في سبيل إسرائيل

في سبيل إسرائيل *

بقلم الأديب الكبير: علي أحمد باكثير

المنظر- قاعة المحكمة بلندن

يرفع الستار عن الجلسة ماضيةً

الرئيس: ليتقدم الآن شاهد الإثبات.

الكاتب (ينادي): المستر وليم تشيسترتون!

يتقدم وليم تشيسترتون

الكاتب: أتقسم بأن تقول الحق والحق كله ولا شيء غير الحق؟

الشاهد: نعم أقسم بذلك

المدعي: يا مستر تشيسترتون هل سمعت المتهم يهتف بسقوط بريطانيا؟

الشاهد: نعم

المدعي: أين كان ذلك؟

الشاهد: في حانة الديك الذهبي

المدعي: هل كنت تعرف المتهم قبل ذلك.

الشاهد: كنت أراه يغشى الحانة كثيراً ولكني لم أتحدث معه قبل ذلك اليومز

المدعي: وما الذي جرك إلى الحديث معه؟

الشاهد: كان جالساً إلى المنضدة المجاورة لمنضدتي وكانت في يده صحيفة مسائية يقرأ فيها ويتأفف ويكرر ذلك كأنه يريد أن يلفت نظري فسألته ما خطبك؟ فقال: ألم تر كيف أن بريطانيا تنوي سحب جنودها من قنال السويس، قلت: لعل لها مصلحة في الاتفاق مع مصر، فصاح قائلا: وإسرائيل ماذا يكون مصيرها؟ قلت: مالنا ولإسرائيل؟ علينا أن نهتم بمصلحتنا وحدها قبل كل شيء. وما اتممت كلمتي هذه حتى هب في وجهي وثار وزمجر وجعل يسب بريطانيا ويلعنها فلما قلت له أن هذا لا يليق هتف بسقوط بريطانيا ثلاث مرات.

المدعي: هل عندك ما تقوله غير ما ذكرت؟

الشاهد: نعم.. اتصل بي أمس شخص مجهول ورجاني ألا أشهد على المتهم وهددني بالقتل إذا أنا فعلت؟

المدعي: هل عرفت ذلك الشخص؟

الشاهد: لا.

المدعي: هل عندك غير هذا؟

الشاهد: لا.

الرئيبس: أحضروا المتهم

يؤتى بالمتهم من قفص الاتهام

الكاتب: أتحلف بالله أن تقول الحق والحق كله ولا شيء غير الحق؟

المتهم: ليس الآن

الرئيس: ماذا تقول؟

المتهم: حتى يحضر الذين سيدافعون عني؟

الكاتب: إن محامي الدفاع موجود

المتهم: اللوردات الأربعة لم يحضروا بعد

الرئيس: من ذا تقصد؟

المتهم: اللورد ايمري واللورد كيلرن واللورد هلشام ثم فوق هؤلاء اللورد ونستون تشرشل؟

الرئيس: وما شأن هؤلاء بالقضية؟

المتهم: إنهم تعهدوا بحضور الجلسة للدفاع عني؟

الرئيس: أين محامي الدفاع؟

المحامي (ينهض): لبيك يا سيدي الرئيس.

الرئيس: هل تعلم شيئاً عما يقول موكلك.

المحامي: نعم قد تعهد هؤلاء الأربعة بالحضور.

الكاتب: ها هم أولاء قد حضروا.

يدخل اللوردات الأربعة فيأخذون مجالسهم في القاعة.

المتهم: الآن يا سيدي الرئيس استجوبني كما تشاء.

الكاتب: أتحلف بأن تقول الحق.. الحق كله ولا شيء غير الحق؟

المتهم: نعم أحلف بذلك.

الرئيس أمذنب أنت أم بريء؟

المتهم: أنا بريء؟

المدعي: ألم تهتف بسقوط بريطانيا في ذلك اليوم؟

المتهم: بلى، هتفت بذلك ولكن عن حسن نية.

المدعي: لا شأن لنا بنيتك. هل هتفت بسقوط بريطانيا أم لا..؟

المتهم نعم هتفت.

المدعي: حسبنا هذا منه. يا حضرات المستشارين لقد اعترف هذا المتهم بأنه هتف بسقوط بلاده وما اكتفى بذلك حتى اعتبر نفسه حسن النية في ما أجرم، واني أطالبكم بحق هذا الوطن ألا تأخذكم بهذا المتهم رحمة ولا شفقة وأن توقعوا عليه أقصى العقوبات ليكون عبرة لغيره من الذين ينتهكون حرمة هذه البلاد.

المحامي (ينهض): يا حضرات المستشارين إن بريطانيا العظمى لم تسقط إذ هتف موكلي بسقوطها، وكيف تسقط وعلى رأس حكومتها هذا البطل العظيم ونستون تشرتشل؟! تصفيق..

تشرتشل (ينهض محيياً): شكراً لكم على هذه التحية الكريمة وثقوا بأن بريطانيا العظمى لن تسقط أبداً

- تصفيق -

الرئيس: السكوت السكوت.!

المحامي: قد أعلن لكم موكلي أنه قال ذلك عن حسن نية أي أنه لا يعتبر ذلك جريمة في حق وطنه، فعلينا أولاً أن نسمع وجهة نظره فهل تأذن لي يا سيدي الرئيس باستجوابه؟

الرئيس: افعل.

المحامي: يا مستر جاك نيومان قل الحق ولا تخف فإن الحق وحده هو الذي ينجيك من العقوبة، هل كنت تتمنى سقوط بريطانيا حقاً حين هتفت بسقوطها؟

المتهم: نعم.. ينبغي أن تسقط بريطانيا إذا أقدمت على سحب جنودها من قنال السويس.

المحامي: أهذا رأيك؟

المتهم: نعم

المحامي: أيد رأيك ببرهان.

المتهم: إن من العار أن تفعل بريطانيا ذلك، فإذا لم تبال بهذا العار فخير لها أن تسقط لأن الموت على الشرف أفضل من حياة العار.

المحامي: ومن أين لك أن انسحاب جنودنا من السويس يعتبر عاراً؟

المتهم: هذا ليس رأيي أنا وحدي بل سبقني إلى ذلك اللورد كليرن إذ صرح بذلك في المؤتمر الذي عقده حزب المحافظون في مارجيت.

كيلرن (ينهض): أجل هذا حق وقد أمن على قولي كثير من زملائي اللوردات.

ايمري: أجل هذا حق!

هلشام: نعم هذا حق!

الرئيس: ولكن اللورد كيلرن لم يهتف بسقوط بريطانيا مثلك؟

المتهم: قلت لكم إني هتفت بذلك عن حسن نية.

المدعي: لا يمكن أن يتفق حسن النية مع الهتاف بسقوط الوطن.

المحامي: لكن لم يتضح المعنى الذي قصده موكلي هل يسمح لي الرئيس باستجواب الشاهد؟

الرئيس: تفضل؟

الكاتب: المستر وليم تشيسترتون!

يتقدم الشاهد

المحامي: هل تستطيع يا مستر تشيسترتون أن تذكر لنا نص الهتاف الذي هتف به المستر جاك نيومان؟

الشاهد: نعم. قال: لتسقط بريطانيا الخائنة!

المحامي: ألم يزد على ذلك شيء؟

الشاهد: لا أدري ماذا تقصد.

المحامي: ألم يهتف بحياة دولة أخرى؟

الشاهد: بلى.. هتف أيضاُ بحياة إسرائيل.

المحامي (للمتهم) هل وقع منك هذا يا مستر نيومان؟

المتهم: نعم.

المحامي: يا حضرات المستشارين إن موكلي لم يهتف بسقوط بريطانيا بوجه مطلق بل قيد ذلك بصفقة الخيانة فهو إنما هتف بسقوط الخيانة.

المدعي: ذلك أبلغ في الجريمة فهو لم يكتف بالهتاف بسقوط بلاده حتى أضاف إليها صفقة الخيانة.

المحامي (للمتهم): ماذا قصدت إذ وصفت بريطانيا بالخيانة؟

المتهم: إذا سحبت بريطانيا جنودها من القنال فقد خانت.

المحامي: خانت من؟

المتهم: خانت إسرائيل

المحامي: كيف؟ هل لك أن تشرح هذه النقطة للمحكمة؟

المتهم: كل من عنده إلمام بحالة الشرق الأوسط لا يشك مطلقاً أن جلاء جنودنا من قنال السويس يعني تعريض دولة إسرائيل للزوال.

اللوردات: هذا حق؟ هذا حق؟

المحامي: لعلكم يا حضرات المستشارين قد تبينتم الأن أن موكلي إنما هتف بسقوط بريطانيا فيما لو خانت أمانتها، وهي لم تخن أمانتها بعد، فسقطت كل دلالة لهذا الهتاف.

المدعي: هذا دفاع مضلل. لقد هتف المتهم بسقوط بلاده ووصفها بالخيانة وفي نفس الوقت هتف بحياة دولة أجنبية هي إسرائيل فكيف يزعم الدفاع سقوط كل دلالة لهذا الهتاف؟ الحق يا حضرات المسشارين أن المتهم قد خان بلاده إذ آثر أن يكون ولاؤه لإسرائيل.

المحامي: إن موكلي من أصل يهودي وهو بدين الصهيونية كسائر البريطانيين الذين من هذا الأصل. والمسألة الآن هي هل تعتبر الصهيونية جريمة أم لا؟

المدعي: لا شك أن إيثار المواطن دولة أخرى بولائه يعد جريمة في حق وطنه.

المحامي: سؤالي واضح محدد: هل تعتبر الصهيونية جريمة أم لا؟ إذا اعتبرتموها جريمة فسيكون ونستون تشرشل أكبر مجرم لأنه يجاهر دائماً بأنه صهيوني.

تشرشل: أجل أنا صهيوني وسأبقى صهيونياً حتى الممات ولي الشرف بذلك.

اللوردات: نحن أيضاً صهيونيون ولنا الشرف بذلك!

المدعي: إننا نطالب بعقاب المتهم على هتافه بسقوط بريطانيا لا على ولائه لإسرائيل.

المحامي: قد عرفتم أن موكلي صهيوني صميم فهو يرى أن لا يكون صادق الولاء لإسرائيل ما لم يهتف بسقوط أي دولة تخون إسرائيل ولو كانت تلك الدولة بريطانيا نفسها. فإن كنتم يا حضرات المستشارين تعتبرون هذه كبيرة فطالبوا بإصدار ذلك القانون الذي أشار إليه.

الرئيس: قانون اعتبار الصهيونية جريمة؟

المحامي: نعم.

تشرشل (صائحاً): كلا لن يصدر مثل هذا القانون السخيف أبداً ما بقي في بريطانيا رجال يعقلون؟

المتهم يهتف: تحيا بريطانيا الوفية

المحامي: أرأيتم كيف هتف موكلي بحياة بريطانيا الوفية؟ إنه يتمنى لبريطانيا أن تكون مثلاً عالياً في الوفاء ويحزنه أشد الحزن أن توصم بالخيانة فهل تريدون يا حضرات المستشارين فوق هذا وطنية؟!

المدعي: هذا تضليل في تضليل إن مواطنا بريطانيا يهتف بسقوط بلاده وبحياة دولة أخرى لا يمكن أن يعتبر وطنياً.

المحامي للمتهم: هل لك يا مستر نيومان أن تزيد هذه النقطة إيضاحاً ليقتنع بوجهة نظرك من لم يقتنع بعد!

المتهم: نعم إني لو هتفت بسقوط بريطانيا فقط ولم أهتف بحياة إسرائيل لكنت خائناً أستحق الإعدام شنقاً.

المحامي: كيف؟ وضح

المتهم: إن هتافي بحياة إسرائيل لأكبر برهان على إخلاصي لبريطانيا لاعتقادي أن حياة بريطانيا وحياة إسرائيل متلازمتان.

ايمري (ينهض): أجل يا حضرات المستشارين، هذه حكمة ذهبية نطق بها المتهم السيء الحظ وفي وسعي أن أتولى شرحها إذا أذنتم.

الرئيس: تفضل يا لورد ايمري

ايمري: لو سقطت إسرائيل فيكف يتسنى لنا أن نتملق الولايات المتحدة لتوالي لنا مساعداتها الاقتصادية؟ ولو سقطت إسرائيل فبأي دولة في الشرق الأوسط نستعين وعلى أي دولة نعتمد؟ أعلى شرق الأردن وقد بدأت تتململ من سيطرتنا وتعرض على الجامعة العربية أن تعينها لتستغني عن المبالغ الذي نمنحه لها كل عام؟ أنعتمد على العراق والعراقيون أشد شعوب الشرق الأوسط كراهية لنا وبغضاً؟ أنعتمد على مصر وهي التي تتزعم رفع راية العصيان في وجوهنا لا في العالم العربي وحده بل في جميع أرجاء العالم؟ أم على إيران وقد ذقنا الويل والثبور على يد مصدق ولا نأمن أبداً أن يظهر فيها مصدق أخر؟ نعم قد يكون لنا أن نعتمد على تركيا في الشمال ولكنها وحدها لا تكفي إذ يجب أن نعتمد على دولة أخرى في الجنوب فمن تلك الدولة غير إسرائيل؟!

تشرشل يهتف: برافو! لورد ايمري

اللوردان يهتفان: برافو! برافو!

ايمري: يا حضرات المستشارين لو أن هذا المتهم هتف بحياة بريطانيا وسقوط إسرائيل لكان في رأيي يستحق عقوبة الإعدام- يجلس.

اللوردات: هذا حق! هذا حق!

المتهم – في لهجة التشفي- : إذن فأنا أطالب المحكمة الموقرة بأن توقع عقوبة الإعدام شنقاً ثم حرقاً على هذا الشاهد الخائن وليم تشيسترتون!

الرئيس: ماذا تقول؟

المتهم: إن هذا النازي اللاسامي قد هتف ذلك اليوم بسقوط إسرائيل!

الرئيس: أين المستر تشيسترتون؟

الشاهد: نعم سيدي الرئيس

الرئيس: ما تقول في هذه التهمة؟

المتهم: لا تحاول الإنكار. في إمكاني أن آتي بجميع من كانوا معنا في الحانة ذلك اليوم ليشدهوا عليك.

الشاهد: كلا لا داعي إلى شهود أجل سيدي الرئيس قد هتفت بسقوط إسرائيل وسأظل أهتف بسقوطها حتى تزول!

المتهم: لا ينبغي أن تنسوا يا حضرات المستشارين أن هذا ينتمي إلى تلك الأسرة الملعونة أسرة تشستريون التي اشتهرت بالنزعة اللاسامية؟

الشاهد: ما أنت وذاك يا غليظ الرقبة؟ إذا أراد الله الخير لهذه البلاد فسيأتي يوم لا يمشي على ظهرها دخيل من جنسك!

تشرشل عجباً: ظننت أن هتلر قد مات فإذا هو حي في قلب لندن!

الشاهد: اطمئن يا صنيعة صهيون فإن هتلر قد مات ولكن المعنى الذي حاربتموه من أجله سيبقى حياً لا يموت يجتث جذور اللعنة من كل بقعة من بقاع الأرض!

الرئيس: اسكت ويلك! هل تختار محامياً للدفاع عنك أم أنك تدافع عن نفسك؟

الشاهد: لن أدافع عن نفسي ولن أوكل أحداً للدفاع عني.

الرئيس: لماذا؟

الشاهد: ما دمتم يا حضرات المستشارين قد وافقتم على أن الهتاف بسقوط إسرائيل جريمة يعاقب مرتكبها فافعلوا ما بدا لكم فلن تسمعوا مني ولا من غيري أي دفاع!

الرئيس: أمذنب أنت أم بريء؟

الشاهد: إن كان هذا عندكم ذنباً فأنا مذنب؟

الرئيس: فكر جيداً في العقوبة؟

الشاهد: الإعدام؟

الرئيس: ربما.

الشاهد: أعلنوه فلست أبالي.

الرئيس: تدبر فيما تقول.

الشاهد: قد تدبرت.

الرئيس: دع عنك هذا العناد خيراً لك.

الشاهد: يا عبيد اليهود تخوفونني من الشنق؟ ويلكم إن الشنق لا فضل عندي من الحياة في بلد يحكمه الخونة من برادع إسرائيل!

أصوات – اسكت! اسكت! اسكتوا هذا الخائن!

الشاهد (يزمجر صائحاً): بل أنتم الخونة وعلى رأسكم الخائن الأكبر.

الرئيس: خذوه!

أصوات – يجب شنق هذا الخائن!

الشاهد (يحيط به جنود الشرطة ليسوقوه): اشنقوني يا عبيد اليهود قلن تشنقوني وحدي لقد شنقتم قبلي خمسة وأربعين مليون بريطاني.. شنقتم الشعب البريطاني كله في سبيل إسرائيل!

(ضجيج مختلط وهتافات مختلفة)

"ستار"

          

*مجلة الدعوة في 11 صفر 1373