شارل بودلير

شاعر وناقد فرنسي ، يعد واحدا من أعظم الشعراء الفرنسيين ، وينظر إليه في أوروبا وأميركا باعتباره

أبا الشعر الحديث . توفي والده ولما يبلغ السادسة ، وتسبب زواج أمه بعد عام من وفاة والده في معاناة عظيمة

له في صباه ، وفي نزاع لا ينقطع مع أسرته أغلب حياته . وحبه لهذه الأم ، وما رافقه من إحباط ، عنصر بالغ الأهمية لفهم شخصيته وأدبه . أرسل عام 1814 في رحلة طويلة إلى الهند لمعالجة ما في حياته الباريسية من

غلواء ، فلم يتجاوز في رحلته تلك موريشيوس ، بيد أن بهاء المحيط الهندي النادر زوده بعض أكثر صوره الشعرية

إبهارا وإثارة . ولما عاد إلى باريس بدا واضحا أنه شاخ قبل الأوان . وشرع هناك ينفق من ميراثه المتواضع

بمعدل مفرط مما دعا إلى وضع ذلك الميراث في ذمة وصي ، ومن ثم صار يعطى كل أسبوع مبلغا تافها

لا يكفي لتمكينه من تسديد ديونه . وفي ذلك الحين ، قابل جين دوفال التي ارتبط معها بعلاقة عاصفة بقية

حياته ، وإن ألهمته كتابة بعض أعظم قصائده . اتخذت أولى مقالات بودلير في نقد الفن ، وهي المعنونة

ب " صالون 1845 " صورة نقد مطول لمعرض الرسم والنحت الذي انعقد ذلك العام في اللوفر ، واتبع تلك

المقالة بمقالة أخرى في العام التالي . وفي تلك الأثناء  ، شرع ينشر بعض القصائد هنا وهناك . أسهم بودليرفي ثورة 1848 ، لكنه ما عتم أن انصرف عن فكرة الانغماس الفعال في شؤون السياسة حيث قال : إن طبعه

ببساطه لا تتوفر فيه المتطلبات الأساسية للقناعات السياسية . وفي 1855 نشر أولى قصائده النثرية ، التي

جمعت بعد وفاته في ديوان ( غضب باريس ) . وفي 1857 ظهرت أولى طبعات ديوانه الكبير ( أزهار الشر )

الذي حوكم هو وناشره على ما فيه من فحش وبذاءة ، ومن ثم ألغيت ست من قصائده . وفي 1861 ظهرت طبعة

ثانية للديوان أضخم من الأولى . كانت حياة بودلير الخاصة طوال ذلك الوقت فوضى من الديون والمشاجرات

مع أمه وزوجها والبؤس ووسواس الهوى . وفي 1864 يمم وجهه شطر بلجيكا بأمل أساسي هو أن يكسب

من المال ما يكفي لسد ديونه ، فأخفق في مقصده إخفاقا تاما : إذ بيع من كتبه القليل ، وحاضر في قاعات

خالية أو في قاعات تأخذ في الخلو أثناء محاضراته ، فدعاه القنوط إلى صرف كل ماله لإقامة حفل قرأ

فيه قصائده بينما كان الضيوف منصرفين إلى الدردشة في مكان الأكل في الحفل . إن النجاح الحقيقي

والوحيد الذي ناله بودلير في حياته كان ترجمته إلى الفرنسية مؤلفات الكاتب الأميركي إدجار ألان بو

( 1809 _   1849 ) الذي كان يشعر نحوه شعورا عميقا بأنه رفيق له في الرأي والمعتقد على

سائر مستويات تجربة حياته . أصيب بودلير في بروكسل بالشلل إلا أنه رجع إلى باريس حيث

توفي هناك في الحادي والثلاثين  من أغسطس ( آب ) 1867 . نظر معاصرو بودلير إليه بحسبانه

مجنونا أو شيطانا مريدا أو مدمن مخدرات خالصا ، وعدوه حامل لواء المنحطين ، وغارسا للشذوذ ،

وعصابيا . وكان ديوانه ( أزهار الشر ) سيء الصيت ، وتجاهله معظم النقاد ، بيد أن تأثيره أخذ

يظهر زمن وفاته ، وعده الشبان قدوة لهم ، من أمثال بول فرلين ( 1844 _ 1896 ) وستيفان

مالارميه (1842 _ 1898 ) اللذين كانا في مطلع عشريناتهما عند وفاة بودلير . ومن قليل الثناء

الذي حظي به بودلير في حياته ، وبشكل شخصي ، ثناء فيكتور هيجو (1802_ 1885 ) حين قال

له : وهبت سماء الفن ضوءا من الأسى  * وأحدثت في دنيا القصائد هزة .

كان بودلير شاعرا ذا كمال كلاسيكي ، ورث الكثير من خصائص المدرسة الرومانسية ، إلا أنه

اتخذ من الإنسان ومن نفسه هو بالذات موضوعا لشعره في الوقت الذي قنع فيه غيره بوصف المظهر الخارجي

للأشياء . وقد اعترف بالشر اعترافه بالخير ، بل رأى في الشر جمالا ، وتخطى فنه الحدود الخلقية وسواها

من الحدود . لقد كتب عن شخصية الإنسان في إجمالها ، حتى وإن كانت تلك الشخصية منقسمة على ذاتها ،

ونقل التجربة العابرة زمانا ومكانا إلى أفق الفن الفائق النقاوة . كان فكره بلا مبدأ ، ولا ينطق إلا من شعوره

بوحدة الحياة ، ومثلما رأى الحياة واحدة رأى الفن واحدا . وكان ناقدا حاذقا لفني الرسم والنحت ، ومن أوائل

الذين قدروا موسيقا رتشارد فاجنر (1813 _ 1883 ) . وبصرف النظر عن كتابة بودلير لشعر عز نظيره

حسنا ؛ نراه أورث من خلفوه شعورا جديدا بالوعي خاصة وعي الذات الشخصية للإنسان ، وهو الميراث

الذي أفرط كل شاعر جدير بهذا الاسم في الأخذ به منذ زمن بودلير ، ولبث هذا الميراث دون نقصان إلى الآن .

* عن ( موسوعة كاكستون الجديدة ) البريطانية .

وسوم: العدد 643