حيث ينبع الذهب الأسود

حيث ينبع الذهب الأسود *

بقلم الأديب الكبير: علي أحمد باكثير

المنظر: قارعة أرضية في دار شيخ "أبي ظبي"

"يرى الشيخ محتبياً وعنده كاتبه الخاص"

الشيخ: قل لي يا مبارك ما معنى قولهم. مائة في العشرة؟

الكاتب: تقصد عشرة في المائة؟

الشيخ: نعم نعم: عشرة في المائة. ما معنى ذلك؟

الكاتب: معناه أن لك في كل مائة كالون من الجاز الذي تستخرجه الشركة عشر جالونات.

الشيخ: بمعنى: العشر.

الكاتب: نعم.. العشر

الشيخ: لم لا يقولون العشر بدلاً من هذه اللفلفة؟ كما يقول المثل: أين أذنك الشمال يا شامي؟ قال. ذي! "يشير بيده اليمنى إلى أذنه اليسرى من خلف عنقه".

الكاتب: صحيح!

الشيخ: طيب والشركة كم تأخذ؟

الكاتب: تأخذ تسعين جالوناً.

الشيخ: كلا لن أقبل أبداً. هذه سرقة!

الكاتب: أجل.. اطلب مثل سلطان مسقط على الأقل.

الشيخ: سأطلب مثل ابن السعود.

الكاتب: لا يا سيدي. يستحيل أن يقبلوا ذلك. تلك شركة أمريكية والأمريكان جيوبهم منتفخة. أما الإنجليز فجيوبهم خاوية.

الشيخ: إذن فسأتعاقد أنا مع الأمريكان سأبعث مكتوباً إليهم.

الكاتب: لن يردوا على مكتوبك. الأمريكان أولاد عم الإنجليز. وكما يقول المثل: أنا وأخي على ابن عمي وأنا وابن عمي على الغريب!

الشيخ: لكن هذا المثل غير صحيح في حالنا مع المملكة العربية السعودية لأنني أنا والغريب على ابن العم!

الكاتب: أجل.. هؤلاء الكفار أحسن منا في هذا الأمر وأشطر.

الشيخ: يجوز أنهم أحسن منا لكن أشطر.. لا. سأريهم اليوم كيف تكون الشطارة.

الكاتب: هذا مندوب الشركة قد أقبل!

الشيخ: دعه يتفضل.

المندوب: "يدخل" سلام عليك يا شيخ العرب؟

الشيخ: وعليك السلام يا حضرة المندوب.. تفضل.. اجلس على هذا البساط. ما عندنا كرسي لك.

المندوب: شكراً.. أنا ما عندي وقت للجلوس. هذه نسخة الاتفاقية جئتك بها مبيضة لتوقعها.

الشيخ: بنفس الشروط التي ذكرتها لنا أمس؟

المندوب: نعم.

الشيخ: مائة في العشرة؟

الكاتب: عشرة في المائة يا سيدي الشيخ.

الشيخ: أوه.. دائماً أغلط في هذه العبارة المشقلبة.. عشرة في المائة يا حضرة المندوب؟

المندوب: طبعاً.. هذا أقصى ما تستطيع الشركة إعطاءه لك.

الشيخ: لماذا؟ لم لا تقتدون بأولاد عمكم الأمريكان؟

المندوب: سنقتدي بهم حين تصبح مشيخة أبوظبي هذه في عظمة المملكة العربية السعودية.

الشيخ: لكن الجاز هنا مثل الجاز هناك!

المندوب: هذا صحيح. ولكن الأرض هنا ليست ملك الأمريكان. أما الأرض هنا فهي ملكنا نحن الإنجليز وفي استطاعتنا أن نستخرج البترول منها بغير الاتفاق معك أو مع غيرك وبغير أن نعطيك ولا نصف جالون. ولكنا قوم نحب الخير لأهل البلاد التي نحكمها أفهمت؟

الشيخ: طيب.. أعطوني مثل سلطان مسقط!

المندوب: كم؟

الشيخ: "لكاتبه" كم يا مبارك!

الكاتب: خمسة عشر في المائة.

الشيخ: سلطان مسقط ليس خيراً مني وأنتم يا دولة الإنجليز تملكون أرضه مثلما تملكون أرضي.

المندوب: "في حدة" أنا مندوب من قبل الشركة ومأمور من قبل المعتمد السياسي بأن أجعلك توقع على هذه الاتفاقية دون تغيير كلمة واحدة أو تبديل حرف واحد. فهل تريد التوقيع أم لا؟

الشيخ: المعتمد السياسي سيحضر عندي اليوم وسأكلمه في هذه المسألة.

المندوب: المعتمد السياسي هو الذي أرسلني الساعة إليك لتوقع لي على هذه الاتفاقية قبل حضوره هو. ليجدها موقعة منتهية حين يحضر فيهنئك عليها.

الشيخ: يهنئني على شيء لم نتفق فيه بعد؟

المندوب: هذا أمره هو قد بلغتك إياه وعليك وحدك التبعة إذ حضر ووجدك لم توقعها بعد. أتدري ماذا ينوي أن يفعل؟

الشيخ: ماذا ينوي أن يفعل؟

المندوب: سيعزلك أنت من المشيخة ويوليها لشقيقك!

الشيخ: لشقيقي! كلا لا يمكن أن يفعل ذلك.

المندوب: هو الذي كلفني أن أبلغ هذا لك. والآن أتوقع لأم لا؟

الشيخ: انتظر قليلاً.

المندوب: أمامي مشوار مهم. سأترك لك نسخة الاتفاقية لتوقعها قبل حضور المعتمد السياسي. حذار يا هذا. قد بلغتك وأنذرتك!

"يخرج مندوب الشركة"

الشيخ: ألا تعتقد يا مبارك أن هذا المندوب قد كذب فيما نقله عن جناب المعتمد ليحملني على التوقيع؟

الكاتب: ما أحسبه يجرؤ على ذلك. إنه هو وجناب المعتمد شيء واحد.

الشيخ: الله يلعنهم جميعاً!

الكاتب: ألم أقل لك إنهم أشطر؟

الشيخ: أشطر؟ إن كانت الحكاية حكاية شطارة فسأريهم أني أشطر!

الكاتب: كيف؟

الشيخ: ادع لي شقيقي أحمد وادع رجالنا جميعاً!

الكاتب: ماذا تريد أن تصنع؟

الشيخ: سترى ما أصنع. انطلق!

الكاتب: حالاً. (يخرج).

الشيخ: (يتمتم) حقاً هم أقوى منا.. عندهم الطيارات والغواصات والمدافع من كل نوع. وما عندنا غير الخراطيش. لو كنا أقوى منهم لكنا رحنا لبلادهم طلعنا منها البترول! أما الشطارة فعندنا ولله الحمد.

(يعود الكاتب وخلفه الشيخ أحمد وجماعة من الرجال)

الشيخ: تعال يا أحمد أقعد قدامي!

أحمد: أمرك يا أخي.. خير إن شاء الله. وقعت الاتفاقية مع حضرة المندوب؟

الشيخ: لا ما وقعتها بعد. دعوتك أنت والجماعة من أجل هذه الاتفاقية. تعالوا يا جماعة قفوا حول أحمد.

الجماعة: أمرك! (يقفون حول أحمد).

الشيخ: أشهروا جنابيكم؟

أحمد: ماذا تبغي أن تعمل في؟

الشيخ: لا تخف يا أخي.. لا سر عليك. تعال أنت يا مبارك.. هات معك القلم والورق!

الكاتب: هذا القلم وهذا الورق.

الشيخ: قل معي يا أحمد وأنت اكتب الكلام يا مبارك.

الكاتب: نعم.

أحمد: ماذا أقول؟

الشيخ: قل: أحلف بالله...

أحمد: أحلف بالله على ماذا؟

الشيخ: لا تقاطعني.. قل ما أقوله دون سؤال ولا مراجعة!

أحمد: طيب.

الشيخ: (يملي وأحمد يردد والكاتب يكتب) أحلف بالله وملائكته وكتبه ورسله أني لا أقبل مشيخة أبي ظبي إذا عرض على المعتمد البريطاني أن أتولاها محل أخي الذي هو شيخها الشرعي. وأشهد الله على نفسي أني إن قبلت هذه المشيخة المعروضة علي فإني كافر خارج من الدين والملة والله على ما أقول شهيد. كتبت يا مبارك؟

الكاتب: نعم.

الشيخ: أبصم على الكتاب يا أحمد.

أحمد: لكن...

الشيخ: أبصم أقول لك وإلا..

أحمد: طيب.. طيب.. (يبصم بأصبعه على الكتاب).

الشيخ: الآن ابصموا أنتم كلكم شهوداً عليه.

(يبصم الرجال واحداً بعد واحد)

الشيخ: روحوا الآن إلى المنظرة الثانية. انتظروا هناك حتى أدعوكم.

(يخرج الرجال ويهم أحمد بالخروج ولكن الشيخ يستوقفه).

اسمع يا أخي. إياك أن تزعل. هذا تدبير عملته لحفظ مصلحتنا جميعاً من كيد هؤلاء الكلاب الحمر!

أحمد: (عاتباً) ما كنت بحاجة إلى أن تهددني هكذا بالجنابي!

الشيخ: ما عندي وقت يا أحمد للأخذ والرد معك.. يجب أن ننتهي من كل شيء قبل حضور جناب المعتمد.

أحمد: الله يسامحك!

الشيخ: اذهب الآن وانتظر مع الرجال هناك.

(يخرج أحمد)

الشيخ: كيف رأيت يا مبارك؟

الكاتب: أنت والله مدهش!

(يسمع صوت سيارة)

الشيخ: هذا جناب المعتمد قد حضر استقبله يا مبارك!

(يخرج الكاتب ثم يعود ومعه المعتمد البريطاني)

المعتمد: نهارك سعيد.

الشيخ: مرحباً يا جناب المعتمد.. تفضل تفضل.

المعتمد: أين الاتفاقية؟ هل وقعتها؟

الشيخ: لا يا جناب المعتمد. أنا لا أقبل عشرة في المائة. هذا غبن علي.

المعتمد: ألم يبلغك مندوب الشركة أمري وما أنوي عمله إن رفضت؟

الشيخ: بلى بلغني ذلك ولكن...

المعتمد: أحضر لي شقيقك حالاً.

الشيخ: ادع أحمد يا مبارك!

(يخرج الكاتب ثم يعود ومعه أحمد)

المعتمد: تعال يا شيخ أحمد. لأن شقيقك هذا قد رفض أن يوقع على الاتفاقية فوقع أنت عليها وسنجعلك شيخ أبي ظبي بدلاً منه.

أحمد: كلا يا جناب المعتمد.. لا أستطيع.

المعتمد: لا تستطيع! ويلك ألم تتفق معي على ذلك من قبل؟

الشيخ: هيه.. اتفقت معه يا قليل الأصل!

المعتمد: اسكت أنت!

الشيخ: إن وعدك بذلك أمس فإنه لا يستطيع اليوم يا جناب المعتمد!

المعتمد: "لأحمد" لا تخف. إنه لن يقدر أن يمس شعرة منك، نحن هنا معك!.

الشيخ: إنه لا يخاف مني يا جناب المعتمد ولكن يخاف من هذا "يناوله كتاب القسم".

المعتمد: (يتصفح الكتاب فيربد وجهه) ويلك أنت الذي أكرهته على هذا القسم.

الشيخ: لتحفظ حقنا يا جناب المعتمد حقي وحقه فهو شقيقي وسوف يلي المشيخة من بعدي.

المعتمد: دعك يا شيخ أحمد من هذه الخرافة. سنوليك المشيخة على رغم أنف أخيك!

أحمد: كلا يا جناب المعتمد لا أريد أن أكون كافراً خارجاً من الدين والملة.

الشيخ: أعذره يا جناب المعتمد فهو عربي مسلم وليس خواجه مثلك!

المعتمد: (ينظر في صيغة القسم) وأشهد الله على نفسي أني إن قبلت المشيخة المعروضة علي فإني كافر خارج من الدين والملة.

الشيخ: الكفر هنا صريح لا يحتمل التأويل!

المعتمد: قد وجدت لأخيك المخرج من هذا القسم.

الشيخ: كيف؟

المعتمد: سنحول مشيخة أبى ظبي هذه إلى سلطنة. سيكون أخوك سلطاناً عليها لا شيخاً.. سأبرق إلى حكومتي الليلة لتوافق على ذلك:

الشيخ: (يتمتم) يا للمكر!

المعتمد: ماذا ترى الآن يا شيخ أحمد؟ أنا لا أعرض عليك مشيخة بل سلطنة
أحمد: أنا قبلت!

الشيخ: ويلك يا وغد! أتطمع في حقي وأنا حي بعد؟

أحمد: ما دمت أنت قد رفضت فأنا أحق بها من غيري وغيرك. لا ينبغي أن يخرج هذا الأمر من بيتنا

المعتمد: إن أخاك يعقل الأمور خيراً منك. في وسعنا إن شئنا أن نوليها لهذا الكاتب الذي عندك!

الشيخ: لهذا الكاتب!

المعتمد: أجل.. ما المانع؟ هو أفضل منك ومن أخيك. رجل متعلم يقرأ ويكتب ويسهل التفاهم معه. والآن من منكما يبصم على هذه الاتفاقية أنت أم أخوك أم...

الشيخ: سأبصمها أنا

المعتمد: حسناً.. أبصم!

الشيخ: على شرط أن تجعلوني سلطاناً

المعتمد: أبصم أولاً!

الشيخ: (يبصم) تفضل!

المعتمد: أبصم أيضاً على هذه النسخة الثانية.

الشيخ: (يبصمها) تفضل!

المعتمد: هذه نسختك أنت احتفظ بها عندك. تستطيع بها أن تقاضي الشركة إذا أخلت بشرط من شروط الاتفاقية. والآن اسمح لي يا شيخ أبي ظبي أن أهنئك من صميم قلبي!

الشيخ: شكراً يا جناب المعتمد.. هل أستطيع أن اعتبر نفسي سلطاناً من اليوم.

المعتمد: كلا حتى يأتي دورك!

الشيخ: ومتى يأتي دوري؟

المعتمد: إن أمامك مشايخ كثيرين أكبر شأناً منك كلهم ينتظر أن نجعله سلطاناً فاصبر حتى يأتي دورك! "يخرج".

الشيخ: "يتمتم" غلبني هذا الأشقر!

الكاتب: ألم أقل لك إنهم أشطر منا؟

الشيخ: أشطر والله.. اشطر!

"ستار"

     

*مجلة (الدعوة) المصرية في 22 ربيع الثاني 1373