الهديّة المسمومة

من المسرح السياسي (12)

الهديّة المسمومة*

بقلم الأديب الكبير: علي أحمد باكثير

عقب قرار بريطانيا الانسحاب من فلسطين، وقبل قرار التقسيم من هيئة الأمم المتحدة.

- 1 -

في دار المندوب السامي بمدينة القدس.

المندوب السامي يستقبل الدكتور حسين الخالدي مندوباً عن الهيئة العربية العليا.

المندوب السامي: شكراً لتلبيتك الدعوة يا سيد حسين.

الخالدي: هذا واجبي يا صاحب السعادة.

كاننجهام: كلفتني حكومة صاحب الجلالة أن أبلغكم بأنها جادة في قرار الانسحاب من فلسطين إذا لم يتفق الطرفان على حل سلمي.

الخالدي: أي طرفين تعني؟

كاننجهام: ما سؤالك هذا؟ أتتجاهل قصدي؟

الخالدي: إنك تفهم مغزى سؤالي، فلا تشركني في الفعل وتفردني بالتعجب.

كاننجهام: إني عنيت العرب واليهود طبعاً.

الخالدي: وإني لا أسلم بأن اليهود طرف في القضية.

كاننجهام: فمن الطرف الثاني؟

الخالدي: أنتم البريطانيين؟

كاننجهام: ليس من مصلحتكم اليوم أن تتجاهلوا وجود اليهود في فلسطين وإن لهم فيها مشكلة تهتم بها الدنيا كلها.

الخالدي: نحن لا نتجاهل وجودهم ولكننا نعتبرهم ذيولاً لكم.

كاننجهام: لو كانوا ذيولاً لنا كما زعمت لما ناصبونا العداء المر.

الخالدي: إن راقصة الحان يا صاحب السعادة قد تعثر بذيلها وهي في نشوة الرقص!

كاننجهام: فها نحن أولاء سننسحب من البلاد ونترككم وجهاً لوجه أمام اليهود.

الخالدي: إن خرجتم من بلادنا فستخرج ذيولكم في إثركم لا محالة.

كاننجهام: تذكر أنهم أقوياء وأنكم لن تستطيعوا الوقوف أمامهم إذا تخلينا عن حمايتكم.

الخالدي: ما جعلهم أقوى منا إلا بقاؤكم في البلاد.

كاننجهام: إنكم لا تقدرون أن تنكروا جهودنا في إيقاف سيل المهاجرين غير الشرعيين من اليهود، واصطياد السفن التي تحملهم إلى هذه البلاد، ولولانا لعم البلاء عليكم.

الخالدي: ليس عندنا مهاجرون شرعيون وغير شرعيين، فكل اليهود الذين دخلوا هذه البلاد بعد احتلالكم وبحماية حرابكم نعتبرهم غير شرعيين، وسنطهرها منهم في أول فرصة تمكننا، إما بانسحابكم إن صدقتم، وإما بإجلائكم عنها في يوم قريب أو بعيد.

كاننجهام: لن يكون في وسعكم إيقاف أولئك المهاجرين إذا تخلى أسطولنا عن هذه المهمة.

الخالدي: لا ندعي أن لنا أسطولاً كأسطولكم نستطيع به أن نوقف سفنهم في عرض البحر ثم نقودها إلى جزيرة قبرص حيث ننزلهم هناك وننفق على إيوائهم وإعاشتهم من خزينة هذه البلاد كما تفعلون ثم تدخلونها بعد ذلك إلى فلسطين وتعتبرونهم مهاجرين شرعيين ولكن لدينا طريقة أبسط من هذه وأقل تكاليف.

كاننجهام: فما هي؟

الخالدي: سنستقبل سفنهم كما تستقبل السفن التي تحمل إلينا الخراف من أرض الصومال وسنعتبرها كلها خرافاً شرعية لأن لحومها ستكون سماداً طيباً للأجزاء القاحلة من أرضنا المباركة.

كاننجهام: يخيل لي يا سيد حسين أن هذا كلام من لا يقدر الأمور حق قدرها، ولا يعرف أن القرار الذي أعلنه مندوبنا في الجمعية العامة لهيئة الأمم المتحدة قرار خطير جداً.

الخالدي: كلا يا صاحب السعادة بل نحن أعرف الناس بخطورته وستعرفون هذه الحقيقة قريباً حين يصدر مجلس جامعة الدول العربية قراراته في الدورة الحالية.

كاننجهام: ألا تخشون قوات اليهود العسكرية البالغة مائة ألف أو تزيد مسلحة أكمل تسليح ومدربة أتم تدريب؟

الخالدي: إن عرب فلسطين لا يخشون إلا شيئاً واحداً هو أن تصير هذه البقعة من أرض العرب أرضاً يهودية، فهم يتشبثون بالحياة ليحولوا دون حلول هذه اللعنة على بلادهم أما وقد أصبح الملايين من إخواننا العرب يشعرون شعورنا ويؤمنون إيماننا وقد عقدوا عزمهم على وقاية فلسطين من تلك الكارثة، فلا ضير علينا نحن عرب فلسطين أن نبيد جميعاً إذا سلمت فلسطين للعرب، ولن نبيد حتى نبيد اليهود في هذه الأراضي المقدسة فلا يقع عليها لأي يهودي ظل!..

كاننجهام: (يلين لهجته) الحق أقول لك أننا ندرك هذه الحقيقة تمام الإدراك ولهذا قررنا الانسحاب لنقضي على أطماع الصهيونيين وأحلامهم في أرض العرب، ولو خالجنا شك في انتصار العرب عليهم لمضينا في تحمل أعباء الانتداب إلى النهاية، مهما تكبدنا من الخسائر ولقينا من المتاعب، فعلى العرب أن يعرفوا لنا هذا الصنيع فيوثقوا أواصر الصداقة الطبيعية بيننا وبينهم.

الخالدي: لقد خدعتم العرب بهذه الصداقة الوهمية مرة بعد مرة، ولكنهم لم ينخدعوا بها بعد اليوم.

كاننجهام: كأنكم لا تريدون أن تقدروا لنا هذا الصنيع العظيم.

الخالدي: إنكم يا معشر البريطانيين تحبون دائماً أن تحمدوا بما لم تفعلوا، فما هذا الذي تسميه صنيعاً تتقاضونا الثناء عليه إلا خطة دفعتكم الظروف إليها دفعاً بعد أن عجزتم أن تقنعوا الولايات المتحدة بأن تساعدكم مالياً وعسكرياً على المضي في ظلم العرب وفرض الدولة الصهيونية عليهم بالقوة نظراً لأزمة بريطانيا الاقتصادية التي لم يسبق لها مثيل، فاضطررتم إلى إعلان هذا القرار لتحملوا أمريكا على مراجعة موقفها من طلبكم، فيتم لكم ما تريدون من السيطرة على فلسطين بمعاونة أمريكا وتأييدها المالي والعسكري,

كاننجهام: لقد ارتبطنا بهذا القرار ولن نتراجع عنه، فلو لم نكن مخلصين فيه لصالح أصدقائنا العرب فكيف تفسر إقدامنا عليه فيما لو بقيت الولايات المتحدة ممتنعة عن تأييدنا مالياً وعسكرياً، وهو ما تدل عليه شواهد الأحوال؟..

الخالدي: إذاً تكونوا قد مهدتم بهذا الفرار الماكر لتحقيق أهداف سياسية أخرى لمصلحتكم أولاً وقبل كل شيء.

كاننجهام: ليت شعري ما تلك الأهداف الأخرى؟..

الخالدي: ما المسئول عنها بأعلم من السائل، ولكن لا بأس أن تسمعها مني لتعلموا أن المكر البريطاني قد أصبح لا يجوز علينا حتى في أدق خططه وأبعدها مرمى.

فأولاً: أن تثيروا عداء العرب وسخطهم على الولايات المتحدة لعلمكم أنها ستؤيد مطامع الصهيونيين وتتحيز لهم في المجمع العام لهيئة الأمم المتحدة.

ثانياً: لن يجد يهود بريطانيا الذين تخشونهم كل الخشية ولا عبيد الصهيونية ومأجوروها من الإنجليز أنفسهم في هذا القرار الذي يوهم الحياد المطلق حجة مقنعة لاتهام بريطانيا بخذلان اليهود والتخلي عن الصهيونية ربيبتها المدللة.

ثالثاً: تحاولون بهذا القرار كسب رضا العرب من نفس الوقت لعلمكم أن ليس أحب إليهم من أن يستيقظوا ذات صباح فلا يجدوا في فلسطين جندياً بريطانياً.

رابعاً: إنكم تعلمون أن الدول العربية وشعوبها ستنقذ فلسطين بالقوة وتمزق أحلام الصهيونيين وتذروها في الهواء، ويومئذ لا تعدمون من سماحة العرب ما يساعدكم على إيهامكم بأن الفضل الأول في خلاصهم المجيد يرجع إليكم فتضمنون بذلك حق الأولوية في صداقة العرب بما يوطد نفوذكم في الشرق الأوسط دون منازع.

خامساً: ستأمنون بذلك ما يساوركم اليوم من خشية أن يجد الغول الروسي سبيلاً إلى التسلل إلى قلوب العرب.

كاننجهام: إن صح بعض الذي تقول، فقد شهدت لنا ببراعة سياسية لا نستطيع أن ندعيها لأنفسنا، وعلى كل حال فقد سلمت بأن في هذا القرار سبيلاً إلى خلاص العرب، وحسبنا هذا دليلاً على إحساننا إليهم، وإنما الحكم بالأعمال لا بالنيات.

الخالدي: هذا صحيح، فقد ابتهجنا بهذا القرار على علاته إن صدقتم فيه، ولكنا لا نستطيع أن نتخذه دليلاً على حسن نيتكم نحونا، لأن تجارب السنين الطوال معكم، سواء في هذه البلاد أو في مصر أو العراق أو غيرها قد خلقت في العرب عقيدة راسخة يؤمنون بها كما يؤمنون بطلوع الشمس من المشرق وغروبها في المغرب، وإن سوء النية نحوهم قد فاضت به دماؤكم، فإن ظهر من أعمالكم ما يوهم الشذوذ عن هذه القاعدة فعن اضطرار منكم، ولعلة معلومة منا أو مجهولة.

كاننجهام: هذه تصورات عجيبة.

الخالدي: لا تعجبوا منها فقد خلفتها جرائمكم العجيبة.

كاننجهام: هبني سلمت معك جدلاً بأن أعمالنا الماضية في فلسطين كانت كلها جرائم كما تزعمون، فلم لا تعدون مثل هذا القرار الذي ابتهجتم به تكفيراً منا عنها؟

الخالدي: إن التكفير إنما ينجم عن التوبة والتوبة معناها الندم على إثم اجترح في الماضي والإقلاع عنه في الحاضر والعزم على اجتنابه في المستقبل، فلو كان هذا القرار كذلك لما ذهبت تمن به عليهم وتعتبره صنيعاً تستوجبون به منهم الحمد والثناء.

كاننجهام: إني سأسايرك في هذا الجدل إلى النهاية، فهل لك أن تدلني كيف يكون التكفير الصحيح؟

الخالدي: محال أن يصدر ذلك منكم، فلا داعي لذكره.

كاننجهام: ماذا عليك لو ذكرته؟

الخالدي: أن تعلنوا على رؤوس الأشهاد بطلان وعد بلفور المشئوم وكل ما ترتب عليه من نتائج، وأنكم تاركون لأهل فلسطين أن يقرروا مصيرهم بأنفسهم.

كاننجهام: لقد وعدنا اليهود وعداً وقطعنا للعرب وعداً، فهل من العدل أن تتمسكوا بأحدهما وتطلبوا منا إعلان بطلان الآخر؟

الخالدي: من قال لك أننا نتمسك بالوعد الذي قطعتموه للعرب؟

كاننجهام: لكنكم تحتجون به في كل مناسبة.

الخالدي: إنا إن ذكرناه ففي معرض التدليل على تناقض وعودكم لا غير. أما الوعد ذاته فلا قيمة له عندنا البتة، فأعلنوا بطلانه إن شئتم فسيبقى لنا حق واحد لا يستطيع بلفور ولا تشرشل ولا ترومان ولا سمطس ولا غيرهم من عبيدي الصهيونيين وأجراء المال اليهودي أن ينكروه، ألا وهو أن هذه الأرض أرضنا منذ ثلاثة عشر قرناً وأنها قبل ذلك أرض آبائنا الأقدمين من آلاف السنين فما قيمة وعد حقير قطعه لنا دخيل غاصب في فترة ضعف من فترات تاريخنا المجيد الطويل؟

كاننجهام: إنكم تريدون منا أمراً لا سبيل إليه.

الخالدي: قد قلت لك آنفاً أن هذه الكفارة لن تصدر منكم لأنها تخالف ما اختلطت به دماؤكم من حب العدوان والإثم.

كاننجهام: فهبونا نفذنا هذا الاقتراح أفتعترفون حينئذ بحسن نيتنا نحو العرب؟

الخالدي: كلا.. حتى تكفروا مثل هذا التكفير الصحيح عن سائر جرائمكم في وادي النيل وفي العراق وشرقي الأردن وليبيا وغيرها من أجزاء الوطن العربي الأكبر.

كاننجهام: وماذا يكون لنا عندكم حينئذ؟

الخالدي: ستلقون من حسن نيتنا نحوكم أِضعاف حسن نيتكم نحونا، وستجنون من ثمار صداقتنا الحرة الكريمة فوق ما تحلمون.

كاننجهام: (يتنهد) هذا حلم جميل، ولكنه يعارض طبيعة الإمكان والتزامات الواقع.

الخالدي: (يجيل بصره في أنحاء الغرفة) هذا المكان غاية في النظافة.

كاننجهام: (مدهوشاً) بالطبع.. بالطبع.

الخالدي: (يبتسم) لا عقارب فيه ولا حشرات.

كاننجهام: (تزداد دهشته) عقارب وحشرات!

الخالدي: أجل لا يمكن لتلك المخلوقات أن تعيش في مثل هذا المكان النظيف.

كاننجهام: (يتلون وجهه ويحاول إخفاء شعوره) ولكنها موجودة في الحياة ولا يمكن أن تخلو الحياة منها.

الخالدي: علينا أن نطهر وطننا منها جهدنا بكل الوسائل حتى يكون كله كهذه الغرفة.

كاننجهام: هذا يحتاج إلى مجهود كبير.

الخالدي: علينا أن نقوم به مهما صعب.

كاننجهام: (يحاول ضبط عواطفه) فما يمنعكم من القيام به؟

الخالدي: مارد من المردة وقف على باب وطننا وله مائة ألف من الزبانية حبسوا عنا المكانس ومبيدات الحشرات ولا هم لهم إلا أن يحرسوا القاذورات الموجودة في الوطن ويضيفوا إليها قاذورات أخرى يستوردونها من آفاق الأرض، فما يسعنا إلا أن ننتظر حتى يتعب المارد وزبانيته من الحراسة فيدعنا وشأننا. وحينئذ نحمل المكانس ونكسح أكوام القاذورات إلى البحر ونريق المطهرات على ما كان يتجمع عليها من الهوام والحشرات!

كاننجهام (يزداد وجهه تمعرا وينظر في ساعته): أخشى أن يكون الوقت المحدد لك قد انتهى ولي حديث آخر معك.

الخالدي (ينهض): أنا طوع رغبتك يا صاحب السعادة.

كاننجهام: (يقوم له مودعاً) أشكرك..

الخالدي: إلى اللقاء.

كاننجهام: إلى اللقاء.

-2-

المندوب السامي يستقبل الأدون بن جوريون رئيس الوكالة اليهودية..

كاننجهام: أهلاً بك يا مستر بن جوريون. لقد دعوتك لأبلغك رسمياً أن حكومة صاحب الجلالة جادة في قرار الانسحاب من فلسطين إذا لم يتفق الطرفان على حل سلمي.

بن جوريون: هذا ما كنا نريد يا صاحب الجلالة.

كاننجهام: تدبر جيداً ما أقول لك. إننا سنتخلى عن الانتداب ونسحب جميع قواتنا.

بن جوريون: إني أفهم ما تقول إن هذا معناه قيام الدولة اليهودية في غد ذلك اليوم على رغم أنوف المعارضين لقيامها!

كاننجهام: إن قيامها لفي مصلحتنا، فنحن الذين مهدنا منذ ربع قرن لقيامها ولولا مساعينا وتأييدنا لما كانت قضية في فلسطين تشغل اليوم هيئة الأمم المتحدة. فاستعدوا إذن واحزموا أمركم. ولكني أنصحكم أن تتأكدوا من قدرتكم على مقاومة العرب جميعاً فإنهم لا شك سيقومون قومة رجل واحد.

بن جوريون: إنا لا نبالي بهؤلاء الأعراب، فسنخمد أنفاسهم في بضعة أيام.

كاننجهام: هذا يسرنا كثيراً لأنه سيحل لنا مشكلة مصر والسودان ومشكلة العراق وشرق الأردن وليبيا. كل هذه المشكلات ستحلونها لنا بخطوتكم الجريئة. فهيا أرونا همتكم وشجاعتكم.

بن جوريون: لا تظنوا أننا سنترككم تجنون الثمار بهذه السهولة، فأنا لن نعرض أنفسنا للتضحيات الجسام من أجل عيونكم، وقد عرفنا موقفكم منا وإقامتكم العراقيل في سبيلنا.

كاننجهام: هذا كلام لا يقوله رجل مسؤول يفهم تاريخ القضية مثلك، فلا يمكن أن يحمل كلامك إلا على محمل واحد هو أنكم تنكرون الجميل.

بن جوريون: أي جميل تعني؟

كاننجهام: هل كنتم تطمعون أن يكون لكم ستمائة ألف في فلسطين لولا تأييدنا لكم، وإهدارنا من أجلكم حقوق العرب أصحاب البلاد.

بن جوريون: ولكنكم أحبطتم هذا الجميل إذ بدلتم سياستكم نحونا وتشيعتم للعرب.

كاننجهام: إنكم تعلمون أننا ما أقمنا في فلسطين طوال الخمس والعشرين السنة الماضية إلا لخدمتكم وتقويتكم وتكثير عددكم حتى صار لكم هذا الكيان الثابت، فكان جزاؤنا منكم تقتيل ضباطنا وجنودنا وجلدهم بالسياط وإهانة قضاتنا ونسف دوائرنا بالقنابل واستخدام كل وسيلة من وسائل الدعاية لتشويه سمعتنا وإحراج مركزنا فهذا تقديركم للجميل.

بن جوريون: إن الصنيع الذي لا يتمه صاحبه ينقلب إساءة بالغة، وهذا ما فعلتم.

كاننجهام: كلا، فقد كان في نيتنا أن نتم لكم الصنيع بالتدريج الطبيعي، فقد نقضنا لكم الكتاب الأبيض، وأقررنا لكم على رغم أنوف العرب حق الهجرة إلى فلسطين بمعدل 1500 مهاجر في الشهر، فلو التزمتم الهدوء وساعدتمونا على تنفيذ هذه السياسة لبلغتم هدفكم في بضع سنين، إذ تصبح لكم الأكثرية في فلسطين، ولكنكم تعجلتم وركبتم الطيش والحمق، فحلتم دون تنفيذ سياستنا لمصلحتكم.

بن جوريون: ما كنا لنستطيع أن نصبر كل هذه السنين.

كاننجهام: إنا معشر البريطانيين نعمل عشرات السنين في صبر وأناة من أجل مكسب سياسي بسيط جداً، فما بالك بمشروع ضخم كمشروعكم إذ تريدون أن تنتزعوا بلاد الناس وتجعلوها بلادكم، وتغيروا صبغتها العربية إلى صبغة يهودية، ثم تقيموا فيها دولة لكم تبسط سلطانها الاقتصادي والسياسي على جميع بلاد الشرق العربي، ومع ذلك لا تقدرون أن تصبروا بضع سنوات أخرى لبلوغ ذلك بمساعدتنا وعلى أيدينا، فذهبتم تحرجون مركزنا حتى اضطررتمونا لإعلان هذا القرار الخطير.

بن جوريون: فاعلموا إذن أنكم ستخسرون بهذا القرار، ولن تجنوا منه أية فائدة وأن الثمار التي تنتظرونها ستكون لغيركم.

كاننجهام: لمن؟

بن جوريون: للدولة العظيمة التي أيدتنا على طول الخط، فهي التي ستخلفكم وتقوض نفوذكم في الشرق الأوسط كله.

كاننجهام: (يحاول إخفاء غضبه) نحن وأمريكا شيء واحد على كل حال.

بن جوريون: والله لو استطعتم أن تمزقوا أمريكا وتحتلوها بجيوشكم وتعيدوها إلى حظيرة إمبراطوريتكم لما ترددتم، وأنكم لا تخافون من أحد على نفوذكم ما تخافون من أمريكا ولولا حاجتكم إلى دولاراتها التي تحسن بها إليكم لصارحتموها بالعداء، لقد كنتم شيئاً مذكوراً حتى كنا رداءً لكم نظاهركم ونؤيدكم في كل ميدان من ميادين الدعاية في العالم، فتنكرتم لنا فلا حرج علينا إذا حولنا عنكم تأييدنا إلى غيركم.

كاننجهام: قد فعلتم هذا فامضوا فيه إلى النهاية، ولكن لا تطالبونا بالمضي في حمايتكم بفلسطين.

بن جوريون: نحن في غنى عن حمايتكم وما تبقون إلا لحماية العرب.

كاننجهام: عجباً لكم، تغالطون وتتمسكون بالمغالطة في إصرار وتحد يوهمان من لا يعرف حقيقتكم بأنكم على حق، وكان عليكم أن تذكروا أننا نعرف حقيقتكم فلا يجدي معنا أسلوبكم هذا كما يجدي على غيرنا من الأمم، غداً سننسحب وسنرى ماذا يكون منكم ومن العرب.

بن جوريون: لن تنسحبوا من فلسطين، وإنما هذه إحدى مناوراتكم السياسية لحملنا على الخضوع لإرادتكم.

كاننجهام: إن كنتم في غنى عن حمايتنا فلن تحملكم هذه المناورة على الخضوع.

بن جوريون: أجل، لن تخضع لتهديدكم بالانسحاب.

كاننجهام: إن كنا نحمي العرب كما تقول، فلعلهم غداً يترامون على أقدامنا متوسلين إلينا ألا نتخلى عن حمايتهم منكم، أتدري ماذا نحن صانعون حينئذ؟

بن جوريون: تعدلون عن الانسحاب.

كاننجهام: كلا، بل سنرد شفاعتهم وندعهم فريسة لكم، عجباً فيم ترتعش يداك وترتجف شفتاك؟

بن جوريون: لا شيء يا صاحب السعادة لا شيء.. إنما سهرت البارحة وأكثرت من التدخين.

كاننجهام: لا يا مستر بن جوريون يجب عليك أن تعنى بصحتك الغالية، فإن أحبابنا اليهود في حاجة إليك في المعركة القادمة!

بن جوريون: أتسخر بي يا صاحب السعادة؟

كاننجهام: كلا، بل تعز على صحتك أيها الصديق القديم. (يخرج أنبوبة دواء من درج مكتبه ويناولها له). خذ من هذه الحبوب فإنها تقويك وتشد أعصابك، خذ منها حبتين الآن فستشعر فوراً بالقوة والانتعاش.

بن جوريون: (يتناول الأنبوبة) لا ليس الآن يا صاحب السعادة سآخذ منها في البيت.

كاننجهام: بل خذ الساعة منها حبتين، لا ينبغي أن نجيء معافى قوياً ثم تخرج من عندي خائر القوى.. خذ.. خذ..

بن جوريون: خذ أنت منها أولاً.

كاننجهام: ويلك يا مستر بن جوريون أتخشى أن يكون فيها ما يضرك؟

بن جوريون: أريد أن أرى مفعولها فيك.

كاننجهام: إني لا أشعر الآن بتعب.

بن جوريون: فلن تضرك على كل حال.

كاننجهام: بل ستضرني حين أتعاطاها وأنا غير متعب.

بن جوريون: إذن دعني آخذ الأنبوبة إلى البيت.

كاننجهام: كلا، إن لم تشأ أن تتعاطى منها الآن فارددها إلى..

بن جوريون: قد صارت ملكاً لي إذ أهديتها إلي.

كاننجهام: كلا.. ليست هذه الأنبوبة فلسطين، ولست أنا بلفور هذه الأنبوبة ملكي أنا اشتريتها بمالي، وليست ملك العرب فأعطيها لك وأنت تتهمني بالسوء. (يخطفها من يده ويعيدها في الدرج).

بن جوريون: (صائحاً) بل أردت أن تقتلني بهذا السم فخشيت أن أعرض هذه الحبوب على معمل التحليل فخطفتها مني بعد أن وهبتها لي، والله لا آمن مسيحياً بعد اليوم (ينهض لينصرف).

كاننجهام: أتدري يا مستر بن جوريون لماذا أبيت عليك أن تحمل الأنبوبة إلى بيتك؟

بن جوريون: لئلا ينكشف سرك ومكرك.

كاننجهام: كلا، بل لعلمي أنك ستبيعها وتأخذ ثمنها!

بن جوريون: (محتداً ثائراً) كذبت.. في استطاعتي أن أشتريك وأشتري إمبراطوريتك!

كاننجهام: أجل من النقود التي تجمعونها من هذا السبيل وغيره.

بن جوريون: (يتطاير الشرر من عينيه حقداً) بل تقول هذا لتتنصل من محاولة قتلي بالسم.

كاننجهام: (يفتح الدرج ثانياً ويخرج الأنبوبة فيبلغ منها حبتين) انظر.. هأنذا بلعت منها حبتين!

بن جوريون: هذه أنبوبة أخرى غير الأنبوبة الأولى!

كاننجهام: فاخرج إذن فالتمس لقومك أرضاً أخرى غير فلسطين لتبلعوها.

بن جوريون: لا نريد إلا فلسطين.

كاننجهام: فهي مسمومة!

بن جوريون: ولو..

- 3 -

في دار الوكالة اليهودية.. يدخل بن جوريون عائداً من زيارة المندوب السامي، فتتلقاه رئيسة القسم السياسي للوكالة اليهودية، وتنطلق نحوه في ثورة واضطراب فتتعلق به).

جولدا: أدركني يا بن جوريون.. أدركني.

بن جوريون: لا تتعلقي بي هكذا، ماذا يقول الناس عنا إن رأونا على هذا الوضع؟

جولدا: دعهم يقولوا ما يشاؤون.. نحن الآن في خطر!

بن جوريون: ماذا تقولين؟

جولدا: آه يا بن جوريون.. طمئني.. هدئ روعي!

بن جوريون: (يسندها أن تقع على الأرض) ماذا بك؟ ماذا حدث؟

جولدا: (بصوت متهدج) شيء فظيع.

بن جوريون: تجلدي وقولي ماذا حدث؟

جولدا: لا، لا تنفك عني.. إني أكاد أصعق.

بن جوريون: حسناً.. سأبقى بجانبك.. قولي ماذا حدث؟

جولدا: آه.. أما سمعت به عند المندوب السامي؟

بن جوريون: قرار الانسحاب؟

جولدا: لا، ليس هذا، ألم يخبرك بشيء آخر..

بن جوريون: لم يحدثني بشيء آخر، ولكنه أراد أن يعطيني دواء مسموماً فاكتشفت غدره وامتنعت.

جولدا: قد جاء السم القاتل إلينا كلنا.

بن جوريون: ماذا تعنين؟

جولدا: آه.. ألم تفهم ما أعني؟ ألا ترى إلى برودة أطرافي؟ ألا تراني واهنة القوى؟ متخاذلة الأوصال؟

بن جوريون: أجل.. ماذا بك؟

جولدا: آه.. أما تستطيع أن تخمن ما بي؟

بن جوريون: سمعتك تذكرين السم القاتل.

جولدا: نعم.. ألا تعرف السم القاتل؟

بن جوريون: بل أعرفه. قد كدت اليوم أبلعه لولا حذري واحتياطي.

جولدا: فها هو ذا قد طار إلينا اليوم من مصر ليهلكنا جميعاً.

بن جوريون: وباء الكوليرا؟

جولدا: بل أشد على اليهود من الكوليرا.

بن جوريون: (فزعاً مضطرباً) المفتي؟

جولدا: نعم يا بن جوريون..

المفتي: هو الآن في لبنان!

بن جوريون: (تتخاذل أوصاله) آه.. أدركني يا جولدا.

جولدا: آه.. أدركني يا بن جوريون!

(يسقطان على الأرض)

"ستار"

         

*جريدة (الإخوان المسلمون المصرية) في 11/1/1948