اهزميهم يا بغداد

اهزميهم يا بغداد

مسرحية من فصل واحد

علي محمد الغريب

ـ 1 ـ

(أحد معسكرات القوات الأمريكية المحتلة لبغداد.. يظهر أحد الضباط الأمريكيين في حالة نفسية سيئة، وقد عصب رأسه بعصابة سوداء، ومن خلفه جنديان يقودانه حيث رئيسه السيد "ألن".. يدخلون المكتب فيؤدي الجنديان التحية بينما الضابط روبرت يبدو صامتاً)

ألن: ماذا أصابه؟

الجندي الأول: أبصرناه يا سيدي يحثو التراب على رأسه، وهو يردد: اهزميهم يا بغداد.. اهزميهم يا بغداد!!

ألن: (مندهشاً) اهزميهم يا بغداد؟!!

الجندي الثاني: نعم يا سيدي، وقد خشينا عليه ذهاب عقله فاقتدناه إليك.

ألن: (يشر إلى الجنديين بالانصراف فينصرفا، ثم يوجه حديثه لروبرت الغارق في خيالاته) اجلس يا روبرت.

روبرت: ليس قبل أن أصل إلى  واشنطن.

ألن: سنرجع كلنا إلى  واشنطن وقد حملنا معنا رايات النصر.

روبرت: أنت واهم يا سيدي.. كلنا واهمون أيها القائد.

ألن:مهمتنا صعبة، وإذا استمررت على هذه الحال تلفت أعصابك.

روبرت: مهمتي انتهت إلى هذا الحد.. ألم تقبضوا على "صدام" وتحقق ما أردتم؟

ألن: هل تفكر في العودة إلى واشنطن حقاً؟

روبرت: أنا قررت العودة بالفعل، ولا مجال للمراجعة!

ألن: ماذا أصابك يا روبرت؟ عرفتك من أجرأ الضباط واكفأهم.

روبرت: اسأل "جون" ومن كانوا معه.

ألن: (غاضباً) جون.. جون.. أما زلت مصراً على جلدنا بسيرته.. ما وقع له ومن كانوا معه كلنا معرضون له.. أنا وأنت، وحتى الرئيس بوش!

روبرت: أتمنعني من حقي في صيانة حياتي؟

ألن: أنا لا أمنعك، لكن يجب ألا تتوقع أننا سننهي الحرب ونعود لمجرد أننا فقدنا بعض جنودنا، قبل أن تتم المهمة على الوجه الأكمل!

روبرت: أنتم أحرار في الاستمرار من عدمه، تماماً كحريتي في رفضي أن يكون مصيري  كصديقي جون ورفاقه.

ألن: (مهوناً) اجلس اجلس.. (يبصر العصابة السوداء على رأسه) ما هذه الخرقة السوداء؟!

روبرت: إنها جزء من الراية العباسية.

ألن: (مذهولاً) أنت أمريكي أم عربي؟

روبرت: أنا رجل يحب أمريكا، لكن لا يقدمها على نفسه.

ألن: هذه خيانة.. هل ترفع رايات العدو؟

روبرت: هذه راية غابرة.

ألن: حتى وإن كانت غابرة.. اعتزازك بها وحرصك على اقتنائها  ينفي عنك الولاء لأمريكا.

روبرت: ولائي الأول لروبرت وجون وميري ولأطفالنا هناك.. إن لم يكن لي خير في هؤلاء فليس لي خير في أمريكا!

ألن: أعطني هذه العصابة حتى لا تعرض نفسك لسوء فهم الآخرين.

روبرت: أنا وهذه العصابة يجب ألا نبقى هنا، يجب أن نعود إلى واشنطن كما قال "جون".

ألن: إذن هو كان شريكك في هذه الخيانة؟

روبرت: (يضحك في قوة) خيانة؟!.. العرب سيحولون نصفنا إلى خونة والنصف الآخر سيحولونهم إلى مجانين.

ألن: وأنت ماذا اخترت؟

روبرت: ليس بعد؛  لكن عليّ أنا أسألك أولاً: لماذا أتينا إلى هنا؟

ألن: أهدافنا معروفة للجميع وأظنها لا تخفى على مثلك، وقد أعلنها السيد الرئيس بوش أكثر من مرة.

روبرت: أنا أسألك أنت.. لماذا جئنا إلى هنا؟!

ألن: لنرفع الظلم عن العراقيين، ونمنحهم وجميع العرب حريتنا وحضارتنا.. وها نحن قد أو شكنا على إنهاء المهمة.. قبضنا على "صدام" والجو سيصفو بلا شك.. والذي حدث لجون ومن كانوا معه غير وارد أن يتكرر.. المقاومة ستتوقف، بعدما قبضنا على رأسها.

روبرت: هل تخدعني أم تخدع نفسك؟

ألن: أخدعك؟!.. ما الداعي لخديعتك.. أنا أوضح لك حقيقة الكل يعلمها الآن.

روبرت: المقاومة لم تربط يوماً برجل كرهه جميع أهل بغداد.

ألن: ماذا تريد أن تقول؟

روبرت: هذا سؤالي لك الآن.. فيما وجودنا وقد قبضنا على "صدام" وتم غرضنا؟

ألن: هل تجهل ما جئنا من أحله حقاً؟!

روبرت: ذكرني به، فكثرة المهام أنستني حقيقة ما جئنا من أجله!

ألن: فتش في ذاكرتك.

روبرت: فتشت ولم أجد إلا الطمع والنهب!

ألن: (متعصباً) أنت لست طبيعياً.. أي طمع وأي نهب في هذه البلاد المجدبة، نحن أتينا لمنحهم حريتنا وحضارتنا!

روبرت: (يضحك في إعياء) حريتنا وحضارتنا؟!! حريتنا وحضارتنا؟!!

ألن: ألا تؤمن بحريتنا وحضارتنا؟!

روبرت: أشهدك أني من الكافرين بها منذ اليوم، كما كَفْرَتْ بها من قبل ميري زوجة جون، وطالما أجهدت نفسها في إقناعه، لكنه تمرد بفضل إيماني العميق بها سابقاً!!

ألن: كلامك خطير!

روبرت: ليس أخطر من أفعالنا الحرة جداً، المتحضرة جداً جداً.. يا ويل العالم من حضارتنا، بل يا ويلنا جميعاً من هذه الحضارة  (يأكل شفته السفلى ويبكي في حرقة) كيف أعود إلى ميري؟ ماذا أقول لها؟.. هل أقول لها إن حضارتنا التهمت زوجك.. حضارتنا التهمت آلاف النساء والأطفال العرب وأطارت رؤوسهم وجماجمهم؟.. حضارتنا أمرت روبرت صديقك وصديق زوجك أن يدوس على أشلاء العراقيين بمجنزرته غير عابئ بشيء..  حضارتنا باطلة.. باطلة باطلة!!

ألن: (متوتراً)  لا تزد من توتري، وانزع عصابة الشؤم هذه.

روبرت: هذه العصابة لن ينزعها غير ميري.. ميري القديسة.

ألن: قديسة؟! لو كانت قديسة ما ودعتكم وهي تبث في نفوسكم الضعف والخور!

روبرت: نعم قديسة؛ فقد كانت أحكم مني ومن زوجها.. لأنها قرأت حضارة العرب وتاريخ العرب.. قديسة لأنها عرفت أن العباسيين (يشير إلى العصابة على رأسه)  أصحاب هذه الراية ما زالوا قابعين هناك تحت أحجار بغداد، لا يخرجون إلا للغزاة أمثالنا فيردوهم على أعقابهم خاسرين.. قديسة لأنها أخبرتنا أن أهل بغداد إذا حزبهم العدو وعجزوا عن دفعه صاحوا في المدينة: اهزميهم يا بغداد؛ فيستجيب لهم الشجر والحجر.. قديسة لأنها.....

ألن: (مقاطعاً) اسكت.. اسكت!!

روبرت: (يبكي متوسلاً) ألن.. أخي ألن.. إني أحبك كما أحببت جون وميري وأمريكا وكل أهلنا هناك.

ألن: اسكت يا روبرت.. اسكت.

روبرت: لماذا نذبح أنفسنا على أعتاب هؤلاء العرب.. لماذا لا نتركهم وشأنهم كما قالت ميري؟

ألن: أمريكا هي من تريد هذا.. مجد أمريكا يأمرنا بهذا.

روبرت: لا حاجة لنا في مجد يقوم على أشلائنا وأشلاء الآخرين..

(يدخل أحد ضباط الصف)

ضابط الصف: (لألن) سيدي القائد لديك عملية ملاحقة إرهابيين بعد عشر دقائق (يؤدي التحية وينصرف)

ألن: هيا بنا يا روبرت.. أنت مساعدي في العملية.

روبرت: أمازلت مصراً على الانتحار يا أخي؟

ألن: (في حزم) لا تقل يا أخي.. نادني برتبتي العسكرية!

روبرت: أما زلت مصراً على الانتحار يا سيدي القائد؟!

ألن: الواجب يحتم عليّ وعليك الانصياع لنداء أمريكا.

روبرت: إذا تعارض نداء أمريكا وأوامرها مع حياتي وأمني؛ فحياتي وأمني هما الرابحان من غير شك.

ألن: الضابط روبرت.. أتعصى  الأوامر العسكرية؟

روبرت: أعلنت عصياني يوم أن مات جون ورفاقه..  يوم أن خرج علينا العراقيون كالخفافيش من الأزقة يخطفون أرواحنا.. لقد خطفوا روحه الطاهرة بكل قسوة!

ألن: أتعصى أمريكا؟

روبرت: أعلنت عصياني عليها، يوم أن بصق العالم على العلم الأمريكي!.. أنا منذ اللحظة رجل مدني يطلب إجلاءه إلى أهله في واشنطن.

ألن: (بغضب) لا وقت لدينا لهذا الهراء.. لو لم تخرج معي لأودعت بالحجز (يضغط زر على مكتبة فتتدفق على المكتب جماعة من جنود الطوارئ.. يوجه حديثه لروبرت مهدداً) ماذا قلت يا ضابط روبرت؟

روبرت: أوامرك سيدي القائد.

ألن: (يشير للجند بالانصراف) هيا رافقني في هذه العملية.

روبرت: (وهو كاره) سمعاً وطاعة!

 

ـ 2ـ

(أحد المخابئ السرية لرجال المقاومة في بغداد.. نرى ألن وربرت وقد وضعت عصابة سوداء على عينيهما، وأحاط بهم جماعة من المجاهدين)

عامر: (لأحد رفاقه متعمداً إبلاغ ألن وروبرت) أين الباقون؟

 منصور: تركناهم وجثثهم ملقاة في الطريق.

روبرت: (مذعوراً) ماتوا!!.. لحقوا بجون؟!(يستدير إلى ألن ليستطلع مشاعره)

عامر: (وهو ينزع العصابة عن عيني روبرت وألن) نعم ماتوا.. ولن نكف عن استنزافكم حتى تعودوا من حيث أتيتم، أو أن تدفنوا في أرضنا!

روبرت: (يبصر العصابات السوداء على رؤوسهم فيهمس خائفاً) العباسيون.. العصابات السودااااء!

ألن: (يبصر المخبأ) ما هذا المكان.. أين نحن؟

عامر: لا تسل أين أنت.. بل نحن من نسأل.. لماذا أتيتم إلينا؟

ألن: (ينهض خائفاً ويحاول أن يبدو متماسكاً) رحمة بكم وشفقة عليكم.

منصور: ما أرحمكم!.. ما أرأفكم!

عامر: كل هذا الدمار من أجلنا نحن؟!

ألن: نحن أخذنا على عاتقنا تحضيركم وتحريركم من أسر "صدام".

منصور: هذا "صدام" قد ذهب ففيما بقاؤكم؟

ألن: لن نخرج حتى نقضي على الجيوب الموالية له.. أمثالكم.

عامر: "صدام" كان عدونا مثلكم تماماً.

ألن: هذه أكاذيب لتغطوا بها جرائمكم بالتنسيق معه.

عامر: أنتم من تكذبون وتصدقون أنفسكم دائماً.. عموماً ليس هذا مجال إثبات عدواتنا لصدام.. ولسنا مطالبين بتبرير ذلك.. المهم ما سيؤول إليه مصيركم أنتم.. دعوا عنكم صدام وبوش!

ألن: (خائفاً) إني أحذرك.. لا داعي للتهور.. ستحاسبون على كل ما تفعلونه معنا بعد تحرير بغداد وتطهيرها من الإرهاب.. وأذكركم بحقوق الأسرى في دينكم.

عامر: تعرف حقوق الأسرى في ديننا إذن؟!

ألن: نعم.

عامر: من الذي أسرك؟

ألن: أنتم.

عامر: كذبت!!.. أنت من أتيت إلينا مختاراً.. أحببت أن تدفن في أرضنا وهذا حقك علينا.

روبرت: (مرتاعاً) ندفن في أرضكم؟!! ندفن في أرضكم؟!! نريد حقنا كأسرى وحسب!

منصور: (يرفع بندقيته) ستتلقون حقوقكم كافة من هذه (يشير إلى البندقية)

روبرت: (خائفاً ويشير للبندقية) لا داعي لاستخدام هذه الآن.. سنفعل ما تأمرون به!

عامر: لا تخف.. هذه لن نستخدمها معكم الآن.. هذه سوف تقتلكم في الميدان بعد إطلاق سراحكم ، وليس هاهنا.

ألن: رئيسنا لن يرحمكم.. لا تحاولوا الدفاع عن قضية خاسرة.

المجاهدون: (لا يتكلمون)

ألن: تكلموا.. مالكم صامتون هكذا؟!!

عامر: (يفك عصابته السوداء ويتقدم نحوه من دون أن يتكلم)

ألن: (هلعاً) ماذا ستفعل بهذه العصابة؟ أبعدها عني.. أبعدها عني!!

عامر: (يضع العصابة السوداء على عيني ألن وكذلك يفعل منصور مع روبرت)

ألن: ارفعوا هذه العصابة عن عينيي.. أنا لا أرى شيئاً.. ارفعوها!

 عامر: كفاك ما رأيته من نور بلادنا.. نحن نضن عليك بنورها وهوائها وأصوات طيورها..

ألن: (يحاول إزالة العصابة) ما هذه العصابة المعتمة.. ارفعوها أرجوكم!

عامر: هذه عصابة عباسية ترفعها بغداد في وجوه المجترئين عليها.. أما وقد ناصبتم أرضنا العداء فذوقوا جحيمها! (يقوده من يده خارجاً به والمجاهدون قد شهروا بنادقهم) اذهبوا بهما وأطلقوا سراحهما، على وعد منا بقتلهم في القريب إن شاء الله.

ألن: (وقد استبد به الرعب ويسير مستسلماً محدثا نفسه) جون.. ميري.. العصابة العباسية.. اهزميهم يا بغداد (تتسمر قدماه في الأرض ثم يصيح فجأة) لن تهزمينا يا بغداد!

عامر: (يصفعه في قوة فيسقط على الأرض)

ألن: (يصرخ متألماً) ما هذا؟!!

عامر: هذه يد بغداد.( يلتقطه من الأرض ويدفعه إلى الخارج)

روبرت: (يسير منهاراً إلى جوار ألن مردداً في طريقة آلية) جون.. ميري.. العصابة العباسية.. لا تقتلونا أيها البغداديون.. لا تقتلونا أيها العباسيون.. جون.. ميري.. لا تقتلونا أيها العباسيو.....

ستار