اليتيمة والغولة

عاشت في إحدى قرى الريف الروسي صبية يتيمة الأم ، تزوج أبوها ثانية إلا أن اختياره وقع على امرأة سيئة خبيثة مقتت الصبية مقتا لا لين فيه ، وأساءت معاملتها حتى إنها تساءلت : كيف لي أن أتخلص من هذه الصبية ؟!

فقالت لها يوما بعد ما ذهب والدها إلى السوق لبيع القمح : اذهبي إلى أختي ، خالتك الطيبة ، واسأليها إبرة وخيطا حتى أحيك لك بهما تنورة !

فلبست الصبية ثوبها الأحمر وذهبت . ولاتصافها بالمكر والفطنة قالت لنفسها في الطريق : سأمضي أولا لاستشارة خالتي الصحيحة اللطيفة ، الشقيقة الصحيحة لأمي .

فمضت إليها ، فأحسنت خالتها استقبالها . قالت : اسمعي يا خالتي ! أرسلتني زوجة أبي الجديدة إلى شقيقتها لأسألها  إبرة وخيطا لتحيك لي بهما تنورة . إلا أنني قدمت إليك ابتداء طالبة مشورتك النافعة .

قالت خالتها : عين العقل ما فعلت يا بنتي . ما شقيقة زوجة أبيك إلا بابا ياجا الغولة القاسية القلب . أصغي إلي ! في حديقة بابا ياجا شجرة قضب ستضرب بأغصانها عينيك ، فلفي شريطا حول جذعها حتى تسلمي منها ! وستجدين هنالك حاجزا كبيرا يصر وينغلق ذاتيا ، فضعي زيتا على مفصلاته! وستلقين كلبين سيهمان بالتهامك ، فألقي إليهما رغيفا ليسكتا عنك ! وفي النهاية ستلقين قطا يهم بسمل عينيك ، فألقي إليه  فخذ خنزير !

قالت الصبية : لك وافر ثنائي يا خالتي !

وفارقتها . وسارت مسافة بعيدة  أفضت بها إلى بيت بابا بابا ياجا ، فألفتها منهمكة في نسج القماش .

حيتها : طاب يومك يا خالة !

ردت : طاب يومك يا بنت أختي !

_ أرسلتني أمي إليك لأسألك إبرة وخيطا لتحيك لي تنورة .

_ زين . سأبحث لك عن إبرة ضيقة  الثقب وعن خيط ناصع البياض . اقعدي مكاني في انتظاري ، وانسجي !

فشرعت الصبية تنسج تامة الرضا . وفجأة سمعت با با ياجا تقول لخادمتها في ساحة البيت : سخني ماء الحمام ، وحممي بنت أختي تحميما ينظفها تماما ! أريد أن أتعشى بها الليلة !

ارتجفت الصبية رعبا ، وبسرعة رأت الخادمة تدخل حاملة حزم حطب ودلاء ماء ، فافتعلت صوتا ودود النبرة مرحا ، وقالت للخادمة : أهلا خادمتي ! كسري الحطب ، واستعملي المصفاة في جلب الماء أيضا !

ومنحتها ثوبها الأحمر البديع ، وراحت تنظر ما حولها . وما لبثت أن اتقدت نار ذات لهب مضطرم في المدخنة ، وبدأ الماء يغلي في القدر ، ولما صار في غليانه وحرارته وفق ما تشتهي بابا ياجا ، ترنمت الصبية بأغنية طروب . إلا أن بابا ياجا التي كانت  تنتظر في ساحة البيت نفد صبرها ، فسألت : ما زلت تنسجين يا بنت أختي ؟ ما زلت تنسجين يا حبيبتي ؟

فأجابتها : نعم . ما زلت أنسج ، ما زلت أنسج .

وقامت في هدوء ، وقصدت الباب ، فلقيت عنده قطا هزيلا أسود مرعبا . فحدق بعينيه الخضراوين في عينيها  الزرقاوين ، وأبدى مخالبه  لسملهما ، فناولته  فخذ الخنزير ، وقالت له في نبرة لطيفة مهذبة : أخبرني ، أرجوك ، كيف أهرب من بابا ياجا ؟!

فبدأ بأكل  اللحم ، ومسح شاربيه ، ثم أجابها : خذي هذا المشط ، وهذه المنشفة ، وقي نفسك بهما ! ستلاحقك بابا ياجا ، وأثناء الملاحقة ، ألصقي أذنيك بالأرض ! فإذا شعرت بدنوها منك اطرحي المنشفة ! وسترين ما سيحدث عندئذ .

وإذا تابعت ملاحقتك ألصقي أذنيك ثانية بالأرض ، فإن شعرت بدنوها منك اطرحي المشط ! وسترين ما سيحدث عندئذ .

فشكرته ، وأخذت المنشفة والمشط ، وفرت ، لكنها  رأت حال خروجها من البيت كلبين أهزل من القط يتأهبان لافتراسها ، فألقت إليهما رغيف الخبز الطري ، فلم يمساها بضر . وعلى الأثر صر الحاجز الكبير لينغلق ويمنعها من الخروج إلا أنها سكبت على مفصلاته قنينة زيت كاملة مثلما أوصتها خالتها ، فإذا به ينفتح على سعته لتخرج منه . وتابعت سيرها حتى شجرة القضب ، فبثت حفيفها وتهيأت لتضرب عينيها ، فلفت حول جذعها شريطا أحمر ، فحيتها وسمحت لها بالمضي في سبيلها . ركضت ، وركضت ، وركضت . وراح القط في ذلك الحين ينسج بدلا منها . وسألت بابا ياجا من ساحة البيت ثانية : تنسجين يا بنت أختي ؟ تنسجين يا حبيبتي ؟

فأجابها القط خشن الصوت : أنسج يا خالتي العجوز ، أنسج .

وهنا ملكها الحنق العارم ، وسارعت تدخل البيت . كان خاليا من الصبية !

فضربت القط ضربا قاسيا عنيفا ، وصاحت به : لماذا لم تسمل عينيها يا خئون ؟!

قال : خدمتك زمنا طويلا فما زدت على أن منحتني عظمة صغيرة بينما منحتني هي فخذ خنزير .

فجلدت الكلبين بنفس القسوة والعنف ، فقالا : خدمناك زمنا طويلا فما زدت على أن رميت لنا قشرة خبز يابسة بينما منحتنا هي رغيفا طريا .

وهزت الحاجز ، فقال : خدمتك زمنا طويلا فما زدت على دهن مفصلاتي بقطرة زيت بينما سكبت هي عليها قنينة زيت تامة .

وقصدت شجرة القضب ، فقالت هذه : خدمتك زمنا طويلا فما زدت على منحي خرقة بالية بينما أهدتني هي ثوبا أحمر بديعا .

وصفرت بابا ياجا تستدعي هاونها الذي قدم زاحفا على بطنه، فدخلت في جوفه ، وحركت مدقته ،ومحت آثار قدميها بممسحته ، واندفعت خلف الصبية في الحقول . وألصقت هذه أذنيها بأديم الأرض ، وسمعت صوت اقتراب بابا ياجا ، فطرحت المنشفة أرضا فإذا هي تمتد نهرا عظيما اضطر بابا ياجا إلى أن تتوقف . فصرفت بأسنانها ، ودورت عينيها الصفراوين ، وركضت عائدة إلى البيت . وهناك أخرجت ثيرانها الثلاثة من الإسطبل وقادتها صوب النهر ، وكان أن شربت الثيران الثلاثة ماء النهر حتى القطرة الأخيرة ، ووالت بابا ياجا ملاحقة الصبية إلا أنها كانت تناءت كثيرا ، ثم إنها ألصقت أذنيها بالأرض ، فسمعت  صوت المدقة على الطريق ، وكان أن طرحت المشط ، فاستحال في الحال غابة لفاء غلباء ، حاولت بابا ياجا الدلوف إليها وقطع شجرها بأسنانها ، ولكن هيهات لها ذلك . وأصاخت الصبية السمع ، لكنها لم تسمع أيما حس لبابا ياجا . لم تسمع سوى عويل الريح في شجر التنوب المخضر والمسود . وواصلت جريها السريع ؛ إذ إن الليل أخذ يبسط رواقه . فكرت : لا ريب في أن أبي يحسبني ضعت .

وكان الفلاح العجوز سأل زوجته عند عودته من السوق : أين الصبية ؟

فأجابته : من يعلم ؟! مرت ساعات منذ أن أرسلتها إلى أختي في مهمة .

وأخيرا عادت الصبية محمرة الخدين من الجري ، فسألها أبوها : من أين خطاك يا صغيرتي  ؟

قالت : آه يا أبي الصغير ! أرسلتني أمي إلى خالتي طلبا لإبرة وخيط لتحيك لي تنورة ، وبان أن خالتي _ تخيل هذا ! _ هي الغولة بابا ياجا القاسية القلب .

وقصت على أبيها  سائر ما وقع لها ، ففاض سخط الرجل العجوز ، وضرب زوجته ضربا برح بها ، وطردها من بيته طالبا منها ألا تعود إليه أبدا .وعاشت الفتاة من ذلك الحين في سلام وأمان مع أبيها . وقد مررت بقريتهما ، فعزماني على الطعام ، وكانت الوجبة لذيذة جدا أسعدتنا جميعا .

*من القصص الشعبي الروسي .

*عن النص الفرنسي .

وسوم: 642