ملكوت السماء

مسرحية من أربعة مناظر

بقلم الأديب الكبير: علي أحمد باكثير

المنظر الأول:

* جانب مرتفع قليلاً على ضفة نهر الأردن تتوسطه صخرة قائمة تحجب ما وراءها من شريط النهر بينما يظهر الشريط عن يمينها وشمالها من بعيد ولا سيما ناحية اليمين حيث ينحدر هذا الجانب المرتفع بالتدريج.

* يرفع الستار فنرى رجلاً واقفاً بجانب الصخرة يستقبل النهر مولياً ظهره لقاعة المسرح وهو يصلي في خشوع كأنه تمثال لا يتحرك.

* تدخل من جهة اليسار امرأة بارعة الجمال في حالة فاخرة وزينة صارخة فتقف قليلاً تنظر إلى الرجل الواقف.

* يظهر في هذه اللحظة إبليس ومعه اثنان من شياطينه من أدنى اليسار فينظرون إلى ما تصنعه المرأة في اهتمام وارتياح.

المرأة: (في اغتباط) هذه فرصة! إنه يصلي فلن يشعر بشيء!

(تتوجه نحو الرجل على أطراف قدميها حتى تدنو منه فتمسح بيديها على ظهره في رفق ثم تقبل رأسه وحول عنقه ثم تنزل بشفتيها وراحتها على ظهره وهي تنحني حتى تجثو على ركبتيها فتلثم ركبتيه حتى تنتهي إلى قدميه ثم تنهض كذلك حتى تستوي قائمة فتعانقه وتجيل يديها في جمته بحب وحنان وهو على حاله لا يتحرك إلى أن دارت هي لتقبله في وجهه فإذا هو يدفعها عنه. ويراع الشياطين حينئذ فيتقهقرون قليلاً وهم يواصلون النظر:(

الرجل: (متوارياً خلف الصخرة) أعوذ بالله منك! من تكونين؟

المرأة: (بصوت رخيم) أنا ريم المجدلية.. ألا تعرفني يا يحيى؟

يحيى: ماذا تريدين بعد؟ ألم أزجرك عن متابعتي يا امرأة؟

المجدلية: (آخذة بطرف ردائه) حنانيك يا يحيى إني متيمة بحبك؟

يحيى: ويلك توبي إلى ربك يا خاطئة!

المجدلية: سأتوب يا يحيى بعد أن أفوز بعطفك.

يحيى: أنا حصور ولا أرب لي في النساء.

المجدلية: لكني أنا يا يحيى لي أرب فيك؟

يحيى: يا حبالة الشيطان ابتعدي عني!

المجدلية: لن أبتعد عنك حتى تعدني.

يحيى: بأي شيء؟

المجدلية: بأن تزور بيتي. إنك تعرف بيتي. لا أحد يجهل بيت المجدلية في أورشليم.

يحيى: أزور بيت عاهرة؟

المجدلية: سامحك الله يا يحيى.. أتظنني منديلاً لكل شفة؟ إنما يتودد لي عِلْية العِلْية من الشيوخ والرؤساء.

يحيى: هؤلاء حطب جهنم.

المجدلية: حطب جهنم!

يحيى: أجل اذهبي إليهم واغربي عني!

المجدلية: (تلين صوتها) قد سئمت من حطب جهنم، وأشتهي يا يحيى شجرة ناضرة من الجنة!

يحيى: الجنة ليست للخاطئين والخاطئات.

المجدلية: لعلي أتوب يا يحيى على يديك! تعال يا حبيبي إلى بيتي في ظلام الليل وسكونه. سأفتح لك الباب وسأضمخك بالطيب وأنيمك على سريري الوثير.

يحيى: (ينهرها) اغربي من وجهي!

المجدلية: ليلة واحدة يا يحيى ثم أتوب على يديك!

يحيى: إليك عني يا فاجرة!

(يدفعها بشدة فتقع على الأرض مغشياً عليها)

يحيى: (ينطلق منحدراً صوب النهر من جهة اليمين وهو يتمتم)

اللهم اكفني فتنة المحيا وفتنة الممات!

(يسرع إبليس وشيطاناه نحو مريم المجدلية فيجلسونها ويروّحون عليها لتفيق)

الشيطان الأول: مسكينة! اصطدم رأسها بالصخر ففقدت الوعي!

الشيطان الثاني: (يتأمل ساقها العارية ويتنهد) آه يا ليتني من بني آدم لأذوق هذه الثمرة اليانعة.

إبليس: (ينهره) صه ويلك! إننا نقوم بمهمة عظيمة فلا ينبغي أن تشغلنا عنها الشهوات . إن عدت إلى مثلها لأمسخنك!

الثاني: آدمياً يا مولاي؟

الأول: آدمياً؟ هذه غاية ما تريد. امسخه يا مولاي كلباً أجرب.

إبليس: بل خنزيراً أجرب!

الثاني: لا لا تفعل يا مولاي.. لن أعود إلى مثلها.. لن أعود إلى (يسحب طرف ثوبها فيغطي ساقها العارية) هآنذا قد سترت الفتنة!

إبليس: (يوسوس في أذنها) اتبعيه إلى النهر فاطلبي منه أن يعمدك لعلك تبلغين منه ما تريدين. هيا انهضي.. انهضي إليه!

(تفيق المجدلية فتفرق عينيها وتنظر يمنة ويسرة دون أن ترى الشياطين الثلاثة ثم تستوي قائمة وتنحدر نحو النهر)

يحيى: (يهدر صوته في جنبات النهر) أيها الناس هلموا أطهركم لتتوبوا إلى ربكم فقد أظلكم ملكوت السماء!

الشيطان الثاني: ماذا يعني بملكوت السماء؟

الشيطان الأول: يعني الرسول الجديد الذي سيظهر عما قريب.

الثاني: هل يمكن أن يظهر اليوم رسول جديد؟

الأول: هكذا يزعم هذا الرجل.

إبليس: (كأنما ينتبه من استغراقه) هيهات.. لا يعلم هذا الرجل أني قد جعلت ذلك مستحيلاً.

الأول: إنه غريب الأطوار.

الثاني: في ثوبه الخشن من الوبر.

الأول: والمنطقة التي يلف بها حقويه من الجلد.

إبليس: صه لنسمع ما يكون بينه وبين المجدلية.

يحيى: ماذا تريدين يا غاوية؟ إن لم تكفي عن سوء عملك أغرقتك في هذا النهر.

المجدلية: إن كنت يا حبيبي تغرق معي فلا بأس!

يحيى: كفي عن مجونك.. اذهبي عني.

المجدلية: ألا تطهرني يا يحيى كما طهرت الآخرين؟ أليس لي أن أتطهر مثلهم؟

يحيى: بلى، عسى الله أن يتوب عليك ويطهرك من هذا الرجس أعطيني رأسك.

المجدلية: رأسي وجسدي وكلي!

يحيى: رأسك فقط!

المجدلية: قد مسحت على رأسي يا يحيى فامسح كذلك على صدري!

يحيى: إني لا أمسح إلا على الرؤوس!

المجدلية: ألا تريد يا يحيى أن تطهر القلوب؟

يحيى: بلى.

المجدلية: فأين القلوب يا يحيى إلا في الصدور؟

يحيى: إني أرش الماء على الصدر وعلى سائر الجسد.

المجدلية: المسح يا يحيى أرق وألطف!

يحيى: ويلك مازال الشيطان يوسوس لك بعد إذ عمدتك.

المجدلية: إذن فعمدني يا يحيى مرة ثانية.

يحيى: هاتي رأسك (يعمدها مرة ثانية)

المجدلية: أوقد تطهرت الآن يا يحيى بهذا المسح والرش؟

يحيى: إني أطهرك بالماء وسيأتي المسيح ليطهرك بروح القدس.

المجدلية: المسيح؟

يحيى: المسيح الذي يفتح لكم ملكوت السماء.

المجدلية: خبرني عن هذا المسيح أهو جميل الصورة مثلك؟

يحيى: الشيطان مازال يوسوس لك. اذهبي عني.

المجدلية: بل من حقي عليك أن تعمدني مرة ثالثة.

يحيى: على أن تكفي عن لغوك وفاحش قولك؟

المجدلية: نعم.

(يعمدها للمرة الثالثة)

يحيى: هيا انصرفي الآن إلى بيتك لعل الله أن يتوب عليك.

المجدلية: حباً وكرامة. وسأعود الآن إلى بيتي.. بجوار الهيكل في أورشيلم.. آخر بيت على شمالك وأنت خارج من الهيكل!

(في أثناء الحوار السابق كان إبليس وشيطاناه يتهللون كلما تكلمت المجدلية ويكتئبون كلما تكلم يحيى)

الثاني: ما أبرعها! لم تنصرف حتى رسمت له طريق بيتها!

الأول: مازالت تطمع فيه بعد كل ما سمعت منه.

إبليس: صائدة بارعة حقاً ولكن الصيد كان أشد منها قوة. حقاً لو كان في يحيى هذا مطمع لظفرت به هذه المجدلية اللعوب.

يحيى: يا قوم مالي أراكم واقفين؟ ألا تريدون أن أطهركم؟

صوت: بعد هذه المجدلية وأنت تعلم أنها من بنات الفجور؟

يحيى: ويحكم إنها لذلك أحوج إلى الطهارة من غيرها؟

صوت آخر: وهذا الكنعاني الذي طهرته الساعة؟

يحيى: إنه جاء قبلكم.

الصوت: ما كان لك أن تطهره البتة. إنه ليس منا.. ليس من بني إسرائيل.

يحيى: (يعلو صوته غضباً) هذا الكنعاني المؤمن خير منكم؟

أصوات: هذا خروج على شريعة موسى؟ خروج على الشريعة!

يحيى: يا أولاد الأفاعي ما خرج على شريعة موسى إلا أنتم! أوقد غركم أنكم تنتمون إلى إبراهيم؟ اسمعوها كلمةً منى مجلجلة: إن الله لقادر أن يخرج من هذه الحجارة أبناءً بررةً لإبراهيم!

أصوات: إذن لا نؤمن لك ولا نقبل هذه البدعة التي اخترعتها.

يحيى: (يشتد غضبه) إذن فاغربوا من وجهي. لقد كره الله أن يجعل لكم حظاً في ملكوت السماء.

الأصوات: ملكوت السماء لا يدخله غير بني إسرائيل!

يحيى: يا أولاد الأفاعي لن تدخلوا ملكوت السماء حتى يدخل الجمل في سم الخياط.

إبليس: (للشيطان الأول) قد انفضوا عنه فاذهب إليه الآن والتمس منه أن يطهرك.

الأول: (مرتاعاً) يطهرني؟

إبليس: لا تخف. إن يكن صادقاً فإنه سيعرفك، وإلا فلا ضرر من الماء الذي يرشك به.

(يخرج الشيطان الأول)

يحيى: أولاد الأفاعي! ألا إن الفأس قد بلغتْ رأس الشجرة فأيما شجرة لا تجود بثمر طيب فلتقطعن ولتلقين في النار!

الشيطان: رويدك أيها السيد!

يحيى: من؟ ماذا جاء بك؟

الشيطان: جئت إليك لتطهرني.

يحيى: ابتعد عني أيها الرجز.

الشيطان: ألا تطهرني مثلما طهرت الآخرين؟

يحيى: لو غسلتك ببحار الدنيا وأنهارها ما طهرت من رجزك. ابتعد عني.

إبليس: (يتوجه إلى حافة يمين المسرح) يا يحيى! يحيى!

يحيى: ماذا تريد؟

إبليس: ما منعك أن تطهر في المخلوق الواقف بين يديك؟

يحيى: إنه شيطان لا يطهر أبداً.

إبليس: إن عجزت عن تطهيره فأنت عن تطهير بني إسرائيل أعجز!.

يحيى: لست أنا الذي يطهرهم. ذاك السيد المسيح الذي سيظهر عما قريب.

إبليس: إذن فما الذي تصنع؟

يحيى: أنا أطهركم الآن بالماء لأبشرهم بظهوره وأهيئهم لاستقباله، ولكنه هو سيطهرهم بالروح القدس.

إبليس: وما هذا المسيح الذي تبشر به؟

يحيى: رسول عظيم كموسى يهدي إلى الحق، ويصلح ما أفسده الناس من دين الله، ويجدد الشريعة، ويعلن الحقيقة، ويكون وبالاً عليك وعلى أتباعك.

إبليس: أنا إله إسرائيل يا يحيى.

يحيى: بل أنت إبليس الرجيم.

إبليس: إذن فاعلم مني أن مثل موسى لن يظهر أبداً. لقد جعلت ذلك بقوتي وتدبيري محالاً.

يحيى: إن الله الذي بعث موسى لقادر أن يبعث مثله وأعظم منه.

إبليس: في غير بني إسرائيل.

يحيى: وفي بني إسرائيل.

إبليس: غاب عنك يا مسكين أني ظللت طوال هذه القرون منذ هلك موسى أبث روحي فيهم فهي اليوم تجري في كل صلب من أصلابهم.

يحيى: كلا لم يغب عني. إنما أغسلهم بهذا الماء ليطهروا من بعض أدران روحك ووسواسك حتى يستعدوا لتلقي الهداية من ذلك المسيح القادم.

إبليس: أتعرفه أنت؟

يحيى: كما أعرف نفسي. إنه من ذوي قرباي.

إبليس: تعني ذلك الناصري الذي اسمه عيسى؟

يحيى: نعم هو ذاك.

إبليس: أرح نفسك من التبشير به فلن يكون رسولاً أبداً.

يحيى: إن الله لا يكذب وعده.

إبليس: وأنا لا أكذب وعدي. لقد أفسدت أصلاب بني إسرائيل فلن يظهر من بينها نبي أبداً.

يحيى: هو ليس من صلب إسرائيلي.

إبليس: أليس ابن يوسف النجار؟

يحيى: لا.

إبليس: فابنُ من هو؟

يحيى: ابن مريم بنت عمران.

إبليس: من أبوه؟

يحيى: كلمة الله وروح منه ألقاها إلى مريم دون أب.

إبليس: هذا محال.

يحيى: ليس على الله محال. هو قادر على كل شيء.

إبليس: من غير أب؟

يحيى: قد خلق آدم قبله من غير أب ولا أم.

إبليس: لكن..

يحيى: لكن ماذا يا من أضله الله على علم؟

إبليس: (في ارتجاف) لاشيء يا يحيى لا شيء..

يحيى: أو قد ملأ الرعب قلبك؟ غداً تصعق حين تظهر أنوار المسيح فتتبدد ظلماتك!

إبليس: أصغ إلي يا يحيى.. كف عن التبشير به خيراً لك.

يحيى: أكف عن رسالتي من أجلك؟

إبليس: لئن لم تنته لأغرين بك قومك فليقتلنك!

يحيى: إن يقتلوني فلست خيراً من الرجل الصالح زكريا بن باراخيا إذ قتلوه بين الهيكل والمذبح.

إبليس: ليقتُلنك قتلة أشنع.

يحيى: أيها اللعين ما خرجت لتبليغ الرسالة وأنا أخشى القتل.. يا ليتني أقتل في سبيلها فأكون في زمرة الشهداء.

(يتبادل إبليس وشيطاناه النظر في حيرة ووجوم ثم يتقهقرون في يأس صوب يسار المسرح)

يحيى: (يرتفع صوته مدوياً من جديد) أيها الناس.. هلموا أطهركم لتتوبوا إلى ربكم فقد أظلكم ملكوت السماء!

(ستار)

 المنظر الثاني

جانب قفر من البرية لا يرى فيه غير نزر من الأعشاب الماحلة منتثرة هنا وهناك.

(يرفع الستار عن إبليس وشيطانيه واقفين في الجانب الأيسر من المسرح ينظرون صوب الجانب الأيمن)

الشيطان الأول: (متضجراً) إلى متى نرصد هذا الناصري في هذا المكان المقفر من البرية؟

الشيطان الثاني: أربعين يوماً قضيناها على هذه الحال لا نهدأ ولا نستريح       !

الأول: ولا نعمل عملاًَ مفيداً إلا أن ننتظر ونرصد!

إبليس: صبراً..صبراً.

الثاني: ألا تخبرنا ماذا تريد أن تصنع معه؟

إبليس: (في حدة) قلت لكما مراراً أريد أن أختبره.

الأول: فماذا تنتظر؟

الثاني: أجل ماذا تنتظر؟

إبليس: ويلكما ألا تريان أنه لا يتكلم؟

الأول: أبكم؟

إبليس: صائم عن الطعام وعن الكلام.

الثاني: كلمه لعله يجيبك.

إبليس: لن يجيب حتى يتم صيامه.

الثاني: جرّب.

إبليس: لا فائدة من التجربة.

الأول: ولا ضرر منها.

إبليس: لا أستطيع.

الاثنان: لا تستطيع؟

إبليس: لا أجرؤ أن أكلمه وهو صائم حتى ينتهي من صومه.

الاثنان: ومتى ينتهي من صومه.

إبليس: لا أدري.

الأول: ربما يبقى صائماً أربعين يوماً أخرى.

الثاني: أو أكثر. يخيلُ إلى أن هذا الآدمي يأكل ويشرب من الهواء الذي يتنفسه!

إبليس: (محتداً) كفى نقاشاَ. سأظل أرصده هنا ولو بقي أربعين سنة؟!

الاثنان: أربعين سنة؟!

إبليس: إن ضقتما ذرعاً فاذهبا عني. سأستبدل بكما سواكما من جنودي.

الأول: كلا لا تفعل يا مولاي. قد أدنيتنا إليك فلا تقصنا عنك.

الثاني: (يتطلع صوب اليمين) انظر يا مولاي! إنه يرفع شيئاً إلى فمه.

الأول: يأكل!

الثاني: يرفع إداوته!

الأول: يشرب!

المسيح: (يسمع صوته) اللهم لك الحمد!

الثاني: اسمع! إنه يتكلم!

إبليس: (فرحاً) الآن أستطيع أن أكلمه.

(يخطو خطوات نحو اليمين ثم يتراجع)

الأول: ما خطبك يا مولاي؟

إبليس: أخشى أن يتحقق قول يحيى فيه.

الأول: أتريد أن تعدل عن اختباره؟

الثاني: بعد أن قضينا أربعين يوماًَ نرصده؟

إبليس: كلا لا مناص من اختباره وليكن ما يكون.

(يتوجه صوب اليمين حتى يقف على حافته وخلفه شيطاناه)

المسيح: (صوته) اللهم أعني على هداية قومي!

إبليس: من هم قومك يا عيسى؟

المسيح: أعوذ بالرحمن منك!

إبليس: عُذْ به مني ما شئت ولكن أجبني: من قومك؟

المسيح: قومي هم قومي.

إبليس: تعني بني إسرائيل؟

المسيح: نعم.

إبليس: (يظهر في وجهه الارتياح) أنت ابن يوسف النجار؟

المسيح: لا..أنا ربيبه.

إبليس: (يكتئب قليلاً) فمن أبوك؟

المسيح: أنا روح من الله وكلمته ألقاها إلى أمي مريم.

إبليس: (يربَدُّ وجهه) من غير أب؟

المسيح: سبحانه هو القادر على كل شيء.

إبليس: إن يكن حقاً ما تقول فادع ربك أن يحيل هذه الصخور إلى خبز.

المسيح: فيم؟

إبليس: أنت جائع بعد وما عندك خبز.

المسيح: ليس بالخبز وحده يعيش الإنسان.

إبليس: فبم يعيش؟

المسيح: بكل كلمة تخرج من فم الله.

إبليس: أرسول أنت كموسى؟

المسيح: نعم.

إبليس: إلى بني إسرائيل؟

المسيح: نعم.

إبليس: وحدهم؟

المسيح: لا.

 إبليس: فاترك بني إسرائيل وادع غيرهم من الأمم.

المسيح: أمرت أن أدعو بني إسرائيل ليكونوا هداة لغيرهم.

إبليس: هل تحب أن يسمع لك بنو إسرائيل ويطيعوك؟

المسيح: هذا ما أرجو الله ربي أن يعينني عليه.

إبليس: ربك لا يستطيع أن يعينك.

المسيح: تعالى الله عما تقول.

إبليس: أنا أستطيع إن شئت.

المسيح: كلا لا أريد عونك أيها الشيطان الرجيم.

إبليس: لا تعجل. سأريك ممالك الدنيا كلها. انظر! هذه أرض مصر وهذا ذهبها! انظر!هذه أرض فارس وهذا ذهبها! انظر! هذه روما وهذا ذهبها! انظر!

المسيح: (في حدة) حسبك! لا أريد أن تريني شيئاً.

إبليس: سأعطيك هذه الممالك وغيرها. سأعطيك ممالك الدنيا كلها.

المسيح: لا أرب لي فيها.

إبليس: أليس لك في هداية بني إسرائيل من أرب؟

المسيح: بلى.

إبليس: فلن يؤمنوا لك إلا إذا كان في يديك ذهب الأرض.

المسيح: ويلك إنما بعثت لأهديهم لا لأضلهم.

إبليس: الذهب معبودهم فاهدهم إليه.

المسيح: الذهب فتنتهم وسأثنيهم عنه.

إبليس: لن يطيعوك أبداً ولن يتخلوا عن عبادته.

المسيح: ما عليّ إلا البلاغ ولست عليهم بمسيطر.

إبليس: ستكون مسيطراً عليهم لو تطيعني!

المسيح: قبحاً لك. تدعوني وأنت تعلم أني رسول الله إلى طاعتك وأنا أعلم أنك إبليس؟

إبليس: إلى أين يا عيسى؟

عيسى: إلى حيث أمرني ربي أن أدعو الناس إليه.

إبليس: انتظر يا عيسى فلم أتم حديثي بعد معك.

عيسى: (يبتعد صوته) ليس بيني وبينك من حديث!

إبليس: انتظر!

عيسى: (يبتعد صوته أكثر) كلا لن أنتظر. انتظر أنت عذاب الله وخزيه يوم الدين!

إبليس: (يقف مبهوتاً) نبيّ حقاً! نبيّ جديد! (يتنهد) أواه قتلنا يحيى وحملت سالومي رأسه في طبق ولكن كلامه بقي حياَ!

الأول: أو قد آمنت بما قال يحيى عنه؟

إبليس: بعد هذه التجربة لم يبق من شك في صدق ما قال.

الثاني: إذن فرب العزة قد مكر بك!

إبليس: أجل خرق النواميس.

الأول: هذا ليس من العدل.

إبليس: لو كان ثمتَ عدل لانتصرت عليه من زمن بعيد!

الثاني: فاخرق أنت النواميس مثله.

الأول: أجل هذا من حقك.

إبليس: لو كان ذلك في وسعي لما انتظرت حتى تشيرا به علي. لا يقدر على خرق النواميس إلا الذي خلق النواميس.

الثاني: ناو أن تسلم بالهزيمة؟

إبليس: قبحاً لك! أتريد مني أن أسلمّ بالهزيمة؟

الثاني: كلا يا مولاي.. مجرد سؤال.

إبليس: مجرد السؤال هنا يتضمن الاقتراح.

الثاني: ما الحيلة يا مولاي؟ نريد أن نطمئن.

الأول: أجل يا مولاي نريد أن نطمئن.

إبليس: الإرادة قوة لا حد لها وهي عندي ولا يستطيع هو أن يجردني منها، والحرية في الفكر والعمل وهي أيضاً عندي ولا يستطيع أن يسلبها مني.

الأول: لكن هل تغني الإرادة والحرية شيئاً أمام من يخرق النواميس كلما شاء له هواه؟

إبليس: هذا دليل الوهن منه. لو كان قوياً حقاً لما لجأ معي إلى هذه الوسيلة. لو لم يخش من انتصار عليه لما اضطر إلى خرق النواميس التي وضعها هو بنفسه.

الأول: استدلال سليم واستنتاج حكيم.

الثاني: (يتشجع قليلاً) لكني أخشى أن تكون النتيجة في الحالين واحدة.

إبليس: ماذا تعني؟

الثاني: (خائفاً) لا شيء يا مولاي لا شيء.

إبليس: (في حدة) بل قل ماذا تعني؟

الثاني: ولي الأمان من غضبك؟

إبليس: يا لك من غبي! أنا أول من دعا إلى حرية الإرادة والفكر في الخليقة كلها فكيف أغضب من ذلك؟

الثاني: قد غضبت آنفاً مني.

إبليس: ما غضبت يا غبي من رأي حر لك. غضبت من اقتراحك التسليم بالهزيمة. قل الآن: ماذا عنيت بما قلت؟

الأول: لا تخف فقد أعطاك الأمان من غضبه.

الثاني: إذا ظللْتَ تعتمد على حريتك وإرادتك وظل هو يخرق الناموس بعد الناموس فالنتيجة أنه هو الذي سينتصر لا محالة.

إبليس: كلا لأصبرنّ له حتى يخرق جميع النواميس التي وضعها فلا يبقى منها شيء فلأغلبنّه حينئذ بإرادتي وحريتي!

الأول: بديع! بديع! الآن يحق لنا أن نطمئن.

الثاني: أجل. الآن نستطيع أن نطمئن.

إبليس: كلا يجب ألا تخلدا إلى الطمأنينة.

الاثنان: فيم يا مولاي؟

إبليس: الطمأنينة ضعف والقلق قوة، يجب أن نعيش دائماً في قلق هذا جبار جديد قد ظهر فعلينا أن نتهيأ معه لكفاح طويل.

الأول: وا أسفاه. كنا نظن أننا استرحنا من كفاح هؤلاء الجبابرة بعد ما أيقنا أن كل صلب من أصلاب بني إسرائيل قد تلوث وفسد.

الثاني: فإذا رب العزة يكيد لنا هذا الكيد العظيم ويحاربنا بسلاح لا نملكه!

إبليس: لا بأس. لن نيئس من النصر أبداً. لقد صارعني موسى فهزمته حتى مات كمداً في الجبل. وجاء داود يتحداني إذ أراد أن ينشر التوحيد في الشعوب الأخرى وتبعه سليمان من بعده فهل استطاعا أن يغلباني؟ ألم أغْرِ بهما شعبي المختار فنسبوا إلى الأول الزنا وإلى الثاني الشرك بربه والسجود لأوثان الأمميين؟

الثاني: لكن هذا الرسول الجديد بدع في الرسل إذ أوجده رب العزة من غير أب فخرق النواميس وجعله آية للعالمين!

الأول: أجل.. ليكونن أشد علينا من كل من سبقوه من الرسل!

إبليس: ليكن ما يكون فلن يضعف إيماني بنفسي ولا ثقتي بالانتصار في النهاية. لأرمينَه بسهم قاتل!

الاثنان: كيف؟

إبليس: أراد أن يجعله آية للناس فلأجعلنه فتنة للناس! ولأُغْرِين به شعبي المختار فليرمنَّ أمه بالفاحشة!

الاثنان: مرحى مرحى! لكأنما أمكنك رب العزة من مقتله.

إبليس: (في حقد وتشف) كيداً بكيد والبادئ أظلم!

(ستار)

المنظر الثالث

في بيت قيافا رئيس الكهنة.

حجرة واسعة فاخرة. أريكة في الصدر. وعلى الجانبين تقوم خزانات مفتوحة مملوءة بالكتب في مجلدات كبيرة.

(يرفع الستار فنرى قيافا وحنانيا جاليس على الأريكة وفي يد قيافا كتاب يتصفحه تحت ضوء القنديل القريب منه)

فيافاً: (يطبق الكتاب) لا فائدة. لم أستطع أن أجد نصاً في الشريعة يجيز لنا أن نحكم عليه بالقتل.

حنانيا: وقوله إنه ابن الله؟

قيافا: إنما يقولها على سبيل المجاز، ولا يقصرها على نفسه فهو يطلقها على الجميع باعتبار أن الله مصدر الخلق.

حنانيا: يمكن أن تأخذ عليه أن يقصرها على بني إسرائيل.

قيافا: هذا مأخذ ضعيف فالله لم يخلق بني إسرائيل وحدهم.

حنانيا: لكن الله اختارهم وفضلهم.

قيافا: فعيسى لم يقل غير ذلك.

حنانيا: فلنأخذ عليه نقضه لشريعة موسى.

قيافا: هذا أقوى مأخذ، ولكن ليس في استطاعة مجلسنا أن يقيم عليه الحجة في ذلك فهو ضليع في الشريعة متمكن منها يستطيع أن يؤول أقواله طبقاً لها فيجعل النص الذي تحتج به عليه حجة له علينا.

حنانيا: صدقت. ليس في أعضاء المجلس من يكافئه قوة حجة وحسن بيان.

قيافا: وأسوأ من ذلك أن ليس له ما يخاف عليه من مال أو منصب أو مصالح.

حنانيا: ونحن نخشى على جاهنا ومناصبنا ومصالحنا.

قيافا: هذه هي المشكلة كلما فكرنا في أمر هذا الناصري المقيت درنا في هذه الحلقة نفسها حتى نصل إلى حيث بدأنا دون أن ننتهي إلى نتيجة!

حنانيا: والوقت يمر سريعاً وأتباعه يكثرون في كل مكان، وخطره يستفحل كل يوم. وكأني به وبأتباعه من الرعاع يثبون علينا وينزعون من أيدينا السلطة.

قيافا: ولا ضير يومئذ على حكامنا الرومان أن يعترفوا بهم مادام الأمر لا يمس حكم قيصر في شيء.

حنانيا: ها نحن أولاء رجعنا إلى قيصر مرة أخرى. فلنستعن عليه بحكام قيصر فإن ذلك هو السبيل الوحيد.

قيافا: أنسيت يا سيدي أنني قد كلمت بيلاطس في ذلك فكان جوابه لي: هذا أمر يخصكم معشر اليهود ولا شأن لنا به؟

حنانيا: يجب أن نلح عليه مرة بعد مرة ونجسم له خطر هذه الدعوة الجديدة على حكم قيصر.

قيافا: لا تنس أن للرومان عيوناً في كل مكان ينقلون إليهم الأخبار يوماً بيوم، فلو آنسوا أي خطر على حكمهم لبادروا إلى قمعه بكل شدة.

حنانيا: (في ضيق) فابقوا إذن حتى تلتهمكم النار وأنت نائمون!

قيافا: اطمئن يا سيدي فإن الذي في عصمته ابنتك ليس بنائم.

حناينا: تعني اتكالك على تكلك المومس المجدلية؟

قيافا: إنها أذكى وأبرع من كثير من شيوخ مجلسنا.

حنانيا: آه لو تعلم ابنتي أنك مازلت بها على صلة!

قيافا: أقسم لك ما عاد بيني وبينها اليوم غير صلة العمل على الكيد لهذا الناصري وتلويث سمعته بين الناس.

حنانيا: سمعته هو أم سمعتك؟

قيافا: أوه.. ما زلت تنظر إلى الأمر بعين ابنتك!

حنانيا: نعم.. يجب أن تعلم أن رفقة غالية عندي.. ليس لي في الدنيا غيرها. ولو كنت أعلم أنك......

قيافا: حسبك! إن رفقة تفهمني جيداً ولا أسمح لك أن تتدخل بيني وبينها.

حنانيا: (غضباً) لا تسمح لي! ماذا تظن نفسك؟

قيافا: أنا زوجها وهي زوجتي!

حنانيا: وأنا أبوها وهي ابنتي!

قيافا: اسكت! لا تدعني أفشى لك سراً لا تحب سماعه.

حنانيا: ماذا تعني؟

قيافا: ألم تكن لك أنت خلائل من الإسرائيليات وغير الإسرائيليات تخلو بهن في نفس المخدع الذي تنام فيه أم رفقة معك حتى ماتت كمداً من جرائرك؟

حنانيا: صه! ممن سمعت هذا ويلك؟

قيافا: من رفقة نفسها.

حنانيا: الملعونة! تستحق والله أن تلقى المذلة على يديك! هات إذن حدثني عن خليلتك المجدلية!

قيافا: (يتنهد) خليلتي! آه ليتها بقيت كذلك! إنها اليوم لم تعد تقبل أحداً من خلانها منذ هامت بحب عيسى الناصري.

حنانيا: هامت بحبه؟

قيافا: أصبح قلبها وقفاً عليه.

حنانيا: إني لا أفهم شيئاً مما تقول. كيف تريد منها أن تكيد له وهي تحبه هذا الحب؟

قيافا: لذلك حديث يطول.

حنانيا: يجب أن أسمعه.. اقصصه علي.

قيافا: كان ذلك في الشتاء الماضي إذ خطر لي أن خير ما نكيد به للناصري أن نسلط عليه غانية فاتنة. ففاتحت المجدلية في ذلك. ولشد ما دُهِشْتُ إذ وجدت لديها ميلاً شديداً إلى تنفيذ هذه المكيدة كأنما كانت قد عقدت العزم عليها من قبل.

حنانيا: هيه.. كان هذا إذن سبب اتصالها به؟

قيافا: نعم.. صارت تلاحقه منذ ذلك اليوم وتظهر في مجالسه وتتبعه في جولاته.

حنانيا: وهل استطاعت.. ..؟

قيافا: لا لم تستطع أن توقعه في غرامها ووقعت هي في غرامه!

حنانيا: إذن أخفقت الخطة!

قيافا: كلا بل بدأت خطتي حينئذ.

حنانيا: كيف؟

قيافا: أخذت ألقي في روعها أن الدعوة التي يقوم بها هي الحائلة بينها وبينه، فهو مشغول بها عن كل شيء. وأنها كذلك تهدد حياته بما تثير عليه من سخط أبناء قومه وغضب الحكام الرومان فلو أمكن صرفه عنها لربما استجاب لحبها فعاش معها في أمن وسلام. قالت كيف السبيل إلى ذلك؟ قلت لا يوجد غير سبيل واحد.

حنانيا: وما هو؟

قيافا: تلويث سمعته حتى ينفض أتباعه عنه، وحينئذ يتلفت فلا يجد سكناً أحنى من حجرها عليه.

حنانيا: لكن كيف تلوثون سمعته؟

قيافا: هذا ما اتفقت معها على أن تقوم به الليلة.

حنانينا: كيف؟

قيافا: اتفقنا على أن أبعث إليها الليلة شخصاً يشبه عيسى الناصري في قامته وهيئته فيزورها في بيتها وهو ملثم فتدخله في مخدعها حتى إذا خرج منه لينصرف رآه من عندها من العشاق والسمار فتزعم لهم أنه عيسى الناصري.

حنانيا: (يغلبه الفرح فيوسع قيافا لثماً وتقبيلاً) بوركت يا ولدي! خطة والله رائعة!

قيافا: رويدك حتى تسمع البقية.

حنانيا: هات!

قيافا: لا ريب أنك قد سمعت بما حدث أمس في بيت سمعان الفريسي حين صبت المجدلية حُقاً كبيراً من الطيب على رجلي الناصري ثم حلت شعرها فأخذت تجففهما به؟

حنانيا: هذا حديث المدينة منذ أمس.

قيافا: فاعلم أن ذلك جزء من الخطة!

حنانيا: (مدهوشاً) جزء من الخطة؟

قيافا: لئلا يبقى عند الناس شك في صدق التهمة إذا سمعوها.

حنانيا: بديع! بديع! (يقبله مرة ثانية) الآن أشهد أنك منقذ إسرائيل!

قيافا: لا تبالغ في إطرائي فإني لم أرسم هذه الخطة وحدي بل اشترك معي فيها يهوذا الأسخريوطي.

حنانيا: صاحب الناصري؟

قيافا: في الظاهر. وصاحبنا في الباطن. إنه هو الذي ذهب الليلة إلى المجدلية ليمثل دور الناصري.

حنانيا: بديع! بديع! حقاً إنه يشبهه تماماً في قامته ومشيته. (يقرع الباب الخارجي فينهض قيافا في عجل)

قيافا: هات ما عندك يا يهوذا. لا تخف. قد حدثت عمي حنانيا بكل شيء.

حنانيا: بوركت يا يهوذا. غداً يعرف قومنا أنك أنقذتهم من خطر كبير.

يهوذا: (يتغير وجهه ولا يتكلم).. ..؟

قيافا: ما خطبك؟ تكلم. ماذا حدث؟

يهوذا: غدرت بنا المجدلية.

قيافا: غدرت؟ كيف؟

يهوذا: نقضت الاتفاق الذي بينها وبينك.

قيافا: ردتك من الباب ولم تفتح لك؟

يهوذا: فتحت لي وأدخلتني، ولكن البيت كان خالياً ليس فيه أحد من ضيوفها ولا ندمائها.

قيافا: فماذا قالت لك؟ أَعتذرتْ لعدم حضورهم؟

يهوذا: اعتذرت! هذه لقيتني لقاء غير جميل وقالت لي: ارجع إلى من أرسلوك فقل لهم: إن المجدلية لن تخون عيسى الناصري ولن تسيء إلى سمعته ولو أعطيتموها ملء الأرض ذهباً. ثم حاولت أن تنزع اللثام من وجهي فتملصت منها وخرجت هارباً.

قيافا: ويل للفاجرة لقد أخذت مني عقداً من اللؤلؤ وسواراً من الذهب!

حنانيا: عقداً من اللؤلؤ وسواراً من الذهب! إياك يا قيافا أن تكون أخذتهما من حلي رفقة!

قيافا: أف! ترانا في هذا المأزق فلا يعنيك غير حلي ابنتك!

حنانيا: أنا دفعت ثمنها من حر مالي فمن حقي أن أسأل. أما المأزق فأنت الذي أوقعتنا فيه بسوء تدبيرك.

قيافا: منذ قليل سميتني منقذ إسرائيل!

حنانيا: ذاك لو نجح تدبيرك لكنه لم ينجح.

قيافا: وما ذنبي أنا؟

حنانيا: لا تحاول أن تداورني عن سؤالي. من أين أخذت العقد والسوار؟

قيافا: اشتريتهما من السوق.

حنانيا: أنا داخل عند رفقة لأتفقد حليها (يهم بالنهوض).

قيافا: (يمنعه) قد أوت الآن إلى فراشها فلا تزعجها. سلها غداً إن شئت.

(يسمع قرع على الباب الخارجي وصوت امرأة تنادي)

الصوت: يا سيد قيافا! يا سيد قيافا!

يهوذا: وي! هذا صوت المجدلية!

قيافا: ويلها ماذا جاء بها الساعة؟ (يذهب ليفتح لها).

يهوذا: (يستوقفه) كلا لا تفتح لها. لا ينبغي أن تراني هنا فتعرفني وتكشف أمري للناصري.

الصوت: يا سيد قيافا!

قيافا: يجب أن أفتح لها وإلا فضحني صوتها أمام الجيران.

يهوذا: وماذا أصنع؟

قيافا: اختبئ أنت (يخرج منطلقاً).

بهوذا: أرشدني يا سيد حنانيا أين أختبئ؟

حنانيا: اختبئ هناك خلف تلك الخزانة!

(يختبئ يهوذا خلف إحدى الخزائن في أدنى يمين المسرح بحيث لا يراه مَنْ في صدر المسرح ولكن يراه المتفرجون واقفاً ملتصقاً بالخزانة في خوف)

(يعود قيافا وتدخل المجدلية مرتدية معطفاً أسود سابغاً وقد حسرت خمارها الأسود عن وجهها فبدا آية في الحسن والإشراق)

قيافا: (في توسل) أرجوك يا مريم. لا تثيري بيننا فضيحة!

المجدلية: (في سخرة) في بيت رئيس الكهنة! بيت الدين والتقوى أليس كذلك (تتلفت حولها).

قيافا: (يكظم غيظه) هذا عمي حنانيا.

المجدلية: أعرفه! شيخ النفاق والرياء!

حنانيا: (يتغير وجهه دون أن يجيب)....؟

قيافا: تفضلي.. اجلسي.

المجدلية: أنا امرأة خاطئة لا ينبغي أن ألوث هذا الحرم المقدس! أين الديوث الذي بعثته إلي؟ ألم يعد إليك؟

(يرتجف يهوذا خوفاً)

قيافا: بلى.. قد عاد منذ قليل ثم انصرف.

المجدلية: أريد أن أعرف من هو. أخبرني من هو؟

قيافا: لا أستطيع.

المجدلية: لَمهْ؟

قيافا: أخذ عليّ عهداً ألا أبوح باسمه.

المجدلية: أهو من أتباع عيسى الناصري؟

(يرتجف يهوذا ويكاد يغشى عليه)

قيافا: سؤال عجيب! أتظنين أن في أتباعه من يرضى أن يخونه؟

المجدلية: هذا ما حيرّني!

قيافا: لكن لماذا تسألين عنه؟ ألم تجديه صالحاً للدور المطلوب؟

المجدلية: صالحاً جداً. هل أمرته أيضاً أن يراودني عن نفسي؟

(يرتجف يهوذا)

قيافا: معاذ الله. ما بعثته إلا ليقوم بما اتفقنا عليه.

المجدلية: كلكم فاسق وكلكم يجهل أنني منذ عرفت السيد المسيح قد تبت عن الفجور وتركته لكم! خذ العقد الذي أعطيتنيه وخذ السوار! (تحلهما عن جيدها ومعصمها فترميهما له)

(يهم قيافا بالتقاط العقد والسوار فيسبقه إليهما حنانيا ويأخذهما ويقبلهما في يده وينظر إلى قيافا نظرة ذات معنى)

قيافا: إن رأيت هذا قليلاً يا مريم فإني على استعداد أن أزيدك سأعطيك كل ما تريدين.

المجدلية: كلا لن أبيع سيدي وحبيبي أبداً.

قيافا: من الذي أراد منك أن تبيعيه؟ إنما أردنا منك أن تشتريه!

المجدلية: ما لا يصح بيعه لا يصح شراؤه.

قيافا: ليستجيب لحبك فيكون لك وتعيشي معه في أمن وسلام.

المجدلية: كلا لن أصده عن رسالة ربه لأستأثر بحبه.

قيافا: إذن فلن تظفري بحبه أبداً.

المجدلية: قد ظفرت بما هو أعظم من ذلك.. ظفرت بالتوبة.. ظفرت بالمغفرة.. ظفرت بملكوت السماء!

حنانيا: آمنت بدعواه الكاذبة؟!

المجدلية: أنتم الكذبة وهو الصادق الأمين!

حنانيا: قد كفرت إذن بدين إسرائيل.

المجدلية: يا شيخ النفاق إن كان دين إسرائيل هو ما أنتم عليه فإني كفرت به وآمنت بالدين الحق دين السيد المسيح الذي فتح لي باب التوبة من آثامي وخطاياي.

حنانيا: آثامك وخطاياك أهون من أن تفقدي إيمانك بإله إسرائيل.

المجدلية: كذبت! ما فقدت إيماني بإله إسرائيل. إله إسرائيل هو الذي بعث إلينا هذا النبي الجديد كما بعث موسى من قبل.

حنانيا: إبليس هو الذي بعثه لا إله إسرائيل.

المجدلية: بل إله إسرائيل.

حنانيا: إبليس!

المجدلية: إله إسرائيل!

حنانيا: إبليس!

المجدلية: إبليس هو الذي استحوذ عليكم يا فجرة. إله إسرائيل بريء منكم!

حنانيا: إله إسرائيل بريء منك ومن صاحبك الناصري!

المجدلية: هلمّ إذن نتباهل فنجعل لعنة إله إسرائيل على الكافر منا به!

حنانيا: أتريدين منا أن نباهل فاجرة؟

قيافا: دعي عيسى الناصري يُباهلنا.

المجدلية: الرسول الأمين لا يباهل الفجرة. ولكن باهلوني أنا فلستم خيراً مني. إن كنت فاجرة فأنتم فجرة. باهلوني إن كنتم صادقين!

قيافا: إننا نخاف عليك يا مريم من عقبى المباهلة.

المجدلية: بل تخافون على أنفسكم لأنكم تعلمون أنكم كذبة! إني أتحداكم!

حنانيا: (يستشيط غضباً) إذن فليكن ما تريدين!

(يسمع صوت يملأ الحجرة كلها ويتردد من كل ركن فيها دون أن يرى صاحبه)

الصوت: كلا.. كلا لا تتباهلوا فتصيبكم القارعة! أنا إله إسرائيل! أنا إله إسرائيل!

(يبهت الحاضرون ويستولي عليهم الخوف والرهبة)

المجدلية: (تستعيد رباطة جأشها قليلاً فتتمتم) سبّوح قدوس!

الصوت: سأتجلى لكم الآن كما تجليت لموسى من قبل.

(يطرق قيافا وحنانيا وجلين كأنما لا يريدان أن يرياه وكذلك يفعل يهوذا ولكن المجدلية يستنير وجهها ويتهلل في إيمان وخشوع)

المجدلية: (تتمتم) سبّوح قدوس!

(يظهر إبليس وشيطاناه أمام الباب فيخر قيافا وحنانيا ساجدين. وكذلك يفعل يهوذا من خلفهم. وتبقى المجدلية شاخصة تنظر إليه)

إبليس: يا ابنة آدم ما بالك لا تسجدين؟

(يغلبها الخوف فتسجد مرغمة)

الجميع: (يرددون وهم ساجدون) سبّوح قدوس!

إبليس: (يلتفت إلى شيطانيه كأنه يتبادل معهما الرأي ثم يعود إلى وضعه الأول) ارفعوا رؤوسكم الآن. لا تخافوا إنما أنتم أبنائي وأنا لكم أب شفيق.

(يرفع الجميع رؤوسهم وهم جالسون على الأرض)

إبليس: فيم يا أبنائي تختلفون وعلام تتباهلون؟ ألم يكفكم شريعتي التي أنزلتها على موسى فأنتم لها تدرسون وبها تحكمون وتعلمون؟

حنانيا: بلى يا إلهنا.. تكفينا شريعة موسى لا نريد بها بديلاً.

قيافا: ونحن بها نحكم ونعمل ما استطعنا.

إبليس: أفئذا جاءكم دجال يزعم أنه مثل موسى ويريد أن ينقض شريعته أو يحرّف كلمها عن مواضعه طفقتم به تؤمنون وبي تكفرون أو تمترون؟

قيافا: كلا ما كفرنا بك يا إله إسرائيل ولا امترينا فيك.

إبليس: قد كفر بي منكم جمع كثير.

حنانيا: هؤلاء الذين أضلهم الناصري ونحن منهم براء.

قيافا: وإنما أكثرهم من الجهلة والغوغاء.

(تهم المجدلية أن تقول شيئاً فلا تستطيع)

إبليس: ويلكم ألستم من حفظة ديني وشريعتي؟

الاثنان: بلى.

إبليس: فهلا حميتم شعب إسرائيل من الأنبياء الكذبة؟

قيافا: لقد حاولنا ذلك يا مولانا ولكنه غلبنا عليهم بالآيات التي يظهرها لهم ويزعم أنها من عندك.

إبليس: وصدقتم أنها من عندي؟

حنانيا: كلا بل قلنا إنها سحر من إبليس ليضلّ بها بني إسرائيل.

إبليس: فما جزاء الساحر في شريعتي؟

الاثنان: القتل.

المجدلية: (تهب واقفة وتتفجر صائحة) كلا ليس بساحر! ليس بساحر! إنه نبي! إنه رسول!

قيافا: لقد سحرك فأنت مسحورة.

المجدلية: بل هداني إلى التوبة.

حنانيا: التوبة لا تكون بالكفر!

المجدلية: الكفر ما أنتم عليه.

قيافا: اسكتي ويلك! تذكري أنك بين يدي إله إسرائيل.

المجدلية: (تنظر إلى "إله إسرائيل" كأنها في ريب من أمره) كلا لن أسكت عن الحق أبداً.

إبليس: (يظهر الحنان واللطف) أتحبينه يا مجدلية؟

المجدلية: (في شيء من الطمأنينة) نعم.

إبليس: حباً صادقاً؟

المجدلية: (كالحالمة) بكل جارحة فيّ.. بكل قطرة من دمي وبكل نفس من أنفاسي!

إبليس: إذن ففي وسعك أن تنقذيه.

المجدلية: (فرحة) كيف؟

إبليس: تصرفين الناس عنه فيخلو وجهه لك وحدك!

المجدلية: (تبهت فتنظر إليه زائغة العينين) أنت أيضاً؟

إبليس: وتنقذين شعب إسرائيل من فتنته!

المجدلية: (بصوت مرتعش) كلا.. كلا.. كلا.. (تتقهقر نحو الباب الخارجي) قد عرفتك الساعة.. عرفتك.. عرفتك.. أنت.. أنت إبليس!

(يضطرب القوم وتتغير وجوه إبليس وشيطانيه)

(ستار)

المنظر الرابع

بهو في مقر الحاكم الروماني بيلاطس.

في الصدر شرفة واسعة تطل على الميدان خارج القصر.

في الجانب الأيمن قفص من قضبان الحديد يوقف فيه المتهمون في الجانب الأيسر بازاء القفص كرسي فخم يجلس عليه الحاكم عند النظر في القضايا.

في أدنى يسار المسرح باب يؤدي إلى داخل القصر.

في أدنى يمين المسرح باب يؤدي إلى الخارج.

(يرفع الستار فإذا الوقت ليل وقنديلان يضيئان على ركني البهو ونرى يهوذا الأسخريوطي داخل القفص وهو يتململ في قلق ويأس).

يهوذا: (يضع أصابع يديه في أذنيه كأنه يريد أن يتقي سماع شيء مكروه لا يريد سماعه) الصوت يرن في أذني بعد! آه ماذا أصنع؟

(يسمع صوت السيد المسيح كأنه آت من بعيد)

الصوت: طوبى للفقراء فإن لهم ملكوت السماء.

طوبى للحزانى فإن لهم سيكون العزاء.

طوبى للمستضعفين فإنهم سيرثون الأرض.

طوبى للذين يجوعون في الحق ويظمأون فإنهم سيشبعون.

طوبى للرحماء فإنهم سيرحمون.

طوبى لذوي القلوب النقية فإنهم سيرون وجه الله.

طوبى لصانعي السلام فإنهم سيدعون أبناء الله.

طوبى للذين يُؤْذَوْن في سبيل الحق فإن لهم ملكوت السماء.

يهوذا: (يضيق ذرعاً بما يسمع فيصيح متململاً) كلا لا أريد أن أوذى في الحق ولا أريد ملكوت السماء. أريد أن أعيش هنا في هذه الدنيا.. على هذه الأرض!

(يخرج صرة من داخل ثيابه)

هذا الذهب لمن أتركه إذا أنا فارقت هذه الحياة؟

لا أريد أن أتركه لأحد.. يجب أن أعيش.

الصوت: لا يستطيع أحدكم أن يخلص لسيدين فلا بد أن يحب أحدهما ويكره الآخر أو يعتز بأحدهما ويحتقر الآخر.

إنكم لا تستطيعون أن تخلصوا لله وللذهب!

يهوذا: (ثائراً) كذب! هراء! لقد أشرب أسلافنا حب الذهب من قديم ولم يمنعهم ذلك من الله. الله في السماء والذهب في الأرض.!

الصوت: اسألوا تُعْطَوْا ما تسألون. واطلبوا تجدوا ما تطلبون. واقرعوا يفتح لكم الباب الذي تقرعون!

يهوذا: (يقرع باب القفص بكل قوته في حركة عصبية) أكذوبة!

أكذوبة! هأنذا قرعت الباب فلم يفتح! أكذوبة!

(يدخل جنديان من الرومان مسرعين)

الجنديان: (في غضب وقسوة) ويلك ماذا تصنع؟

يهوذا: (في جزع) لا شيء.. قرعت الباب فلم يفتح.

الأول: أردت أن تفتحه بالقوة؟

الثاني: ماذا تظن نفسك؟ شمشون الجبار؟

يهوذا: (يتمتم) أكذوبة.. أكذوبة.. لقد أثبت أنها أكذوبة!

الثاني: هذه أسطورتكم أنتم. ما يعنينا إن كانت حقيقية أم أكذوبة!

(تسمع خطي قادم)

الأول: (يلتفت نحو الباب الأيمن) ها هو ذا جيلاديوس قد أقبل!

(يدخل جندي ثالث فيتوجه الاثنان نحوه)

الأول: أين كنت يا جلاديوس؟ ماذا أخرك حتى الآن؟

الثاني: تركتنا وحدنا مع هذا السجين اليهودي!

جلاديوس: (ينظر إلى يهوذا في القفص وإلى ما حوله) عرجت على أهلي وأولادي لأطمئن عليهم قبل أن أقضي بقية الليل هنا في الحراسة.

الأول: كنا قلقين عليك خشية أن يمر علينا السيد المفتش فلا يجدك.

(يتوجه الثلاثة إلى أدني اليسار يجلسون على مقاعد صغيرة أمام الباب الأيسر)

جلاديوس: ما أحسب المفتش يجيء. هذه ليلة عيد عند اليهود.

الأول: اللعنة على هؤلاء اليهود. حتى في ليلة عيدهم يتشاجرون ويتناحرون!

جلاديوس: أجل لولا سجينهم هذا لبتنا الليلة بين أولادنا هانئين.

الثاني: يزعمون أنه ثائر على حكم قيصر.

جلاديوس: كذابون. ما هو إلا نبي جديد من أنبيائهم يريد أن ينازعهم في رياسة الكهنوت ولا شأن له بقيصر ولا بحكم قيصر.

الأول: هذا دأبهم كلما ضاقوا بمنافس لهم في الرياسة الدينية اتهموه بالثورة على قيصر لنخلصهم نحن منه وليوهمونا في نفس الوقت أنهم مخلصون لقيصر.

الثاني: سمعنا أنه يصنع الخوارق حتى لقد أحيا ميتاً بعد ما دفن في قبره بيومين.

جلاديوس: لديهم حكايات كثيرة في هذا الباب ينسبونها إلى أنبيائهم فعلام قبلوها من أولئك الأقدمين واعتبروها معجزات تدل على صدقهم وأنكروها على هذا الناصري المسكين وقالوا إنه خطر على حكم قيصر؟

الثاني: يقولون إنه ساحر أو مشعوذ.

جلاديوس: إن كان هذا ساحراً أو مشعوذاً فلا ريب أن السابقين كانوا مثله سحرة أو مشعوذين.

الأول: ثم ماذا نخشى على حكم قيصر من ساحر أو مشعوذ؟

الثاني: يقولون إنه يفتن الناس بذلك ليلتفوا حوله فيثور بهم على الحكم.

جلاديوس: هذا كذب صريح. لقد كنت مكلفاً بمراقبته حينا من الزمن فوجدتهم ذات يوم يستدرجونه ليوقعوه في هذا الفخ، ولكنه أبطل كيدهم بجواب بارع ولم يتركهم حتى كشف لهم عن سوء قصدهم.

الثاني: كيف؟

جلاديوس: سألوه أيها المعلم هل يجوز لنا أن ندفع الضريبة لقيصر؟

الأول: سؤال عجيب!

جلاديوس: بل سؤال خبيث. أرادوا أن يحرجوه فإن أجاب نعم أغضب عامة الناس الذين يتذمرون من دفع الضريبة، وإن قال: لا. أثبتوا عليه التهمة بالتحريض على قيصر.

الاثنان: فكيف أجابهم؟

جلاديوس: طلب منهم قطعة من النقود فلما أعطيت له رفعها في يده وسألهم وهو يقلبها ظهراً وبطناً: لمن هذه الصورة ولمن هذا الاسم؟ قالوا لقيصر فقال: أعطوا إذن ما لله لله وما لقيصر لقيصر.

الأول: وأبلغت المسئولين بذلك؟

جلاديوس: بالحرف.

الأول: إذن فلا خوف عليه من هذه المحاكمة. لا شك أن بيلاطس سيبرئه غداً ويطلق سراحه.

جلاديوس: إلا إذا آثر أن يتجنب إغضاب الكهنة ومعهم عامة الشعب.

(يتثاءب)

جلاديوس: ماذا ترون لو تناوبنا الحراسة بيننا. واحد يحرس واثنان يرقدان؟

الأول: أو اثنان يحرسان وواحد يرقد.

جلاديوس: بل واحد يكفي. القفص مقفول والباب مقفول. هيا. أنا أحرس في الأول وأنتما ترقدان.

الثاني: لكن ربما يحضر السيد المفتش.

جلاديوس: لا تخافا.. إن حضر أيقظتكما قبل أن أفتح له.

(ينهض الأول والثاني فيخرجان من الباب الأيسر)

(ينتظر جلاديوس هنيئة ثم ينهض ويدنو من القفص)

جلاديوس: (بصوت خافض) أيها المعلم....

يهوذا: لست أنا المعلم وإنما أنا...

جلاديوس: (يشير إلى فمه أن اسكت) صه أصغ إلى ما أقول، سيحضر الساعة صديق لك فيطلق سراحك، فاذهب إلى حيث لا تصل إليك أيدي أعدائك الكهنة.

يهوذا: لكن..

جلاديوس: سنزعم للناس أنك اختفيت من القفص بمعجزة من معجزاتك التي تروى عنك.

يهوذا: لكن.. من ذلك الصديق.؟

جلاديوس: مريم المجدلية!

يهوذا: (متمتماً) مريم المجدلية!

جلاديوس: إياك أن تحدث حركة أو صوتاً.. أفهمت؟

يهوذا: نعم.

(يتوجه جلاديوس إلى الباب الأيسر فيتصنت كأنما يريد أن يستوثق من نوم زميليه ثم يعمد إلى أحد القنديلين فيأخذه ويفتح الباب الأيمن ويحرك القنديل أمامه يمنة ويسرة، ويهوذا يرقب حركاته في دهش واهتمام، ثم يعيد جلاديوس القنديل مكانه ويخرج من الباب الأيمن ويوصده خلفه)

يهوذا: (تتنازعه عواطف مختلفة وهو يتمتم) مريم المجدلية.. لا شك أنها تحسبني عيسى الناصري. كيف استطاعت أن تقنع هؤلاء الرومان؟ اتصلت بأحد كبرائهم لا ريب فباعت له جسدها! هكذا المرأة لا بأس عندها أن تخون حبيبها من أجل أن تنقذه. (تدركه روعة) لكن.. لا لا لن تعرفني لقد سحرني الناصري فجعلني على صورته.. حتى قيافا وحنانيا لم يعرفاني فأحرى ألا تعرفني هي.

(يفتح الباب الأيمن فيدخل جلاديوس وخلفه رجل وامرأة: أما الرجل فيبدو من زيه أنه من القواد الرومان وهو ينظر إلى المرأة في شغف أما هي فمريم المجدلية في معطفها الأسود السابغ وقد حسرتْ نقابها فبدأ وجهها الحزين في ضوء القنديل آية من الروعة)

القائد: (بصوت خافض) أين مفتاح القفص؟

جلاديوس: ها هو ذا يا سيدي القائد.

المجدلية: هاته لن يفتح لسيدي المعلم غيري.

(تأخذ المفتاح من الجندي وتدنو من باب القفص لتفتحه ولكنها ترتد فجأة حين وقع نظرها على وجه يهوذا وتجمدت في مكانها المفتاح في يدها)

القائد: (يدنو منها) ما خطبك؟ لم تستطيعي أن تفتحيه؟

المجدلية: اتركني يا سيدي اتركني قليلاً معه.

(ينتحي الضابط عنها إلى جهة جلاديوس الواقف أمام الباب الأيسر)

المجدلية: (تنظر إلى يهوذا في شك وحيرة)...؟

يهوذا: (يرتجف أمام نظرات المجدلية) افتحي لي يا مريم!

المجدلية: من تكون؟

يهوذا: ألا تعرفيني،؟ أنا عيسى الناصري.

المجدلية: كلا.. لست السيد المسيح!

يهوذا: (في اضطراب) بل أنا هو.. كيف لم تعرفيني؟

المجدلية: قد عرفتك الساعة. أنت يهوذا الذي خان سيده. الحمد لله الذي جزاك شر جزاء (بصوت خافض كأنها تحدث نفسها) وعصمني من بيع نفسي لهذا الروماني!

يهوذا: (يتوسل باكياً) اغفري لي يا مريم.. أنا يهوذا حقاً وقد ندمت وتبت. أطلقيني وسأكون مخلصاً لسيدنا المعلم.

المجدلية: هيهات يا خائن يا منافق. تريد أن تخرج لتدل عليه مرة ثانية!

يهوذا: (يخرج الصرة من بين ثيابه) خذي هذا الذهب يا مريم وأطلقيني.

المجدلية: بهذا الذهب بعت سيد الناس أفتريد الآن أن تشتري به حياتك؟

يهوذا: إذن فاشهدي غداً أنني لست السيد المسيح.

المجدلية: هيهات.. سأنوح عليك غداً من النائحات والنائحين!

(تلفت إلى القائد) هيا بنا ننصرف!

القائد: أواثقة أنت أنه ليس عيسى الناصري؟

المجدلية: ألم تسمع اعترافه؟

(تعيد المفتاح لجلاديوس وتتوجه نحو الباب الأيمن)

القائد: (لجلاديوس) استمع.. لا جئناك الليلة ولا رأيناك.

جلاديوس: لكنه يا سيدي سيفشى السر.

القائد: دعه يقول ما يشاء فلن يصدق كلامه أحد.

(يخرج خلف المجدلية ويوصد جلاديوس الباب)

يهوذا: أيها الروماني الطيب هل لك في معروف صغير تسديه إلى؟

جلاديوس: ماذا تريد؟

يهوذا: اشهد غداً أنني يهوذا الأسخريوطي ولست عيسى الناصري. قد عرفت أنت الحقيقة بنفسك.

جلاديوس: ويلك منذا يصدقني إن فعلت؟ سيحسبوني مجنوناً.

يهوذا: (يتهاوى في يأس حتى يجلس على الأرض) ما أشقاني وأعظم مصابي! أنا عيسى الناصري في أعين من يريدون أن يصلبوه، وأنا غيره في أعين من يريدون أن ينقذوه! ترى لو نظرت في المرآة أي وجه أرى: وجه يهوذا الأسخريوطي أم وجه عيسى الناصري!

جلاديوس: لا ريب أنك سترى في المرآة وجه عيسى الناصري!

يهوذا: (يستوي واقفاً) أتعرفه يا سيدي؟

جلاديوس: معرفة جيدة. كنت مكلفاً بمراقبته حيناً من الوقت.

يهوذا: وهذا الوجه الذي أحمله يشبه وجهه؟

جلاديوس: هذا وجهه بالضبط!

يوذا: تباً له.. سرق وجهي وأعطاني وجهه! هو الآن يمشي بوجهي مطمئناً بين الناس يحسبونه يهوذا الأسخريوطي، ويهوذا الأسخريوطي هنا في هذا القفص!

(يلطم وجهه بكفيه لطمات متتابعة في حركة عصبية)

تباً لهذا الوجه! لا أريد هذا الوجه!

جلاديوس: ماذا يفيدك هذا إلا أن تؤلم نفسك؟

يهوذا: (يكف عن اللطم) صدقت يا سيدي.. الوجه له والألم لي يا ليت أن الوجه لي والألم له!

(ينتحب باكياً) أين أنت يا إله إسرائيل؟ كيف تركتني لعيسى الناصري يوقع بي هذا العذاب؟

(يظهر إبليس وشيطانه أمام القفص فيراه يهوذا دون جلاديوس)

يهوذا: سبوح قدوس!

إبليس: تجلد يا يهوذا واصبر على ما أصابك.

يهوذا: كيف أتجلد يا إلهي وغداً أموت؟ إني لا أريد أن أموت.. أريد أن أعيش..

إبليس: ستعيش يا يهوذا ستعيش!

يهوذا: ما بقيت أحمل هذا الوجه فلن أعيش. سيصلبونني غداً لا ريب. الكهنة والشيوخ والكتبة مصممون على قتلي. سمعت ذلك من قيافا وحنانيا بأذني هاتين. أنقذني يا إله إسرائيل. ارفع عني هذا الوجه وأعد إلى وجهي. لقد سحرني الناصري فأبطل سحره.

إبليس: (كأنه يخاطب نفسه) إنه يحاربني بخرق النواميس. هذا ظلم صارخ! هذا مناف للعدل!

يهوذا: يا ويلتا أوقد بلغ من قوة عيسى الناصري أن تستجير أنت من ظلمه؟

إبليس: لست من عيسى أستجير بل من إله عيسى.

يهوذا: إلهه هو عدوك إبليس أفهو أقوى منك؟ ألا تقدر أن تضرب على يده وتبطل كيده كما طردته قبلاً من جنتك ورحمتك؟

إبليس: بلى ولكن بيني وبينه عهداً أن أخلي بينه وبين بني آدم يغوي منهم من يستطيع إغواءه دون أن أتعرض لمنعه.

يهوذا: إبليس لا عهد له.

إبليس: لكني أنا لا أنقض عهدي. لا تجزع يا يهوذا. سأتجلى غداً على قيافا وحنانيا وأقنعهما بحقيقة أمرك.

(يختفي هو وشيطاناه)

جلاديوس: (ينظر إلى يهوذا متعباً من كلامه لشخص غير منظور).

صار يكلم نفسه ويهذي. لا ريب أنه جن (يذهب إلى أحد المقاعد فيجلس).

يهوذا: (في فرح) الآن أستطيع أن أطمئن. لن أضيع ومعي إله إسرائيل.

(يجلس على الأرض ويسند رأسه مطمئناً إلى القضبان)

غداً يعرفني قيافا وحنانيا فيطلقان سراحي. مريم المجدلية عرفتني فأحرى أن يعرفني هذان الصديقان. لأبحثن لهما حينئذ عن الناصري ولأهتدين إليه ولن يفلت من أيدينا هذه المرة.

(يغلبه النعاس كما يغلب جلاديوس أيضاً)

(يسود السكون لحظة وتخفت أنوار المسرح رويداً رويدا ثم تضئ الأنوار رويداً رويدا إيذاناً بطلوع الصباح)

(تسمع ضوضاء قادمة من بعيد)

(يقرع الباب الأيمن فيهب جلاديوس فزعاً من نومه)

جلاديوس: يجب أن أوقظ هذين النائمين.

(يخرج من الباب الأيسر مسرعاً ثم يعود ومعه زميلاه وهما يفركان عيونهما ويتوجه جلادويس نحو الباب الأيمن فيفتحه)

(يدخل قيافا وحنانيا ومعهما الشيوخ والكهنة يحملون تاجاً من الشوك)

جلاديوس: ماذا جاء بكم في هذه الساعة المبكرة؟

قيافا: قد طلع الصباح وآن أوان المحاكم.

جلاديوس: هلا صبرتم حتى يحين موعد خروج السيد الحاكم إلى الناس؟

حنانيا: لا نستطيع أن نصبر. يجب أن يخرج الحاكم في الحال نريد أن نأكل فطيرنا.

الجنود الثلاثة: فطيركم

حنانيا: فطير عيد الفصح. لا يسوغ لنا أن نذوقه قبل أن نفرغ من أمر هذا الكافر بالشريعة.

قيافا: والخارج على قيصر.

جلاديوس: وما هذه الضوضاء في الخارج!

حنانيا: هذا شعب إسرائيل قد أقبل ليشهد المحاكمة.

(يتطلع الجنود الثلاثة من شباك الشرفة)

الجنود: وي! هذه جموع كبيرة.

حنانيا: وستنضم إلها جموع أخرى. شعب إسرائيل كله سيخرج اليوم ليحتفل بالخلاص من فتنة هذا النبي الكاذب.

(ينظر الجنود الثلاثة بعضهم إلى بعض كأنهم يتشاورون فيما يجب عمله)

جلاديوس: هلمَّ بنا. علينا أن ننبه الحراس للقيام بواجبهم لحماية القصر من هؤلاء الغوغاء.

الجنديان: (يؤمئان له إلى القفص).....؟

جلاديوس: مفتاح القفص معي.

(يخرج الثلاثة من الباب الأيمن)

قيافا: (يقبل على القفص) مستغرق في النوم كأنه واثق أن لن يمسه سوء!

حنانيا: أيقظوه لنسخر به نتندر عليه!

قيافا: (ينغزه بعصاه) استيقظ يا ملك اليهود!

(يهب يهوذا فزعاً وهو يفرك عينيه)

حنانيا: تنام مطمئناً يا ملك اليهود وأنت على وشك أن تصلب!

يهوذا: حنانيا! قيافا! ألا تعرفاني؟ أنا يهوذا الأسخريوطي!

(يتضاحكون)

قيافا: أهذا دفاعك عن نفسك؟

يهوذا: أنا الذي دللتكم على مكانه.

حنانيا: حقاً.. يهوذا هو الذي دلنا على مكانك!

يهوذا: أنا يهوذا نفسه! قد سرق عيسى وجهي وأعطاني وجهه!

قيافا: هل سمعتم قط أن الوجوه تسرق؟

(يتضاحكون)

يهوذا: وهل سمعتم قط أن العمى يبصرون والموتى إلى الحياة يعودون؟

حنانيا: تريد أن تعدد لنا معجزاتك؟ إن كنت صادقاً فأرنا معجزتك الآن.. أنقذ نفسك من هذا القفص!

يهوذا: أنا يهوذا يا قوم أنا يهوذا!

حنانيا: الآن وقد أيقنت بالصلب تحاول أن تخدعنا عن نفسك؟

قيافا: أين شجاعتك إذ قلبت منضدة الصيارفة في الهيكل؟.

حنانيا: وطردت الماشية وأطرت الحمام؟

قيافا: وسفهت حلومنا داخل المعبد؟

حنانيا: ولعنتنا جميعاً أمام الأشهاد؟

يهوذا: (في يأس) يا إله إسرائيل أين أنت لتشهد لي؟ تجل عليهم يا إلهي كما وعدتني؟

(يتضاحكون ويظهر إبليس وشيطاناه فينقطع ضحكهم وينظرون إليه مبهوتين)

يهوذا: سبوح قدوس!

القوم: سبوح قدوس!

إبليس: ماذا صنعتم يا أبنائي؟ هذا الذي قبضتم عليه ليس عيسى الناصري وإنما هو يهوذا الأسخريوطي قد سحره عيسى فجعله على صورته.

(ينظرون إليه ملياً متعجبين مدهوشين)

قيافا: فأين عيسى الناصري إذن؟

إبليس: ابحثوا عنه تجدوه.

حنانيا: نبحث عنه وهو بين أيدينا؟

الشيطان: ويلكم ألا تصدقون كلام إلهكم إله إسرائيل؟

(ينظر بعضهم إلى بعض ويتهامسون)

حنانيا: (يتشجع) أنت لست إله إسرائيل.. أنت.. إبليس!

قيافا: إبليس!

الآخرون: إبليس! إبليس!

إبليس: (غاضباً) اسكتوا عليكم اللعنة!

(يتراجعون خوفاً)

حنانيا: لا تخافوا.. إن لعنة الشيطان بركة ورحمة!

إبليس: (ينظر إلى أعلى في حنق) هذا ليس من العدل! هذا ظلم صارخ!

يتهامس القوم في جذل وانتصار إذ أيقنوا من كلامه هذا أنه إبليس حقاً)

يهوذا: (يصيح) يا إله إسرائيل أنقذني! لا تتركني لهؤلاء؟

إبليس: لا تبتئس! تكلم أمام بيلاطس حين تمثل أمامه، فإنه سيسمع لك وسيأمر بالتحقيق في أمرك، ولن يصدر عليك حكماً حتى يستوثق من هويتك.

(يختفي إبليس وشيطاناه)

حنانيا: لا تطمع في المحال. لو جئت بإبليس وشياطينه جمعياً ما استطاعوا أن ينقذوك من أيدينا.

يهوذا: (في ضراعة ) أنا يهوذا يا قوم أنا يهوذا!

قيافا: لو كنت نبياً حقاً كما كنت تزعم ما جزعت هذا الجزع.

حنانيا: وما تنصلت من اسمك على هذه الصورة المضحكة؟

قيافا: علام كل هذا الجزع؟ ألست تبشر الناس بملكوت السماء؟ فها نحن أولاء سنرسلك إلى ذلك الملكوت!

(يضحكون)

يهوذا: (يبكي) قلت لكم أنا لست عيسى الناصري.. أنا يهوذا الأسخريوطي.

حنانيا: اسمع يا هذا. لو قلبك إبليس الآن إلى صورة يهوذا الأسخريوطي لما أنجاك ذلك من مصيرك المحتوم.

(يدخل جلاديس وزميلاه من الباب الأيسر)

جلاديوس: الحاكم بيلاطس!

(يدخل بيلاطس فينحني الجميع احتراماً له)

بيلاطس: (يجلس على كرسيه) أهذا عيسى الناصري؟

القوم: نعم يا سيدي الحاكم.

(يبدو يهوذا كمن يحاول أن يقول شيئاً فلا يستطيع)

بيلاطس: إنه فيما أعلم رجل صالح فما ذنبه عندكم؟

حنانيا: إنه نقض شريعتنا يا سيدي الحاكم فهو يستوجب القتل.

بيلاطس: هذا أمر يخصكم فحاكموه أنتم.

قيافا: صقت يا سيدي الحاكم ولكنه أيضاً حرض الناس على الثورة ضد قيصر ونهاهم عن دفع الضريبة زاعماً أنه هو ملك اليهود.

بيلاطس: (يوجه الخطاب إلى يهوذا) أحقاً زعمت أنك ملك اليهود؟

يهوذا: (لا يستطيع الإجابة)...؟

بيلاطس: تكلم ألا تعلم أني أنا الحاكم أَمْلِكُ أن أصلبك وأملك أن أطلق سراحك؟ تكلم!

يهوذا: (يتعقد لسانه فلا يجيب)...؟

بيلاطس: ما الذي عقد لسان هذا الرجل؟

قيافا: سكوته هذا دليل على اعترافه.

بيلاطس: كلا ليس هذا سكوت معترف. إنه أشبه بسكوت العاجز عن الكلام.

قيافا: إنه يا سيدي من أفصح الناس ولكنها تهم ثابتة عليه لا يستطيع إنكارها.

بيلاطس: بالنسبة لي لم يثبت عليه شيء عندي.

قيافا: إن أطلقت سراح هذا الرجل فلست مخلصاً لقيصر إنّ هذا الرجل ثائر على قيصر.

بيلاطس: ماذا تريدون مني أن أصنع به؟

قيافا: هذه جماهير الشعب اليهودي واقفة خارج قصرك.

سلهم إن شئت ماذا يريدون أن تصنع به.

بيلاطس: (يطل من الشرفة) يا معشر اليهود ماذا تقولون في ملككم هذا الذي يدعي المسيح؟

أصوات الشعب: يجب أن يصلب! مرهم يصلبوه! ليصلب! مرهم يصلبوه! يجب أن يصلب!

بيلاطس: ويلكم كيف أصلب ملككم؟

قيافا: (بأعلى صوته) لا ملك لنا غير قيصر!

الشعب: يردد) لا ملك لنا غير قيصر! لا ملك لنا غير قيصر!

بيلاطس: (لرجاله) أحضروا إلى طشت ماء.

(يخرج جلاديوس منطلقاً)

(للجماهير) يا معشر اليهود تعلمون أن من عادتنا أن نطلق لكم في العبيد أسيراً فمن تريدون أن نطلق لكم في هذا العيد؟

الشعب: باراباس! باراباس! أطلق لنا باراباس!

بيلاطس: باراباس قاطع الطريق أم عيسى الذي يدعي المسيح؟

الشعب: باراباس.. أطلق لنا بارباس! نريد باراباس!

بيلاطس: سأطلق لكم عيسى الذي يدعي المسيح!

الشعب: كلا كلا. أصلب عيسى! مرهم يصلبوه! يجب أن يصلب!

(يعود جلاديوس بطشت ماء فيضعه أمام بيلاطس)

بيلاطس: (يغمس يده في الطشت ثم يرفعها أمام الجماهير) يا معشر اليهود انظروا هأنذا قد غسلت يدي.. أشهدكم أني بريء من دم هذا الرجل الصالح!

الشعب: ألق دمه علينا وعلى ذرارينا! علينا دمه وعلى ذرارينا!

بيلاطس: (ينتحي عن الشرفة) فليكن ما تريدون. (لرجاله) أطلقوا لهم سراح باراباس وسلموا هذا إليهم ليصلبوه (يشير إلى يهوذا في القفص) لا تنسوا أن تكتبوا تهمته على صليبه.. اكتبوها باللغات الثلاث.

جلاديوس: ماذا يكتب على صليبه يا مولاي؟

بيلاطس: اكتبوا: هذا عيسى الناصري ملك اليهود!

قيافا: كلا ياسيدي الحاكم. ليس هو ملك اليهود وإنما زعم أنه ملك اليهود.

بيلاطس: (في حدة وغضب) كفى اعتراضاً! ما أمرت أن يكتب فليكتب كما أمرت! (يخرج من الباب الأيسر)

(يفتح الجنود القفص فيسوقون يهوذا، والشيوخ والكتبة يشمتون به ويسخرون)

قيافا: انتظروا حتى نلبسه الحلة الملكية ونضع على رأسه التاج!

(يلقي عليه حلة أرجوانية ويضع على رأسه تاجاً من الشوك)

القوم: (ساخرين) سلام يا ملك اليهود! تعيش يا ملك اليهود!

(يظهر إبليس وشيطاناه وقد بدا عليهم الأسى الشديد فيراهم يهوذا دون الآخرين)

يهوذا: (يلتفت نحو إبليس وهم يسوقونه) إلهي إلهي لم تركتني؟

حنانيا: (يدفعه على ظهره بحقد) أتدعو إلهك إبليس بعد؟ دعه ينقذك إن استطاع!

(يخرج الجميع من الباب الأيمن)

الشيطان الثاني: ويحه هلا تكلم أمام بيلاطس؟

الشيطان الأول: انعقد لسانه فلم يستطع أن يتكلم.

الثاني: هذه هزيمة لنا منكرة لم نصب بمثلها منذ عهد موسى!

إبليس: (في حدة وضيق) كلا لم نهزم!

الثاني: هل في وسعنا أن ننقذه بعد؟

إبليس: ليس علينا أن ننقذه ولا نريد أن ننقذه.

الأول: فيم يا سيدي؟ لقد كان يهوذا هذا مخلصاً لك.

إبليس: قد أدى رسالته وكفى.

الثاني: كنا نريد أن يصلب عيسى الناصري لا يهوذا الأسخريوطي.

إبليس: ويلك أليسوا جميعاً يظنون أنه عيسى الناصري؟ لقد صلبوا اسمه فكأنهم صلبوه. إنه لن يقدر أن يظهر من جديد بعد صدور الحكم عليه!

الثاني: لكن لو صلبوه لكان أفضل!

إبليس: أيها الجاهل الغبي إن شعبي المختار قد أجمعوا على وجوب صلبه وهذا يكفيني انتصاراً عليه وعلى ذاك الذي أرسله؟

(يسمع صوت آت من قبل السماء)

الصوت: هيهات يا إبليس!

إبليس: (مجفلاً) صه! صوت من هذا؟

الصوت: أنا عيسى رسول الله وكلمته، قد رفعني الله إليه، ولقي عبدك يهوذا جزاءه. وستلقى أنت جزاءك يوم الدين!

إبليس: دعني من هذا. بحسبي أن بني إسرائيل قد كفروا برسالتك وصلبوك.

الصوت: صلبوني أم صلبوا يهوذا:

إبليس: إن لم يصلبوك فقد صلبوا رسالتك!

الصوت: إن أعميتهم عن رسالتي فستهتدي بنورها أقوام آخرون من غير بني إسرائيل.

إبليس: فلأفتننهم ببني إسرائيل. لأفسدنهم بشعبي المختار الذي سأبني به ملكوتي على الأرض.

الصوت: ملكوت الله أعلى وأجل!

إبليس: سأطوي ببني إسرائيل الملكوت الذي تذكر وأبسط بهم ملكوتي!

الصوت: هيهات.. لن تستطيع.

إبليس: قد استطعت. لقد هزمتك كما هزمت موسى والأنبياء من قبلك، وأنت آخر نبي ولن يظهر نبي بعدك.

الصوت: أين أنت من النبي المختار الذي سيظهر بعدي؟

إبليس: كلا لن يظهر نبي بعدك أبداً.

الصوت: ويحك يا إبليس قد قلت مثل هذا القول ليحيى قبل ظهوري، وزعمت أنك قد أفسدت أصلاب بني إسرائيل فلن يظهر فيها نبي فماذا كان؟ كانت قدرة الله عز وجل فوق مكرك إذ قذفني إلى بطن أمي دون أن يحملني صلب من أصلابهم.

إبليس: ولكن المعجزة لن تتكرر.

الصوت: تواضع قليلاً يا إبليس فإن الذي صنع المعجزة سبحانه ليملك بالأحرى أن يعيدها.

إبليس: كلا لقد جعلت ذلك محالاً اليوم!

الصوت: على رب العزة يا إبليس؟

إبليس: نعم.

الصوت: ويحك من شقي مسكين! إني لأرثي لكبريائك وعنادك.

إبليس: (غاضباً) كلا لا أريد رثاءك فإنما الرثاء للمستضعف ولست بمستضعف!

الصوت: أحق الضعفاء بالرثاء من يزعم أنه قوي ويجهل أنه ضعيف!

إبليس لو تعلم ماذا صنعت في بني إسرائيل لما قلت لي هذا القول: لقد أفسدت أرحام نسائهم اليوم كما أفسدت أصلاب رجالهم من قبل!

الصوت: ويحك يا إبليس.. أليس الله بقادر أن يبعث رسوله المختار من غير بني إسرائيل؟

إبليس: كلا لن يظهر في الأميين رسول.. إنهم جميعاً وثنيون

الصوت: فاعلم إذن أن ذلك الرسول العظيم الذي يأتي بعدي سيظهر في الأميين!

إبليس: (يرتاع قليلاً ثم يتجلد) لا بأس. ليأت ذلك النبي المختار فإنه سوف يمضي كما مضيت أنت وكما مضى مَنْ قبلك. وأبقى أنا ويخلو العالم لوجهي أبسط عليه ملكوتي كما أشاء، وأجعل شعبي المختار على كرسي سلطانه!

الصوت: ذاك النبي المختار لن يمضي كما مضى من قبله.

إبليس: أخالد هو في الخالدين أم فانٍ في الفانين؟

الصوت: فانٍ في الفانين ولكن كتابه المبين سيبقى إلى يوم الدين.

إبليس: وماذا أخشى من كتاب؟

الصوت: ما بقي ذلك الكتاب فلن يكون لك ملكوت في الأرض!

إبليس: لأطمسنه ولأقضين عليه!

(يشع نور عظيم من السماء فيتوهج المسرح)

الصوت: ويحك يا مغرور هل تستطيع أن تطمس هذا النور؟

(يتململ إبليس وشيطاناه من شهود النور فيحجبون عيونهم بأيديهم ويتخبطون في المسرح)

(يُسمع حفيف كحفيف الأجنحة في السماء فيراع الشياطين الثلاثة ويخرجون هاربين. ويخلو المسرح إلا من النور الذي يأخذ في الازدياد، وإلا من أصوات سماوية تردد):

المجد لله في الأعالي

وعلى الأرض السلام

وبالناس المسرة!

(ستار الختام)