سأبقى في البيت الأبيض

من المسرح السياسي (13)

سأبقى في البيت الأبيض*

بقلم الأديب الكبير: علي أحمد باكثير

المنظر: أحد مكاتب دار الرياسة بواشنجتون

الوقت: الساعة الخامسة بعد الظهر

-1-

يظهر الرئيس (تروفول) جالساً لي مكتبه وهو شاحب الوجه متوتر الأعصاب يحرق اللفافة تلو اللفافة وقد جلس أمامه سكرتيره الخاص بنيامين.

بنيامين: أشفق على صدرك يا سيدي الرئيس إنك تسرف في التدخين في هذا الحر العصيب.

تروفول: ماذا أصنع يا بنيامين؟ إن أيامي لأسرع جرياُ مما تحترق في يدي هذه اللفائف.

(يشير إلى الروزنامة المعلقة في الجدار) انظر لم يبق من مدة رياستي إلا نصف عام.

- بل خمسة أشهر على التحقيق.. ولكن لا تحزن يا سيدي الرئيس فلعلك أن تكون أنعم بالاً حين تغادر البيت الأبيض.

- ويلك. ما تقول؟ كيف يطيب لي عيش أو ينعم لي بالٍ إذا غادرت البيت الأبيض؟

- تذكر أنك كنت تعيش في غير البيت الأبيض من قبل.

- ولكنني قد ألفت البيت الأبيض الآن فلا أستطيع أن أعيش في غيره.. كلا لا أستطيع أن أعيش في بيت أخضر أو أحمر أو أصفر أو أزرق أو في أي بيت آخر بعد اليوم.. إنني أعيش في البيت الأبيض واعبد من أجله كل ما هو أبيض.

- ما هذا اللون بأفضل الألوان على كل حال.

- بل هو سيد الألوان على الإطلاق ولا ينكر فضله إلا هؤلاء الزنوج المجرمون الذين يريدون أن يتساووا بالبيض في آخر الزمان! ويل لهؤلاء العبيد، لقد بلغت بهم الجرأة والوقاحة أن يشتكونا إلى هيئة الأمم المتحدة – ولكن الدستور الأمريكي يخولهم حق المساواة.

- يجب علاج هذا الدستور الأعمى حتى يكون بصيراً. إن بين اللونين لبوناً شاسعاً. هل تستوي الظلمة والنور؟ أم هل يستوي الحبر الأسود واللبن الأبيض؟ حتى الأطفال الصغار... حتى المجانين لا يخطئون في التمييز بين هذين اللونين

- ما ذنبهم يا سيدي الرئيس وقد خلقهم الله بهذا اللون؟

- أفعلينا إذن أن نتحمل التبعة؟ إنهم إن أجيبوا إلى هذا الطلب فسيتمادون في غيهم وطغيانهم.

- ما أظنهم يطلبون شيئاً آخر بعد نيل المساواة.

- إنك لا تعرف مطامع هؤلاء هذا البيت الأبيض قذى في عيونهم فلن يهدأ لهم حتى يطلوه بلونهم! أفأعيش أنا في بيت أسود؟

- إن تم ذلك فلن يقع في مدة رياستك على أي حال.

- ماذا تعني؟

- أعني أنك حينئذٍ تكون قد غادرت البيت الأبيض.

- (يصيح) كلا.. لن أغادر البيت الأبيض. لا أستطيع أن أعيش في غير البيت الأبيض. سأبقى في البيت الأبيض!

- في وسعك أن تبني لك بيتاً أبيضاً خاصاً بك.

- فهل ادعى هناك الرئيس.

- لا. ستدعى صاحب البيت الأبيض فحسب

- كلا... لا يسكن البيت الأبيض إلا الرئيس. يجب أن أبقى دائماً الرئيس.

- ليس لأحد أن يبقى رئيساُ مدى الحياة.

- فما بال فرنكلين روزفلت قد انتخب ثلاث مرات ولو لم يأخذه الموت من طريقي لانتخب مرة رابعة فخامسة فسادسة؟

- ليس كل رؤساء أمريكا مثل روزفلت.

- ماذا في روزفلت ... ذلك العاجز المشلول؟

- ذلك الشلل كان سر قوته.

- يبدو لي أنك على حق يا بنيامين فما كانت له من ميزة سوى ذلك. ليت شعري. أما من سبيل لأصابني بالشلل؟

-2-

(يدق الجرس فيخرج بنيامين ثم يعود وبيده بطاقة زيارة)

بنيامين: هذا صديقك المستر يعقوب يستأذن لمقابلتك.

تروفول: دعه يتفضل.

- هل لي أن أتغيب ساعة يا سيدي الرئيس لاستطلع الأنباء في النادي؟

- في أي نادي؟

- في النادي الصهيوني.

- اذهب ولا تغب طويلاً فنحن بحاجة إليك.

- لا.. لن أغيب طويلاً .. ساعةً واحدة تكفيني (يخرج)

-3-

(يدخل المستر يعقوب فيقوم له تروفول ويحييه ويدعوه أن يتفضل بالجلوس)

تروفول: مرحباًُ بك يا صديقي العزيز.. ما أخبارك؟

يعقوب : جئتك ببشرى ستفرحك كثيراًُ.. لقد ربحنا مئة ألف دولار في صفقة الجلود الأخيرة

- مئة ألف دولار؟

- نعم.. على عدد اليهود المطلوب إدخالهم إلى فلسطين. هذا فأل حسن أليس كذلك؟

- نعم.. هذا اتفاق عجيب.

- سأبشرك ببشرى مثلها قريباً حين نبيع صفقة القطن. مالي أراك مهموماً؟ ألا تفرح لهذه البشرى؟

-(يتنهد) أنى لي أن أفرح بشيء وشبح الانتخابات ماثل أمامي؟

- إن كنت مصراً على إدخال المئة ألف إلى فلسطين فلا خوف عليك من الانتخابات.

- من قال لك إنني لست مصراً على ذلك ؟

- ولكنك لم تصرح بهذا تصريحاً جديداً منذ يومين؟

- إلى متى أصرح وأصرح؟ لقد تعبت من التصريحات.

- يجب أن تجتمع بالصحفيين الليلة فتصرح لهم. وهذه دعوة لك إلى حفلة شاي في دار الجمعية الصهيونية.

- متى؟

- غداًَ الساعة السابعة مساء (يناوله رقعة الدعوة)

- ولكنني مرتبط في هذا الموعد بجلسة خاصة مع الوزراء للنظر في مسألة العمال المضربين

- فماذا أنت صانع؟

- سأعتذر للجمعية عن الحضور.

- كلا لا يمكن الاعتذار عن حضور هذه الحفلة لأنها ستقام خصيصاً لاستقبالك وقد أعدوا العدة لذلك ووزعوا بطاقات الدعوة على المدعوين.

- ألا يمكنهم تأجيلها إلى موعد آخر؟

- ولا هذا أيضاً

- فماذا نصنع؟

- ليس أمامك إلا تأجيل الجلسة الوزارية فالوزراء في متناول يدك وعددهم محدود.

- ولكن هذه الجلسة لبحث مسألة هامة ومستعجلة.

- والحفلة أيضاً لبحث مسألة هامة ومستعجلة يتوقف عليها مصير الشعب اليهودي بأسره كما يتوقف عليها مصيرك في الانتخابات القادمة.

- لكن ماذا أقول في الحفلة؟ إنني متعب ولا صبر لي على تحبير الخطب.

- هذا أمر بسيط يمكنك الاعتماد علي فيه.. سأقوم أنا بتحبير الخطبة لك وما عليك إلا أن تلقيها.

- لكن..

- لا.. لا أسألك على ذلك أي أجر فحسبي أن أطمئن إلى أنك ستنجح في الانتخابات وهذا يكفيني.

- شكراً لك يا صديقي العزيز.

- لا. لا شكر على واجب يا سيدي الرئيس.

(يستأذن يعقوب في الانصراف فينصرف ولا يلبث تروفول أن يرتمي برأسه على مكتبه)

-4-

"تروفول" (يرفع رأسه عن المكتب) لقد كادت روحي تزهق من هذه المقابلات والحفلات والجلسات.. أليس لها آخر؟

(يضغط على الجرس فيدخل الحاجب)

تروفول: إني لا أريد أن أقابل أحداً الآن.. من يطلبني فإني غير موجود... أفهمت؟

الحاجب: نعم يا سيدي الرئيس

(يخرج)

تروفول: (يحدث نفسه) هؤلاء اليهود الجشعون! لقد أصبح مصيري تحت رحمتهم... هؤلاء الدخلاء المتحكمون الذين يصدرون أوامرهم إلينا من نيويورك.. إنها لم تعد نيويورك. لقد صدق من سماها جويورك. كلا. لا أدعهم يتكاثرون في هذه البلاد. لتبلعهم فلسطين ولتأكلهم وحوش العربِِ!.. خمسة أشهر.. الانتخابات... البيت الأبيض..لا. لا سأبقى في البيت الأبيض (يعود فيهوي برأسه على المكتب)

(يدخل الحاجب ثانياً فيرفع تروفول رأسه)

ترو فول: ماذا؟ أزائر جديد؟ ألم أقل لك أنني لا أريد أن أقابل أحداً الآن؟

الحاجب:من أعضاء مجلس الشيوخ يا سيدي الرئيس...

تروفول : (محتداً) من أعضاء مجلس الشيوخ أو مجلس الأطفال... قل له إنني غير موجود

الحاجب: (ينظر في البطاقة التي في يده) حائم ليفي يا سيدي الرئيس.

- حائم ليفي؟ لماذا لم تذكر لي اسمه من قبل؟ أدخله.. ائذن له..

(يخرج الحاجب ويمسح تروفول صلعته ويثبت نظارته)

(يدخل حائم ليفي فينهض له الرئيس ويحييه ويأذن له بالجلوس)

حائم: أردت أن تعتذر عن مقابلتي؟

تروفول: معذرة يا مستر حائم إن الحاجب التعس لم يذكر لي اسمك في أول الأمر. ماذا وراءك؟ أرجو أن يكون خيراً.

- خير! أي خير تتوقع أن يأتينا بعد خطبة بيفن الأخيرة؟

- ألا تزال تذكر خطبة بيفن بعد ما مضى عليها أكثر من أسبوع؟

- سيذكرها رفاتي بعد أن تمضي عليها قرون وقرون! لقد تحدانا هذا الإنجليزي الوقح وتحدى الشعب الأمريكي بأسره. هل نستطيع أن ننسى قوله فيها أن أمريكا إنما تلح بإدخال المائة الألف يهودي إلى فلسطين لأنها لا تحب أن ترى كثيراً من اليهود في نيويورك؟ هل رأيت وقاحة أعظم من هذه قط؟

- أجل إنها لوقاحة عظيمة.

- ألا ترى معي أن هذه الجملة تشبه تلك الجمل الهتلرية في كتاب كفاحي؟ ما بقي على بيفن هذا إلا أن يجمع الناس فيقرأ عليهم الفصول التي خصصها هتلر لليهود في كتابه.

- تلك والله فصول قوية رائعة.

- قوية رائعة ماذا تقول؟

- كلا. لا أعني هذا... إنما أعني أنها قوية مثيرة... لعنة الله على هتلر. أراد إبادة اليهود ولكن اللعين أخفق.

- (يتغير وجهه) يؤسفني يا سيدي أن أجد في لحن قولك ما يشعر بأنك تود لو نجح.

- كلا يا مستر حائم، لا حق لك أن تحمل كلماتي فوق ما تطيق. وبعد فإني منهوك الأعصاب اليوم فلا تؤاخذني إن لم أحسن التعبير عما أريد. تباً لبيفن ما كان أحد يتوقع منه أن يقول مثل هذه الجملة الهتلرية.

- كلا. لا تستغرب هذا منه...أستطيع أن أؤكد لك أن بيفن هذا يقتني في مكتبته كتاب كفاحي ويقرؤه كل يوم بدل الإنجيل.

- لا أدري كيف جرؤ على أن يقول مثل هذا في خطبة عامة.

- إنه اطمأن إلى عقد القرض الإنجليزي الأمريكي فلم يعد يبالي بأميركا بعد أن خدعها وابتز منها هذا القرض. يجب علينا وقف هذا القرض ليشعر هذا الوقح بقوتنا.

- ولكن هذا القرض في مصلحة أمريكا قبل أن يكون في مصلحة بريطانيا.

- أمن مصلحة أمريكا أن تسقط أنت في الانتخابات القادمة؟

- الانتخابات...لا..لا ... يجب أن لا أسقط في الانتخابات يجب أن أنجح في الانتخابات

- فقم إذن بواجبك...اعمل على وقف القرض.

- لكن هذا يكاد يكون مستحيلاً اليوم بعد ما وافق عليه مجلسكم.

- ما عليك إلا أن تعمل فترضي شعورك ويعرف البريطانيون غضبتك آه لو كان المرحوم روزفلت حياً لعرف كيف يقوم بواجبه.

- اسحب هذه الكلمة ويلك إنني أكفأ من روزفلت... سيشهد التاريخ أنني أكفأ وأعظم من روزفلت اسحب هذه الكلمة.

- قد سحبتها يا سيدي الرئيس. إنني لأعلم أنك أكفأ منه بمراحل، وإنما أردت أن أثير فيك الحمية.

(5)

تروفول: (يمسح بمنديله العرق عن وجهه) لعنة الله عليك يا هتلر... لماذا لم.. (يدخل الحاجب وبيده بطاقة).

تروفول: (أزائر آخر؟ لعنة الله عليك..ألم أقل لك..

الحاجب: اسمه كوهين ايزاك يا سيدي الرئيس (يناوله البطاقة)

- (ينظر في البطاقة فيلين لهجته) حسناً.....له.. (بلهجة صارمة) لا تأذن لأحد بعده...أفهمت؟

الحاجب: سمعاً يا سيدي الرئيس (يخرج)

تروفول: (يحدث نفسه) حائم ليفي.. ليفي حائم.. كوهين ايزاك.. ايزاك كوهين.. ليفي ايزاك ايزاك ليفي.. حائم كوهين.. كوهين حائم بنيامين.. ايزاك.. ايزاك بنيامين.. حائم بنيامين.. أوه! كم ينتج من ضرب هذه الأسماء بعضها في بعض! لعنة الله عليك ياهتلر

(يدخل المستر سنسير)

تروفول: (مستغرباً) أنت يا مستر سنسير! لكني أذنت الآن للمستر...(ينظر في البطاقة) كوهين ايزاك.

سنسير: (باسماً) أنا كوهين ايزاك.

- كيف تنتحل هذا الاسم؟

- لأنه اسم حبيب إلى قلبك ماذا أصنع يا صديقي العزيز إذا كنت لا تأذن إلا للأسماء التي من هذا النوع؟ لقد استأذنت مراراً عليك فلم يؤذن لي..

- فماذا تريد الآن؟

- إنني صديقك القديم يا سيدي الرئيس وليس كثيراً عليك أن تسمح لصديقك القديم بربع ساعة معك.

- فاجلس إذن وأوجز في كلامك فإني قد تعبت من المقابلات.

- (يجلس) مسكين أنت يا صديقي العزيز ما رأيك لو ذهبنا الآن إلى حديقة الفردوس) فقضينا ساعة هناك بعيداً عن المقابلات والرسميات حتى تريح أعصابك؟

- لا. لا أستطيع ذلك الآن فقل هنا ما تريد أن تقوله هناك.

- أمرك يا سيدي.

- ترى هل لديك حديث آخر غير لومي على تأييد الصهيونيين؟

- لا ليس عندي غير ذاك. بودي والله لو يجيء اليوم الذي أستغني فيه عن طرق هذا الموضوع البغيض معك.

- ألم تسمع ماذا قال وزير الخارجية البريطانية في خطبته الأخيرة؟

- بلى سمعت ذلك ولهذا جئتك أرأيت كيف أوقعنا البريطانيون في هذه الورطة وصورونا أمام الشرق العربي بهذه الصورة التي لا تليق بسمعة الولايات المتحدة؟

- وما قيمة هذا الشرق العربي الذي تكثر من ذكره؟

- سل بريطانيا فهي تعرف قيمته جيداً. إن مصالحنا التجارية ومشروعاتنا الاقتصادية وشركات الزيت أصبحت في خطر من جراء هذا الموقف العجيب الذي تقفه حكومتنا من قضية فلسطين.

- إننا نطمع في الدولة اليهودية إذا قامت في الشرق الأوسط أن تؤيد مركزنا هناك. ولا مطمع لنا في العرب لأنهم قد باعوا أنفسهم لبريطانيا فلن يتخلوا عنها.

- أتظن اليهود يؤثروننا في المستقبل على أولياء نعمتهم البريطانيين الذين لولاهم لما كان للقضية اليهودية في فلسطين وجود؟.. لقد كان لنا سمعة طيبة عند العرب فكدنا نضيعها بجهلنا واندفاعنا في تأييد الصهيونيين بغير عقل ولا روية ولئن استمرت هذه السياسة الخرقاء لنفقدن كل شيء في الشرق الأوسط، وهذا ما يرمي إليه البريطانيون ليخلو لهم الجو هناك ويبقى لهم حق السيطرة بين الفريقين المتنازعين.

- ولكن بريطانيا أشركتنا في النظر لحل مشكلة فلسطين واعترفت بحقنا في ذلك.

- أجل هذا هو الفخ الذي نصبه المكر الإنجليزي لنقع فيه. لقد قدرت بريطانيا الحساب فلم تخطئ. كانت تعلم بالضغط اليهودي في هذه البلاد وأنه سيحملنا إذا اشتركنا في لجنة التحقيق المصطنعة على أن نحابي الصهيونيين بغير حساب فكان لبريطانيا ما أرادت إذ كانت التوصيات التي أصدرتها الجنة ضربة قاضية على سمعتنا وكرامتنا في الشرق الأوسط.. بل في العالم كله.

- ولكن الناس لن يصدقوا هذه الدعوى من البريطانيين.

- ماذا يمنعهم من تصديقها وهم يرون الرئيس الأمريكي يصيح كل يوم بأن أدخل هذا العدد من اليهود إلى فلسطين هو السياسة الأمريكية؟

- ماذا تريد أن تصنع إذا كانت هذه إرادة الشعب الأمريكي.

- حاشا للشعب الأمريكي الحر أن يرضى هذا الموقف الشائن لحكومته

- أتريد أن تقول إن اليهود في أمريكا ليسوا من الشعب الأمريكي؟

- إنك تعرف بنفسك أنهم ليسوا من الشعب الأمريكي لأن مصالح أمريكا لا تهمهم بمقدار ما تهمهم مصالح الصهيونية العالمية. إنهم يبيعون أمريكا من أجل صهيون لقد جعلوا الأمة الأمريكية مهزلة بين الأمم!

- لكن قل لي ماذا نصنع؟

- يجب أن تتحرر بلادنا من سيطرة هؤلاء الدخلاء فتبني سياستها...

...

لقد ثبت أنه هرب من فرنسا على متن طائرة أمريكية.

- طائرة أمريكية!

- نعم ونزل في المطار الأمريكي باين فيلد... أرأيت نكبة أعظم من هذه قط؟

- إي والله إنها لنكبة.. إنها لفاجعة.. لكن ما ذنبي أنا؟ إنني لم آمر الطائرة بحمله وإنني لمستعد أن آمر بتحطيم هذه الطائرة وحرقها.. لا بل سآمر بوضعها بين السفن التي ستجرب عليها القنابل الذرية لتمحوها محواً.

- ما فائدة هذا اليوم؟

- هذا كل ما في طاقتي أن أفعله... ماذا يريدون مني أن أصنع؟ إنني لا أستطيع أن أفهم لماذا يحملونني هذه التبعة.

- سآمر بريطانيا بالقبض عليه.

- إن بريطانيا التي صفعك وزير جارجيتها تلك الصفعة الرنانة على رؤوس الأشهاد لا يعقل أن تطيع أمرك.

- سأكتب إلى صديقي المستر شرشل..

- يرحمه الله.

- يا للفجيعة أمات المستر شرشل؟

- من زمان.

- ماذا تقول؟

- مات اسمه، وبقي جسمه.

- يتنفس الصعداء قل لي هكذا.. لقد روعتني.

- اطمئن يا سيدي الرئيس فقد بقي جسمه الضخم.. و.. وسيجارته الضخمة!

- لا حق لك أن تسخر بهذا الرجل العظيم.

- يعز علي يا سيدي أن أقول هذا عن رجل يجاهر دائماً بأنه صهيوني.. ولكن هذا هو الواقع اليوم في بريطانيا.

- كلا إنه لم يزل معبود الجماهير هناك.

- أجل إن الناس يعبدونه هناك كما يعبدون شبيهاً له في المنظر والشكل يرونه في الأفلام الأمريكية.

- من هو؟

- الممثل الهزلي هاردي.

- هاردي... (يندفع في قهقهة عصبية) هاردي.

- نعم. إنهم يضحكون عليه كما تضحك عليه الآن؟

- أنا لم أضحك عليه.. وإنما أضحكني هذا الشبه بين الاثنين.. ها ها ها هاردي.. نعم إنه بدين مثله.

- إن أهالي لندن يحبون الفكاهة يا سيدي الرئيس وهم يبحثون اليوم عن رجل آخر يكون نحيف الجسم ليجعلوه لوريل.

- أين يبحثون عنه؟

- بين أقطاب السياسة في العالم بالطبع حتى يصح أن يقرن إلى تشرشل.

- ويلك... أخشى أن يقع اختيارهم.

- لا ليس الآن.. حتى يسقط قطب نحيف الجسم..

- لا لا أريد أن يقرنوني إلى تشرشل.. لا أريد أن أكون لوريل.

- لا خوف عليك من هذا ما دمت في البيت الأبيض.

- فسأبقى قي البيت الأبيض. يجب أن أنجح في الانتخابات بأي ثمن.

- قد كان ذلك مرجو قبل فرار المفتي.

- سأقبض على المفتي بأي ثمن.. سأفعل كل شيء للقبض عليه.

- لا تنس أنه أصبح اليوم في حماية ملك مصر.

- فليكن!

هيهات. أما تعرف يا سيدي الرئيس أن كلمة من الملك الشاب تثير سبعين مليوناً من العرب وأربعمائة مليون مسلم من ورائهم؟

- أواه! ماذا أصنع الآن؟... لا أريد أن أكون لوريل.. لا أريد أن أقرن إلى شرشل! البيت الأبيض.. يجب أن أبقى في البيت الأبيض.. آه.. آه.. (يتهالك على المكتب).

- (يدنو منه) ماذا بك يا سيدي الرئيس؟

- آه.. إنني أشعر بألم شديد.. آه.

- أين يا سيدي الرئيس؟

- هنا في ذراعي.. في النصف الأيسر مني.. ادع الطبيب حالاً.. آه.

(ينطلق بنيامين ويخرج)

-7-

(يدخل بنيامين ومعه الطبيب)

الطبيب: متى أصابه هذا؟

بنيامين: الآن فقط... كنت أتحدث معه فإذا هو يصيح فجأة ويتلوى من الألم.

- لا بد أنه فقد الوعي من شدة الألم.. ساعدني يا مستر بنيامين... (يحملانه حتى يرقدانه على كرسي طويل.. يخلعان عنه سترته ويرش الطبيب منها حول أنفه).

تروفول: (ينتبه من غشيته) آه.. آه.. أين أنا الآن؟

بنيامين: في البيت الأبيض يا سيدي الرئيس.

تروفول: آه.. أنقذوني من هذا الألم. أنقذني يا مستر وليم.

الطبيب (يفحصه): لا بأس عليك يا سيدي الرئيس..

تروفول: ماذا أصابني يا مستر وليم؟ قل..

الطبيب: شلل يا سيدي الرئيس.

تروفول: شلل!

الطبيب: نعم ولكنه بسيط جداً ولا خوف عليك منه (يحقنه في ذراعه).

تروفول: آه.. أنقذني من الألم الشديد.

- قد حقنتك المورفين وسيزول هذا الألم حالاً.

- صحيح.. صحيح.. خف الألم خف كثيراً.. (يحاول النهوض فيساعدانه وينهض) ها.. الآن زال الألم.. ولكني لا أستطيع أن أحرك ذراعي.. أهذا هو الشلل؟

- نعم يا سيدي الرئيس.. اطمئن يا سيدي سأعطيك علاجاً يزيل هذا الشلل كله في خلال يومين.

- كلا.. لا تزل هذا الشلل.. أريد أن أبقى هكذا مشلولاً.. لقد اطمأن قلبي الآن.. سأبقى في البيت الأبيض مدى الحياة!

 "ستار"

         

*جريدة (الإخوان المسلمون المصرية) في 21/1/1946