التائب

بدأ أرسين لولارج الملقب ب" جو حليق الرأس " في تغيير حياته ؛ ذلك أن حصانا سقط فوقه بحمولة

طنين قبل عدة أسابيع ، وقصرت أربع العجلات عن سحق رأسه وقطع ساقيه . وحين أقال الناس صاحبنا

الحليق ؛ كانت سترته مغشاة وحلا وكان وجهه شحيبا هلعا ، بيد أنه ما خدش أيما خدش . وقد أسرع من

فوره إلى الحانة القريبة من موقع الحادث لإغراق هلعه في الخمر . ومع هذا فقد خرج منها بسرعة

ودخل كنيسة نوتردام الصغيرة للإغاثة  الخيرية ليركع قدام القديسة العذراء . تمتم : أيتها العذراء الطيبة ،

أقسم لك أنني سأهجر الحياة البائسة التي عشتها حتى اللحظة . وداعا أيتها الأم الطيبة ، ساعديني !

وغادر جو الحليق مدينة مونتريال نفس المساء دون تنبيه أحد إلى مغادرته . لم ينبه حتى صاحبيه في مغامراته

وهما سيء الطالع كورتوبوانت والمقدام الجسور فيناندوال . وبعد ستة أشهر استقر أرسين لولارج  _ الذي

ما عاد أحد يدعوه الآن جو الحليق _ في بضعة فدادين من الأرض الجديدة في منطقة سانت أجاثي حيث

ابتنى كوخا وزرع خضرا ،  لكن ما ساعده على العيش هما صيد البحر وصيد البر . هل ترك حياة العزوبية ؟

أجل . فقد التقى الفتاة الرقيقة لوازيت ، وبعد ثمانية أسابيع من مفارقة مونتريال صار عنده زوج جميلة هي

السيدة لولارج التي أعجبت بزوجها وأنسته حياته الماضية . وتقضت أسابيع  من السعادة على هذا النحو .

وكان عيد الميلاد اقترب فأدخل أرسين في حسابه ذبح دجاجة رومية تهيئها لوازيت للأكل . قالت له : آه يا

زوجي . سنذهب السنة إلى قداس منتصف الليل . منذ  زمن بعيد وأنا أحلم بهذا . فقال : نعم يا زوجي لوازيت . سنذهب

إلى سانت أجاثي لابسين نعالا شبكية ( لئلا تغوص  الأقدام في الثلج ) ، ويا لمأدبة رأس السنة التي سنقيمها عندما

نعود  ! دجاجة رومية ونقانق وفطيرة محشوة بالمربى وشرب خمر .

وسار كل شيء أفضل مسار . وفي الأثناء ، وقبل عيد الميلاد بيومين ، قدم فيناندوال وكورتوبوانت لزيارة

شريك مغامراتهما السابق . كانت لوازيت وحدها في البيت حين بلغاه . قال الاثنان متلطفين : جئنا لزيارة

جو الحليق . كلانا من أصدقائه في المدينة . قلنا في أنفسنا إنه سيكون سعيدا لرؤيتنا ثانية ، وإنه في مقدورنا

أن نسهر ليلة الميلاد سويا . قالت لوازيت : جو الحليق ؟ ! أخطأتما يا سيدي الطيبين . ليس هنا سوى

زوجي أرسين لولارج  . فرد فيناندوال : هو بالضبط . غادر مونتريال مسرعا حتى إنه لم يجد الوقت

الكافي لوداعنا . جئنا لنقول له طاب يومك ، ونذكره بعض ذكريات الماضي الطيبة .

فقاطعتهما لوازيت : لكن أرسين ليس موجودا مع كثير الأسف .

ولأنها ما ارتاحت لما في وجهيهما من خباثة ؛ صفقت الباب ، بيد أن فيناندوال بصر قبل صفق

الباب بالدجاجة الرومية التي ذبحها أرسين صبيحة ذلك اليوم و طفقت لوازيت في إعدادها .

وهدد الاثنان لوازيت وهما يقصدان أدنى نزل من البيت : لست مؤدبة ، وستدفعين ثمن وقاحتك .

وعندما عاد أرسين إلى البيت وعلم رغبة صديقيه القديمين في الحديث إليه ؛ رفض رؤيتهما وسأل

فجأة : قولي لي يا لوازيت ، هل شاهدا دجاجتنا ؟

_ جائز يا أرسين .

_ على كل حال زائرانا قادران تماما على سرقتها منا . خبئيها في الصندوق الخشبي لتكون في مأمن .

وما كان أرسين مخطئا ؛ فقبل تنصف الليل أيقظته جلبه مفاجئة . اكتشف أن صاحب منشار وجد

الوقت الكافي لإحداث فتحة في المكان الذي علقت فيه الدجاجة بالضبط قبل ساعات .

همس فيناندوال : الدجاجة طارت . لننقذ أنفسنا !

وبعد اطمئنان أرسين إلى وجود الدجاجة  في الصندوق خرج مترويا يحمل غدارته للقيام بجولة

في حديقته ، فحالت الظلمة دون رؤية فيناندوال الذي انسل داخل الكوخ ودنا من سرير لوازيت ،

وسألها مقلدا صوت زوجها عن المكان الذي وضعت فيه الدجاجة ، فردت بصوت فيه أثر النوم :

وضعتها بنفسك في الصندوق .

فاكتشف  الصندوق بنظرة خاطفة ، فأخذ الدجاجة وهرب . وعندما عاد أرسين كانت لوازيت صحت

تماما ، فأدرك الاثنان تعرضهما لسرقة . فقال أرسين : أغلقي بابك واطمئني ! سأذهب إل مغارة فال موران .

تذكر أرسين أن اللصين يعرفان المنطقة معرفة حسنة ، وأنهما ضربا فيها ضربة ناجحة منذ عدة سنوات ،

فمضى في درب مختصر ليصل بسرعة قرب الشلالات ، فبصر بكورتوبوانت يمشي حاملا الدجاجة على كتفه ، وبفيناندوال

الذي كان يتقدم لإرشاده في الطريق . كانت الظلمة عندئذ مطبقة ، فانحرف في طريق ضيق ، وعدا بكل سرعته ليجد نفسه  فجأة في محاذاة كورتوبوانت فقال محاكيا صوت فيناندوال : ناولني الدجاجة يا كورتوبوانت !  ثقيلة عليك  . دوري في حملها .

_ خذها إن شئت ! كيسي مليء جدا أيضا .

 وحالما وجد أرسين  دجاجته عاد إلى كوخه فائق السرعة مستديرا نصف استدارة في الظلام . وما من جدوى

لوصف الغضب الذي استعشره كورتوبوانت حين ألفى نفسه معبوثا به مرة أخرى . وفي الحال استخرج من كيسه بطانية من الصوف رمادية وشالا صغيرا . قال لافا البطانية حول حقويه : هي ذي تنورة ، وسأستعمل الشال

غطاء لرأسي . سأتخذ مظهر فلاحة . ربما أكون أضخم من زوج جو لكنني في نفس حسنها .

واتجه اللصان في سرعة تامة صوب كوخ آل لولارج ، فوصل كورتوبوانت الباب في اللحظة

التي وصل فيها أرسين بداية طريق ضيق ، فسأله مقلدا صوت لوازيت : وجدت الدجاجة يا زوجي ؟

فأجاب أرسين مجهدا : نعم . وجدتها .

_ أحسنت يا زوجي . لكن هل سمعت الضجة في المخزن ؟ ناولني الدجاجة . سأخبئها ريثما

تذهب لرؤية ما يحدث في ...

وواضح أنه ما كان يحدث شيء في المخزن ، ولكن حين عاد لولارج كان لديه وقت كاف لمشاهدة

لوازيت المزيفة تثب نحو الصندوق والبطانية حول خصرها فدب الخوف في نفسه .. أليس من

الخير له ترك كل شيء ؟ أضف إلى ذلك أن  الثلج كان يتهاطل في كثافة متزايدة ، ولكن لوازيت التي

تثق فيه موجودة . قال : أحلف لك يا زوجي أننا سنأكل الدجاجة سوية في عيد الميلاد . قريبا .

وخرج ثانية دون تردد هذه المرة ، وقادته آثار الأقدام الجديدة التي كانت مرئية فوق الثلج إلى المغارة

مرة جديدة ، فغذ السير وفجأة ، حين بلغ مدخلها ، لمح خلل الأغصان نارا تضيء الثلج . أوقد

فيناندوال وكرتوبوانت تلك النار في الحطب اليبيس لشي الدجاجة . وكان فيناندوال يقول لحظتئذ :

أنت محق يا كورتوبوانت . ما عاد في وسع الحليق فعلة شيء . إنما الشرطة موجودة .

وعندئذ قال أرسين في نفسه : عجبا ! فكرة حسنة ، إلا أنني ليس لدي وقت للذهاب إلى

سانت أجاثي لطلب الشرطة . علي أداء المهمة بنفسي .

فيمم نحو كوخ حطابين عتيق فوجد قدورا صدئة وسلاسل وعصيا وحبالا، وربط بعض

القدور في طرف بعض الحبال وعلقها بين الغصون ، ومد سلاسل مرنانة بين شجرتين ،

وبغتة شرع يجري بين كل الجهات هازا الغصون وضاربا القدور بعضها ببعض . فعل

هذا يسرة ويمنة وصاح هنا وزعق هناك ، فحسب اللصان كل قوة الشرطة حاصرتهما

ففرا في أقصى سرعة مخلفين النار والشواء وموقعين أقدامهما في السلاسل وفي حسبانهما

أنهما ضلا ... ولكن ماذا يحدث ؟ بغتة انقطعت الجلبة فصرخ كورتوبوانت : لا أسمع شيئا .

غريبة !

وعاد اللصان حذرين حذر الذئب إلى موضع نارهما فبصرا بأرسين منشغلا كليا في نزع

الدجاجة وحطها في كيس . وحين مر قريبا للغاية منهما دون أن يرتاب أيما ريبة في

وجودهما ؛ كان انذهالهما بليغا حتى إنهما لبثا ساكنين صامتين من قوة الانذهال .

وعندما عاد إلى اليت قص على زوجه كل ما وقع ، فعانقته مبتهجة قائلة : هكذا

تري يا زوجي أنني محقة حين أثق فيك . سنأكل الدجاجة غدا على مائدة الميلاد . العيد

سيكون تاما .

فقال : بلا شك يا زوجي لوازيت . إنما لا مناص من التحوط من ذينك النذلين . على

كل حال حطي الدجاجة مساء اليوم قرب سريرنا .

وفي الغد كسا الثلج الريف كله . عيد الميلاد سيكون أبيض حقا . قال أرسين : يجب

ألا نضيع الوقت يا لوازيت . لا مفر من طهو الدجاجة .

قالت : لم يعد عندنا وقت لشيها . سنقطعها ونحطها في الحلة .

وحالا وصلت الرائحة اللذيذة أنفي اللصين اللذين كانا دانيين من الكوخ . وحين جسر فيناندوال على اختلاس

النظر من النافذة تسنت له مشاهدة أرسين وامرأته راقدين في سريرهما الهزاز . كان الدخول مستحيلا

من الباب المقضب . وبغتة لمح عصا خشبية طويلة ذات كلاب مسندة على جدار المخزن تستعمل دون

ريب في تنظيف المدخنة . وبصفته لاعبا بهلوانيا قديما انزلق على السطح ، وزحف إلى المدخنة ،

فلحظ الدجاجة داخل الحلة من خلال فتحة المدخنة تحته مباشرة على مسافة سبع أو ثماني أقدام ،

فمرر العصا عبر أنبوب المدخنة وأدخلها في الحلة ، وغرزها دون تحديد فنجحت الضربة الخامسة

التي أجاد تسديدها ، وانتزع قطعة رائعة سحبها عبر المدخنة تام الحذر . وفجأة سمعت صرخة رعب

في الكوخ ؛ ذلك لأن كوازيت صحت في اللحظة التي طارت فيها أحسن قطعة من دجاجتها بصورة

غامضة في الهواء . واستنكر أرسين تكدير نومه فقال : لن ننتهي من هذه المشكلة . التفاهم خير

من المضي في هذا الصراع .

ونهض وفتح الباب ونادي اللصين اللذين كانا استعدا للفرار . قال : يا صديقي ، دعونا نصطلح .

ادخلا عندي وخذا راحتكما . سنذهب معا إلى الكنيسة ونسأل المغفرة لأخطائنا لنبدأ حياة

جديدة . وحين نعود سنأكل هذه الدجاجة التي ستكون لنا _ بعدما قمنا بأسوأ المغامرات _ رمز

صداقة شريفة .

ولم يرد فيناندوال وكورتوبوانت على أرسين فورا ، ولكن حين دقت أجراس كنيسة سانت أجاثي

تلك اللحظة رأى أرسين صديقي أيام السوء ولحظ بريق عيونهما . لم يكن ذلك البريق أملا في مائدة

ميلاد جيدة أو فكرة في ضربة سيئة أزعجتهما . كان ذلك البريق لتذكرهما أعياد الميلاد زمن طفولتهما

، ولعله بسبب الندامة على ما غبر من أخطائهما ، وعلى كل حال إنها فرحة الأمل في مستقبل أكثر صفوا .

* قصة : جي بوليزون .

وسوم: العدد 669