إلى الأمة العربية

إلى الأمة العربية

شعر: محمد إقبال

ترجمة: أبو الحسن الندوي

خصّص محمد إقبال قصيدة من أبدع قصائده للحديث مع الأمة العربية، ليسجّل فيها فضلها وسبقها، في حمل الرسالة الإسلامية، والأخذ بيد الإنسانية، وافتتاحها لتاريخ جديد وفجر سعيد، وسرعان ما ينتقل إلى موضوعه الحبيب الأثير، فيذكر الشخصية الحبيبة، التي كانت على يدها نهضة هذه الأمة وسعادتها، بل نهضة الإنسانية وسعادتها، فيرسل، على عادته، النفس على سجيتها، ويعطي القلب والعاطفة زمامه، ويسترسل في الحديث، فيقول:
 

"أيتها الأمة العربية، التي كتب الله لباديتها وصحرائها الخلود.

من الذي سمع العالم منه نداء (لا قيصر ولا كسرى) لأول مرة في التاريخ(1)؟

ومن الذي أكرمه الله بالسبق إلى قراءة القرآن؟

من الذي أطلعه الله على سر التوحيد، فنادى بأعلى صوته: (لا إله إلا الله)؟

وما هي البقعة التي اشتعل فيها هذا السراج الذي أضاء به العالم؟

هل العلم والحكمة إلا فتات مائدتكم؟

وهل قوله تعالى: (فأصبحتم بنعمته إخوانا) إلا وصف حالكم؟

إن نفس ذلك الأمّي أعاد على هذه الصحراء الخصب والنموّ، فأنبتت الأزهار والرياحين.

إنّ الحرية نشأت في أحضانه.

وإن حاضر الشعوب ليس إلا وليد أمسه.

إن الجسد البشري كان بلا قلب وروح، فأعطاه القلب والروح، وكشف اللثام عن جمال وجهه.

إنه حطّم كل صنم قديم.

وأفاض الحياة على غصن ذاوٍ من أغصان العلوم والمدنية.

وأنجب أبطالاً وقادة مؤمنين.

أقاموا المعارك الفاصلة بين الحق والباطل.

فتارة يدوّي الأذان في ساحة الحرب.

وتارة تتحلّى الآذان بقراءة (الصافات)(2) بين صليل السيوف وصهيل الخيول.

إن سيف البطل المغوار، كصلاح الدين الأيوبي.

ونظرة الزاهد الأوّاب، كأبي يزيد البسطامي.

مفتاحان لكنوز الدنيا والآخرة.

إن العقل والقلب يجتمعان تحت لوائه.

وإن ذكر جلال الدين الرومي، وفخر الدين الرازي يلتجئان تحت ردائه.

إن العلم، والحكمة، والشرع، والدين، والملك، والإدارة، ولوعة القلوب مقتبسة من نوره.

وليست (الحمراء) في غرناطة، وقصر التاج في أكره(3)، اللذان خضع لجمالهما، وجلالهما كبار الفنانين الناقدين، وعظماء العبّاد الزاهدين، ليس إلا صدقة من صدقات بعثته، ومظهراً من مظاهر عبقرية أمته.

إن بعض ظاهره تجلّى في سموّ ذوق أمته، وسلامة تفكيرها، وجمال فنّها.

أما باطنه، فقد تقاصر عن إدراكه كبار العارفين.

لقد كان الإنسان حفنة من تراب، وقبضة من أشلاء وعظام، لا يدري ما الكتاب، ولا الإيمان، فعرّفه بالعلم والإيمان، وأذاقه لذة العبادة والإحسان، فجزاه الله عن الإنسانية أفضل الجزاء.

يذكّر إقبال الأمة العربية عهدها القديم قبل البعثة، حين كان نظام العرب فوضى، يعيشون كالبهائم التي لا همّ لها في الحياة إلا الأكل والشرب، وكان مثلهم كمثل السيف المفلول يتراءى للناظر لامعاً قاطعاً، ولكن ليست له ظُبة فهو لا ينفع ولا ينتفع به، فيقول الشاعر:

"أيها العرب(4) قد منّ الله عليكم، إذ جعلكم مثل السيف البتّار أو أحدّ منه.

وكنتم ترعون الإبل في الصحراء، تركبون عليها، وتظعنون بها.

ثم انعكست الآية، فسخر الله لكم المقادير، فضلاً عن الإبل، فأصبحتم من مالكي أعنّتها.

فلو أقسمتم على الله لأبرّكم.

وهنالك دوّت تكبيراتكم وصلواتكم.

وزمزمت جلبة حروبكم ومغازيكم، بين الخافقين.

فارتجّ بها ما بين الشرق والغرب.

فما أحسن تلك المغامرات.

وما أجمل تلك الغزوات".

وبعدما يمدحهم الشاعر، ويذكر حماستهم الإسلامية، وغضبتهم المضرية في سبيل الله ورسوله، ويُبدي فرحه وسروره، يقف برهة، ويملكه الحزن، والتألم بما يرى من خمود العرب، بعد النشاط، والإحجام بعد الإقدام، والفُرقة بعد الوحدة، والعبودية بعد السيادة، والأتّباع بعد القيادة، ويُقبل إليهم مخاطباً معاتباً، ويقول:

"أسفاً على هذا الخمود والجمود.

أيها العرب! ألا ترون إلى الأمم الأخرى، كيف تقدمت وسبقت؟

أما أنتم، فما قدرتم قدر هذه الصحراء التي نشأتم فيها.

وهذه الحرية التي ورثتموها.

كنتم أمة واحدة، أمة الإسلام، فصرتم اليوم أمماً.

وكنتم حزباً واحداً، حزب الله، فأصبحتم أحزاباً.

لقد فرّقتم جمعكم، ومزقتم شملكم، وانقسمتم على أنفسكم".

"اعلموا أيها السادة! أن من ثار على شخصيته وكرامته.

وفقد الثقة بنفسه.

مات ومُحي من الوجود.

ومن فرّ من معسكره وانحاز إلى صفوف الأعداء.

وتطفّل على مائدتهم.

عوقب بالهوان والشقاء، والطرد والجلاء.

ألا إنه لم يجن عدو على عدو مثل ما جنيتم أنتم على أنفسكم.

ولم يسئ أحد إساءتكم إلى أمتكم.

إنكم آذيتم روح رسول الله صلى الله عليه وسلم بصنيعكم

فهي متألمة متوجعة شاكية مستغيثة".

الشاعر عارف بمكائد الإفرنج، وما لديهم من سهام مسمومة، وحبائل منصوبة، وهو شديد المعرفة بهم، قد عاش فيهم ودرسهم وخبرهم، فهو يتألم، إذ يرى في الأمة العربية من يُحسن الظن بهم، ويعتمد عليهم في بناء صرح الحياة، وفض المشكلات، فيرسل صيحته وينذرهم من المصير المظلم المؤلم، ويقول:

"مهلاً أيها الغافلون!

إياكم والركون إلى الإفرنج، والاعتماد عليهم.

ارفعوا رؤوسكم.

وانظروا إلى الفتن الكامنة في مطاوي ثيابهم.

ألا إنه لا حيلة لكم ولا وزر إلا أن تطردوهم عن منهلكم.

وتذودوهم عن حوضكم.

إن حكمة الغرب قد أسرت الأمم، وتركتها سليبة حزينة، لا تملك شيئاً.

إنها مزقت وحدة العرب، واقتسمت تراثهم.

إن العرب لما وقعوا في حبائلهم.

تنكّر لهم كل شيء.

وقسا عليهم هذا الكون.

ولم يجدوا من يرثي لهم ويرفق بهم.

وضاقت عليهم الأرض بما رحبت.

وضاقت عليهم أنفسهم"..

وبعدما يفيض الشاعر قي بيان شرور الإفرنج ومكائدهم، ويحذر العرب من الانسياق إليهم، والوقوع في شركهم، يُقبل إلى تشجيع العرب والترفيه عنهم، ويقول:

"إن الله قد رزقكم البصيرة النافذة.

ولا تزال فيكم الشرارة كامنة.

فقوموا أيها العرب!

وردّوا فيكم روح عمر بن الخطاب مرة أخرى.

إن منبع القوة ومصدرها هو الدين.

منه يستمد المؤمن العزم والإخلاص واليقين.

وما دامت ضمائركم أمينة للسرّ الإلهي.

فيا عُمّار البادية!

أنتم الحراس للدين.

وأمناء الله في العالمين.

إن غريزتكم العربية الإسلامية ميزان للخير والشر.

وأنتم ورثة الأرض.

إذا تألق نجمكم في آفاق السماء.

أفَلَت نجوم الآخرين.

وطُويَ بساطهم.

لن تسعكم الصحراء والفيافي.

فاضربوا خيمتكم في وجودكم الذي يسع الآفاق.

كونوا أسرع من العاصفة.

وأقوى من السيل.

حتى تسرع ركائبكم في مضمار الحياة وتسبق الريح".

"ليت شعري!

من خلّفكم في الحياة؟!

إن العصر الحاضر وليد نشاطكم وكفاحكم.

وصنيع جهادكم ودعوتكم.

وما زلتم سادته وولاته حتى أفلت زمامه منكم، فتبناه الغرب وامتلكه، ومن ذلك اليوم فقدَ هذا العصر، وهذا المجتمع الإنساني، شرفه وكرامته، وأصبح تحت ولايته منافقاً خليعاً، ثائراً على الدين".

فيا رجل البادية! ويا سيد الصحراء!

عُدْ إلى قوتك وعزتك.

وامتلكْ ناصية الأيام.

وخذ عنان التاريخ.

وقُدْ قافلة البشرية إلى الغاية المثلى".

وهنا نبذة أخرى من أبياته يشكو فيها إلى روح رسول الله صلى الله عليه وسلم ضياع الأمة الإسلامية، وانطفاء شعلة الحياة والإيمان في نفوس العرب، ويشكو وحدته وغربته في هذا المجتمع الإسلامي البارد الجامد، ويناجيه مناجاة من قام بين يديه، وأُذن له في الكلام، يقول:

"لقد تشتّت شمل أمتك يا محمد! يا رسول الله.

فإلى أين يلجأ المسلم الحزين؟

وإلى من يأوي؟

لقد سكن بحر العرب المضطرب المائج.

وفقدت الأمة العربية ذلك اللوع وذلك القلق الذي عُرفت به.

فإلى من أشكو ألمي؟

وأين أجد من يساعدني على آلامي وأحزاني؟

وماذا يفعل حادي أمتك؟

وكيف يقطع الطريق الشاسع، ويطوي السفر البعيد، في هذه الجبال والمهامه.

وقد ضل سبيله.

وفقد زاده.

وانقطع عن الركب.

بالله! قل لي: ماذا يصنع حامل دعوتك؟

المؤمن برسالتك؟

وأين يجد زملاءه ورفقته؟"

ويؤلم الشاعر، أن يرى العرب لا يزالون ينظرون إلى الأوروبيين الإنجليز والأمريكيين، كأصدقاء مخلصين وأعوان منجدين، يحلّون له مشكلة اللاجئين، ويردون إليهم أرض فلسطين، مع أنهم لا يزالون تحت سيطرة اليهود ونفوذهم السياسي والاقتصادي والصحافي، يقول:

"أنا أعلم جيداً يا إخواني العرب!

أن النار التي شغلت الزمان وبهرت التاريخ.

لم تزل ولا تزال تشتعل في وجودكم.

صدقوا أيها السادة!

إنه لا دواء لكم في جنيف ولا في لندن.

لأنكم تعلمون أن اليهود لا يزالون يتحكمون في سياسة أوروبا، ولا يزالون يملكون زمامها.

إن الأمم لا تذوق طعم الحرية والاستقلال حتى تربّ فيها الشخصية والاعتداد بالنفس، وتعرف لذة الظهور".

وأخيراً يقول كلمة صريحة مركزة بليغة مع تلطف واعتذار:

"معذرة يا عظماء العرب!

لقد أراد هذا الهندي(5) أن يخاطبكم ويقول لكم كلمة صريحة.

فلا تقولوا أيها الكرام: هندي؟ ونصيحة للعرب؟!

إنكم كنتم يا معشر العرب أسبق الأمم إلى معرفة حقيقة هذا الدين.

وإنه لا يتم الاتصال بمحمد صلى الله عليه وسلم إلا بالانقطاع عن "أبي لهب".

وإنه لا يصح الإيمان بالله إلا بالكفر بالطاغوت.

كذلك لا تتم الفكرة الإسلامية إلا بإنكار القوميات والوطنيات، والفلسفات المادية.

إن العالم العربي، أيها السادة! لا يتكون ولا يظهر إلى الوجود بالثغور والحدود.

وإنما يقوم على أساس هذا الدين الإسلامي.

وعلى الصلة بمحمد صلى الله عليه وسلم".

         

الهوامش   

(1) يشير إلى الحديث المشهور: "إذا هلك قيصر، فلا قيصر بعده، وإذا هلك كسرى فلا كسرى بعده؟"

(2) يشير إلى سورة (الصافات).

(3) يعني (تاج محل) الذي بناه الإمبراطور المغولي (شاه جهان) ويعتبر آية في الفن المعماري، ويأتي إليه الجوّابون والزائرون من أقاصي البلاد.

(4) من ترجمة الأستاذ سعيد الندوي بتوجيه من الأستاذ أبي الحسن الندوي، وقد تناولها بالحذف والزيادة.

(5) لا يغربنّ عن البال أن محمد إقبال توفي قبل ولادة باكستان بعشر سنوات، قبل أن تكون هناك جنسية باكستانية.