الطريد

من المسرح السياسي (21)

*

بقلم الأديب الكبير: علي أحمد باكثير

بهو الاستقبال في دار السفارة التركية.

طوغاي: (ينادي) كليوبترا! كليوبترا!

كليوبترا: (صوتها من الداخل نعم:

طوغاي: ماذا تصنعين هناك؟

كليوبترا: لا شيء.

طوغاي: تعالى تعالى!

تدخل كليوبترا الوصيفة السابقة للأميرة السابقة)

كليوبترا: أتريد شيئاً يا مارك؟!

طوغاي: مارك!

كليوبترا: مارك انطونيو. أنسيت يا سيدي أننا اتفقنا على ذلك منذ سافرت الأميرة.. الأميرة سابقاً.

طوغاي: صدقت صدقت.. رحلت الأميرة..

كليوبترا: قل: سابقاً.. من فضلك!

طوغاي: سابقاً سابقاً.. وبقيت الملكة كليوبترا.

كليوبترا: قل حالياً من فضلك!

طوغاي: بالطبع حالياً.. هذا مفهوم من قولي: وبقيت. السابق قد رحل والحالي هو الذي بقي!

كليوبترا: عجباً ما كنت أحسبك تجيد تخريج الحديث إلى هذا الحد!

طوغاي: مم تعجبين؟ هذا عملي واختصاصي. تذكري يا كليوبترا أن انطونيو الجديد ليس محارباً جلفاً ولكنه دبلوماسي رقيق!

كليوبترا: وانطونيو القديم كان رقيقاً أيضاً.. كان رقيقاً جداً مع كليوبترا!

(تهم بالخروج)

طوغاي: إلى أين؟

كليوبترا: سأصنع لك الشاي.

طوغاي: دعي الشاي أولاً.. عندي لك ما هو أهم من الشاي!

كليوبترا: (تقبل عليه ثانية) ترى ما هو؟

طوغاي: سأقص عليك حديثاً.

كليوبترا: حديثاً!

طوغاي: نعم.. حديثاً سيعجبك جداً.

كليوبترا: أنا لا تعجبني الأحاديث!

كليوبترا: ألست تحبين الأبطال؟

كليوبترا: أحبهم جداً.. أموت فيهم!

طوغاي: فهذا مارك أنطونيو سيقص عليك عملاً من أعمال بطولته!

كليوبترا: في أي ميدان؟

طوغاي: في ميدان الدبلوماسية.

كليوبترا: (في خيبة أمل) حسناً.. هات قل!

طوغاي: اجلسي أولاً.

كليوبترا: (تجلس) جلست!

طوغاي: أتدرين ماذا قلت لنائب رئيس الجمهورية في حفلة دار الأوبرا أمام سفراء الدول ورجال السلك السياسي؟

كليوبترا: "تقلد صوته وطريقة حديثه" أعمالكم هذه ليست أعمال جنتلمان! لن تكون هناك أي صداقة بيننا وبينكم؟

طوغاي: ويلك كيف عرفت ذلك؟

كليوبترا: قد سمعت ذلك منك أربع مرات!

طوغاي: اسمعيها المرة الخامسة.. ما الضرر؟

كليوبترا: كلا لا طاقة لي بذلك.. إني استثقل الحديث المعاد!

طوغاي: "في شيء من الغضب" بل أنت تميلين إلى مصر والمصريين وإلا لطربت لسماع حديثي ولو أعدته عليك مائة مرة!

كليوبترا: أنا لا أحارب المصريين بالحديث مثلك، بل أحاربهم بالفعل!

طوغاي: تقصدين التهريب؟

كليوبترا: أجل.. لولاي لما استطاعت أميرتك سابقاً وقرينتك فقط الآن أن تهرب من أموالها نحو ربع مليون جنيه!

طوغاي: الفضل في ذلك يرجع إلى المسيو جاك.

كليوبترا: المسيو جاك نفسه لا يستطيع أن ينكر فضلي في ذلك ولولا تهورك الذي لفت إلينا الأنظار لاستطعنا أن نهرب أكثر! ها هو ذا المسيو جاك! "تنسحب"

"يدخل المسيو جاك"

طوغاي: أهلاً مسيو جاك! أين كنت منذ أيام؟ تعال أحدثك الحديث الذي سيعجبك!

جاك: قد عرفت ماذا تريد أن تحدثني.

طوغاي: كيف؟ أو قد حكيتها لك أيضاً؟ لكني لم أرك ولم ترني منذ أيام.

جاك: مجلس الوزراء المصري يدرس مسألتك الآن.

طوغاي: بخصوص ماذا؟

جاك: بخصوص تلك الحماقة التي ارتكبتها في حفلة دار الأوبرا!

طوغاي: إذن فقد نجحت في إغاظتهم هذا ما كنت أريد. اشتهي أن أهينهم بأي سبيل لأشفي غليلي!

جاك: فسيطردونك الآن من بلادهم شر طردة. سترن على قفاك أعظم صفعة تلقاها سفير!

طوغاي: كلا لن يقدروا على ذلك. ستستدعيني حكومتي فأرحل بعد أن أنتهي من تصفية أعمالي.

جاك: كلا لن تستدعيك حكومتك.

طوغاي: إنها قد قررت نقلي من هنا.

جاك: ما كان ذلك القرار لينفذ لولا هذه الحماقة الجديدة التي ارتكبتها.

طوغاي: ماذا تعني؟

جاك: كان جماعتنا في أنقرة بسبيل أن يعطوا هذا القرار لتبقى سفيراً في مصر.

طوغاي: لم يخبرني بذلك أحد حين كنت في تركيا.

جاك: أنا أخبرتك بذلك من قبل أن ترحل إلى تركيا.

طوغاي: لا أذكر ذلك.

جاك: ألم أقل لك مراراً أن تضبط أعصابك وتكف عن توقحك على مصر والمصريين؟

طوغاي: هذا محال. لا أستطيع أبداً أن أضبط أعصابي إذا رأيت أحداً منهم.

جاك: فأنت إذن لا تصلح أن تكون سفيراً لبلادك في أية دولة من الدول ولا عند الزنوج في مجاهل أفريقيا!

طوغاي: "غاضباً" يا مسيو جاك يجب أن تلزم حدك!

جاك: بل كان عليك أنت أن تلزم حدك وتطيع أوامري!

طوغاي: هيه. أنا كنت أقبل مشورتك في بعض الأمور باعتبارك صديقاً لتركيا ولكن ليس على أن أطيع أوامرك في كل شيء.

جاك: بل عليك أن تطيع أوامري في كل شيء!

طوغاي: من فضلك يا مسيو جاك لا تستفز أعصابي فعندي ضغط دم كما تعلم.

جاك: لا شأن لي الآن بضغط دمك. انفجر إن شئت!

طوغاي: ويلك بأي صفة تخاطبني هكذا؟ بأي صفة تلزمني أن أطيع أوامرك؟ أرئيسي أنت؟

جاك: أنا لك أكبر من رئيس. أنا ولي نعمتك!

طوغاي: ولي نعمتي!

جاك: أجل.. من الذي ولاك هذا المنصب؟

طوغاي: حكومة بلادي هي التي ولتني.

جاك: أتدري لماذا وقع اختيارها عليك؟

طوغاي: لأني صهر أسرة محمد علي!

جاك: أجل.. هذه هي المزية الوحيدة التي تستطيع أن تفخر بها!

طوغاي: ولأني كنت أكفأ الموجودين لهذا المنصب.

جاك: أجل.. كنت أكفأ الموجودين من وجهة نظرنا نحن. ولذلك اخترناك. أما عند حكومتك فلا.

طوغاي: ماذا تعني؟

جاك: لو سألت وزير خارجية بلادك لعلمت أننا لما رشحنا اسمك لهذا المنصب اعترضت حكومتك في أول الأمر وكانت حجتها في ذلك أنك صهر الأسرة المالكة في مصر.

طوغاي: فكيف ولتني إذن؟

جاك: ألححنا عليها حتى قبلت. أو تدري لماذا اخترناك بالذات؟

طوغاي: لتحمسي للدول الغربية ولمشروع الدفاع المشترك.

جاك: كلا بل لما لمسنا فيك من التحمس والإخلاص لإسرائيل؟

طوغاي: لكني ما زلت حتى اليوم مخلصاً لإسرائيل وأنت تعلم ذلك وتعلم الجهود التي بذلتها لتوسيع الهوة بين بلادي وبين مصر وسائر الدول العربية حتى لا تميل سياسة تركيا إلى تأييد العرب ضد إسرائيل. أتستطيع أن تنكر جهودي هذه؟

جاك: كلا أنا لا أنكر هذه الجهود الطيبة منك. ولكني قلت لك مراراً أن عليك اليوم أن تكف عن توقحك على المصريين ليتسنى لك البقاء في مصر والاستمرار في بذل تلك الجهود.

طوغاي: لكنك تطلب مني محالاً. لقد كنت أحقد على هؤلاء المصريين وأشفي غليلي منهم بالإهانة والسب قبل أن يصادروا أموال زوجتي فكيف تريد مني أن أكف اليوم عن ذلك بعد هذه المصادرة.

جاك: ذلك أحرى أن تكف لسانك عنهم لو كنت تعقل. لقد كان في وسعنا أن نمضي في تهريب أموال زوجتك في يسر وسلام لولا حماقاتك التي لفتت إلينا الأنظار!

"تدخل كليوبترا"

كليوبترا: أجل قل له يا مسيو جاك.. لطالما نصحته في ذلك فلم يصغ إلى نصحي.

جاك: وأنا نصحته. أكثر منك فرمى بنصحي عرض الحائط. وماذا كانت النتيجة؟ أضاع الأموال على زوجته!

كليوبترا: وأضاع علينا نحن العمولة!

جاك: وأعظم من ذلك أضاع المصلحة الدولية التي ما تولى منصبه هذا إلا من أجل خدمتها.

كليوبترا: وفي سبيل ماذا كل هذا؟

جاك: في سبيل كلمات حمقاء يتشدق بها أمام سفراء الدول ليظهر بها بطولته! "يحاول تقليد صوت طوغاي" لا تغتروا بأنفسكم! انظروا إلى نابليون وما وصل إليه بعد أن بلغ القمة! إنكم بثورتكم هذا ستعرضون البلاد للدمار.

كليوبترا: "تقلد صوته وطريقة حديثه أيضاً" إنكم لن تروني ثانية في هذا المكان القذر!

طوغاي: "يستشيط غضباً" اسكتي واسكت أنت! أنا لا أسمح لكما أن تسخرا مني. ألزما أدبكما واذكرا أنني سفير!

جاك: "في سخرية" سابقاً!

طوغاي: أنا لا أريد أن أبقى في هذا المكان فما شأنكم أنتم؟. أتريدون أن تبقوني فيه بالقوة؟!

جاك: اطمئن! لا نستطيع الآن أن نبقيك في مصر لا بالقوة ولا بغيرها. سيطردونك بالقوة!

طوغاي: كلا لن يقدر أحد أن يطردني أنا الذي سأرحل بمحض إرادتي!

جاك: هيهات!

طوغاي: سترى!

جاك: إن كنت تريد أن ترحل بمحض إرادتك فارحل الآن.. الساعة توا قبل أن يكبسك ضباط البوليس.

طوغاي: كلا لن أرحل إلا متى شئت!

كليوبترا: "تنظر من الشباك" وي! انظر! هؤلاء ضباط البوليس!

جاك: فاتك الأوان يا حضرة السفير المبجل!

طوغاي: كلا.. كلا.

جاك: جاءوا بأمر الطرد لا ريب!

طوغاي: "يصيح في انفعال واضطراب" كلا لن يجرؤا على طردي! لن أطيع أمرهم سأبرق إلى الرئيس جلال بايار!

جاك: لن يصنع لك شيئاً!

طوغاي: سأبرق إلى السير تشرشل.

جاك: وماذا يستطيع تشرشل أن يصنع لك؟

طوغاي: سأبرق إلى الرئيس ايزنهاور.

جاك: ولا ايزنهاور!

طوغاي: "نافد الصبر" سأبرق إلى موسيه شاريت!

جاك: لم يعد موسيه شاريت بحاجة إليك!

طوغاي: "تنتفخ أوداجه ويترنح ذات اليمين وذات الشمال" سأبرق إلى.. إلى.. إلى جنكيز خان!

جاك: قد جن الرجل فهلمي ننسحب قبل أن يدخل الضباط فيرونا معه!

"ينسحب جاك وكليوبترا"

طوغاي: أجل اخرجوا جميعاً من عندي سأقابلهم أنا وحدي! "يحملق ببصره إلى السقف" إن معي جنكيز خان الذي دوخ الدنيا!

"يدخل ضباط البوليس فينظرون إليه متعجبين"

طوغاي: جنكيز خان.. ملك الملوك: خاقان الخواقين! "يقع بصره على الضباط فيرتجف خوفاً ويصيح مستغيثاً:

أدركني يا جنكيز خان! أغثني يا جنكيز خان!

"ستار"

*مجلة الدعوة في 21 جمادى 1373