الملك باروخ الأول

من المسرح السياسي (22)

*

بقلم الأديب الكبير: علي أحمد باكثير

المنظر - حجرة النوم في القصر الأبيض

الوقت – عند منتصف الليل

"الرئيس وزوجته"

الرئيس: ليلتك سعيدة يا عزيزتي، يجب أن آوي إلى فراشي الآن لأنهض مبكراً صباح الغد فقد وعدني المستر برنار باروخ بالزيارة في الصباح الباكر.

الزوجة: كأنك لا تبكر بالنوم إلا من أجل المستر باروخ هذا؟

الرئيس: نعم.. يجب أن تعلمي أن مشيئته لا ترد في هذه البلاد

الزوجة: لكنك رئيس البلاد وعليه أن يحترم راحتك فليس الصباح الباكر بوقت زيارة.

الرئيس: أنا حقاً رئيس البلاد ولكنه هو ملكها غير المتوج.

الزوجة: هذا ذنبك أنت. كان عليك أن تقفه عند حده من أول الأمر وتفهمه أن البيت الأبيض له حرمته وتقاليده فلا يجوز لأحد أن يقتحمه بغير إذنك، وأنت الذي تحدد ميعاد الزيارة لمن يريد زيارتك.

الرئيس: لا سبيل لذلك يا عزيزتي فقد كانوا يفعلون هذا مع سلفي.

الزوجة: وما شأنك بسلفك؟ أو تريد أن تكون هزؤا مثله؟

الرئيس: لا يا عزيزتي لن أفرط في كرامتي مثله.

الزوجة: فكيف تدع هذا اليهودي يملي عليك إرادته ويختار هو موعد الزيارة كما يشتهيه؟

الرئيس: هذا يعني بالنسبة إلى ما كان يصنع مع هاري ترومان فقد كان يطرقه أحياناً بالليل.

الزوجة: بالليل؟

الرئيس: نعم.. كان كثيراً ما يزعجه من فوق ليكلمه في شأن من شؤون دولة الدول.

الزوجة: دولة الدول؟

الرئيس: إسرائيل.. هكذا يزعم هؤلاء إنها ستكون في المستقبل.

الزوجة: والولايات المتحدة ترضى بذلك؟

الرئيس: ترضى أو لا ترضى ماذا يهمهم؟ هذه إرادتهم وإرادتهم نافذة على رغم الجميع.

الزوجة: هذه أوهام وأحلام.

الرئيس: هم يعدونها حقائق. لقد كان وطنهم القومي حلماً فتحقق ثم كانت الدولة اليهودية حلماً فتحققت أيضاً فماذا يمنع من تحقيق حلمهم الأكبر: أن تكون إسرائيل دولة على العالم كله فيها ملك الملوك نسل داود؟

الزوجة: أجل لا يبعد أن يصلوا إلى تحقيق حلمهم هذا ما دام فرد منهم يستطيع أن يبدي رغبته في زيارة رئيس البلاد فلا يجرؤ رئيس البلاد حتى على أن يقترح الوقت المناسب للزيارة.

الرئيس: الصباح الباكر على كل حال أهون من نصف الليل.

الزوجة: غداً يطرقك ليلاً ويزعجك من نومك.

الرئيس: إذن فسيكون لي معه شأن آخر.

"تظهر الخادمة ميري على الباب"

ميري: بالبهو يا سيدي المسز روزفلت!

الزوجان: المسز روزفلت؟

ميري: نعم

الزوجة: هذه قد طلبتك الليلة مرتين في التليفون فأخبرتها إنك متوعك وإن الطبيب أوصاك بلزوم الراحة التامة.

الرئيس: فهل حضرت لتعالجني في نصف الليل؟

ميري: قالت لي إن لديها موعداً عندك.

الرئيس: موعد أي موعد؟

ميري: ماذا تأمر يا سيدي؟ أأصرفها.

الرئيس: كلا.. لا قبل لي بذلك. غداً تثير الدنيا علي!

ميري: أأدخلها هنا أم تخرج إليها؟

الزوجة: بل دعها يا عزيزي تدخل هنا لتراك راقداً على فراشك لعلها تخجل من مسلكها هذا في إزعاجك، اضجع على فراشك وأرها أنك مريض حقاً "تدثره بالغطاء".

الرئيس: أجل.. أدخليها يا ميري!

"تخرج ميري". ماذا تريد هذه العجوز؟ لا ريب أنها قد خرفت

الزوجة: لعلها حنت إلى البيت الأبيض لتستعيد ذكرياتها فيه! هل تأذن لي يا عزيزي أن انسحب فأنا أخشى أن...

الرئيس: أجل أجل آوي أنت إلى حجرتك خيراً لك.

"تخرج الزوجة"

اليانور: "يسمع صوتها مقبلة" هذه حجرة النوم.. أيريد أن يستقبلني في حجرة النوم؟

الرئيس: ادخلي يا مسز روزفلت.

اليانور: "تدخل" أجل لا بأس أن أدخل.. هذه كانت حجرة نومي على كل حال فكأني أنا في بيتي.. أليس كذلك يا سيدي الرئيس؟

الرئيس: صدقت صدقت. تفضلي يا مسز روزفلت.

اليانور: "تجلس" شكراً.. شكراً.. أوه من كان يظن منذ عشر سنين أنني سأدخل هذه الحجرة بالليل زائرة! "تتأمل الحجرة" عجباً هي كما تركتها لم يتغير فيها شيء. حتى جلوسك هكذا على الفراش يذكرني بجلوس زوجي عليه!

الرئيس: أحقاً يا مسز روزفلت؟

اليانور: نعم نعم ولولا شدة شعوري بالحقيقة المرة لحسبتك الآن فرانكلين نفسه! أين السيدة الأولى؟ أين زوجتك؟

الرئيس: ترى ما الذي جاء بك الآن بعد منتصف الليل مسز روزفلت؟ أرجو أن يكون خيراً.

اليانور: المستر برنار باروخ هو الذي اقترح هذا الميعاد.

الرئيس: المستر باروخ؟

اليانور: نعم.. ظننت أنني سأجده قد وصل هنا قبلي. ألم يخطرك بأنه سيزورك؟

الرئيس: أخطرني بأنه سيزورني صباح الغد؟

اليانور: صحيح. لكن بدا له فرأى أن يزورك الليلة.. الساعة.. لا بد انه الساعة في طريقه إلينا.

الرئيس: كان عليه أن يخطرني بتغيير الموعد.

اليانور: اعذره على كل حال.. مشاغله كثيرة كما تعرف.

الرئيس: ألم يجد وقتاً آخر أنسب للزيارة من نصف الليل؟

اليانور: هذا وقت يضمن وجودك فيه مائة في المائة. إنه حريص على وقته كما تعلم لا يضيع منه دقيقة واحدة.

الرئيس: لكني متوعك المزاج وقد أمرني الطبيب بالراحة التامة.

اليانور: ستبقى في فراشك هكذا على أتم راحة، إني واثقة إنه سيعذرك ويعفيك من واجب الاحتفاء بمقدمه. إنه رجل لا يهتم كثيراً بالمجاملات.

"تظهر ميري الخاصة على الباب"

ميري: سيدي.. سيدي الرئيس.. هذا المستر برنار باروخ يطلب مقابلتك.

اليانور: ابق في مكانك.. سأنوب عنك في استقباله وأعتذر لك إليه.

"تنهض فتخرج منطلقة"

"تظهر الزوجة من باب حجرتها"

الزوجة: يا للصفاقة والوقاحة! ما هذا؟ هذا شيء لا يطاق.

الرئيس: ماذا أصنع يا عزيزتي؟

الزوجة: لو كنت مكانك لطردتها وطردت صاحبها اليهودي الصفيق!

باروخ: مساء الخير يا سيدي الرئيس.

الرئيس: مرحبا بك يا مستر باروخ.. تفضل.. لا تؤاخذني...

اليانور: ابق مستريحاً كما أنت يا سيدي. قد تفضل المستر باروخ فقبل عذرك.

باروخ: ترى سيدي الرئيس مريض حقاً أم يتمارض ليتملص من خدمة شعب الله المختار؟

الرئيس: أؤكد لك يا مستر باروخ أنني حقاً متعب مرهق.

باروخ: الذنب على كل حال ذنب وزير خارجيتك. لو لم يناقشني فيما اقترحته عليه لما أزعجناك الآن.

الرئيس: بخصوص العون الاقتصادي؟

باروخ: نعم يجب أن يصدر الساعة بيان يعلن في العالم بأن الحكومة الأمريكية قد قررت استئناف تقديم عونها الاقتصادي لإسرائيل.

الرئيس: لكن ذلك مستحيل يا مستر باروخ.

باروخ: ماذا تقول. مستحيل؟

الرئيس: أعني الآن على الأقل.

باروخ: عليك أن تعلم يا سيدي الرئيس أن كلمة مستحيل إن كانت موجودة في القاموس الأمريكي فإنها لا وجود لها في قاموس الشعب المختار!

الرئيس: يجب أن تقبل ظروفنا الدقيقة يا مستر باروخ.

باروخ: الظروف الدقيقة هذه أيضاً لا معنى لها عند الشعب المختار.

الرئيس: هل نسيت يا مستر باروخ أننا كنا قد اتفقنا معكم على أن نعلن قطع العون الاقتصادي عن إسرائيل لنستميل لذلك قلوب العرب إلينا قليلاً ونزيل من نفوسهم تلك المرارة التي يشعرون فيها نحو أمريكا لاعتقادهم أنها تحابي إسرائيل دائماً دونهم؟

باروخ: كلا ما نسيت ذلك ولكنا اتفقنا أيضاً على أن نؤكد لإسرائيل في الوقت نفسه بأن هذا القطع لن يدوم إلا ريثما يحدث أثره المطلوب في العرب وفي غيرهم من دول هيئة الأمم.

الرئيس: أجل فلننتظر قليلاً حتى يحدث هذا الأثر المطلوب.

باروخ: إن الأثر المطلوب قد حدث فعلاً فوجب إعلان استئناف العون في الحال.

اليانور: الواقع يا سيدي الرئيس إن استمالة قلوب العرب لم تكن تعنينا في قليل أو كثير. بل كان غرضنا الأول من ذلك أن نستدر عطف اليهود في هذه البلاد أيضاً ليضاعفوا تبرعاتهم لصندوق الجباية الإسرائيلي حتى يسدوا العجز الذي سينتج من قطع العون الاقتصادي عن إسرائيل.

الرئيس: صدقت يا مسز روزفلت فلننتظر إذن حتى يجمع صندوق الجباية

باروخ:

الرئيس: يجب على حكومة إسرائيل أن تقنعهم بحقيقة الأمر.

باروخ: لم يعد في وسع الحكومة إقناعهم بذلك.

اليانور: أجل قد وصلتني رسائل خاصة من إسرائيل بأن حكومة بنجوريون لن تستطيع الصمود طويلاً أمام سخط الشعب الإسرائيلي وتذمره من هذا القرار الجائر فلا بد من إعلان استئناف العون حالاً.

الرئيس: يجب على إسرائيل إذن أن تتعهد لهيئة الأمم بأنها ستقف أعمالها في تحويل مجرى نهر الأردن.

باروخ: لماذا؟

الرئيس: لنحفظ اعتبارنا أمام دول العالم. لا يصح أن ترتبط حكومة الولايات المتحدة بقرارها هذا الذي أعلنته للعالم ثم تلغيه بمثل هذه السرعة مع بقاء السبب الذي دعاها إلى اتخاذ ذلك القرار.

باروخ: حسنا.. سآمر مندوب إٍسرائيل بأن يعلن غداً في هيئة الأمم أن حكومته قد قبلت وقف أعمالها في تحويل مجرى الأردن ريثما تفصل الهيئة في هذه المسألة. ماذا تريد بعد؟

الرئيس: لا شيء.

باروخ: يكفيك هذا؟

الرئيس: نعم.

باروخ "يناوله بياناً مكتوباً": وقع إذن على هذا البيان!

الرئيس "يتصفح البيان": فيم هذا العجلة؟ سآمر أنا بإعداد بياني غداً في المكتب.

باروخ: البيان الذي سيعده مكتبك لن يكون خيراً من هذا الذي أعددته بنفسي لك.

الرئيس: لكن..

باروخ: لا داعي إلى إضاعة الوقت في الجدال.. تذكر يا سيدي الرئيس أني الآن متعب وينبغي أن أنصرف لأخذ قسطي من الراحة.

الرئيس: لكن مندوب إسرائيل لم يعلن التعهد المطلوب من حكومته بعد.

باروخ: قد قلت لك إنني سآمره بذلك أفتشك بصدق كلمتي؟

الرئيس: ربما يمتنع المندوب عن ذلك.

باروخ: يمتنع؟!

اليانور: يمتنع؟ هل يقدر أحد في الدنيا أن يعصي أمر المستر برنار باروخ؟

باروخ: أجل.. أفهميه يا مسز روزفلت. إنه جديد في المهنة.

اليانور: المستر باروخ لو شاء أن يحول مجرى نهر المسيسبي لفعل!

الرئيس "ضاحكاً": نهر المسيسبي.

اليانور: نعم ونهر الدانوب أيضاً ونهر النيل ونهر الجانج وسائر أنها الدنيا كلها. هذا يا سيدي الرئيس ملك الملوك!

الرئيس: ملك الملوك؟!

اليانور: أجل.. ملك الملوك!

باروخ: صه.. يا مسز روزفلت، لم يئن أوان ذلك بعد.

باروخ: صه.. يا مسز روزفلت، ألا ينبغي أن تكشفي هذا السر؟

اليانور: دعه يعلم كل شيء. الاتحاد السوفييتي أيضاً يخضع في الحقيقة لسلطان المستر باروخ فالعالم كله يخضع له!

الرئيس "في سخرية خفيفة": يا ريتك يا مسز روزفلت شرحت لي ذلك من قبل إذن لأطعت أمره دون تردد.

اليانور: فأطع الآن أمره فقد أمرك

الرئيس: التوقيع على هذا البيان؟

اليانور: نعم.

الرئيس: خذي.. هأنذا وقعته فهل لكما أن تبرحاني لأنام؟

باروخ: أنا أحوج إلى النوم منك "ينهض" لقد ضاع وقتي الثمين في مناقشات فارغة. هيا بنا يا مسز روزفلت!

اليانور: هيا بنا

باروخ: لا تعجل. عندي بعد كلمة صغيرة يجب أن أقولها لك تبياناً للحقيقة الواقعة.

الرئيس: ماذا تريد أن تقول بعد؟

باروخ: لعلك تظن الآن أني رضخت لإشارتك إذ وعدتك بأن مندوب إٍسرائيل سيعلن موافقة حكوته على وقف أعمالها في تحويل مجرى الأردن.. هه؟

الرئيس: ماذا تقول؟ أتريد أن تخل بوعدك؟

باروخ: كلا ليس مثلي من يخل بوعده.

الرئيس: إذن فماذا تقصد؟

باروخ: ليكن معلوماً عندك أن أعمال التحويل قد انتهت منذ اليوم.. هلم بنا يا اليانور!!

اليانور: هلم بنا يا برنار! "يخرجان"

"ستار"

   

*مجلة الدعوة في 25 صفر 1373