الشمعة

حدث هذا زمن القنانة قبل أن يحرر أليكساندر الثاني ستين مليونا من أقنان الأرض . يومئذ كان يحكم الناسَ أنواعٌ مختلفة من الأعيان . وكان بين أولئك الأعيان عدد ليس بالقليل تذكر الله وعامل عبيده معاملة إنسانية ولم يعاملهم بوصفهم حيوانات تحمل الأثقال . وكان هناك آخرون من أولئك الأعيان ندر أن قاموا بعمل طيب أو كريم نحو عبيدهم ، بيد أن أشد جميع أولئك الأعيان همجية وعتوا إنما كان الأقنان السابقين الذين اغتدوا أمراء ، فهذه الطبقة من الأعيان هي التي جعلت الحياة عبئا باهظا بالمعنى الحرفي للكلمة لأولئك الذين ساء حظهم بما يكفي فوقعوا تحت حكمهم . كثير من أولئك الأعيان القساة انتقل من مرتبة الفلاح إلى مرتبة ناظر ضياع النبلاء . وكان الفلاحون في ذلك الزمان ملزمين بالعمل لصالح سيدهم عددا محددا من أيام الأسبوع . وكان هناك كثير من الأرض والماء والتربة الغنية الخصبة وكانت المروج والغابات كافية لتلبية حاجات الفلاحين وسيدهم على السواء . وكان أحد النبلاء اصطفى ناظرا من الفلاحين لواحدة من ضياعه . وما أن عهد للموظف الجديد بسلطة الحكم حتى شرع يطبق أفظع ضروب القسوة على الأقنان المساكين الذين وقعوا تحت حكمه . ومع أنه كان لذلك الرجل

زوجة وبنتان متزوجتان ويجني كثيرا من المال الذي يمكنه من العيش في سعادة دون أن يتعدى حدود الله والإنسان بأي شكل كان فإنه كان مفعم النفس حسدا وغيرة وغائصا حتى أذنيه في حمأة الخطيئة . وبدأ ميخائيل

سيميونيتش اضطهاده بإكراه الفلاحين على العمل في الضيعة أياما أكثر مما تلزمهم به القوانين ، فأنشأ مصنع

طوب وأجبر الرجال والنساء من الفلاحين على العمل الإضافي فيه ، وكان يبيع الطوب لكسبه الخاص . ومرة بعث الأقنان المجهدون من فرط العمل وفدا إلى موسكو يشكو سوء معاملة سيدهم إلا أنهم لم ينالوا ما يرضيهم .

وحين رجع الفلاحون المساكين قانطين من عند النبيل الذي يتبعونه عزم ناظرهم على الانتقام منهم لجرأتهم  في تخطيه طلبا للإنصاف ، فساءت حياتهم وحياة رفاقهم من الضحايا أكثر من ذي قبل . وحدث أن كان بين الأقنان

أناش شديدو الخداع لهم القدرة على اتهام  رفاقهم زورا بالخطأ وبذر بذور الشقاق بين الفلاحين . وكان ذلك يثير حفيظة ميخائيل إثارة عظيمة ويجعل رعاياه يعيشون خائفين على حياتهم . وكان الناس إذا مر ذلك الناظر في القرية يفرون ويختبئون كأنما من حيوان متوحش . ولما رأى ميخائيل الرعب الذي بثه في قلوب الفلاحين زادت معاملته لهم حقدا وانتقاما فكان حظ الأقنان المساكين حظا شاقا لفرط العمل وسوء المعاملة . وجاء وقت أمكن للفلاحين فيه _ حين دفعوا لليأس _ أن يبتكروا أساليب تعينهم في التخلص من وحش غير إنساني مثل سيميونوفيتش .

وهكذا شرع أولئك التعساء في التفكير في ما إذا كان لا يمكن عمل شيء للتخفيف من ثقل نيرهم الذي لا يحتمل ،

وصاروا يعقدون اجتماعات صغيرة في أماكن خفية يندبون فيها بؤسهم ويتشاورون في ما بينهم في أنجع الوسائل

للخلاص . وبين حين وآخر كان أجرأ المجتمعين ينهض ويخاطب رفاقه في هذه النبرة : " إلام نتحمل حكم مثل هذا الشرير ؟ لنضع حدا لحكمه في الحال ! الهلكة خير لنا من المقاساة . لا خطيئة بالتأكيد في قتل هذا الشيطان

المتجسد في هيئة إنسان " . وحدث أن انعقد أحد هذه الاجتماعات في الغابة قبل إجازة عيد الفصح حيث أرسل ميخائيل الأقنان لتنظيف مكان لسيدهم من الشجر ، فاجتمعوا ظهرا للغداء وللتشاور في ما بينهم . قال أحدهم : " لم لا ننصرف  الآن ؟ سنتلاشى حالا . عملنا في الماضي تقريبا حتى الموت دون راحة في ليل أو نهار لنا أو لنسائنا . إذا عملنا أي عمل بطريقه لا ترضيه تماما فسيجد فيه خطأ وربما يجلد أحدنا حتى الموت مثلما فعل مع المسكين سيميون الذي قتله منذ وقت قريب . وأخيرا فحسب عذب أنيسيم بالحديد حتى مات . بالتأكيد لم نعد قادرين على تحمل ما نحن فيه " ، فقال آخر :  نعم ما فائدة الانتظار ؟ لننصرف  حالا . سيحضر ميخائيل

إلى هذا المكان في المساء ، ومؤكد أنه سيهيننا بطريقة  مخزية . دعونا إذن نطرحه من فوق الحصان ونهبه بضربة فأس واحدة ما هو أهل له ، وبذا ننهي بؤسنا ، وفي قدرتنا عندئذ حفر حفرة كبيره وقبره فيها مثل كلب ، ولن يعلم أحد ما حدث له . لنتفق الآن على الوقوف معا وقفة رجل واحد ولا نخن بعضنا بعضا ! " . كان المتكلم

الأخير هو فاسيلي مينايف الذي _ إن جازت العبارة _ لديه من الأسباب للشكاة من قسوة ميخائيل أكثر مما لدى زملائه من الأقنان ، فقد اعتاد أن يجلده بقسوة كل أسبوع وأخذ زوجته لتعمل طباخة عنده . ووفق المألوف حضر ميخائيل ذلك المساء إلى المكان على حصانه عقب هذا الاجتماع في الغابة وشرع في الحال في اكتشاف خطأ في الطريقة التي جرى بها العمل وفي الشكوى لأن بعض أشجار الزيزفون قطعت . صرخ حانقا : قلت لكم لا تقطعوا أي زيزفونة ! من قام بهذا العمل ؟ أخبروني فورا وإلا جلدتكم جميعا !

وبالتحقيق تحدد فلاح اسمه سيدور باعتباره المذنب ، فلطم جماعيا على وجهه ، وعوقب فاسيلي أيضا عقابا صارما لعدم قيامه بعمل كافٍ ، وبعد ذلك عاد ميخائيل إلى بيته سالما على حصانه . وفي المساء اجتمع الأقنان

ثانية وقال فاسيلي المسكين : " أوه ! أي صنف من الخلق نحن على أي حال ؟ نحن دوريات فحسب ولسنا رجالا البتة . نتفق على الوقوف صفا واحدا ، لكن حالما يحل وقت العمل نجري كلنا ونختفي . مرة تآمرت الدوريات على صقر ، لكن حين بدا الطائر الجارح انسلت الدوريات في العشب ، فانتخب الصقر واحدا من خيرة الدوريات

ونأى به لأكله وبعده جاءت الدوريات تشقشق : توي ، توي ! واستنقصت أحدها فسألت : من قتل ؟ فانكا ! حسنا ! أهل للقتل . إنكم يا أصدقائي  تتصرفون بنفس الطريقة . كان الواجب ن تفوا بوعدكم حين هاجم ميخائيل سيدور . لماذا لم تنهضوا وتحطوا نهاية له ولعنائنا ؟ " . وجعل تأثير ذلك الخطاب الفلاحين أرسخ عزما لقتل ناظرهم . وكان هذا

أصدر أوامره بأن يستعدوا لحرث الأرض في إجازة عيد الفصح وبذر الحقل بالشوفان الأمر الذي أحزن الفلاحين

كثيرا ، فالتقوا في بيت فاسيلي لعقد احتماع آخر غاضب . قالوا : " إن كان حقا نسي الله وسيتابع اقتراف هذه الجرائم في حقنا فمن الضروري أن نقتله ، وإن لم نقتله فلنهلك ! فلا فرق لدينا الآن " . ومع ذلك ووجه هذا المخطط بمعارضة قوية من رجل نزاع إلى السلم اسمه بيتر ميخايف . قال : " أيها الأخوة ! تفكرون في إثم عظيم . القضاء على حياة إنسان أمر خطير جدا . طبعا سهل إنهاء الوجود الإنساني الفاني ، لكن ماذا سيحدث

للذين يقومون بهذا العمل ؟ إذا واصل ميخائيل ظلمه لنا فالأكيد أن الله سيعاقبه أما نحن يا أصدقائي فالواجب

أن نصبر " . ولم يحدث ذلك الكلام المهدىء سوى تضريم حنق فاسيلي الذي قال : " بيتر يردد دائما ذات القصة

: " قتل أي إنسان إثم " . أكيد القتل إثم ، لكن علينا التفكير في نوع الإنسان لذي نحن بإزائه . نعلم جميعا أن قتل

إنسان طيب إثم ، لكن حتى الله يأخذ حياة كلب مثل ميخائيل . واجبنا يقضي بقتل الكلب المجنون إذا كنا نحب بني الإنسان أي قدر من الحب . تركه حيا إثم ، وإن كان كتب علينا العناء على أي حال فليكن في صالح  الناس وسيشكروننا على ذلك أما إن واصلنا السكينة فسيكون الجلد بالسوط أجرنا الوحيد . كلامك باطل يا ميخايف !

لم لا تفكر في الإثم الذي سنجترحه إن اشتغلنا في إجازة الفصح ؟ هل سترفض أنت شخصيا العمل ؟ " . رد بيتر : " حسنا إذن . سأذهب إن أرسلوني للحرث ، لكن لن أذهب بحر إرادتي . ويعلم الله إثم من هذا وسيعاقب المسيء على إساءته ، على أننا لا ينبغي أن ننساه _ سبحانه _ أيها الأخوة ! أنا لا أقدم لكم آرائي فحسب . الشرع لا يقضي بالرد على الشر بالشر . الحق أنكم إن حاولتم محو الشر بهذه الطريقة فسيحل بكم جميعا بصورة أشد . ليس صعبا عليكم قتل الرجل إلا أن الأكيد أن دمه سيخضب أرواحكم . قد تخالون أنفسكم قتلتم رجلا سيئا وأنكم تخلصتم من الشر ، لكنكم ستكتشفون في التو أن بذور الشر انزرعت في نفوسكم . إن استسلمتم للبلاء فالوكيد أنه

سينزل بكم  " . ولوجود متعاطفين بين الفلاحين مع بيتر فإن المساكين سرعان ما انقسموا فريقين : أتباع فاسيلي

والذين أخذوا بآراء ميخايف . ولم يتم أي عمل في أحد الفصح . وقبيل المساء قدم إلى الفلاحين رجل عجوز من بلاط النبيل وقال : يأمركم ناظرنا ميخائيل سيميونيتش أن تمضوا في الغد لحرث الحقل لبذر الشوفان .

وكان أن جاب هذا الموظف القرية ووجه الرجال للاستعداد للعمل في اليوم التالي ؛ بعضهم على شط النهر وبعضهم جنب الطريق ، فغلب الأسى المساكين وسفح كثير منهم الدمع دون أن يجترىء واحد على معصية أوامر السيد . وصبيحة اثنين الفصح ، بينما كانت أجراس الكنيسة تدعو الأهلين للصلاة ، وكل واحد عدا الفلاحين

يتهيأ للتمتع بالإجازة مضى الأقنان التعساء إلى الحقل ليحرثوه . وبرز ميخائيل متأخرا شيئا ما وطوَف بالمزرعة .وانهمك خدم المنزل في عملهم واستعدوا ليوم الإجازة . وذهبت زوجة ميخائيل وابنته المترملة _ التي كانت تزورهم في الإجازة وفق مألوف عادتها _ إلى الكنيسة وآبتا منها . وكان الموقد ينتظر المرأتين . وشرعتا تحتسيان الشاي  مع ميخائيل الذي أوقد غليونه ثم استدعى الرجل العجوز وقال له : حسنا . هل أمرت الفلاحين بالحرث اليوم ؟

رد : أجل يا سيدي ! أمرتهم .

_ هل ذهبوا كلهم إلى الحقل ؟

_ أجل يا سيدي ! كلهم . وجهتهم شخصيا إلى المكان الذي يبدؤون منه .

_ كل هذا رائع جدا . أمرتهم ، لكن هل يحرثون الآن ؟ اذهب فورا وانظر ! ويمكن أن تخبرهم أنني ذاهب هناك بعد الغداء . أتوقع أن أجد إتمام دونم ونصف لكل محراثين . ولابد أن يكون العمل حسن الأداء وإلا فسأعاقبهم بقسوة رغم الإجازة .

_ سمعا وطاعة يا سيدي !

وذهب إلا أن ميخائيل ناداه ، وبعد لحظة تردد كأنما يعاني قلقا شديدا قال : على فكرة ! اسمع ما يقوله أولئك الأوغاد عني ! لا شك في أن منهم من سيلعنني ، وأريد منك أن تنقل لي كلامهم بالحرف . أعلم أي صنف من الأشرار هم . إنهم غير راضين بالمرة عن العمل . يؤثرون الاسترخاء طول النهار دون عمل . يهوون الأكل والشرب والطرب في الإجازة ، لكنهم ينسون أن الموسم سيمر حالا إن لم يحرثوا الأرض ، لهذا امضِ واستمع ما يقال وأخبرني به مفصلا ! امضِ حالا !

_ سمعا وطاعة يا سيدي !

فاستدار وركب حصانه وفي الحال كان في الحقل حيث الأقنان يجدون في العمل . وحدث أن امرأة ميخائيل الوفيرة الطيبة استمعت صدفة الحديث الذي دار منذ قليل بين زوجها وبين العجوز ، فدنت منه وقالت : صديقي الطيب ميشينكا ( تصغير ميخائيل ) ! أرجوك أن تقدر جلال وحرمة هذه الإجازة . لا تأثم بجاه المسيح عليك ! اصرف الفلاحين المساكين إلى بيوتهم !

فضحك ميخائيل دون أن يرد على مطلب زوجته الإنساني وفي النهاية قال لها : لم تجلدي بالسوط زمنا طويلا وصرت الآن من الجرأة بحيث تتدخلين في ما لا يخصك .

فألحفت قائلة : يا ميشينكا ! حلمت  حلما مهولا يخصك . يجمل بك صرف الفلاحين إلى بيوتهم .

قال : أرى أنك سمنت كثيرا حتى صرت تشعرين بأنك لن تبالي السوط . احذري !

وقذفها في وجهها بكل فظاظة بغليونه المتقد وطردها من الحجرة بعد أن أمر بتهيئة غدائه . وبعد أن تناول وجبة شهية مؤلفة من مرقة القرنبيط ومشوي لحم الخنزير والكعك باللحم ، والفطائر الحلوة بالحليب ، والهلام ، والكعك المحلى والفودكي ( هكذا في النص الإنجليزي ) ، نادى طباخته وطلب منها الجلوس والغناء وصاحبها هو على القيثار . وبينما كان الناظر على هذه الحال من إمتاع نفسه حتى منتهى  رضاها بالصحبة الموسيقية مع طباخته ؛ عاد العجوز فانحنى أمام سيده وتقدم لإعطائه المعلومات المرادة في شأن الأقنان .

قال ميخائيل : حسنا . حرثوا ؟

رد العجوز : نعم . أتموا حرث نصف الحقل تقريبا .

_ أليس في حرثهم نقص ؟

_ ليس بالقدر الذي أستطيع كشفه . يبدو الحرث جيدا . واضح أنهم يخشونك .

_ كيف حال التربة ؟

_ في غاية الجودة . تبدو كاملة الليونة .

فقال سيميونيتش بعد سكتة : حسنا . ما قالوا عني ؟ إخالهم لعنوني ؟

ولما لاح على العجوز شيء من التردد أمره ميخائيل بالكلام وذكر الحقيقة دون نقصان . قال : قل لي كل شيء !

أريد معرفة كلامهم بالحرف . سأجازيك خيرا إن قلت لي الحقيقة وستعاقب إن أخفيت عني أي شيء . اسمعي يا كاثرين ! صبي له كأس فودكي لتشجيعه !

وبعدما شرب العجوز في صحة سيده حدث نفسه : ليس ذنبي إن كانوا لا يطرونه . سأقول له الصحيح .

والتفت فجأة إلى الناظر وقال : يشكون يا ميخائيل سيميونيتش ! يشكون في ألم .

سأل ميخائيل : ولكن ماذا قالوا بالتحديد ؟ أخبرني !

_ حسنا . مما قالوه : إنه لا يؤمن بالله .

فضحك ميخائيل وسأل : من قال هذا ؟

_ بدا أن هذا رأيهم كلهم . قالوا : غلبه الشيطان .

فضحك الناظر وقال : رائع تماما ، لكن أخبرني ما قاله كل واحد منهم ! ماذا قال فاسيلي ؟

لم يشأ العجوز خيانة شعبه ، لكنه يبغض فاسيلي بغضاء معينة ، فقال : لعنك أكثر منهم كلهم .

_ لكن ماذا قال بالحرف ؟

_ تكرار ما قاله فظيع يا سيدي ! قال فاسيلي : سيموت ميتة كلب دون مجال للندم .

فصرخ ميخائيل : أوه ! الشرير ! سيقتلني لولا خوفه . طيب يا فاسيلي ! سنحاسبك . وأحسب

تيشكا سماني كلبا ؟

فقال العجوز : حسنا . قالوا عنك كل شيء سوى الثناء عليك إلا أنها وضاعة مني أن أعيد ما قالوا .

_ قلت لك وضاعة أو غير وضاعة يجب أن تخبرني !

_ بعضهم صرح بأنه ينبغي كسر ظهرك .

وبدا أن سيميونيتش استمتع  بما سمع استمتاعا كبيرا ؛ لأنه أسرف في الضحك . قال : سنرى من الذي سيكسر ظهره أولا . أكان هذا رأي تيشكا ؟ لم أتوقع تلك اللعنات والتهديدات مع أنني لم أقدر أن يقولوا أي خير في حقي . وماذا عن بيتر ميخايف ؟ أكان ذلك المأفون يلعنني أيضا ؟

_ لا . لم يلعنك بالمرة . ظهر الصامت الوحيد بينهم . ميخايف فلاح وافر الحكمة ، ويدهشني كثيرا . كل الفلاحين

بدوا مندهشين من أفعاله .

_ ماذا فعل ؟

_ فعل شيئا مهما جدا . كان يحرث مجتهدا . وحين اقتربت منه سمعت شخصا يغني غناء عذبا . ولما نظرت بين شفار المحراث رأيت شيئا ساطعا .

_ حسنا . ماذا كان ؟ أسرع !

_ كان شمعة صغيرة ثمنها خمسة كوبكات تتقد ساطعة والريح عاجزة عن إطفائها . وكان بيتر يلبس قميصا جديدا ويغني أغاني جميلة خلال الحرث ، واستمرت الشمعة في الاتقاد بغض النظر عن الطريقة لتي يمسك بها المحراث . وقد ثبته في حضوري وهزه بقوة إلا أن الشيء الساطع بين شفار المحراث لبث ثابتا على حاله .

_ وماذا قل ميخايف ؟

_ لم يقل شيئا سوى أن حياني تحية العيد المقدس حين رآني ، وبعد ذلك واصل سبيله يحرث ويغني مثلما كان .

لم أقل له شيئا ، لكن حين وصلت  إلى الفلاحين الآخرين وجدتهم يضحكون ويتفكهون على رفيقهم الصامت . قالوا : الحرث في اثنين الفصح خطيئة كبرى ، ولا يمكنك أن تنال الغفران لخطيئتك هذه ولو صليت عمرك كله .

_ ولم يرد ميخايف عليهم ؟

_ توقف بما يكفي ليقول لهم : يجب أن يكون السلام على الأرض وبالناس المسرة ، وبعدها تابع الحرث والغناء

والشمعة تتقد أسطع من ذي قبل .

كان سيميونيتش توقف عن الاستهزاء ، وبعد أن طرح قيثاره جانبا سقط رأسه فوق صدره واستغرق في التفكير ،

ثم أمر العجوز والطباخة بالانصراف ، وتوارى خلف حجاب وارتمى على السرير . كان يتنهد ويتأوه كأنه في كرب عظيم . وحين دخلت عليه زوجته وكلمته في حنان رفض الاستماع إليها صائحا : غلبني ونهايتي اقتربت !

قالت المرأة : ميشينكا ! قم واذهب إلى الفلاحين في الحقل ! اصرفهم إلى بيوتهم وكل شيء سيكون على ما تحب ! خاطرت حتى الآن مخاطرات كبيرة دون أي مخافة ، لكنك تبدو الآن عظيم الارتعاب .

كرر : غلبني . ضعت !

سألته زوجته غضبى : ماذا تعني ؟ إذا ذهبت وفعلت ما أقول فلن يمسك أي خطر . تعال يا ميشينكا !

وأردفت في حنان : سأحضر لك حصان الركوب حالا .

ولما حضر الحصان أغرت زوجها  بركوبه وتحقيق طلبها الخاص بالأقنان . وحين بلغ القرية فتحت امرأة البوابة ليدخل ، فلما دخل ورأى السكان الناظر الوحشي الذي يرهبه الجميع فروا للتواري في البيوت والبساتين

والأماكن الأخرى المنعزلة . وأخيرا انتهى ميخائيل إلى البوابة الثانية التي وجدها موصدة . ولما كان لا يستطيع فتحها وهو فوق حصانه نادى عالي  الصوت سائلا المساعدة . وحين لم يجب أحد نداءاته ترجل وفتحها بنفسه ،

لكن لحظة كان على وشك الركوب ثانية وإحدى رجليه في الركاب جفل الحصان فجأة من بعض الخنازير وجمح جانبا ، فهوى الناظر فوق السياج ، فاخترق أحد الأوتاد بطنه ، فوقع على الأرض دون وعي . ولما وصل الأقنان

قبيل الغروب إلى بوابة القرية امتنعت جيادهم من الدخول ، فالتفت الفلاحون حولهم واكتشفوا جثة  ناظرهم واقعا على وجهه في بركة دم حيث هوى من السياج . وكان بيتر ميخايف الوحيد الذي امتلك شجاعة كافية للترجل والاقتراب من الجسد المنكفىء بينما دار رفاقه بخيولهم حول القرية ودخلوها من ساحاتها الخلفية . وأغمض ميخايف عيني الميت ووضعه في عربة ومضى به إلى البيت . ولما علم النبيل الحادث المميت الذي أصاب ناظره

والمعاملة الوحشية التي عامل بها من يشرف عليهم ؛ حرر الأقنان بعد أن حدد إيجارا صغيرا لاستغلال أرضه وسواه من المجالات الزراعية الأخرى . وهكذا أدرك الفلاحون في جلاء أن قدرة الله لا تتجلى في الشر بل في الخير .

* الكاتب الروسي ليوتولستوي .

وسوم: العدد 646