جلسة مع الشيطان

جلسة مع الشيطان *

بقلم الأديب الكبير: علي أحمد باكثير

-1-

مكتب وزير الخارجية يداوننج ستريت رقم 1.

(يظهر المستر بيفن واقفاً إلى جانب مكتبه وفي يده صورة)

بيفن: التمس العفو يا شقي! إن أمامك فرصة للنجاة من الشنق.. لا تحرجني بتشددك هذا وعنادك. أمصر أنت على الرفض؟ إذن فلأمزقنك شر ممزق!

(يمزق الصورة بغيظ شديد)

(يدخل كريتش جونز وزير المستعمرات)

جونز: ماذا تصنع يا مستر بيفن؟ من ذا كنت تخاطب؟

بيفن (يمسح جبينه) لا شيء... لا أحد (يضع قصاصات الصورة على طرف المكتب)

جونز: أراك متعباً يا عزيزي.. هل تشكو شيئاً؟

بيفن: لا.. لا شيء

جونز: ما هذه؟ هل لي أن أراها؟

بيفن: افعل إن شئت.

جونز: (يتناول المزق وينظر فيها) صورة دوف جرونر!

بيفن: أجل.. صورة الشقي العين.

جونز: ما أجرأك! ألا تخشى أن يراك أحد تصنع هذا، فتزداد الأمور تعقداً عليك؟

بيفن: ماذا تريد أن تصنع بهذه الصورة الممزقة؟

جونز: سأخفيها حتى لا يراها أحد.                            

بيفن: يا للأيام! لقد عشنا حتى رأينا يهودياً قذراً يتحدى الإمبراطورية البريطانية فنخشى غضب أمريكا من أجله تفضل يا مستر جونز (يجلس).

جونز: (يجلس على كرسي أمامه) وماذا ينفع تمزيق صورته يا مستر بيفن؟ إن علينا أن نحل مشكلته.

بيفن: كيف؟

جونز: لم لا نصدر الحكم عليه بالسجن بدلاً من الإعدام؟

بيفن: ولكن الحكم قد صدر عليه بالإعدام، وقد عين موعد تنفيذه، ولا سبيل للتراجع عن ذلك من قبلنا نحن وإلا ضاعت هيبة الإمبراطورية.

جونز: أعتقد أن الحكومة الفلسطينية قد شرعت في إصدار هذا الحكم.

بيفن: أنت المسؤول عن ذلك إذا خولت المندوب السامي هذه السلطة.

جونز: ما كنت أظن بأنه سيسيء استعمالها إلى هذا الحد.

بيفن: لا سبيل لك على الرجل، فإنه ما أساء استعمالها، إذ كان في تقديره أن الشقي سيقدم التماس العفو من مجلس الملك.

جونز: لقد تبين الآن أنه أخطأ في التقدير.

بيفن: لا لوم عليه في هذا، وإنما اللوم على الشقي وعلى الذين يشجعونه على المضي في عناده بالجانب الآخر من الأطلنطي.

جونز: علينا اليوم أن نحل المشكلة بطريقة عملية، أما تحديد المسئولية فلندع ذلك إلى وقت آخر.

بيفن: ما الطريقة العملية التي تقترحها؟

جونز: نؤجل الحكم إلى أجل غير مسمى.

بيفن: افعل ما تشاء، فقد ضقت ذرعاً بهذه المشكلة. على أن تتحمل أنت المسئولية.

جونز: (يناوله رسالة مختومة) هذه رسالة.

بيفن: من المستر ترومان طبعاً.

جونز: نعم من الرئيس ترومان.

بيفن: (يأخذها فيضعها على المكتب) ما أكثر رسائله!

جونز: ألا تقرؤها؟

بيفن: أعرف ماذا فيها، فلا داعي لقراءتها. لقد جاءتني منه خمس عشرة رسالة منذ قبض على دوف جرونر. أما لهذا الرئيس من عمل آخر غير الاهتمام بهذا المجرم؟

جونز: هو معذور بعض العذر، فإنكم لم تجيبوه إلى طلبه حتى الآن فيما يتعلق بإدخال مائة ألف يهودي إلى فلسطين بعد ما ارتبط هو بتلك التصريحات.

بيفن: هل ترك حملة التصريحات ليبدأ حملة الرسائل الخاصة؟

جونز: ما منعه من موالاة التصريحات العلنية إلا رغبته في مجاملة العرب حتى لا تتأثر مصالح أمريكا البترولية.

بيفن: أيبغي هو إرضاء العرب وإرضاء اليهود على حسابنا؟

جونز: لماذا لا نرضيه ونرضي اليهود معاً على حساب العرب؟

بيفن: ما يمنعني أن أفعل ذلك على حساب العرب إلا خوفي أن ينقلب ذلك على حسابنا في نهاية الأمر.

جونز: إنك تبالغ في أهمية هؤلاء العرب. صدقني أنه لا خطر منهم على الإطلاق.

بيفن: لا أستطيع أن أقتنع برأيك هذا، بل أرى أن البركان العربي سينفجر وشيكاً، وسيكون انفجاره في هذه المرة عاماً مدمراً لا يبقى ولا يذر.

جونز: إن ترددنا الطويل هو الذي سيسبب هذا الانفجار، فعلينا أن نفاجئهم بخطة حاسمة، ونضعهم أمام الأمر الواقع بتنفيذ سياسة التقسيم وإنشاء الدولة اليهودية في قسم كبير يرضي أماني الصهيونيين، وأنا كفيل لك بأن الإرهاب اليهودي سيكون سلاحاً في أيدينا ضد كل ثورة يقوم بها العرب.

بيفن: إن كان تردننا الطويل هو المسؤول، فلم لا نحسم الأمر على طريق أخرى أقرب إلى روح العدل ومراعاة المبادئ الديمقراطية؟

جونز: ماذا تعني.

بيفن: أن نضع اليهود أمام الأمر الواقع.

جونز: كأنك تريد تنفيذ المشروع العربي؟

بيفن: لو سميت الأشياء بأسمائها الحقيقية لما أطلق اسم المشروع العربي على مثل هذا المشروع فقد كان الصهيونيون قبل عشرين سنة لا يطمعون في نصف هذا أو ثلثه. فما أجدره أن يطلق عليه اسم المشروع الصهيوني لولا تسامح العرب وجشع اليهود وتردد البريطانيين الذي تشكون منه الساعة.

جونز: وماذا تصنع بالإرهاب اليهودي؟

بيفن: سنقضي عليه في أسبوع واحد.

جونز: لا تظن القضاء عليه سيتم بمثل هذا اليسر. فالإرهاب اليهودي لا تقوم به جماعة شتيرن وأرجون زفاي ليومى وحدهما، بل يشترك فيه الشعب اليهودي بأسره فانظر كم يكلفنا ذلك من الأرواح والأموال؟

بيفن: لن نخسر كثيراً إذا استعنا في ذلك بأيدي العرب أصحاب البلاد. إذن لرأيت هؤلاء الذين يملئون الدنيا علينا صياحاً وجلبة يركعون على أقدامنا ويتخذون منها مبكى لهم ثانياً!

جونز: وأمريكا.. أنسيت أمريكا؟

بيفن: ما شأن أمريكا بهذا إلا كشأن أية دولة أخرى أجنبية.

جونز: تذكر أن هذا هو عين ما يقوله العرب.

بيفن: وما ينبغي أن تقوله بريطانيا لولا أن أمرها قد خرج من يدها!

جونز: ولكنكم أنتم الذين سعيتم لإشراك أمريكا في القضية.

بيفن: أجل، كانت هذه زلة منا. لقد أردنا أن نورطها، فإذا هي التي ورطتنا. أردنا أن نفيد منها فإذا هي التي أفادت منا.

جونز: أراك تتكلم اليوم كما لو كنت فارس الخوري أو جمال الحسيني!

بيفن: مما يفجعني أسفاً أن يقف هذان موقفاً أحرص على مصلحة بريطانيا ومستقبلها منا نحن البريطانيين.

جونز: لن يرضى أحد عن ميلك هذا لانصاف العرب وظلم الصهيونيين.

بيفن: اطمئن يا صديقي على أحبابك الصهيونيين، فليس في وسعي أن أنصف العرب ولو أردت ذلك. أما الصهيونيون فلن يقع عليهم أي ظلم حتى ولو طردوا جميعاً من فلسطين التي أدخلناهم إليها بقوة الحراب!

جونز: هذا كلام يقلب سياسة بريطانيا رأساً على عقب.

بيفن: لن يخرج كلامي هذا على كل حال إلى حيز الفعل. أما سياستنا الفعلية فلن تقلب سياسة بريطانيا رأساً على عقب، بل قد تهدم بريطانيا ذاتها من القواعد!

جونز: ما هذا التشاؤم مستر بيفن؟

بيفن: كل من يعرفني يعرف أن التشاؤم ليس من خلقي ولكن كيف لي بالتفاؤل إذا كنت لا ألقى أحداً من الساسة البريطانيين تذكر له قضية فلسطين إلا كانت مصلحة الصهيونية أقرب إلى قلبه من مصلحة دولته؟ لقد كان معقولاً أن نؤيد الصهيونية لنسخرها في تأييد مصالحنا وتوطيد نفوذنا في الشرق الأوسط. أما أن نسخر بريطانيا في خدمة الصهيونية حتى نؤثر مصلحة هذه على مصلحة دولتنا، فهذا قلب للوضع. إن الضغط الصهيوني أصبح لا يطاق!

جونز: إنك تبالغ في تجسيم هذا الضغط.

بيفن: كلا، فهأنذا أتنفس الضغط الصهيوني كالهواء يحيط بي من كل جانب. إنني أشعر به من المستر تشرشل وحزبه، ومن حزب الأحرار، بل من حزبنا نحن.. بل منك يا وزير المستعمرات ومن سائر زملائك الوزراء أنتم جميعاً صهيونيون، وتركتموني أحاول وحدي أن أبقى بريطانيا دون أن أغضب السادة اليهود!

جونز: هذه إهانة منك لو سمعها غيري لاحتج عليك!

بيفن: ما أحسب أحداً منهم تبلغ به الوقاحة أن ينكر عليَّ قول الحق إلا أن يكون المستر كروسمان وجماعته!

جونز: إذا طرحت الخصومة الشخصية جانباً فلن نستطيع أن تقول إن هؤلاء كانوا مجردين من الغيرة القومية حين هاجموا سياستك في التقرب الشديد إلى أميركا ضد الاتحاد السوفياتي أفتجعل أن ذلك أيضاً من أثر الضغط الصهيوني؟

بيفن: نعم.. ما حمل كروسمان على هذا إلا الدافع الصهيوني.

جونز: لقد شططت كثيراً يا مستر بيفن، فلو صح منطقك لكان كروسمان أجدر بالميل إلى أمريكا نصيرة الصهيونيين منه إلى الاتحاد السوفياتي.

بيفن: كلا. إنه قد ضمن ولاء أمريكا للصهيونيين، فلن يتغير موقفها منهم مهما كان موقفه وموقف جماعته منها، ولكنه أراد بهذه المظاهرة أن ينال تأييد الاتحاد السوفياتي للقضية الصهيونية التي تهمه قبل أي شيء آخر.

جونز: هل تعتقد حقاً أنني صهيوني أكثر مني بريطانياً؟

بيفن: لست بدعاً في ذلك على كل حال.

جونز: إني أحتج على هذا الاتهام.

بيفن: لا تحتج على شيء يسترك أن يعرفه عنك أصحابك الصهيونيون حين تكون بينهم قل لي أين قضيت ليلتك البارحة؟

جونز: لاحق لك في الاعتراض على خصوصياتي.

بيفن: هذا صحيح، ولكني أعرف أين قضيتها.

جونز: أؤكد لك أني ما قضيتها مع بن جوريون ولا مع موسى شرنوك.

بيفن: أجل لا بد أنهما تركاك وحدك مع البولنديات الفاتنات!

جونز: هل تريدني أن أكون متزمتاً مثلك؟

بيفن: لا تكن مثلي، ولكن لا تحتج علي.

جونز (يبتسم): لا تنس بعد أنني وزير المستعمرات!!

بيفن: أغلب ظني أن بولندا ليست من مستعمراتنا.

جونز: آه! لو رأيتهن ما عز عليك أن تكون بلادنا من مستعمراتها.

بيفن: أخوف ما أخافه أن تكون بلادنا مستعمرة لا لبولندا بل للهاربين منها!!

جونز: الهاربون أشقاء الهاربات! (ينظر في ساعته) لقد آن لنا أن نذهب إلى المجمع.

بيفن: أي مجمع؟

جونز: كأول أمس.

بيفن: ألا تعفونني اليوم من حضوره، فأني متعب وأريد أن استريح قليلاً قبل أن أحضر جلسة الليلة لمؤتمر فلسطين..

جونز: يجب أن تشهد المجمع قبل أن تحضر جلسة المؤتمر. احتمل المشقة قليلاً لئلا تثير على نفسك سخط الأعضاء.

بيفن: دع كروسمان وجماعته يسخطوا على ما شاءوا.

جونز: سيحضر المستر تشرشل أيضاً.

بيفن: دعه يحضر لست مشتاقاً لرؤية وجهه.

جونز: كلا لا أدعك حتى تحضر فإني أخشى أن يتهموك بالتحيز ضد اليهود فتزيد المصاعب في وجهك.. أتوسل إليك إلا ما حضرت من أجلي أنا!

بيفن (يتنهد): ليكن ما تريد.

جونز: شكراً لك يا صديقي العزيز.

بيفن: على أن تتحمل أنت المسؤولية؟

-2-

قبو كبير مضاء بالشموع تتوسطه منضدة جلس حولها أعضاء الوفد البريطاني لمؤتمر فلسطين، ومعهم عدد من الساسة البريطانيين يرى بينهم المستر تشرشل المستر كروسمان الذي يتصدر الحلقة.

كروسمان: أيها السادة. سأبدأ الذكر الآن، وعليكم جميعاً أن ترددوه معي بخشوع ونظام. قولوا معي (بلهجة الذكر) أنا صهيوني. أنا صهيوني.

الجميع (يرددون معه): أنا صهيوني. أنا صهيوني.

(يتحمسون في الذكر وهم يتمايلون يمنة ويسرة)

كروسمان: (يوقف الذكر فجأة ويلتفت إلى المستر بيفن) يؤسفني يا مستر بيفن أن يأتي النشوز من قبلك لقد لحظت أنك لا تقول الذكر على وجهه الصحيح.

بيفن: بلى.. إني أقول كما تقولون.

كروسمان: (يخفي امتعاضه ويستأنف الذكر) أنا صهيوني. أنا صهيوني.

الجميع: (يتابعونه) أنا صهيوني. أنا صهيوني

كروسمان: (يشير لمن عدا بيفن فينقطعون عن الذكر فجأة)..

بيفن: أنا بري...

كروسمان: ماذا تقول أنت من دون الآخرين؟

بيفن (مسرعاً): يوني!

كروسمان: ولكنك قلت: أنا بري هذا لا يستقيم مع يوني وإنما يستقيم مع طاني.

بيفن: إنك مغرم بإحراجي يا مستر كروسمان، فقد سمعت مني يوني فكيف تتهمني بأني قلت شيئاً آخر وخالفت نص الذكر؟

تشرشل: لن يكون للذكر تأثيره المطلوب إذا وقع فيه النشوز والاختلال، فعلى المستر بيفن إذا كان لا يرتاح لهذه الحلقة أن تكون لديه الشجاعة الكافية لرفض الحضور!

بيفن: لو شئت لامتنعت عن الحضور دون أن أبالي بأحد.

تشرشل: فما دفعك إلى الحضور؟ أليس خوفك أن يثور أعضاء حزبك عليك؟

كروسمان: بالله عليكما لا تتراشقا بالكلام هنا. بل عليكما أن تحترما قداسة هذا المجمع.

تشرشل: إنه لا يؤمن بقداسة هذا المجمع، وإنما حضر خوفاً منك.

بيفن: لا تخف يا مستر تشرشل، فلن أنافسك في الحضور عند القوم؟

كروسمان: كفى جدالاً! لا أسمح بمثل هذا هنا.

جونز: هيا يا مستر كروسمان استأنف الذكر.

كروسمان: قولوا بخشوع ونظام: أنا صهيوني.. أنا صهيوني،!

الجميع: أنا صهيوني. أنا صهيوني.

(يحمي وطيس الذكر، ويخفق الجمع برءوسهم يمنة ويسرة. ولكن كروسمان يشير أيضاً فيتوقفون فجأة)

بيفن: (وحده) طاني!

كروسمان (محتداً): هيه يا مستر بيفن. ما معنى طاني هذا؟ هل يستقيم هذا المقطع مع الذكر؟ لقد عفونا عنك في المرة الأولى إذ كنت تقول: أنا بر.. يوني فإذا أنت الآن تقول أنا صهـ طاني! ما هذا التلاعب بالذكر؟ أتتهمني بعد بأني أقصد إحراج مركزك؟

بيفن: نعم. وإذا فلماذا دعوتني وأنا وزير خارجية دولة اسمها المعروف لدى الدول كلها بريطانيا العظمى لأشهد حلقة يردد فيها الذكر الصهيوني؟

كروسمان: ما أحسبك تجهل أن هذه الدولة التي تسمى بريطانيا العظمى صهيونية في صميمها. ولولاها لما كان للصهيونية وجود.

تشرشل: لعل وزير خارجيتكم يجهل هذه الحقيقة!

بيفن: لا أجهل هذه الحقيقة، ولكني لا أرى فيها ما يدعونا إلى ممارسة هذه الحماقة التي تسمونها الذكر فماذا يقول الناس عنا إذا علموا بأمرها؟

كروسمان: هذه حلقة ذكر خاصة بنا، فما لنا وللناس؟ إنها ليست للإذاعة، فلن يسمعها أحد غيرنا.

بيفن: فما بال آلة التسجيل هذه؟

تشرشل: ألم أقل لكم إن وزير خارجيتكم تنقصه الشجاعة الأدبية؟

كروسمان: هذا التسجيل سيرسل لأصدقائنا اليهود، ولن يسمعه غيرهم، ثلاث نسخ من التسجيل لا غير، سترسل إحداها إلى الوكالة الفلسطينية والثانية للمجلس الصهيوني العام بأمريكا، والثالثة سنحتفظ بها عندنا عربوناً لإخلاصنا وولائنا.

بيفن: وما فائدة هذا كله؟

كروسمان: ألا تعرف ما فائدة هذا لدولتنا وحكومتنا؟

تشرشل: إن وزير خارجيتكم يجهل أبسط القواعد السياسية لدولته.

كروسمان: إننا سنكسب قلوب اليهود في العالم حين تسمع هذا آذانهم.

بيفن: ليس اليهود من البلاهة بحيث يخدعهم مثل هذا الذكر الرخيص.

كروسمان: أنا أعرف بهم منك، فهم لا يجهلون ما للإيحاء الذاتي من قوة تأثير.

تشرشل: لا تكلفوا وزير خارجيتكم شططاً، فهو يجهل علم النفس الحديث كما يجهل اللغة الفرنسية!

بيفن: قل هذا للشعب الذي أسقطك ورمى في وجهك البيض والطماطم!

تشرشل: يظهر لي أنني إن مكثت هنا فسيحدث ما لا تحمد عقباه (ينهض لينصرف)

كروسمان: ألا تبقى يا مستر تشرشل حتى يتم الذكر؟

تشرشل: لا حاجة إلى حضور هذه الحلقة السرية، فقد جهرت بهذا الذكر منذ ثلاثين سنة، وإنما يحتاج إلى المواظبة على حضورها مثل وزير خارجيتكم هذا لقرب عهده بالحكم، وجهله بالقواعد الأساسية لسياسية بلاده.

بيفن: كذبت يا عجوز السوء!

تشرشل: لن أرد عليك بأكثر مما فضحت به نفسك أمام هؤلاء السادة بجهلك وخطئك. إن وزيراً بريطانيا يقول أنا صهطاني أو أنا بربيوني لجدير بأن يتعلم في حلقات الذكر أولاً قبل أن يلي وزارة الخارجية!

(يخرج المستر تشرشل)

كروسمان: يؤسفني أيها السادة أن يقع اللغط في مثل هذا الجمع الموقر، وأرجو أن تعتبروا ما كان كأن لم يكن، هيا بنا الآن نستأنف الذكر. أنا صهيوني.. أنا صهيوني..

-3-

في مجلس العموم البريطاني

رئيس المجلس: ليتفضل جناب وزير الوقود فليلق بيانه.

كروسمان: وزير الوقود! مالنا ولوزير الوقود الآن؟

الرئيس: هكذا جدول المجلس.

كروسمان: لسنا مقيدين بالجدول علينا أن نبدأ بأهم المسائل، عجباً لكم.. تقدمون أمثال هذه التوافه على المسائل الهامة!

الرئيس: أي شيء أهم من هذه الكارثة التي تجتاح البلاد؟

كروسمان: لا تعطوا المسالة فوق حقها من الاهتمام.. إن هي إلا بلاد باردة اشتد فيها البرد ونقص الوقود والكهرباء عليها فماذا في هذا؟ لقد عانى الشعب البريطاني في أيام الحرب ما هو أشد من هذا وأنكى، إذ كانت الغارات الألمانية تدمر المدن وتقطع السبل، فلم تتضعضع لهذا الشعب الأبي عزيمة ولم تلن له قناة فدعوا هذه المشكلة الهينة تمضي بسلام، وخذوا فيما هو أهم وأدعى للنظر.

الرئيس: ما هو الشيء الأهم؟

كروسمان: قضية اليهود المعلقة.. اليهود الذين لم يتسلم حزبنا كراسي الحكم إلا بفضل تأييدهم، وعلى أساس الوعود التي قطعناها لهم بمناصرة قضيتهم.

بيفن: إن الحكومة لم تخل بوعودها لهم، وقد عقدت المؤتمرات، وأباحت استمرار الهجرة خلافاً لتعهدات الكتاب الأبيض وقدمت مشروع التقسيم، وكل هذا كان في صالح اليهود.

كروسمان: كل هذا لا يكفي، فما قصاري المؤتمر الذي تعقدونه هنا إلا أن تعطوا العرب فرصة لإبداء آرائهم وتنوير الشعب البريطاني بقضيتهم. أما الهجرة التي أبحتم استمرارها فهجرة محدودة لا تسمن أو تغني من جوع. ولا فضل للحكومة فيها إذا كان ذلك نتيجة توصيات لجنة التحقيق المشتركة.

بيفن: كيف تنكر فضل الحكومة في ذلك وقد اختارت معظم أعضاء اللجنة من المتحمسين للصهيونية؟ وحسبها أنا اختارتك عضواً فيها يا مستر كروسمان!

كروسمان: فهل نفذتم توصيات اللجنة؟

بيفن: أنت لا تجهل الصعوبات التي قامت في سبيل تنفيذ ذلك.

كروسمان: إننا لا نعترف بتلك الصعوبات المزعومة، ولا نَعُدُّ تخبط الحكومة وترددها إلا عجزاً منها وضعفاً ونقضاً للعهود المقطوعة لليهود.

بيفن: ماذا في وسع الحكومة أن تصنع غير ما صنعت؟

كروسمان: توفي بعهودها لليهود دفعة واحدة، فلم يعد في وسعهم أن يصبروا أكثر مما صبروا وماذا ننتظر؟ هذه الولايات المتحدة تؤيدنا في موقفنا وقد نلنا منها خيراً كثيراً بفضل اليهود، وهذا الرئيس ترومان قد بح صوته في المطالبة بإدخال مئة ألف يهودي إلى فلسطين، ولم نخجل نحن أن نأخذ المساعدة الأمريكية باليمين ونمنعه ما يطلبه منا بالشمال! وها هو الرئيس ترومان يعرض اليوم أيضاً مساعدته لنا لتخفيف أزمة الوقود، فليت شعري أنخجل أم لا نخجل أن نقبلها منه دون أن نجيب طلبه؟

بيفن: لعل مما يسر المستر كروسمان أن يعلم أن الحكومة قد قررت رفض هذه المساعدة.

كروسمان: كيف ترفضون مساعدة قيمة كهذه، بينما تضجون بالشكوى من نقص الوقود؟ أليس هذا دليلاً على أنكم تبالغون كثيراً في أهمية هذه الأزمة؟

أحد النواب: أنا أحتج على هذا الاستخفاف بأزمة الوقود القومية. وإذا لم يجد المستر كروسمان فيها ما يهمه شخصياً لأن القضية الصهيونية قد استغرقت كل تفكيره، فليت شعري أي فرق بينه وبين موسى شرتوك أو بن جوريون؟ إننا هنا في مجلس العموم البريطاني، لا في مؤتمر بال الصهيوني!

كروسمان: إن كان مجلس العموم البريطاني لا يهتم بقضية فلسطين فلتنفض بريطانيا يدها من فلسطين، ولتترك أصحابها اليهود وشأنهم!

النائب: هذا ما ينبغي أن يقوله زعيم صهيوني لا نائب بريطاني. إني أطالب بسماع بيان وزير الوقود، وأعتقد أنني أعبر عن آراء زملائي النواب الذين تهمهم مصلحة بلادهم قبل أي شيء آخر!

وزير الوقود: قد أعددت بياني، وما عليكم إلا أن تعطوني فرصة لإلقائه.

كروسمان: كلا، لا نريد سماع بيانك الآن.

وزير الوقود: إذن فقد كفيت المؤونة.

النائب: بل تتهرب من إلقائه.

وزير الوقود: عجباً.. أتحملونني تبعة عدم إصغائكم إلى بياني؟

النائب: إذن فألق بيانك.

أصوات: نعم.. نريد سماع البيان!

وزير الوقود (يخرج ورقته ليلقي بيانه) أيها السادة.. إن هذا البرد الشديد لم تعهد مثله البلاد منذ أكثر من مائتي سنة.

كروسمان (مقاطعاً) ولكن مثل هذا البرد موجود دائماً في سبيريا وما سمعنا أن الدولة الروسية اهتزت من أجله أو أقامت له ضجة كهذه الضجة المفتعلة أو أنساها ذلك شؤونها الهامة الأخرى فما بالنا ننسى كل مشاكلنا الحيوية من أجل عاصفة ثلجية لا تلبث أن تنقشع؟

النائب: لا شأن لنا بفلسطين الآن!

كروسمان؟ فارفعوا أيديكم عنها ودعوها لليهود!

النائب: مشكلة الوقود أهم! استمر في بيانك يا وزير الوقود!

وزير الوقود: كيف ألقي بياني وأنتم لا تصغون إلي؟

كروسمان: اطوي بيانك الآن فلن تجد له سميعاً!

أصوات نريد سماع البيان...

مشكلة الوقود أهم من اليهود ومن أنصار اليهود!

كروسمان: سنشبع من الوقود في جهنم غداً إن تركنا هؤلاء اليهود البائسين في هذه الحالة المتناهية من اليأس والقنوط!

أحد النواب: إذا كنا مؤمنين بالسيد المسيح حقاً فقد أخبرنا أن هؤلاء البائسين هم الذين سيشبعون من الوقود غداً.

كروسمان: ولكن اليهود يعتقدون عكس هذا ويجب أن يحترم كل منا عقيدة الآخر.

النائب: وأنت يا مستر كروسمان ماذا تعتقد؟

كروسمان:........؟

نائب آخر: أنا أعرف رأي المستر كروسمان في هذا. إنه سيحتفظ بعقيدته مكنونة في صدره حتى يرى النتيجة غداً، فإن رأى صحة أقوال اليهود ذهب معهم، وإن رأى صحة أقوال المسيحيين مال إليهم!

(يضج المجلس بالضحك)

الرئيس: النظام، النظام!

كروسمان: لا تحسبوا مثل هذه السخرية تصرفني عن المطالبة بإعلان قرار الحكومة بصدد قضية فلسطين الآن دون تأخير!

بيفن: بعد أن يسمع المجلس بيان وزير الوقود.

كروسمان: كلا بل قبل بيان وزير الوقود.. قبل كل شيء آخر.

تشرشل: إن أؤيد المستر كروسمان في طلبه لا تنسوا أيها السادة أن بريطانيا قد جعلت من تقاليدها المجيدة أن تؤثر باهتمامها المسائل الخارجية على المسائل الداخلية. ولم يكن هذا التقليد عبثاً فهو يرجع في صميمه إلى ما امتازت به هذه الأمة الإنجليزية من إيثار مصالح الشعوب العامة جهدها وتفضيلها على مصلحتها الخاصة. فإذا كان لدى الحكومة قرار بصدد مشكلة فلسطين تستطيع أن تعلنه في ثقة فلتعلنه الآن للمجلس. أما إن كانت لا تزال تتخبط في رأيها كما هو شأنها في كل أمر تعالجه فلا بأس أن نصغي إلى بيان وزير الوقود.

أتلي: أيها السادة. تلبية لرغبة المستر تشرشل وبعد استئذان رئيس المجلس أستطيع أن أعلن للمجلس أن الحكومة قد قررت إحالة المسألة الفلسطينية بحذافيرها إلى هيئة الأمم المتحدة، فإقرارها بالعجز عن التوفيق بين الفريقين المتنازعين بعد ما بذلت كل ما في وسعها للوصول إلى حل عادل وأجتزئ بهذا الآن حتى يتم إعداد البيان التفصيلي الخاص بهذا القرار:

كروسمان: لا أرى في هذا القرار إلا محاولة من الحكومة للتنصل من العهود التي قطعتها لليهود.

بيفن: إن صح هذا فهو يشمل الخلل من العهود المقطوعة للعرب أيضاً.

تشرشل: هل تنوي الحكومة أن تقدم توصية خاصة بصدد هذه المسألة إلى هيئة الأمم المتحدة؟

بيفن: ستقدم الحكومة تقريراً مفصلاً لتطورات القضية دون أن توصي بأي اقتراح خاص.

تشرشل: ألا ترى الحكومة أن في هذا القرار المجرد عن التوصية الخاصة ما قد يؤدي إلى إضعاف قضية اليهود وأمانيهم في فلسطين؟

بيفن: هل أفهم من هذا أن المستر تشرشل يرى أن اليهود لا حق لهم في أمانيهم القومية في فلسطين؟

تشرشل: لا، لا أعني هذا وإنما أخشى أن تسيء معظم دول الهيئة فهم قضية اليهود.

بيفن: قد قلنا أن الحكومة ستقدم تقريراً وافياً بتطورات القضية من بدايتها حتى الوقت الحاضر.

تشرشل: ولكن العرب قد بدءوا ينشرون دعايتهم في نطاق واسع.

بيفن: ما أحسبهم يبلغون في هذا المضمار ما بلغه الصهيونيون!

تشرشل: لا أطمئن إلى هذا القرار المجرد عن التوصية.

بيفن: لعل المستر تشرشل ما زال يذكر أنه قد قدم هذا الاقتراح من قبل ففيم اعتراضه الآن عليه؟

تشرشل: لقد أشرت باقتراح كهذا لحمل حكومة الولايات المتحدة على اتخاذ قرار بتأييدنا ومساعدتنا اقتصادياً وعسكرياً على فرض الحل الذي نراه لهذه المشكلة وكان على الحكومة أن تخطو هذه الخطوة من قبل حينما كان تحمس الولايات المتحدة للقضية اليهودية على أشده.

بيفن: هل يرى المستر تشرشل أن نذهب في تأييد مطامع الصهيونية إلى أبعد مما ذهبنا إليه حتى اليوم بالرغم مما سببه هذا التأييد من الحرج لمركزنا في الشرق الأوسط؟

تشرشل: يجب أن نؤيد القضية الصهيونية إلى أقصى حد يمكننا، فقد قامت سياسة هذه البلاد على تبني الحركة الصهيونية، فلا ينبغي لنا –وقد بلغت الحركة الصهيونية هذا النجاح الكبير أن نخذلها فنفسد بذلك جميل صنعنا إلى الشعب اليهودي، ونخسر المزايا التي أمَّلْناها من وراء تأييدهم.

بيفن: فهل نذهب في تأييد اليهود إلى حد إيثار مصلحتهم على مصلحة بريطانيا.

تشرشل: علينا أن نعمل كل ما في وسعنا للتوفيق بين المصلحتين.

بيفن: ألا يرى المستر تشرشل في صبرنا إلى اليوم على هذا الإرهاب اليهودي الذي استفز حتى عامة الشعب في هذه البلاد دليلاً كافياً على التزام الحكومة هذه الخطة التي أشار إليها؟

تشرشل: لا أريد أن أؤيد هذا الإرهاب، ولكني أرى أنه لا يخلو من الفائدة. فقد أشعر أولئك الذين يتحفزون للثورة من الفريق الآخر أنها ليست بالأمر الهين.

بيفن: حتى في جلد الضباط البريطانيين واختطاف القضاة؟

كروسمان: هذا غير صحيح، فإنهم لم يختطفوا إلا قاضياً واحداً فقط!

بيفن: معذرة يا مستر كروسمان فلست هنا محامياً عن الإرهابيين اليهود حتى أهتم بإحصاء ضحاياهم من خصومهم البريطانيين!

كروسمان: ماذا تعني يا مستر بيفن؟

بيفن: أعني أنك أجدر بمعرفة عدد ضحايا موكليك!

كروسمان: كان عليك أن تحفظ هذا الإحصاء لتؤيد به قضية موكليك العرب!

بيفن: إن العرب لا يستحقون مني هذا العناء، وبودي لو كنت محامياً لليهود الذين يجزلون العطاء!

كروسمان: تذكر أنك مدين لهم في منصبك هذا.

بيفن: لا تضطرني إلى أن أقول اكثر مما قلت. واذكر على الأقل أننا الآن في مجلس العموم ولسنا في حلقة الذكر!

(ستار)

            

* جريدة (الإخوان المسلمون)  المصرية  بتاريخ :  28 / 2 / 1947