صراع الملوك

عاش في غابر الزمان السحيق ملك حكم العالم سبعمائة عام من عاصمته في إيران . كان اسم الملك جامشيد ، وكان في الحقيقة ملكا عظيما أطاعه الناس والشياطين والطيور والبريات ( مخلوقات خرافية في الأساطير الفارسية ) دون استثناء . وازدهر العالم في عهده ؛ لأنه قال : سأمنع الأشرار من الإساءة ، وأهدي كل الناس سبل الرشاد . وقد شغل نفسه مدى خمسين سنة بأسلحة الحرب ؛ ليمهد سبيل المجد للبواسل الصناديد ، فصنع الخوذ والرماح والدروع ، ثم انصرف لصنع الملابس لشعبه ، فهيأ المواد الخام من الكتان والصوف وجلود القنادس والإستبرق ، وعلم الناس كيفية نسجها ، وعندما صارت أقمشة جاهزة علمهم كيفية تنظيفها وكيفية صنع الثياب منها . ولما استتم ذلك كراس وقتا للتنقيب عن كرائم الحجارة ، فاكتشف أشياء عالية النفاسة مثل الياقوت

والكهرمان الأصفر والفضة والذهب ، وتلا ذلك بابتكار طيوب (عطور ) مثل البلسم والكافور والمسك الخالص

والصبِر والصبغة البنية الضاربة للصفرة وماء الزهر . وتاليا اكتشف الطب والأدوية الشافية لكل علة ووسائل الحفاظ على الصحة ومداواة الجراح ، وبهذا أرضى الناس واستشعر هو السعادة . وتقضت ثلاثمائة عام على

تلك الحال ، وكان الموت غير معروف في ذلك الزمان ، ولم يكن ألم ولا حزن ، واسترقت الشياطين ، فلم تكدر الناس ، ولكن بمضي الزمان أضحى الملك عظيم القوة حتى بات لا يرى أحدا في الدنيا سوى شخصه ، فاستجلب

بحمقه حنق " الآلهة " على نفسه . وفي ذلك الزمان كان يعيش في بلاد العرب بين شيوخ القبائل ملك وقائد لجماعات كثيرة من الفرسان المسلحين ، ويملك قطعانا من الماعز والإبل والشاء ، ولديه من كل جنس منها ألف

رأس قوية البدن مضافة إليها الأبقار والخيل العراب . وكان لهذا الملك الجواد ابن اسمه الضحاك عرف بالمرح

وخلاء البال والانخراط الموصول في الحروب مع الأعداء . وحدث أن إبليس كبير الشياطين قدم إلى القصر متخفيا في سمت رجل نبيل ، فسر منه الأمير أيما سرور حتى انصرف عن نهجه في الشجاعة والنبل وتبع إبليس

الشرير الذي فرح كل الفرح بإقبال الشاب عليه ، وقال له : أعرف أشياء كثيرة لا يستطيع أحد تعلمها إلا مني .

فقال الشاب : علمنيها ، ولا تبطيء ! قال إبليس : أولا :  يجب أن تقسم بأنك لن تبوح بسري لأحد . فقال الضحاك :

أقسم ، وسأفعل كل ما تأمرني به . فقال له إبليس : ثانيا : ما سبب وجود غيرك في القصر أيها الأمير الشهير ؟

ما نفع وجود أب له ابن مثلك ؟ تولَ عرشه ! هو عرشك . إن أطعت مشورتي فستغدو أعظم ملك في الدنيا .

وحين سمع الضحاك ما قاله إبليس أطال التفكر ؛ لأنه كان يحب أباه . قال : لا أستطيع هذا . مرني بشيء آخر

، فهذا ليس ممكنا . رد إبليس غاضبا : إن لم تنفذ أوامري ، وإن حنثت باليمين التي أقسمتها لي فستبقى أغلالي

في عنقك إلى الأبد . فخضع الضحاك وقال : كيف أنفذ ما تريد ؟ قال إبليس : أنا _ إبليس _ سأعد لك الوسائل ،

وسأرفعك أعلى الدرجات . ما عليك سوى الاعتصام بالصمت . وكان للملك حديقة تحيط بقصره يلقى فيها بهجة

عظيمة ، وغالبا ما يصحو قبل الفجر ، فيسير خلالها دون أن يصحبه حتى أحد العبيد لحمل شعلته . وكان أن حفر

إبليس حفرة غائرة على درب الملك وغطاها بالأغصان ، وبسط فوقها التراب . وفي بكرة صباح اليوم التالي ،

وقبل أن تطلع الشمس ؛ صحا الملك العربي وبرز في  أثير  الصباح الخصِر ( البارد ) ، وعندما دانى حفرة الموت امتقع ضوء نجمه إلا أنه تجاهل تحذير النجم ، فوقع في الحفرة وقتل . وبذا هلك هذا الرجل النقي التقي

الذي ندر أن قال لابنه كلمة فظة . وجاء إبليس الضحاك ثانية بعد إنجاز خطته الأولى ،وقال : متى توجهت إلي

بكل قلبك فستبلغ كل مبتغاك . ليس عليك الآن سوى تجديد القسم ، وسيكون العالم كله ملك يمينك : وحوش البراري والطير والأسماك كلها ستكون رعاياك . واختفى بعد ما قال ذلك الكلام . ولم يمضِ طويل وقت حتى تخفى في هيئة شاب طلق اللسان رشيق القوام ، وقدم نفسه إلى الضحاك قائلا إنه طباخ بارع ، فعينه الأمير

، وأصدر أمره بتسليم مفاتيح المطبخ إليه . وكانت  خطة إبليس الآن أن يجعل الأمير يقلع عن أكل الأعشاب ،

وأن يزين له أكل اللحم . واستهل بأن أعد له صفار البيض الذي منحه في وقت وجيز قوة بدنية هائلة سر منها

الضحاك ، وأطرى طباخه الذي قال : سأعد غدا لجلالتك طبقا ما من طبق أكمل منه . وفي اليوم التالي ، حين أضاء ياقوت الشمس الأحمر قبة السماء الزرقاء ؛ أعد طبقا من لحم القطا والتدْرُج الفضي فأكله الحاكم العربي ، وبذا تخلى عن عقله الأهوج إلى سلطة إبليس لذي حط في ا ليوم الثالث على المائدة خليطا من لحم الطير والخراف . وفي ا ليوم الرابع عند إحضار الوجبة  أكل الملك العربي لحم عجل صغير متبلا بماء الورد وعتيق الخمر

وخالص المسك ، فغمرته الوجبة بالنشوة لبراعة طباخه ، فاستدعاه وقال له : فكر في ما تشاء واطلبه مني !

فرد إبليس : لي طلب وحيد من الملك _ دام رخاؤه إلى أبد الآبدين _ إلا أن هذا شرف كبير جدا علي . طلبي

أن يأذن لي الملك بلثم كتفيه ومسهما بعيني ووجهي . ولم يشك الضحاك في نوايا إبليس فقال :

أعطيك ما تشاء لعل شرفا ما ينشأ لاسمك . وكشف له كتفيه مثلما يكشفهما لخليل من الأخلاء ، فقبلهما إبليس

واختفى من المكان . وكان أن ظهر ثعبان أسود في كل كتف ، فسقم الضحاك في فؤاده . ونقب في مناكب

الأرض عن الدواء ، وفي النهاية أمر باستئصال الثعبانين من كتفيه ، لكنهما عادا للنمو ثانية . حاول كل الأطباء

والحكماء في المملكة مداواته ، ولكن دون جدوى . وكان آخر من قدم لهذه المهمة إبليس ذاته الذي مثل بين يدي

الملك بنعت طبيب . قال : ما كان من حدوث هذا مفر . دع الثعبانين ولا تجتثهما ما داما حيين ! يجب أن تطعمهما

أدمغة الناس إن أردت تهدئتهما ، هذا فقط هو الذي سيقتلهما في النهاية . وفي الوقت الذي كانت فيه هذه الأحداث تجري في بلاد العرب ، كانت الاضطرابات العظيمة تعم بلاد إيران ؛ لأن حمق جامشيد جعل شعبه ينتفض عليه ، فزحف جيش عرمرم نحو بلاد العرب من مرتفعات إيران بعد أن سمع الناس أن في بلاد العرب رجلا له وجه ثعبان يرعب الناس ، فزحفوا إليه يريدون انتخابه ملكا عليهم ، فعاد الضحاك معهم في حماسة حيث توجوه ملكا .

ولما نظر إلى عرش جامشيد صار يعامل الناس في صورة مألوفة كأنهم خاتم في إصبعه . وكان جامشيد  فر قبل وصول

الضحاك ، ولم يره أحد لمائة سنة إلى أن عثر عليه الضحاك صدفة وراء حدود الصين فقتله ، وبذا اختفت كبرياء جامشيدد من العالم ، وتولى الضحاك عرشه ألف سنة خضع له العالم إبانها ، فزال الخير وحل الشر . وفي كل ليلة من تلك الحقبة المتطاولة كان شابان يذبحان ويقدمان طعمة للثعبانين . ولم يبق الآن في بلاد الملك من أصل فارسي قح سوى شابين ، الأول هو إرميل التقي و الثاني هو جرميل ذو البصيرة النافذة . وصدف أن تلاقى الاثنان أحد الأيام ، فتحدثا في جليل الأمور وفي حقيرها . تحدثا عن الملك الظلوم وعن جيشه وعن عادته المريعة . قال أحدهما : يجب أن نتخذ فن الطبخ وسيلة لتقديم أنفسنا إلى بيت الملك ، ومن ثم نستخدم فطنتنا لإنقاذ البؤساء

الذين يخسرون أرواحهم كل يوم . وشرع الاثنان يعملان ، فتعلما فن الطبخ ، ونجحا في دخول مطبخ الملك ، وحازا في وقت قصير الثقة لإعداد وجبته ، واحتالا لخلط دماغ شاة مع دماغ أحد الشابين اللذين يقدمان للذبح ،

فأنقذا حياة الآخر وصرفاه قائلين له : اهرب خفية ، وحاذر زيارة أي مدينة مسكونة ! نصيبك من الدنيا الصحراء والجبل . وقد أنقذا بهذه الطريقة مائتي إنسان تناسل منهم جنس الأكراد الذين لا يعرفون لهم وطنا معينا ، ويقطنون الخيام ، وتخلو أفئدتهم من مخافة الله ! وإذ لم يبقَ من أجل الضحاك سوى أربعين سنة حلم في إحدى

الليلات حلما ظهر له فيه ثلاثة محاربين ملكيين ، اثنان منهم مسنان والثالث شاب يمشي بينهما له هيئة شجرة سرو ومحيا ملك ، وحزامه وقوامه حزام وقوام أمير ، ويحمل هراوة في طرفها رأس ثور . تقدم الشاب صوب

الضحاك وضربه في جبهته بالهراوة ، وكبل يديه ورجليه بالسيور ، وغلبه خزيا وعذابا . صحا الضحك مطلقا

صيحة ارتعاب مدوية حضرت بعدها زوجه أرناواز وخدمه يجرون فزعين . صاحت به أرناواز حين دنت منه :

أيها الملك ! ثق بي وأخبرني ماحدث ! تنام في قصرك آمنا وكل ما في الدنيا يطيعك . الوحوش الضواري والشياطين والناس حرس لك ، والأرض بأجوائها السبعة ملك لك ، كل شيء من السماء إلى أعماق البحار

ملك لك ، لم إذن تثب هكذا من سريرك ؟ ! أخبرنا ! قال الضحاك : ينبغي بقاء حلمي سرا ؛ لأنك ستقنطين من

حياتي لو بحت به . قالت أرناواز : قد نجد دواء لوبحت بحلمك . ما من داء إلا له دواء . فأغرى  كلامها الملك

، فباح لها بحلمه ، فصاحت الملكة عند سماعه : لا يمكن لك أن تتجاهل هذا الأمر . استدعِ من كل الأقطار

الحكماء يستطيعون قراءة طوالع النجوم ! ابحث عن معرفة السر ! اكتشف من تهددك يده ! هل هو إنسان أو شيطان

أو بري ( كائن خرافي ) ؟ وحين تعرفه داوِ نفسك في الحال ! ووافق الملك على مشورة تلك البجعة البيضاء .

ولما وقب الليل بدت الدنيا في سواد جناح غراب غدافي ، ولكن فجأة طلع النور فوق هامات الجبال كأن الشمس

نثرت اليواقيت الحمر على قبة السماء اللازوردية . وأينما وُجِد مستشارون حكماء بحث الملك عنهم ، وجمعهم في قصره ، وأخبرهم جميعا بمشكلته وسألهم النصح ، فتيبست شفاه النبلاء خيفة ، وامتقعت وجوههم ، وغمرت

الغمة أفئدتهم ، وقال كل واحد لنفسه : إن كشفنا ما هو حتمي الحدوث فسيموت الملك ، وإن سكتنا تحتم أن نودع الحياة . وكان أن لبثوا حيارى مترددين ثلاثة من الأيام ، وفي اليوم الرابع جمعهم الضحاك ثانية وسألهم مغضبا

مشورتهم ، وتوعدهم بالموت إن هم منعوه علمهم الغيبَ . وفي النهاية برز كبير المستشارين النبلاء المستقيم

المسلك الزاخر القلب بالحكمة ، وأطلق لسانه بين يدي الضحاك ، وتحدث قائلا : أفرغ قلبك من باطل الأمنيات

؛ فما من مولود ناجٍ من الممات . سبقك ملوك كثر جديرون بسلطان العرش ، وعرفوا كثيرا من الأتراح وكثيرا من الأفراح ، وماتوا حين انتهت أيام عمرهم المديدة ، ولو كنت سور حديد أحكم صبه لكسرك الفلك الدوار أيضا

، ولحظتها ستزول أيضا . سيأتي من يرث عرشك ويقلب حظوظك . هذا الوارث يدعى فاريدون إلا أنه لم يولد حتى الآن ، ولم يأتِ زمن خوفك منه . لسوف ينمو نماء شجرة قدرها أن تثمر ، ولسوف يلمس رأسه البدر علو

شأن متى بلغ مبلغ الرجال ، ويومئذ سيطلب حزامك وتاجك وعرشك وإكليلك ، وسيحمل على كتفه هراوة من الصلب ، وسيضربك بصولجانه ذي رأس الثور ، ويسحبك من قصرك . صاح الضحاك الفاجر : لم يكرهني ؟ !

_ لأنك ستقتل أباه . سمع الملك ما سمع وفكر فيه ، فسقط من عرشه وفقد وعيه ، ثم صعد إليه ثانية حين استعاد وعيه ، وأرسل الباحثين سرا وجهرا ينقبون عن آثار فاريدون . لم يبحث عن راحة أو منام أو طعام ، وأظلم نهاره المشرق . وتقضى زمان طويل على هذه الحال كان الرجل الثعبان خلاله فريسة لرعبه . وولد فاريدون

فتقرر أن يتبدل حظ العالم كله بعلة مولده . ونما فاريدون الصغير نمو سروة ، وكان يأتلق بكل ما في الجلال

من شموخ . كان مثل الشمس شروقا والعالم في حاجة إليه حاجته إلى المطر ، وكان حلية للعقل مثلما أن المعرفة

حلية له . وملأ الضحاك الأرض جلبة وغضبا بحثا عن فاريدون بن أبتين الذي هرب وجاهد حفاظا على حياته

، لكنه هوى في النهاية في شرك الأسد بينما كان فاريدون في حماية جيدة من أمه وأمن . ولم تفارق الملك غمته

ليل نهار لانشغاله به . وجلس يوما على عرشه العاجي ووضع تاجه على رأسه واستدعى كل تابعيه من النبلاء ،

وكلمهم قائلا : يا معشر أهل الفضيلة ! أيها النبلاء الحصفاء ! لي عدو خفي مثلما يعلم كل الناس ، ولا أزدري

عدوا مهما كان ضعفه ؛ لأنني أخشى أن تخونني أوهى سانحة ، لهذا لابد من مضاعفة جيشي وسيكون من الرجال والشياطين والبريات . أريد منكم أن تعينوني فلست قادرا على تحمل العذاب وحيدا . يجب أن تكتبوا لي

تصريحا تقولون فيه إنني بصفتي ملكا لم أزرع سوى بذور الخير ، ولم أتكلم إلا بالحق ، ولم أحبط العدل . فاستجاب كل النبلاء خوفا منه ، وأعلنوا جميعا شيبا وشبانا ما أراده الرجل الثعبان ، ولكن فجأة سمع عند

باب القصر صوت رجل يصيح طالبا العدل ، فأحضر الصائح الشاكي إلى الملك الذي سأله عن مظلمته ، فصاح

وضرب رأسه بيده عند رؤية الملك وقال : أنا كاوا . أيها الملك ! أطلب العدل . هبني العدل ! جئت في عجل .

أتهمك لما في نفسي من مرارة . كان لي سبعة من الأبناء ، والآن لم يبق لي سوى واحد , أعد لي هذا الواحد !

ابني الوحيد . فكر في مدى الحزن الذي سيحرق قلبي طول حياتي ! ما الجرم الذي اقترفته ؟ حتى الطغيان لابد

له من حجة ، وأنا بريء ، أنا حداد . يجب أن تدفع لي عوض ما فعلته بي ، وسيذهل العالم من هذا . سأرى مما

ستدفعه ما كان عليه حظي في الدنيا ، وكيف أجبرت على تقديم أبنائي طعاما لثعبانيك . نظر الملك إليه نظرة

قاسية عند سماع ذلك الكلام ، وأعاد إليه ابنه ، وبذل جهدا لتهدئته بالكلام ، وفي الختام طلب منه توقيع تصريح

النبلاء ، لكنه مزَعه ووطئه مرتجفا غضبا ، وخرج يصيح في سخط هائل . وتجمع جمهور الناس في السوق

حوله فتوسل إليهم وإلى العالم كله أن يعينوه في نيل العدل ، وخلع المئزر الذي يلبسه الحدادون وربطه في رأس

رمح وسار وسط التجار صائحا : أيها المشاهير ! يا من تعبدون الله ! يا من تريدون الخلاص من قبضة الضحاك ! هيا إلى فاريدون لنستريح في كنف سيادته ! وبعد ما تحقق من المكان الذي يختفي فيه فاريدون انطلق في جمع

ضخم من الناس فوصلوا مكانه في وقت قصير . ورأى الأمير الشاب الراية المصنوعة من مئزر الحداد فعدها

فألا حسنا ، ولم يتأخر إلا ريثما تصنع له درع من الحديد ،فاندفع بعدها على رأس جيشه في سرعة الريح ، ليصلوا في الحال إلى نهر دجلة ومدينة بغداد ، ومن هناك أرسل فاريدون تحياته إلى حارس المعبر وقال

له : أرسل مراكب وسفنا لنستخدمها أنا وجيشي في العبور إلا أن الحارس رد مجيبا : أمرني الملك سرا ألا

يعبر أحد النهر إلا بأمر يحمل خاتمه . سمع فاريدون كلام الرسول غاضبا ، ولم يخشَ تيار النهر السريع

فشد مع محاربيه الأحزمة وقذفوا أنفسهم في النهر مع خيلهم حتى إذا عبروه شقوا طريقهم نحو مدينة الضحاك

الملكية ، ولما صاروا على بعد ميل منها رأى فاريدون قصرا تعلو جدرانه كوكب زحل كأنما شيد لانتزاع النجوم من السماء ، وكان القصر يتألق تألق كوكب المشتري في السماء . واستدل فاريدون من رحابة القصر وفخامته على أنه قصر الملك المتوحش ، فالتفت إلى رفاقه وقال : أخشى من كان قادرا على بناء هذا الصرح الممرد من التراب والحجارة . أخاف أن يكون هناك صلة سرية بينه وبين الحظ إلا أنه من صالحنا أن نخوض المعمعة بدل

المكوث هنا . هكذا تكلم ، وأرخى عنان جواده المتهيج حيوية ورفع هراوته واندفع لهبا من جنب حرس البوابة

إلى القصر ، وأوقع طلسما أقامه الضحاك أمامه وأطاح كل ما قاومه ، ووضع قدمه فوق عرش الضحاك والتقط

التاج الملكي وأخذ مكان الملك . ورأى أحد خدم الضحاك ما حدث فامتطى صهوة جواد سريع ونقل الخبر إلى

سيده  قائلا : يا ملك أهل الكبرياء ! شعارات تنذر بسقوط حظوظك . قدم ثلاثة أبطال من بلد غريب مع جيش .

وأصغر الثلاثة يلازم دائما مكانا وسطا بين الكبيرين . هيئته هيئة أمير ووجهه وجه ملك ، ويحمل هراوة ضخمة تشبه صخرة عظيمة ، وقد أجلس نفسه فوق العرش . وبسرعة عظيمة تهيأ الضحاك للرد بجيش من الرجال والشياطين ، وزج بجيشه في خطة شيطانية أمام مصاطب القصر وبواباته لا يفكر في شيء سوى الثأر ، بيد أن

جيش فاريدون وأهل المدينة خاضوا المعركة معا ، وكان حشدهم في ضخامة الجبل وصلابته . وفي الوقت نفسه

دفع الغضب الضحاك إلى خطة أخرى ، فغطى نفسه كاملا بدرع حتى لا يعرفه أحد وصعد إلى القصر وسط الاضطراب دون أن يروه مستعينا بحبل من ستين ذراعا إلا أنهم تعرفوا عليه وطاردوه ، فوثب غاضبا من إحدى

شرفات القصر إلى الأرض ، وهنا اندفع فاريدون في سرعة الريح وضرب الضحاك بهراوته في خوذته ضربة

نفذت إلى رأسه إلا أن مستشارا مؤتمنا أمسك يده قائلا : لم يحن وقته بعد . تحطم ولم يمت . دعه يقضِ بقية أيامه

في جوف الصخور حيث لا يستطيع العثور عليه أصدقاؤه وسفنه . وكان أن أعد فاريدون سيورا من جلد أسد وقيد

بها يدي الضحاك وقدميه وسائر جسده بطريقة يعجز حتى الفيل المتوحش عن كسر قيودها ، وحمل الوحش محكم

القيد إلى جبل داماوند وربطه هناك في هوة ضيقة غائرة القاع ، وسيبقى الضحاك معلقا فيها حتى يزول الشر الذي صنعه من العالم .

* : الشاعر الفارسي أبو القاسم منصور الفردوسي .

وسوم: العدد 670