رؤيا برنادوت

أحلام مزعجة

رؤيا برنادوت *

بقلم الأديب الكبير: علي أحمد باكثير

-1-

فندق شبرد بالقاهرة حيث ينزل الكولت برنادوت في حجرة تتصل بها حجرة أخرى ينزل بها معاونوه – يرى الكونت برنادوت جالساً على فراشه وهو بملابس النوم.

 يقرع الباب الداخلي الفاصل بين الحجرتين قرعاً خفيفاً. يدخل كبير معاونيه.

المعاون: هل من حاجة يا سيدي الكونت؟

برنادوت: شكراً.. لا شيء. عد إلى فراشك فاسترح.

المعاون: لكن..

برنادوت: لعلي أزعجتكم بإنارة المصباح ثانية؟

المعاون: كلا ولكن لعل سيدي الكونت يريد أن يدون شيئاً فإني على استعداد.

برنادوت: لا.. لا شيء.

المعاون: أرق؟

برنادوت: نعم.

المعاون: مما أتعبك الصحفيون لا شك!

برنادوت: إن الصحفيين لا يتعبون إلا من يحاول سُدَىً إخفاء الأخبار السيئة عنهم أو تلطيفاً لهم.

المعاون: لقد كنت لبقاً جداً يا سيدي معهم

برنادوت: ولكن أي ثمن بذلت من أعصابي! لقد كان كل سؤال يوجهونه إليَّ كخنجر يغمد في صدري!

المعاون: أجل.. ما أثقل هؤلاء الصحفيين!

برنادوت: لا لوم عليك، فذاك واجبهم يقومون به ولكن أواه من هؤلاء اليهود! هؤلاء الذين أنقذتهم من ضربات العرب الماحقة يوقفونني الآن هذا الموقف الحرج.

المعاون: يبدو أننا أسرفنا كثيراً في التفاؤل.

برنادوت: ما حملني على التفاؤل الشديد إلا أن العرب الذين لا يغدرون كانوا هم الغالبين في الموقف وأن اليهود الذين ينتظر منهم الغدر كانوا هم المغلوبين.

المعاون: ومع ذلك فقد غدر اليهود.

برنادوت: من وراء كل حسبان.

المعاون: إلا المقامات العربية فقد كانت تتوقع خرق الهدنة منهم.

برنادوت: أجل. سمعت ذلك من كثيراً من زعماء العرب ولكن أحداً منهم لم يخطر بباله قط أن اليهود ينقصُونها في أول يوم. بل بعد الأمر بوقف إطلاق النار بساعة واحدة..

المعاون: حقاً إن هذا لمؤلم بيد أنك استطعت يا سيدي أن تقنع الصحفيين بأن من الطبيعي المتوقع حدوث مثل هذا في الساعات الأولى من وقف إطلاق النار.

برنادوت: صرحت بذلك مكرهاً وإن ضميري ليؤنبني على هذا التصريح.

المعاون: خفض عليك يا سيدي واستأنف نومك فعسى أن تسمع غداً أنباء طيبة.

برنادوت: يتنهد، حسناً.. سأحاول النوم مرة أخرى.

المعاون أتمنى لك نوماً طيباً. يخرج.

برنادوت: يستلقي على فراشه ويضغط زر المصباح فينطفئ النور.

يفعل الله ما يشاء!

-2-

يرى الكونت برنادوت في منامه كأنه كان في جزيرة رودس وكأن رجلاً يشبهه شبهاً تاماً قد نزل من طائرته البيضاء ودخل عليه في قصره دون استئذان:

برنادوت: هل لي أن أسألك يا سيدي من تكون وما مهمتك؟

الرجل: ألا تعرفني؟ لقد طننت أن العالم كله عرفني وعرف مهمتي..

- إني الكونت برنادوت.

برنادوت: مدهوشاً ماذا تقول:

الرجل: أنا الكونت فولك برنادوت.

برنادوت: ويلك يا هذا.. أتخذت من شبهك بي ذريعة للنصب والاحتيال باسمي؟

الرجل: هذا اتهام قاس لو شئت لوجهته أنا إليك... يضحك.

برنادوت: إن للدعاية حداً تنتهي إليه، وما أخال أن هذا من مجالها!

الرجل: دعوتني محتالاً ثم تحسبني الآن هازلاً! ألا تعلم الهزل لا يليق برجل مثلي مكلف بمهمة دولية كلها جد؟

برنادوت:إن كنت الكونت برنادوت فمن أنا؟

الرجل: أنا الكونت برنادوت كما يجب أن يكون، وأنت الكونت برنادوت كما تريده ليك سكسيس وذوو السلطان فيها من مأجوري الصهيونيين!

برنادوت: ويلك أتتهمني؟

الرجل: نعم.

برنادوت: بمثل ما تتهم به؟

الرجل: يا ليت! إذن لهان الأمر ولما عدوت أن تكون كتريجفيلي أو ترومان أو جروميكو أو غيرهم من كلاب صهيون التي ما تنفك ترسل هريرها على العرب.

برنادوت: هل تعني أني شر من هؤلاء؟

الرجل: ليس شراً من هؤلاء إلا مكلبوهم الصهيونيون ولكن ضررك أشد على العرب من ضررهم.

برنادوت: لكن العرب قد ارتضوني ووثقوا بنزاهتي؟

الرجل: أجل إنهم يعتبرونك الضمير الحي الوحيد في الغرب ومن ثم جنايتك عليهم وعلى الحق، أنهم انخدعوا بطيبتك.

برنادوت: أترميني بالنفاق وتعد طيبتي رياء مني؟

الرجل: حاشا لله لأنت امرؤ طيب حقاً من فرعك إلى قدمك وهنا يكمن الخطر!

برنادوت: لا أفهم ما تقصد؟

الرجل: لقد اختارك مأجورو الصهيونية في ليك ساكسيس ليستغلوا طيبتك، فهي لهم نقطة الضعف فيك، وليقطعوا بها على العرب سبيل الرفض لأنها ميزتك المشهورة.

برنادوت: إن كان لي ميزة يعرفني الناس بها فهي ميزة الوسيط الناجح الموفق.. وكل ذلك بفضل نزاهتي وإخلاصي.

الرجل: نعم الوسيط الدولي أنت حين يتوخى مرسلوك الحق والعدل.

برنادوت: فسأتوخى أنا الحق والعدل.

الرجل: وأنت مبعوثهم؟ هيهات!

برنادوت: كلا إني سأحتفظ بحريتي كاملة!

الرجل: قد فقدت حريتك حين قبلت أن تكون وسيطاً لهؤلاء المغرضين لتصدر حكمك بما يريدون.

برنادوت: لست قاضياً وإنما أنا شفيع!

الرجل: هل تدري لمن تشفع وإلى من تشفع ولماذا تشفع؟

برنادوت: أشفع بين العرب واليهود لحقن الدماء في الأرض المقدسة.

الرجل: هذا ما أوهموك إياه وقد جاز عليك لطيبتك. إنك إنما تشفع لظالمين إلى مظلومين ليتمكن الظالمون من المضي في بغيهم بعد أن أوشك المظلومون أن يجهزوا عليهم ويطهروا الأرض المقدسة من رجسهم. هذه حقيقة المهمة التي تقوم بها!

برنادوت: كلا لا أعتقد أن مهمتي هي كما وصفت.

الرجل: فقل لي إذن لم لم ينتدبوك لهذه الوساطة أو الشفاعة حين كان اليهود الجبناء الأنذال يسطون على عرب فلسطين العزل ويذبحون نساءهم وأطفالهم؟

برنادوت: لا شأن لي بما ذكرت ولكن حسبي أنني نجحت في عقد هذه الهدنة بين الفريقين وهي لا شك خير لهما على كل حال.

الرجل: خير لليهود فقط لأنها أنقذتهم من القضاء العاجل الذي كان آخذاً بأكظامهم ليتنفسوا الصعداء قليلاً ريثما يتمكن مأجوروهم في ليك سكسس من إلقاء عوائق أخرى في طريق العرب لحرمانهم من ثمرة انتصارهم والحيلولة بينهم وبين الظفر بحقهم الكامل.

برنادوت: لو كانت الهدنة خيراً محضاً لليهود لما دأبوا على نقضها من أول يوم ولو لم يكن فيها خير للعرب لما التزموا شروطها التزاماً دقيقاً.

الرجل: إني أراهن على أنك تلقنت هذا المنطق اليهودي من الأدون شرتوك حين قابلته في تل أبيب.

برنادوت: كلا بل جاءتني برقية بهذا المعنى من ليك ساكسس.

الرجل: مرحى! من الادون تريجفيلي في عاصمة إسرائيل الثانية!

برنادوت: قل ما تشاء ولكن يجب أن تعلم أنه لو خالجني أي شك في شرف المهنة التي انتدبتني الهيئة للقيام بها لما قبلت!

الرجل: ولولا أن الهيئة كانت مطمئنة إلى أنك لن تدرك مرماها الخبيث لما انتدبتك. إنها التمست رجلاً يمكنها أن تستخدم سمعته الطيبة لتحقيق مآربها الدنيئة الملتوية فما وجدت خيراً منك.

برنادوت: (يصيح منفعلاً) حسبك! لقد نجحت في عقد الهدنة وكفى، ولئن أخل أحد الفريقين ببعض بنودها في جبهات معدودة فقد التزمها الفريق الآخر التزاماً تاماً.

الرجل: فسينقضها هذا الفريق الأخر عما قريب!

برنادوت: كلا.. لن يجرؤوا على ذلك.

الرجل: لم لا.

برنادوت: لئلا يغضبوا مجلس الأمن فيطبق عليهم العقوبات بمقتضى الميثاق.

الرجل: وكيف جرؤ اليهود على النقض؟

 برنادوت: .. .. ..؟

الرجل: أليس ذلك لثقة اليهود من قدرة أموالهم وأعراض نسائهم على نهنهة أولئك القضاة في ليك ساكسس عن التفكير في اتخاذ أي إجراء كهذا ضدهم؟ مالك صامتاً؟ ألا تجيب؟

برنادوت: أنا لست مسؤولاً عن ذلك.

الرجل: لكنك مسؤول عن رضاك بالسعي لتحقيق أغراض هذه الطغمة من المجرمين الذين استعبدتهم الصهيونية الأثيمة بأموال رجالها وأعراض نسائها.

برنادوت: يا ويلتا.. ماذا تريدني الآن أن أصنع؟

الرجل: أعلن على رؤوس الأشهاد تبعة اليهود في نقض الهدنة وآذن للعرب بأنهم أصبحوا في حل من التزاماتهم.

برنادوت: فسيعني هذا أنني قد أخفقت..

الرجل: أخفقت في مهمتك كما يريدها مجرمو ليك ساكسس ولكنه سيعني أنك نجحت في مهمتك كما يقتضيها شرفك وشرف الاسم الذي تعتز به!

-3-

في الحجرة الثانية التي ينزلها المعاونون

(يفتح أحدهم الباب فيدخل رسول من جامعة الدول العربية)

الرسول: أين سعادة الكونت؟

المعاون: إنه نائم بعد.

الرسول هل لكم أن توقظوه فإن معي رسالة مستعجلة.

المعاون: معذرة يا سيدي.. لا نستطيع إيقاظه قبل الساعة السادسة.

الرسول: إني كلفت بتسليمها إلى الكونت فوراً.

المعاون: لكن الكونت ما يزال نائماً في حجرته.

(يفتح الباب الداخلي فجأة ويخرج الكونت برنادوت)

برنادوت: أين هو؟ هل رأيتموه؟

المعاون: من هو يا سيدي الكونت؟

برنادوت: الكونت برنادوت!

المعاون: (مدهوشاً) ماذا تقول يا سيدي الكونت؟

برنادوت: (كمن ينتبه من غفوة) لا شيء.. لا شيء.. ظننت أننا في جزيرة رودس!

المعاون: (يبتسم) نحن في القاهرة يا سيدي وهذا رسول من جامعة الدول العربية يحمل رسالة إليك.

الرسول: معذرة يا سيدي الكونت فقد كلفني سعادة الأمين العام للجامعة العربية أن أسلم هذه الرسالة لسعادتكم فوراً.

برنادوت: (يفض الرسالة ويلقي عليها نظرات سريعة) هيه هذا ما أنذرني به الرجل في المنام في رودس..

المعاون: من يا سيدي الكونت.

برنادوت: الكونت برنادوت كما يجب أن يكون!

(ستار)

          

* جريدة (الإخوان المسلمون)  المصرية  بتاريخ :  20 / 06 / 1948