومواقف لا أتبناها بالتأكيد.

مقطع من الفصل المثير للجدل:

ماذا يفعل اليهودي عدا الصراخ وترديد أنه يستحق الاحترام لأنه ينتمي للشعب المختار؟ كل ما يفعله هو الدفاع عن عِرقه. نعم عِرقه. لأن عِرقهُ في خطر كبير.أما العرب فتاريخ في طور الانقراض. نفس العِرق العربي الذي أنتج ذات يوم إحدي حضارات العالم الأكثر تنويرا وإبداعا. شعبٌ عربي يقضي الآخرون وقتهم في البصق علي وجهه. ولن نستطيع منعه من النحنحة قليلا واسترجاع أنفاسه كي يبصق في وجه من بَصَقَ عليه ولوث شرفه. لهذا لا يعيش مراد سوي لتحطيم ضلوع القذارة اليهودية التي تشكل لوحدها شتيمة للثقافة المغاربية التي عانت من قرنين من التشويه علي يد الثقافة اليهودية المسيحية. عندما يشعر عِرق ما بتهديد عِرق آخر يهتاج ويغلي ولا شيء يهمه سوي إرادة تدمير الآخر الذي ينوي محقه. يواصل مراد  كلامه: الجميع يريد من العربي والزنجي أن يشعر بالعار لأنه عربي أو زنجي، أما اليهودي فلا. قطعا لا. اليهودي لديه براهين من ذهب، وأصحاب المصارف يدركون ذلك جيدا. جيوب اليهودي ملآنة بالأموال وله أصدقاء مثاليون ومعارفه من نخبة المجتمع. الجمهورية الفرنسية تحتضر. إنها تسعل وترتجف وتتهاوي تحت قذائف الطوائف. إنها تلفظ أنفاسها الأخيرة تحت الضربات المتلاحقة للمتكبرين والمهووسين بالصفاء العرقي. لدينا الحق في أن نكون معادين للسامية اليوم.

الصهيونية تلوث شرف الجمهورية مثلما تلوث شرف الشعب الفلسطيني، يقول مراد.إنهم في كل مكان. اليهود. في التلفزيون والراديو والبنك والإنترنت والبورصة والعدالة والطب والثقافة. ليس هناك ثمة مكان لم يضعوا عليه مؤخراتهم المختارة.إنهم يحتلون كل المواقع الاستراتيجية ومع ذلك يجدون دائما المجال للشكوي كما لو أنهم لم يقنعوا بكل ما ملكت أيمانهم.... بالمحرقة ضمن شعب الله المختار عشرة آلاف سنة. أما الزنوج والعرب، الذين عاشوا الإذلال طوال التاريخ، فليخرسوا فقط.