مماليك للبيع!

د. عبد الحميد إبراهيم

د. عبد الحميد إبراهيم

المنظر الأول

"مكان بمسجد، وقد ظهرت حلقة من حلقات الدروس يتوسطها شيخ ذو لحية جميلة تبدو عليه المهابة، وقد تناثر حوله مجموعة من تلاميذه ومريديه".

الشيخ (مستمراً في وعظه): - وقد أمرنا الله تعالى بأن نأخذ فوق أيدي الظالمين، وألا نستكين لهم ولا نستلين. وإذا ولو أمراً من أمورنا، فيجب أن ننتفض عليهم، ولا نستجيب لهم، والساكت على الظلم كفاعله، وفاعله في النار.

أحد التلاميذ: وماذا ترى يا شيخنا في هذه الأنباء الأخيرة؟

الشيخ: أي نبأ تعني يا بني، فما أكثر الأنباء في عصرنا؟

التلميذ: ألم يأتك نبأ بيعة الظاهر بيبرس "حاكماً على مصر"؟

الشيخ: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، أليس من العجب العجاب أن يلي أمورنا رقيق يباع ويشترى! أليس من العجب أن نبايع هذا العبد حاكماً علينا! (يرفع يديه نحو السماء) اللهم إني أعاهدك على أنه لا طاعة لهذا العبد حتى يخرج من رقه. (ثم يلتفت للحاضرين) وأنتم أيضاً عاهدوا الله على ذلك.

الجميع (بصوت واحد يرتج له المسجد): اللهم إنا نعاهدك على أنه لا طاعة لهذا العبد حتى يخرج من رقه.

تلميذ آخر: وقد سمعنا أنه أرسل لك الرسل الكثير، ولكنك امتنعت عن الذهاب إليه.

الشيخ: قلت للرسل حينذاك: من يريدني فها أنذا في حلقتي بالمسجد، وليس لي حاجة عند بيبرس فأذهب إليه، فإن كان لبيبرس حاجة عندي، فليأتني في حلقتي وبين تلاميذي.

(وبينما هم في حديثهم ترتفع ضجة عند باب المسجد، ويتهامس الناس بأن الظاهر بيبرس قد أقبل ليزور الشيخ عز الدين بن عبد السلام).

الظاهر بيبرس - داخلاً وحوله أتباعه -: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الشيخ: السلام على من اتبع الهدى.

(يجلس بيبرس، بينما يستمر الشيخ في وعظه، وتلاميذه في جواره).

الشيخ: وقد توعد الله الظالمين بالكثير في كتابه، فقال: "ولا تحسبن الله غافلاً عما يعمل الظالمون، إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار"، والظلم أنواع، وشر أنواعه ما كان صادراً من وال، وقد أمرنا الله بأن ننكث العهد مع هؤلاء الظالمين.

بيبرس: وهل حدث مني ظلم لرعيتي حتى تمتنع عن مقابلتي؟

الشيخ: ومتى كان لك رعية حتى تظلمها؟

بيبرس: أتنكر ذلك وقد بايعني أهل المشرق وأهل المغرب!

الشيخ: ولكن لم يبايعك عز الدين وتلاميذه.

بيبرس: كيف ذا، وقد قال الله تعالى "يا أيها الذين آمنوا، أطيعوا الله، وأطيعوا الرسول، وأولي الأمر منكم".

الشيخ: قال "منكم" ولم يقل من عبيدكم.

بيبرس: لقد زدت وغاليت.

الشيخ: وهل في الحق زيادة؟.

بيبرس: ليس من الحق أن تخاطب الحاكم هكذا!

الشيخ: لست أخاطب حاكماً.

بيبرس (وقد خفض من صوته): وما الذي يمنعك من أن تتخذه حاكماً.

الشيخ: لأن الحر لا يتخذ العبد راعياً.

بيبرس: وإذا ثبت أن العبد حر.

الشيخ : إذن فقد بايع الحر حراً.

بيبرس: إنك تثق في هذين العالمين من أصدقائك (ثم لأحد أتباعه) استدع هذين العالمين إلى مجلس الشيخ عز الدين بن عبد السلام.

(بعد لحظة يدخل العالمان، فيستقبلهما الشيخ واقفاً، ثم يجلسان ويجلس)

الشيخ (موجهاً كلامه للعالمين): أتشهدان على أن الظاهر بيبرس قد خرج عن رقه.

العالمان: اللهم إنا نشهد على ذلك.

بيبرس (وقد تهللت أساريره): وماذا ترى إذن.

الشيخ: إذن فقد بايع عز الدين وتلاميذه الظاهر بيبرس، على أن يعمل بكتاب الله وسنة نبيه، وأن يسعى لصالح الرعية.

(ينحني بيبرس على يد الشيخ مودعاً ثم ينصرف).

المنظر الثاني

(في بيت نائب السلطان، وقد اجتمع أمراء المماليك يتشاورون، وتظهر في غرفة مجاورة "جلنار" ابنة نائب السلطان، تتسمع على ما يقولون).

أمير: عجيب أن نسمع بهذه الأنباء!

ثان: وهل يجاهر بهذه الأنباء، أظنه قد أصيب في عقله.

ثالث: ربما يكون الأمر مجرد "نادرة" من نوادر الشعب المصري، فما أكثر نوادره، خصوصاً هذه الأيام.

نائب السلطان (جاداً): ولكن السلطان قد أخبرني بهذا، وبأن الشيخ إذا عزم على أمر فلا راد له إلا الله.

رابع: وقد علمت بأن أفتى بأن تصرفاتنا في البيع والشراء والزواج والعقود باطلة مردودة.

خامس: وقد مررت البارحة بتجار هذا الحي، فأشاحوا عني بوجوههم.

سادس: وقد طلبت من أحدهم ابنته، فقال: حتى يأذن الشيخ.

أحدهم ضاحكاً: وأنت "يا فيل"، ما أحسنك شكلاً، حينما يجرك النخاس في السوق، وينادي "مملوك للبيع متمرن على حمل الأثقال".

آخر ساخراً: ولكن بطنه ستصرف عنها المشترين، فهم لا يريدون أن يخزنوا فيها الأطعمة.

آخر متهكماً: ولكن لا تنس أن شخيره يطرد اللصوص.

نائب السلطان جاداً: أتمزحون وعز الدين بن عبد السلام يريد بيعكم، ووضع ثمنكم في بيت المال.

أحدهم (ضاحكاً): ولكن ما دام معنا هذا الفيل، فمن سيشترينا.

الفيل (وقد تنبه): الفيل على أي حال خير من الحمير.

نائب السلطان (وقد هب واقفاً): صه! كيف يتجرأ علينا، ونحن سادة الأرض، والله لأضربنه بسيفي.

(وتسمع جلنار وهي واقفة في الغرفة المجاورة تهديد أبيها فترتعد فرحاً، فقد أحست منذ الساعة بأن هذا الشيخ أقوى من أبيها ومن الأمراء جميعاً، وخسارة أن يذهب ضحية غرورهم، وبينما هي تحاور نفسها يأتيها صوت أبيها صائحاً).

نائب السلطان: جلنار، جلنار، أين أنت؟

جلنار (تقبل): أبت، ماذا تريد؟

نائب السلطان (واقفاً): السيف، أين سيفي، عليّ به (جلنار لا تتحرك) لماذا تقفين هكذا كالتمثال تحركي (جلنار صامتة) ماذا جرى لك يا جلنار؟ تحركي وائتني بسيفي.

جلنار (بصوت خفيض): ماذا تريد يا أبت!

نائب السلطان متعجباً: أريد سيفي، فماذا دهاك؟

جلنار (متسائلة): ولماذا تريد سيفك؟

نائب السلطان: لم أعهدك قبل اليوم تسألين (بصوت عال) خليل، خليل، ائتني بسيفي (موجهاً كلامه لجلنار) أما أنت يا جلنار فاذهبي إلى سريرك واستريحي، سأخرج لشأن ثم آتيكم.

المنظر الثالث

(الشيخ عز الدين في بيته، سرير قد تناثرت عليه بعض الكتب، مصباح يرسل شعاعاً خافتاً، وبجواره ابنه يتحادثان، ثم يسمعان طرقاً على الباب).

الشيخ: انظر من الطارق يا بني.

الشاب (وقد أطل من كوة): إنه شيخ ملثم يا أبت.

الشيخ: افتح له، فلعله ضال يريد مأوى، فإنها لساعة متأخرة من الليل.

(يتقدم الابن ويفتح الباب، يندفع الملثم داخلاً ويقف أمام عز الدين لاهثاً، عز الدين يتلطف به ويجلسه).

عز الدين: إنها ليلة سعيدة أن تشرفنا يا أخا العرب (لا يجيب).

عز الدين: إلى أين تقصد في هزيع الليل يا أخا العرب (صامت).

عز الدين (لابنه): علينا بمشروب يا بني (ثم للملثم) أي الشراب تختار (ولكنه لا يجيب).

(ثم يلقي الرجل باللثام، ويباغت الشيخ عز الدين وابنه، فقد وجدا أمامهما امرأة كاملة الأنوثة).

المرأة: لا تستغربا، فأنا جلنار بنت نائب السلطان.

عز الدين (وقد استرد هدوءه)، فهل يحق لنا أن نسأل عن الذي جاء بك في مثل تلك الساعة المتأخرة من الليل.

جلنار: إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك، فاخرج، إني لك لمن الناصحين.

عز الدين: أفصحي يا ابنتي!

جلنار: إن أبي والأمراء يأتمرون بك ليقتلوك، وسيأتي أبي بعد لحظة ليضربك بسيفه.

عز الدين (هادئاً): لا تراعي يا ابنتي، فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون.

عز الدين لابنه (بصوت فيه شيء يحس به الابن): ائتنا بمشروب يا بني، فإنها الليلة ضيفك.

(يجلس الثلاثة يتحادثون، الفتاة يكاد حرصها يفضحها، والشيخ يتحدث بصوت فيه شيء يوحي به إلى ابنه، أما الابن ساهم واجم، ثم يسمعون طرقاً على الباب فيهب عز الدين واقفاً).

الفتاة (تتشبث به): بربك لا تخرج، ابق على حياتك، فسأنظر من الطارق.

الشيخ (بصوت يبدو فيه الإيمان): ولكنك يا ابنتي تمنعيني من شيء أريده منذ أمد بعيد.

الفتى: بربك يا أبت! لا تبرح مكانك، فسأنظر أنا من الطارق.

الشيخ (بصوت فيه عتاب): يا ولدي، أبوك أقل من أن يقتل في سبيل الله.

(ينفلت الشيخ منهما، ويندفع نحو الباب، يتبعه الفتى والفتاة، وبقلب ثابت يفتح الشيخ الباب، فيرى على عتبته فارساً مدججاً بالسلاح، يرفع الفارس سيفه ليضرب به هامة الشيخ، ولكن يده ترتجف لهيبة الشيخ..

الفارس (يجثو على قدمي الشيخ، ويقول بصوت يختنق فيه بالبكاء): اعف عني، سامحني، لقد أخطأت.

الشيخ: (يترفق به ويوقفه): قف، فكثيراً ما تخطئ النفوس، ولكثير أيضاً ما تتسع الصدور.

الفارس (وقد وقف خاشعاً خاضعاً): لك كل ما تريد، افعل كل ما تريد، افعل كل ما تريد، لك ما تريد.

(يرفع الفارس بصره، فيقع على شخص خلف الشيخ فينكره، ثم يقع عليه ثانية فيبصره، وتدور به الدنيا، ويمسك رأسه بيديه).

جلنار (بصوت فيه فرح): أبت، أبت. (ولكنه لا يجيب).

جلنار (ترفع من صوتها): أبت، أحمد الله، وأشكر نعمته.

الفارس (يخاطب نفسه): جلنار، أين أنا، وأين هما، لقد تركتها في مخدعها تنعم في أحلامها (يصرخ) لقد جننت، لقد ذهب عقلي، أيها الشيخ اعف عني، سامحني، لقد جننت، أين أنا من جلنار، أيها الشيخ سامحني، اعف عني.

الشيخ (متلطفاً): لا ترع، فأنت بخير، إنها جلنار ابنتك، فلا ترع.

الفتاة (بصوت فيه رفق): يا أبت، أنت بخير، أنا جلنار ابنتك، لقد سبقتك هنا إلى منزل الشيخ.

الفارس (وقد فهم): إن لك عقلاً لا يسلمك إلا إلى خير.

الشيخ (يخاطب الفارس): هل تجيبني إلى شيء أطلبه منك أيها الصديق.

الفارس: لك ما تطلب.

الشيخ: هل هناك مانع من أن تصاهرنا.

(يظهر الفرح على وجه جلنار، ويصيح أبوها مسروراً).

الفارس: لم نصل إلى هذه المنزلة.

الشيخ: إني أريد ابنتك لابني.

(يظهر السرور على وجه الفتى، ويتغير وجه جلنار).

الفارس: لك كل ما تريد، إنها ابنتك.

جلنار (مطرقة إلى الأرض، وبصوت فيه حياء)! ولكني لا أريد الزواج إلا بمن اختار قلبي، وقطعت الطريق من أجله، وتحملت في ذلك ما تحملت.

الشيخ (وقد فهم): ولكنني في سن أبيك.

الفتاة (بصوت فيه رجاء): ولكن هذا ما اختارته نفسي لأكون دائماً قريبة من الشيخ.

الشيخ (للفارس): هل توافق.

الفارس (مغتبطاً): نعم ما اخترت يا ابنتي، إنك لكيسة حصيفة العقل.

(يضم الفارس ابنته إلى صدره، ويوارى الفتى وجهه وهو يغالب دموعه).

ستار الختام