متى تعوي الذئاب ؟!

سأل كونراد أخته : هل يروى الناس أي أساطير قديمة حول هذه القلعة ؟!

وكان كونراد هذا تاجرا ثريا من مدينة هامبورج ، وشخصية شاعرية المزاج من أسرة معروفة بالنزعة العملية . وهزت أخته البارونة جروبل كتفيها الضخمتين ، وقالت

: دائما يروي الناس أساطير حول هذه الأماكن القديمة لسهولة اختلاقها ، ثم هي لا تكلف أحدا ثمنا . ويروي الناس حول هذه القلعة أسطورة تقول إن كلاب القرية وضواري الغابة تعوي كل الليل إن مات شخص في القلعة . وعلى كل حال ليس بالسار أن يستمع الإنسان إلى هذه الأسطورة ، أم تراه أنت سارا ؟!

فقال : سيكون الاستماع إليها غريبا وخياليا .

فقالت هادئة : على كل هي أسطورة ليست حقيقية ، ولدينا منذ اشترينا القلعة برهان قاطع على عدم حدوث شيء من هذا القبيل ، وأرهفنا السمع جميعا حين ماتت زوجة أبي المسنة الربيع الأخير إلا أننا ما سمعنا أيما عواء ، وإن ما يشاع في هذا الباب محض أسطورة لإعطاء المكان هيبة لا ثمن لها !

وعندئذ تدخلت أمالي المربية العجوز قائلة : الأمر ليس مثلما تقولين !

فالتفت إليها الجميع في ذهول ! من عادتها أن تجلس ساكنة ، متزمتة ، ذابلة لا مبالية عند المنضدة لا تتكلم إلا إذا كلمها أحدهم ، وما أقل الذين شغلوا بالهم بالكلام معها ! أما اليوم فهبط عليها ميل عنيف للهذر ، وواصلت كلامها سريعة ، عصبية ، ناظرة أمامها في استقامة دون أن يبين عليها أنها تكلم شخصا تحديدا .

قالت : لا يسمع الناس العواء لمحض موت أي شخص في القلعة . فقط حين يموت شخص من آل سيرنوجراتس تأتي الذئاب من بعيد ومن قريب ، وتعوي في طرف الغابة قبل ساعة من الموت . ولم توجد أوكار في هذا الجزء من الغابة إلا لعدد قليل من أزواج الذئاب ، وإن كان الحراس يزعمون أنه حتى في مثل هذه الحالة يتواجد العشرات من الذئاب التي تتسلل في ظلال الشجر وتعوي مجتمعة ، فتنبح كلاب القلعة والقرية والمزارع القريبة مرتاعة محنقة من عواء الذئاب الجماعي ، كما أن شجرة في الحديقة تهوي حين تبارح روح الميت جسده . هذا ما حدث حين مات أحد آل سيرنوجراتس في القلعة ، وإنما لا يعوي أيما ذئب ولا تهوي أيما شجرة إذا مات غريب في القلعة . أجل ، كلا !

وكان في صوتها نبرة تحدٍ ، وتقريبا احتقار ، حين نطقت كلماتها الأخيرة .

فرمقت البارونة البادية العافية ، والمغالية في تأنقها ؛ بغضب العجوز الزرية السمت التي تخلت عن منزلتها المألوفة التي تليق بها في الكتابة ومحوها ، وتكلمت بكل هذا القدر من الاحتقار .

قالت محتدة : يبدو أنك تعرفين الكثير يا فرولين شميدت عن أساطير آل سيرنوجراتس . ما كان لي علم بأن تاريخ الأسر الكبيرة من بين الموضوعات التي تبرعين فيها !

فجاءها الجواب على تقريعها المستهزىء أكثر مباغتة وأدعى للذهول والاستغراب من الحديث الذي سبب هذا التقريع ؛ إذ قالت المربية العجوز : أنا نفسي من آل فون سيرنو جراتس ، ولهذا أعرف تاريخ العائلة .

فجاءها تساؤل جماعي مستنكر مستغرب : أنت ، أنت من آل فون سيرنوجراتس ؟!

فأفصحت قائلة : اتخذت اسما آخر حين أصابنا فقر مدقع ، واضطررت للخروج وإعطاء دروس . حسبت هذا أدعى لكسب قوتي . عاش جدي طويلا في هذه القلعة زمن صباه ، واعتاد أبي أن يروي لي الكثير من القصص عنها . وطبيعي أنني عرفت جميع قصص وأساطير أسرتنا . وحين لا يترك شخص لشخص سوى الذكريات فإن الشخص الثاني يصونها ويزيل عنها غبار الزمن باهتمام خاص . لم يرد في بالي كثيرا حين شرعت في خدمتك انني سآتي معك يوما إلى بيت أسرتي القديم . أتمنى لو كان عملي في مكان آخر .

وعم صمت بعد إتمامها كلامها ، وحولت البارونة الحديث إلى موضوع آخر أقل إحراجا من تاريخ آل فون ، ثم انبعثت جلبة هزء وتكذيب بعدما انسلت المربية هادئة إلى تأدية واجباتها .

قال البارون محتدا وفي عينيه تعبير صريح : تصوروا كيف تتكلم المرأة بهذا الأسلوب عند منضدتنا ! قالت لنا تقريبا إننا لا شيء . لا أصدق كلمة مما قالت . هي من أسرة شميدت لا أكثر ولا أقل . كانت تحدث بعض الفلاحين عن آل سيرنوجراتس القدامى ، فقلبت تاريخهم وأساطيرهم .

فقالت البارونة : تريد أن تجنب نفسها بعض العواقب التالية . تعلم أنها قريبا سيعفي عليها الزمن ، ولهذا تستهدف استجداء عطفنا . تقول جدها ! كلام !

وطبعا كان للبارونة العدد المألوف من الجدود إلا أنها لم تباهِ يوما بأي منهم .

وعلق البارون مستهزئا : أحسب جدها كان خادما في حجرة المؤن وأدوات المائدة في القلعة أو شيئا من هذا الضرب . لعل هذا الطرف من قصتها صحيح .

ولم يقل تاجر هامبورج شيئا . لقد شاهد الدموع في مقلتي المرأة عند حديثها عن صون الذكريات ، ولعله تخيل أنه شاهدها لمزاجه الخيالي .

وقالت البارونة : سأصرفها آنما تنتهي احتفالات العام الجديد ، وحتى ذلك الحين سأنشغل كثيرا بالعمل بدونها .

إلا أنها اضطرت على أي حال للعمل بدونها ؛ لأنها ( المربية ) مرضت في الجو القارس البرد الذي أعقب عيد الميلاد ، ولزمت حجرتها .

قالت البارونة حين جلس ضيوفها حول النار في عشية من أواخر عشايا العام الآفل : الأمر فائق الاستثارة حقا . لا أذكر أنها مرضت مرة مرضا خطيرا ، أعني مرضا يقعدها عن الحركة والقيام بعملها ، والآن ، وبيتي حافل بالضيوف ، وتعدد المنافع منها ؛ تتركني وتنهار . طبعا آسف لما أصابها . تبدو بالغة الذبول والضمور ، لكن أمرها يبعث على الضيق والانزعاج على كل حال .

فوافقتها  زوجة صاحب المصرف متعاطفة مع المربية : مزعج جدا . أظن البرد القارس سبب مرضها . يحطم كبار السن . كان برد هذا العام غير مألوف .

فقال البارون : هذا أقسى صقيع رأيناه في ديسمبر منذ سنين .

فقالت البارونة : وهي مسنة جدا . ليتني صرفتها من أسابيع لتكون غادرتنا قبل مرضها . مالك يا وابي ؟! ما دهاك ؟!

خاطبت بالسؤالين كلب الحضن الصغير الوفير الشعر الذي وثب بغتة من فوق وسادته ، وانسل مرتجفا أسفل من الأريكة . وفي اللحظة عينها انفجر نباح غاضب من كلاب فناء القلعة ، وسمع نباح كلاب اخرى في المدى البعيد .

وسأل البارون : ما الذي يهيج الحيوانات ؟!

وأرهف الحضور السمع ، فسمعوا الصوت الذي أثار ثائرة الكلاب رعبا وغضبا : سمعوا عواء متطاولا يعلو وينخفض ، ويبدو لحظة على مبعدة فراسخ ، ويبدو لحظة أخرى آتيا خلال الثلج كأنه ينبعث من أسفل جدران القلعة . كل بؤس العالم الجائع المبترد ، وكل الغضب الذي بعثه الجوع القاسي في دنيا البراري ؛ اختلطا بموسيقات أخرى محزونة لا تتوقف ، ولا يمكن أن نهبها اسما ، وبدت كلها متركزة في ذلك العواء .

صرخ البارون : الذئاب !

أجل ، إنها الذئاب . انفجرت موسيقاها انفجارا مؤتلفا مغضبا ، وتبدو قادمة من كل حدب وصوب .

وقال تاجر هامبورج الجموح الخيال : مئات الذئاب .

وغادرت البارونة ضيوفها مدفوعة بحافز لا تتبينه ، وسارت نحو الحجرة الضيقة الكئيبة التي ترقد فيها المربية تراقب ساعات العام الأخيرة الآخذةَ في الانقضاء . كانت نافذة الحجرة مفتوحة مع برودة ليل الشتاء القارس ، فاندفعت البارونة توصدها مرسلة صيحة عالية .

فقالت المربية بصوت حمل _ مع كل ما فيه من وهن _ نبرة أمر ما سبق أن سمعتها البارونة منها : اتركيها مفتوحة !

فعارضتها : لكنك ستموتين بردا .

فقالت : إنني أحتضر الآن على أي حال ، وأهوى سماع الموسيقا . جاءت الذئاب من بعيد ومن قريب لعزف موسيقا الموت الخاصة بأسرتي . طيب أنها جاءت . أنا آخر آل فون سيرنو جراتس التي ستموت في قلعتنا القديمة  وجاءت الذئاب لتغني لي . صه ! ما أعلى نداءها !

وعلا عواء الذئاب في سكون ليل الشتاء ، وطاف جدران القلعة متطاولا يثقب الأسماع ، واستلقت المربية في سريرها وعلى محياها مسحة سعادة طال ارتقابها ، وقالت للبارونة : انصرفي ! ما عدت وحيدة . أنا فرد من عائلة عريقة عظيمة

                                     ***

قالت البارونة عقب أن عادت للانضمام إلى ضيوفها : أحسبها تحتضر . أرى أن نستدعي طبيبا . يا لهذا العواء المريع !  لست مستعدة لدفع مال كثير من أجل موسيقا الموت هذه .

فقال كونراد : لا تُشترى الموسيقا بأي مبلغ من المال .

فقال البارون حين سمع صوت تكسر وسقوط : صه ! ما هذا الصوت الآخر ؟!

كانت شجرة تهوي في الحديقة ، وأطبقت لحظة صمت متوتر ، قالت زوجة صاحب المصرف بعدها : البرد القاسي يصدع الشجر ، والبرد هو الذي أخرج الذئاب بهذا العدد الكبير . من سنين لم نعرف مثل هذا البرد القاسي .

ووافقت البارون متحمسة على أن البرد هو سبب كل ما حدث  وأن برد النافذة المفتوحة هو الذي تسبب في السكتة القلبية للمربية ، وجعل دور الطبيب لا موجب له ، ولكن البيان أو النعي الذي نشرته البارونة في الصحف بدا شيئا جيدا ، ونصه : " توفيت في 29 ديسمبر ، في قلعة آل جرينوتس ؛ أماليا جرينوتس الصديقة الأثيرة طوال سنوات للبارونة والبارون جروبل " .

*للكاتب الأسكتلندي هكتور هيو مونرو المشهور بساكي ( 1870 _ 1916) .

وسوم: العدد 706