النقاش

عاش في متقادم الدهر في إحدى قرى جبال الأورال صائع ذائع الصيت يدعى بروكوبييتش ، كان يصنع الجواهر وسواها من المصنوعات من معدن الملكيت ، واشتهر بأنه أحسن نقاش للجواهر في جبال الأورال . وطلب منه الحكام واحدا بعد الآخر أن يعلم الفتية حرفته إلا أن أيا منهم لم يكن بالقدر الكافي من الموهبة والبراعة لتعلمها . وكان يعيش في القرية يتيم اسمه دانيلا ، واهن البنية ، ويعجز عن العمل في المصنع ، على أنه كان مفعما بالأحلام والأماني ، ومولعا بتأمل مجالي الطبيعة . وحاول مرة معاونة راعٍ شيخ ، وخلال عزفه على نايه غفا الراعي ، فافترست الذئاب عددا كبيرا من أغنامه ، وعاقب مالكها دانيلا والراعي عقابا قاسيا لا رحمة فيه . وأخذت عجوز حنون دانيلا إلى بيتها ، وداوت جروحه بالأعشاب والأزهار ، وعلمته كيفية الاعتناء بالنبات ، وحدثته مرة عن الزهرة الحجرية في جبل معدن الملكيت ، وأخبرته أن تلك الزهرة أفتن زهرة في الدنيا ، واستتلت محذرة :" من يجد تلك الزهرة لن يعرف السعادة أبدا " .  وفي يوم كلفه مالك المصنع صنع مزهرية من الملكيت ، وبعث مع رغبة التكليف رسمة للمزهرية المحبذة . وشرع دانيلا ينفذ المهمة المعقدة إلا أنه لم يكن مقتنعا بالفكرة التي تجسدها الرسمة ، فصار يذهب يوميا إلى الغابات لاستلهام الإبداع وتأمل الأزهار والنباتات . وفي النهاية أكمل صنع مزهرية مماثلة لما في الرسمة ، وعرضها على الصناع ، فأعجبوا بها وامتدحوها إلا أنه قال : " صنعت هذه المزهرية وفق الرسمة غير أنها خالية من الجمال الحي ، إن البهجة تغمر القلب من جمال الزهرة البسيطة ، أين مثل هذا الجمال في الحجر ؟! " . وحذره مرة صانع عجوز : " لا تفكر بهذه الطريقة وإلا صرت عبدا لغادة جبل الملكيت ! عمالها يعيشون ويعملون في ذلك الجبل ، ولا يراهم أحد . وحسُن حظي مرة فرأيت عملهم . عمل رائع حقا ، ولا سبيل لموازنة عملنا به ؛ لأنهم رأوا الزهرة الحجرية ، وأدركوا ما في الحجر من الجمال " . وأكثر دانيلا بعد كلام العجوز من الذهاب إلى الغابة منقبا عن ذلك الحجر ليصنع منه المزهرية ، فقلق عليه بروكو بييتش ، وحضه على المبادرة إلى الزواج من الغادة الفاتنة كاتيا التي خطبها من قبل إلا أنه قال : " أحبذ تأجيل الزواج . أريد قبله أن أصنع مزهريتي ، ثم أفكر فيه " . ومرة كان في الغابة ينقب عن ذلك الحجر ، وباغتته همسة تقول : " أيها الصانع دانيلا ! نقب عن الحجر على قمة تل الثعبان ! " ، فاستدار ولمح جسد امرأة غامضا اختفى في الحال ، ففكر : " لعلها غادة جبل النحاس ! " ، وقصد تل الثعبان ، وعثر فيه بكتلة كبيرة من الملكيت ، فابتهج كثيرا ، وأخذها إلى بيته ، وشرع يصنع منها المزهرية . وما لبث أن أشعرته النتيجة بالخيبة ، فقال حزينا : " لعلي عاجز عن فهم التصميم وجمال الحجر " ، وإثر ذلك أعلن مع كاتيا موعد زفافهما ، وذهب في اليوم الذي يسبقه إلى تل الثعبان ، وجلس هناك يفكر في الزهرة الحجرية ، وقال لنفسه : " ما أقوى رغبتي في رؤية تلك الزهرة ! " ، فباغتته غادة جبل النحاس بالبروز ، فاستجداها قائلا : " لا سعادة لي دون رؤية تلك الزهرة " ، فأجابته : " في مقدوري أن أريكها ، لكنك ستندم بعد رؤيتها . من رأوا زهرتي هجروا أسرهم ، وجاءوا للعيش في جبلي . فكر في بروكوبييتش وكاتيا اللذين يحبانك ! " ، فصاح : " أعرف ذلك ، لكن لابد من أن أراها " ، فقالت : " لا بأس . تعال إلى حديقتي ! " ، وأخذته وأرته الزهرة العجيبة . وعاد مغرب ذلك النهار إلى القرية . واحتفلت خطيبته قبل موعد الزفاف بالمناسبة ، فرقص وغنى في الحفلة ، ثم غشيه الحزن ، وأجاب كاتيا عند سؤالها عن سبب حزنه بأنه يشكو صداعا . وعاد بعد الحفلة إلى البيت ، وحطم مزهريته وهرب ، فامتلأت القرية بعد اختفائه شائعاتٍ دون أن يعرف أحد فيها أين ذهب . وانقضت ثلاث سنوات ، ولم تتزوج كاتيا أحدا غيره . وعقب وفاة والديها ذهبت للعيش مع بروكو بييتش العجوز ولمساعدته في العمل إلا أنه مات بعد وقت وجيز من مجيئها ، فعاشت وحيدة . ولم يكن لديها مال ، فاعتزمت العمل في صناعة دبابيس الزينة . وكان أن ذهبت إلى تل الثعبان آملة العثور على قطع حجارة حسنة تصلح لصناعتها . وهناك استذكرت حبيبها دانيلا ، فاستعبرت باكية . ورأت بغتة قطعة ملكيت جميلة ، فأخذتها إلى البيت ، واجتهدت لنحت عدة دبابيس منها . وكدت في عملها وأتقنت حتى تمكنت من نحت الأنواع المرادة من الدبابيس الحجرية ، وسعدت حين باعتها إلى تاجر في القرية ، وفكرت : " دبابيسي أحسن دبابيس في محله . كنت سعيدة بالعثور على الملكيت . ربما ساعدني دانيلا في ذلك " ، وانطلقت ثانية إلى تل الثعبان باحثة عن حجر آخر حسن ، وهناك فكرت في دانيلا ، وانتحبت متسائلة : " أين أنت يا رفيقي الحبيب ؟! لم هجرتني ؟! " ، ولما تلفتت حولها بدا لها أنها تقف في غابة غريبة ما عرفتها من قبل ، ولاح الجبل أمامها ، ففكرت : " هاهو الجبل المسحور ! قد أرى حبيبي دانيلا " . وحين نظرت أسفلها لمحت رجلا يشبهه ، ورفع الرجل يديه صوبها ، فهمت بالقفز إليه إلا أنه اختفى . وأخبرت أقاربها عند عودتها إلى البيت بما رأته فكذبوها ، واعتقدوا أنها معتلة الصحة . وقصدت اليوم التالي التل قوية الأمل في رؤية دانيلا ، فاقتفت أختها أثرها ، وسارت هي إلى نفس المكان ، فوجدت نفسها في الغابة المسحورة ، وشرعت تنادي : " أين أنت يا دانيلا ؟! أجبني ! " ، فأجابها الصدى : " دانيلا ليس هنا ، دانيلا ليس هنا " . وبغتة برزت غادة جبل النحاس ، وسألتها : " لم قدمت إلى حديقتي ؟! إذا كنت تريدين الحجارة فخذي منها ما أردت وانصرفي ! " ، فأجابتها كاتيا الجريئة : " لا أريد حجارتك الميتة . أعيدي إلي حبيبي دانيلا ! لا حق لك في أخذ خطيب فتاة أخرى  " ، فضحكت الغادة وسألت : " أتعرفين من تخاطبين ؟! " ، فصرخت فيها كاتيا : " لست عمياء ، وأعرف من أنت ، ولا أخشاك ، كلا ، وأعتقد أن دانيلا يريد أن يعود إلي " ، فقالت الغادة : " وهو كذلك . لندعه يتكلم ! " .

وظهر دانيلا ، فقالت له الغادة : " اختر يا دانيلا الصانع بين ما يأتي : إذا ذهبت معها فانس كل ما رأيته وتعلمته عندي ، وإذا أردت البقاء فانس بقية العالم ! " ، فتنهد وقال : " آسف . لا أستطيع نسيان أحبابي . أفكر في كاتيا كل دقيقة من حياتي " ، فابتسمت الغادة ، وقالت : " ليكن يا دانيلا ، عد إلى بيتك ! وسأقدم لك هدية ثوابا لنزاهتك ووفائك . لن تنسى العلم الذي اكتسبته هنا ، ولكن لا تحدث الناس عن الجبل ! وإذا سألك أحدهم أين كنت فقل إنك سافرت لتحسين براعتك في صنعتك ! " . وعادت كاتيا ودانيلا إلى القرية في سرور فياض . وكانت أخت كاتيا فشلت في الاهتداء إليها في الغابة ، وعندما عادت إلى البيت وجدتها فيه مع دانيلا ، فصاحت : " أين كنت يا دانيلا ؟! " ، فابتسم ،وقال : " ذهبت لدراسة ما يخص مهنتي عند معلم حاذق بعيد " . وعاشت كاتيا ودانيلا سنين مديدة سعيدين ، وغدا هومشهورا في كل مكان بصفته أعظم نقاش في جبال الأورال .

وسوم: العدد 657