اختراعُ العُزلة – بول أوستر – الحلقة 17 و 18

اختراعُ العُزلة

– بول أوستر – الحلقة 17 و 18

أحمد العلي

سلسلة نهر الإسبرسّو

في السنوات الأخيرة من حياته، تغير هذا على نحو طفيف. ربما أن العودة لحياة العازب مرة أخرى قد سببت له صدمة: أدرك أن عليه أن يكون مقبول المظهر إذا أراد أن تكون له حياة اجتماعية من أي نوع. و ما كان أنه خرج و ابتاع ملابس ثمينة، و لكن الجو الذي كانت عليه خزانته قد تغير على الأقل: البني و الرمادي المملان قد نبذا لأجل ألوان أزهى؛ ترك الستايل الذي عفى عليه الزمن لأجل مظهر أكثر ابهاجا و أناقة. بنطلونات مخططة، أحذية بيضاء، كنزات صفراء، جزم ببكلات كبيرة. لكن على الرغم من هذه الجهود، لم يبدو و كأنه في بيته داخل هذه الثياب، لم تكن جزءا مكملا لشخصيته، مما يجعلك تفكر في طفل صغير قد ألبسه والداه ثيابه.

مع الأخذ بعلاقته غريبة الأطوار بالمال (شغفه بالثراء، و عجزه عن الصرف)، كان مناسبا بشكل أو بآخر أنه كان يعتاش بين فقراء. مقارنة بهم، كان رجلا فاحش الثراء. لذلك، بقضائه أيامه بين أناس امتلكوا تقريبا اللا شيء، يستطيع أن يبقي نصب عينيه رؤية أكثر ما يهابه في العالم: أن يكون دون مال. ذلك يضع الأشياء كما يجب بالنسبة له. لم يكن يعتبر نفسه بخيلا- و لكن متعقل، رجل يدرك قيمة الدولار. كان عليه أن يبقى متيقظا. ذاك هو الشيء الوحيد الذي وقف بينه وبين كابوس الإفلاس.

عندما كانت تجارته في ذروتها، امتلك هو وإخوته حوالي المئة بناية. كانت أرضهم هي المنطقة الصناعية الكالحة في شمال نيو جيرسي- مدينة جيرسي، نيوارك- و تقريبا جميع المستأجرين كانوا من السود. قد يقال عنه أنه أحد ملاك الأحياء الفقيرة، لكن لن يكون ذلك في هذه الحالة توصيفا دقيقا أو عادلا. و لم يكن على أية حال غائبا عن ما يملكه. لقد كان هناك، مستنزفا وقته وجهده بطريقة قد تدفع حتى أكثر موظف يقض الضمير للخروج عن طوره.

كان العمل دوما أشبه بألعاب الخفة. هناك بيع وشراء المباني، شراء و تصليح الأجهزة، إدارة جماعات متعددة من رجال الترميم، تأجير الشقق، الإشراف على المراقبين، الاستماع لشكوى المستأجرين، التعامل مع زيارات مفتشي المباني، التعاطي الدائم مع شركات الماء و الكهرباء، و بدون الحديث عن الزيارات المتكررة للمحكمة- كلا الدورين كمشتك و كمدعى عليه- لرفع قضية أجار متأخر، أو للرد على الانتهاكات. كل شيء كان يحدث مرة واحدة، انقضاضات دائمة من دزينة جهات في نفس الوقت، ووحده الرجل الذي يؤدي أعماله بنفسه يستطيع أن يتعامل مع ذلك. كان من المستحيل في أي يوم من الأيام إنجاز كل ما يجب إنجازه في ذلك اليوم. أنت لا تعود للمنزل لأنك انتهيت، بل لأن الوقت ببساطة قد تأخر و لم تعد تملك المزيد منه. تنتظرك المشاكل كلها في اليوم التالي- و أخرى جديدة أيضا. لم تتوقف أبدا. خلال خمسة عشر عاما، أخذ إجازتين و حسب.

كان رقيق القلب مع المستأجرين- يسمح لهم بتأجيل دفع الأجار، يهب الملابس لأطفالهم، يعينهم على إيجاد عمل-

ووثقوا به. الرجال المسنون، الذين يخافون من السطو، يعطونه أغلى ممتلكاتهم ليحفظها في خزينة مكتبه. من بين كل أشقائه، كان الوحيد الذي يقصدونه الناس بمشاكلهم. لم يدعوه أحد بالسيد أوستر. بل كان دائما السيد سام.

بينما كنت أنظف المنزل بعد وفاته، وجدت صدفة هذه الرسالة في قعر درج في المطبخ. من بين كل الأشياء التي وجدتها، أجد نفسي أكثر سعادة لاستعادتي هذه. إنها بطريقة ما توازن دفتر الحساب، وفرت لي برهانا حيا لكل حين يبدأ فيه عقلي بالانحراف بعيدا عن الوقائع. الرسالة معنونة لـ«السيد سام»، و خط اليد تقريبا غير مقروء.

19 أبريل، 1976

العزيز سام،

أعرف أنك متفاجئ لسماع أخباري. قبل كل شيء، من الأفضل أن أقدم لك نفسي. أنا السيدة ناش. شقيقة زوجة السيد آلبرت قروفر،- السيدة قروفر و آلبرت كانا يقطنان في 285 شارع باين في مدينة جيرسي منذ زمن بعيد، و السيدة بانكس شقيقتي أيضا.. لو كنت تذكر على أية حال.

أنت رتبت أمر حصولي و أطفالي على شقة في 327 جادة جونستن،على بعد زاوية فقط من من السيد و السيدة قروفر، شقيقتي.

مهما يكن، غادرت و أنا مدينة بأجار أربعين دولارا، كان ذلك عام 1964 لكنني لم أنس أنني مدينة جدا بهذا المبلغ. والآن، هو ذا مالك. شكرا لكونك لطيفا جدا معي و مع أبنائي في ذلك الوقت. هكذا أقدر بشدة ما فعلته لنا. أتمنى أن تستطيع استدعاء ذاك الزمن. حيث أنك لم تغب أبدا عني.

قبل ثلاثة أسابيع تقريبا هاتفت المكتب لكنك لم تكن فيه تلك الساعة. عسى أن يباركك الله دوما. نادرا ما آتي إلى مدينة جيرسي، و إن حدث ذلك سأتوقف حتما لزيارتك.

مهما يكن الآن، أنا فرحة لتسديدي هذا الدين. هذا كل شيء للآن.

بكل إخلاص،

السيدة ج ب. ناش.

في طفولتي، ذهبت معه من فينة لأخرى في جولاته و هو يجمع الأجار. كنت يافعا جدا لفهم ما كنت أراه، لكنني أذكر الانطباع الذي تركته في، و كأنني، تحديدا، بسبب عدم استيعابي، دخلت في الإدراكات الخام لهذه التجارب بشكل مباشر، حيث لبثت إلى اليوم، حادة كشوكة تحت ظفر الإبهام.

المباني الخشبية بمداخلها المعتمة، غير المضيافة. يحتشد خلف كل باب أطفال يلعبون في شقة ضئيلة جدا؛ أم، متجهمة دائما، منهكة، متعبة، متقوسة على طاولة الكي. الرائحة هي الأشد وضوحا، لكأن الفقر أمر يعدو غياب المال، هو إحساس متجسد، نتانة تغزو رأسك و تجعل التفكير مستحيلا. في كل مرة دخلت فيها مبنا برفقة والدي، أحبس أنفاسي، لا أجرؤ على التنفس، و كأن تلك الرائحة ستؤذيني. كان كل واحد سعيدا دوما لمقابلة ابن السيد سام. منحت ابتسامات و ربتات على رأسي لا تعد ولا تحصى.

مرة، عندما كنت أكبر قليلا، أتذكر مرافقتي له يقود في أحد شوارع مدينة جيرسي و رؤيتي لطفل يرتدي تي-شيرت كبرت على ارتدائه قبل بضعة أشهر. كان تي-شيرت مميزا، بمزيج غير مألوف لخطوط صفراء و زرقاء، و لم يكن هناك من شك في أنه هو نفسه الذي كان لي. و بلا تبرير، غمرني شعور بالخزي.

لا زلت أكبر قليلا، في الثالثة عشرة، الرابعة عشرة، الخامسة عشرة، أذهب معه أحيانا لأحصل على بعض المال بالعمل مع النجارين، الصباغين، و رجال التصليح. مرة، في يوم لا يطاق من شدة الحرارة في منتصف الصيف، وكلت إلي مساعدة أحد الرجال في مسح السطح بالقطران. كان اسمه جو ليفين، (رجل أسود، بدل اسمه إلى ليفين امتنانا لبقال يهودي مسن قام بمساعدته في شبابه)، و كان أكثر عامل يعتمد و يثق به أبي. جذبنا أكثر من خمسين غالونا من براميل القطران إلى السطح، و شرعنا في توزيع ما لدينا عليه بالمكانس. أشعة الشمس المنهمرة على السطح الأملس الأسود كانت غاشمة، و بعد نصف ساعة أو حواليها، دار رأسي، انزلقت على لطخة رطبة من القطران، سقطت، و بطريقة ما خبطت أحد براميل القطران المفتوحة، و انسكب ما به فوقي بشكل كامل.

عندما عدت إلى المكتب بعد دقائق معدودة، انبسط أبي إلى أقصى حد. أدركت أن الوضع مسل حقا لكنني كنت محرجا للغاية من التندر عليه. و مما يحسب لأبي، أنه لم يغضب مني أو يجعلني أضحوكة. لقد ضحك، لكن بطريقة جعلتني أضحك أنا أيضا. ثم ألقى جانبا ما كان يفعل، أخذني، قطعنا الشارع إلى متجر والورث، و ابتاع لي بعض الملابس الجديدة. صار من المحتمل على نحو مفاجئ أن أشعر بأنني قريب منه.

وبمضي السنين، بدأ عمله التجاري بالتراجع. العمل نفسه لم يكن يسوء، و لكنها طبيعة العمل: في ذاك الوقت تحديدا، في ذاك المكان تحديدا، لم يكن من الممكن النجاة. المدن كانت تتهاوى، وبدا أن لا أحد يهتم. ما كان مرة نشاطا مرضِيا، أقل أو أكثر، لأبي، صار الآن كدحا فقط. كره الذهاب للعمل في سنوات حياته الأخيرة.

التخريب أضحى مشكلة جادة لدرجة أن القيام بأي نوع من التصليحات صار تحطيما للمعنويات. فور أن تجري عمليات سمكرة في مبنى ما حتى يقتلع اللصوص المواسير. تكسر النوافذ بشكل دائم، أبواب محطمة، مداخل منزوعة الأحشاء، الحرائق تشتعل. في نفس الوقت، كان بيعها مستحيلا. لم يرِد أحد المباني. الحل الوحيد للتخلص منها هو هجرها وترك المدن تسود. ضاعت مبالغ ضخمة من المال بهذه الطريقة، حياة كاملة من العمل. في النهاية، وقت وفاة أبي، بقي هناك ستة أو سبعة مبانٍ وحسب. تفككت الإمبراطورية برمتها.

آخر مرة كنت فيها في مدينة جيرسي (قبل عشر سنوات على الأقل) كان للمكان منظر منطقة منكوبة، لكأن المغول قد سلبوها. شوارع رمادية ومقفرة؛ ترتفع القمامة في كل مكان، المنبوذون يتمشون ذهابا و إيابا بلا هدف. نهِب مكتب أبي مرات كثيرة لدرجة أنه لم يبق فيه الآن سوى بعض الطاولات من معدِنٍ رمادي، كراسي معدودة، وثلاثة أو أربعة هواتف. ولا حتى آلة طابعة واحدة، لا أثر لأي لون. ما عاد مكانا للعمل بعد الآن، ولكن غرفة في الجحيم. جلست اراقب البنك في الجهة الأخرى من الشارع. لا أحد خرج منه، ولا أحد دخل إليه. الكائنات الحية الوحيدة هناك كانت كلبين ضالين محدبين على العتبات.

كيف تدبر أمر نزع نفسه والذهاب هناك كل يوم هو شيء خارج عن فهمي. قوة العادة، أو غيره، عناد بحت. لم يكن الوضع كئيبا وحسب، كان خطيرا. سلِب مراتٍ عدة، وفي أحدها تم ركله على رأسه بشراسة من قبل المهاجم لدرجة أن سمعه تضـرر بشكل دائم. خلال آخر أربع أو خمس سنوات من حياته، كان هناك رنين خافت ودائم في رأسه، همهمة لم تبتعد أبدا، ولا حتى في نومه. قال الأطباء إنه لا شيء من الممكن فعله بشأنها.

في النهاية، لم يخرج أبدا إلى الشارع دون أن يحمل في يده اليمنى مِفك براغٍ. كان عمره أكثر من خمس وستين سنة، ولم يكن يريد أن يأخذ مزيدا من الفرص.

عِبارتان قفزتا فجأة إلى رأسي هذا الصباح بينما كنت أرِي دانيال كيف يصنع بيضا مخلوطا.

«والآن أريد أن أعرف، تقول المرأة، بقوةٍ مرعبة، أريد أن أعرف هل بالإمكان العثور على أبٍ آخر مثله في أي مكانٍ في العالم». (إسحاق بابل).

«للأطفالِ ميل دائم إما لانتقاص والديهم أو لرفع شأنهم. وبالنسبة للطفل الصالح، والده هو أحسن الآباء دوما، على مبعدةٍ تماما من أي سبب موضوعي هناك لتقديره». (بروست).

ميزت الآن أنني بالتأكيد كنت إبنا سيئا. أو، إذا لم أكن سيئا بالتحديد، فإذن على الأقل خيبة أمل، بؤرة ارتباكٍ وحزن. لم يكن هناك معنى بالنسبة له في أمر إنجابِه إبنا شاعرا. ولم يكن قادرا على فهم السبب الذي يجعل شابا معه شهادتان من جامعة كولومبيا يعمل بعد تخرجه كبحارٍ على ناقلة نفط في خليج المكسيك، وبعدها، بلا سببٍ أو قَصد، يقلِع إلى باريس و يقضي فيها أربع سنواتٍ معتاشا على الكفاف، مِن يدٍ لِفم.

كان ينعتني دوما بأن «رأسي في الغمام»، أو غيره، أن «لم تكن لدي قدمانِ على الأرض».. بأية طريقة، لم يبدو علي أنني كنت شيئا أساسيا بالنسبة له، وكأنني كنت بشكلٍ ما بخارا أو شخصا ليس من العالم تماما. في عينيه، تصير جزءا من العالم عندما تعمل. و بحكم التعريف، العمل هو جهد لجلب المال. إذا لم يجلب المال، فهو ليس بعمل. الكتابة، بالتالي، ليست عملا، وخاصة كتابة الشعر. هي هواية في أفضل حالاتها، أسلوب جذاب لتمضية الوقت الفاصل بين الأمور المهمة حقّا. ظن أبي أنني أهدِر مواهبي، أرفض أن أنضج.

غير أنه لازال هناك ما يربطنا. لم نكن قريبين، لكنه بقي في المتناول. مكالمة هاتفية كل شهر أو حوله، وربما ثـلاث أو أربـع زيارات في السنة. كلما نشرت كتاب شعر، أقوم بـرا به بإرساله له، وكان دائما يهاتفني شاكرا بعدها. ووقت أن أكتب مقالة لمجلة، أضع جانبا نسخة وأحرص على أن أعطيها له في لقائنا القادم. مراجعة نيويورك للكتب لا تعني شيئا له، ولكن مقاطع التعليقات أدهشته. أعتقد أنه شعر بأنني لو كنت سمحت لليهود بنشره، فلربما حينها يجد فيه ما يستحق.

مرة، عندما كنت لاأزال أحيا في باريس، كتب لي ليخبرني بأنه ذهب للمكتبة العامة ليقرأ بضع قصائد لي حدث أن ظهرت في إصدارٍ قريبٍ لمجلة الشعر. تخيلته في غرفةٍ واسعةٍ وخالية من الناس، في الصباح الباكر قبل الذهاب للعمل: جالسا عند واحدةٍ من الطاولات الممتدة تلك ومعطفه الثقيل لايزال عليه، ينحني لقراءة كلماتٍ لابد أنها لم تكن قابلة للاستيعاب بالنسبة له.

حاولت أن أبقي على هذه الصورة في بالي، برفقة كل الصور الأخرى التي لن ترحل.

اللاتحديد، قوة التضليل الكبيرة في التناقض. أفهم الآن أن كل حقيقةٍ تلغيها الحقيقة التي تليها، أن كل فكرة تحدِث فكرة أخرى تساويها وتعاكسها. من المستحيل قَول شيءٍ دون استدراكه: كان جيدا، أو كان سيئا؛ كان هو هذا، أو كان ذاك. كلها صحيحة. أشعر بعض الأحيان أنني أكتب عن ثـلاثة أو أربعة رجال، كل واحدٍ منهم مميز، كل واحدٍ يناقض الآخرين جميعا. شظايا. أو الفكاهة كشكلٍ للمعرفة.

ومضات الكرم المتفرقة. في تلك الأوقات النادرة التي لم يكن فيها العالم تهديدا بالنسبة له، وازعه للحياة بدا وكأنه العطف. «عسى الرب الطيب أن يبارككم إلى الأبد».

يهاتفه الأصدقاء متى ما كانوا في مشكلة. سيارة عالقة في مكانٍ ما عند منتصف الليل، وسيجر أبي نفسه من السرير وسيحضر للإنقاذ. بطرقٍ معينة، كان من السهل على الآخرين أن يستغلوه. رفض أن يتشكى من أي شيء..

صبر جاوز الطاقة البشرية. هو، على الإطلاق، الشخص الوحيد الذي عرفته يستطيع تعليم أحدٍ قيادة السيارة دون أن يغضب أو ينهار في نوبةٍ عصبية. قد تكون تميل متجها صوب عمود إنارة، ولن يثيره ذلك أبدا.

مستغلق. وبسبب ذلك، يبدو في بعض الأوقات هادئا جدا.