على خطا سيّد الشهداء

عبد الله الطنطاوي

بقلم: عبد الله الطنطاوي  

[email protected]

المشهد الأول

"سعيد بن جبير قائم يصلي في المسجد، ويطيل في القيام والركوع والسجود وفي الجلوس بين السجدتين.. كأحسن ما تكون الصلاة.

يجلس على بُعد أمتار منه مجموعة من الناس، منهم المنهال بن عمرو، وعمرو بن العلاء، ووفاء بن إياس، وإسماعيل بن عبد الملك.

 رجل غريب يقترب منهم ينظرون إليه وهو يصلي..".

الرجل: من هذا الشيخ الأسود الذي يصلي هذه الصلاة الخاشعة.

المنهال: يبدو أنك غريب يا أخي؟

الرجل: نعم.. أنا تاجر وعابر سبيل. فمن هذا الرجل الأسود؟

عمرو: هذا هو العالم الجليل سعيد بن جبير بن هشام، أحد أعلام التابعين في الكوفة.

الرجل: ما أحسن صلاته!.

عمرو: كيف لا يحسن صلاته هكذا، وهو تلميذ عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، وتلميذ عبد الله بن عمر رضي الله عنهما؟

المنهال: قال له أستاذه العباس يوماً: حدِّثْ. فقال له سعيد: أأحدّث وأنت هاهنا؟

عمرو: فقال له ابن عباس: أليس من نعمة الله عليك أن تحدّث وأنا شاهد، فإن أصبتَ فذاك، وإن أخطأتَ علّمتك.

الرجل: هنيئاً له، فقد أحسن اختيار مشايخه: عبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر، رضي الله عنهم جميعاً.

عمرو: ولمّا عمي عبد الله بن عباس، صار سعيد يكتب في الفتيا.

المنهال: وكان سعيد قد أخذ الكثير من العلوم عن ابن عباس، أخذ القراءة، وسمع منه التفسير، وأكثر من الرواية عنه.

الرجل: هنيئاً له.

المنهال: وأنا رويت القراءة عنه.

عمرو: وأنا كذلك، فهو أستاذي وأستاذ المنهال هذا، وأخذ عنه العلم خلقٌ كثير.

المنهال: وأخذوا عنه الزهد والتقى والورع والصدق أيضاً.

عمرو: ولكنهم لم يبلغوا شأوه فيها، فهو يحبّ مكارم الأخلاق، ويتخلق بها، وأين نحن منه.

عمرو: (ينظر إلى وفاء بن إياس ويقول له): لماذا لا تتكلم يا وفاء؟ أليس لك من اسمك نصيب؟

وفاء: بلى... قال لي سعيد في رمضان: أمسكْ عليّ القرآن، فما قام من مجلسه حتى ختمه.

إسماعيل: وأمَّنا سعيد بن جبير في شهر رمضان، فقرأ ليلة بقراءة عبد الله بن مسعود، وليلة بقراءة زيد بن ثابت، وليلة بقراءة غيره، وهكذا أبدً.

الرجل: ما شاء الله!.

وفاء: وسمعت سعيداً يقول: قرأت القرآن في ركعة في البيت الحرام.

الرجل: الله أكبر!.

إسماعيل: وسأل رجل سعيد بن جبير أن يكتب له تفسير القرآن، فغضب سعيد وقال له:

لأن يسقط شقّي أحبُّ إليَّ من ذلك.

الرجل: لماذا؟

المنهال: لشدّة خشيته من الله، أن يقول في كتابه ما ليس بحق.

عمرو: قال العلماء: كان من أعلم التابعين بالطلاق: سعيد بن المسيب،

وأعلمهم بالحجّ: عطاء.

وأعلمهم بالحلال والحرام: طاووس.

وأعلمهم بالتفّسير: أبو الحجاج مجاهد بن جبر.

وأجمعهم لذلك كله: سعيد بن جبير.

الرجل: ما شاء الله.. ما شاء الله.

المنهال (للرجل): اسمع يا أخي التاجر مقولة سعيد.

عندما كان سعيد بن جبير في أصبهان، كانوا يسألونه عن الحديث، فلا يحدّث، فلمّا رجع إلى الكوفة حدّث، فقالوا له: يا أبا محمد. كنتَ بأصبهان لا تحدّث، فما بالك الآن وأنت في الكوفة تحدّث؟

فقال لهم سعيد: انشرْ بَزَّكَ حيث يُعْرَف.

الرجل (صائحاً): لقد صدق سعيد.. انشرْ بزَّك حيث يُعرف.. صدق.

المنهال (للرجل): اخفض صوتك، فأنت في المسجد.

الرجل: وسعيد ما يزال في صلاته.. لقد صدق (بصوت خفيض): انشرْ بزَّك حيث يعرف.

-ستار-

المشهد الثاني

"سعيد بن جبير بين عدد من تلاميذه طلبة العلم الشرعي: القاسم الأعرج، ووهب بن إسماعيل، وداوود بن أبي هند، وسواهم..".

سعيد: (كأنه يتابع حديثه) فالرسول صلى الله عليه وسلم عندما قال: سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب، ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله.. أقول: عندما قال الرسول هذا الكلام المزلزل، لم يقله عبثاً، وحاشاه من العبث، وما ينبغي له أن يعبث وهو معلم البشرية وهاديها في ظلمات الحياة، وما ينبغي لنا أن نأخذ كلامه عليه الصلاة والسلام من أجل أن نتعلمه ونحفظه ونعلّمه الناس، ونماري به العلماء، ونباهي به في المجالس، ثم لا يكون له ظلّ في واقعنا وفي حياتنا المعيشة.

القاسم: نحن لم نقل هذا يا شيخنا، وما ينبغي لنا أيضاً أن نتركه يمرّ بخيالنا لحظة، إننا نتعلم حديث الرسول القدوة لنقتدي به، ونعمل بمقتضى كلامه، ولكن..

سعيد: (مقاطعاً) ولكنْ ماذا يا بني؟

وهب: إنه الحجاج يا سيّدنا!..

سعيد: (بصرامة وقوة) وليكن.. فما يجوز للحجاج ولا لسواه من الطغاة أن يعطّل هدياً من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.

القاسم: ولكن الحجاج يا مولانا ليس كسائر الطغاة.. إن سيفه دائماً يسبق لسانه.

سعيد: لا يا أبنائي.. الله أكبر من الحجاج ومن طواغيت الأرض جميعاً.. ولو أن كلّ امرئ خاف على حياته من سيف الطاغية، لتعطلت الحياة، وانحجب النور، وعمّ ظلام الطغيان.. الله أكبر من كل كبير يا أبنائي، وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتاباً مؤجلاً.

داود: نحن معك يا شيخنا في كل ما تقول، ونحن طوع أمرك، فمرنا بما تشاء، ولسوف ترانا نتسابق على تنفيذه، لا يتخلف منا رجل واحد.

القاسم: إنما قلت ما قلت أنا خوفاً على حياتك يا سيدي.

سعيد: إذا جاء أجلهم فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون.

الجميع: صدق الله العظيم.

داود: إننا ما نزال نحفظ قول عنترة الذي طالما كرّرتَه على مسامعنا في دروسك يا سيّدي:

        تأخّّرْتُ أستبقي الحياةَ فلم أجد     لنفسي حياةً مثلَ أنْ أتقدّما

سعيد: بارك الله فيكم يا أبنائي، فهذا ظني بكم، وأنا أعرف ما كنتم تقصدون بكلامكم.. إنه خوفكم عليّ، وإشفاقكم من سيف الحجاج أن يقطع عنقي.. ولكنني أردت أن أقول لكم: إنني أقلُّ من أنْ أكون شهيداً، فهذه منزلة لا يرقى إليها إلا العُبّاد الصالحون، وأين أنا منهم.

وهب: أنت منهم يا سيّدي.. أنت سيد التابعين.

سعيد: أستغفر الله يا بنيّ.. أنا أَعْرَفُ بنفسي منكم.. ثم إذا كنتُ كذلك، فلِمَ تستكثرون عليّ الشهادة؟ اللهم إلا إذا كنتم تَرَوْنَني غيرَ أهلٍ لها.

القاسم: مَعاذ الله يا سيّدي..!

وهب: أستغفر الله يا سيّدي..

داود: أنت سيّد العُبّاد والزّهّاد يا سيّدي.

سعيد: إذن فاسمعوا ما أقوله لكم..

إن طغيان الحجاج قد تجاوز الحدود، وصار واجباً على كلِّ قادر على حمل السلاح أن يحمل السلاح في وجهه.. وها هو ذا  عبد الرحمن بن الأشعث قد أعلن الثورة على الحجاج، ولحق به كثير من العلماء والفقهاء، بعد أن استنفدوا جهدهم في النصح للحجاج أن يكفَّ عن مظالمه، وأن يحقن دماء المسلمين، ولكنه أبى واستكبر، ورفض نصح الناصحين، ونكَّلَ ببعضهم.. وقد عزمتُ على اللحاق بابن الأشعث، وإعلان الثورة على طغيان الحجاج، فمن وجد منكم في نفسه القدرة على الثورة، فليحلقْ بي، ولا يكلِّف الله نفساً إلا ما آتاها.

الجميع: كلُّنا معك يا سيِّدنا.. كلُّنا معك.. كلُّنا معك..

- ستار –

المشهد الثالث

"سعيد مع بعض تلاميذه في مخبئه"

سعيد: (لنفسه) إنا لله وإنا إليه راجعون.. يؤتي نصره من يشاء من عباده.

رجل1: (لسعيد) يا سيّدي أنا أرى أن تبقى في مخبئك هنا في جوار الحرم، فقد اشتدَّ طلبُ الحجاج لك.

رجل2: وابن النصرانية يفتّش عنك في كلِّ مكان، يريد التقرّب إلى مولاه الحجاج.

رجل3: سمعتُ أنَّ ابن النصرانية قد أتمَّ بناء الكنيسة لأمه في البلقاء.

سعيد: دعونا من ابن النصرانية.. أريد أن أطوف حول الكعبة.

رجل1: لا يا سيّدي.. لا..

سعيد: هل تخاف عليّ يا ولدي؟

رجل1: أجل يا سيدي. أخاف عليك وعلى نفسي إذا عرفوا أنّك كنتَ مختبئاً عندي..

سعيد: لا تخف يا ولدي، فأنا أسعى للحصول على الشهادة لنفسي.

رجل2: بأبي أنت وأمي يا سيدي.. والله إن خوفنا عليك أضعاف خوفنا على أنفسنا.. إننا نخشى أن تنزل بالمسلمين قارعة إذا قتلك الحجاج..

سعيد: لا تراعوا أيّها الأحبة.. ويا مرحباً بلقاء الله.. لقد اشتقت أن أرى الأحبة: محمداً وصحبه..

الجميع: صلى الله عليه وسلم..

رجل2: رضي الله عنهم..

رجل1: حسبنا الله ونعم الوكيل.

- ستار -

المشهد الرابع

"سعيد بين يدي الحجاج والقيود الحديدية في يديه وقدميه، وحولهما خلق كثير".

الحجاج: ما اسمك؟

سعيد: سعيد بن جُبَير.

الحجاج: بل أنت شقيُّ ابن كُسَيْر.

سعيد: بل كانت أمي أَعرفَ باسمي منك.

الحجاج: شَقِيتَ وشقيتْ أمُّك.

سعيد: الغيب يعلمه غيرك.

الحجاج: لأبدلنّك بالدنيا ناراً تلظَّى.

سعيد: لو كنتُ أعرفُ أنَّ هذا بيدك، لعبدتُك من دون الله.

الحجاج: فما قولك في محمد ويلك؟

سعيد: نبيّ الرحمة وإمام الهدى. صلى الله عليه وسلم.

الحجاج: فما قولك في عليّ؟ أهو في الجنة أم هو في النار؟

سعيد: لو دخلتها وعرفت من فيها، عرفت أهلها.

الحجاج: فما قولك في الخلفاء؟

سعيد: لست عليهم بوكيل.

الحجاج: فأيّهم أعجب إليك؟

سعيد: أرضاهم لخالقي.

الحجاج: فأيُّهم أرضى للخالق؟

سعيد: علمُ ذلك عند الذي يعلم سرَّهم ونجواهم.

الحجاج: أحبُّ أن تصدُقني.

سعيد: إن لم أحبَّك فلن أكذبك.

الحجاج: (بعد فترة صمت) قل لي يا سعيد.. سمعتُ أنك لا تضحك فلِمَ لا تضحك؟

سعيد: كيف يضحك مخلوق من طين، والنار تأكل الطين؟

الحجاج: فلِمَ نضحك نحن إذن؟

سعيد: إنها لم تستوِ القلوب يا حجاج..

الحجاج (صائحاً برجاله): هاتوا لي ما عندكم من جواهر، هاتوا ما عندكم من لؤلؤ وزبرجد وياقوت.

(يأتونه بها فيجمعها الحجاج بين يديه، وهو ينظر إلى سعيد).

سعيد: إن كنتَ جمعتَ هذا لتتقي به فزع يوم القيامة، فصالح، وإلا، ففزعة واحدة تُذْهل كل مرضعة عما أرضعتْ، ولا خير في شيء جُمع للدنيا، إلا ما طاب وزكا.

الحجاج (صائحاً برجاله): إليّ بصاحبي العود والناي.

صاحب العود (مع عوده): أمرك يا مولاي.

صاحب الناي (مع نايه): أمرك يا مولاي.

الحجاج: اضرب بالعود ويلك، وانفخ أنت في نايك.

سعيد (يبكي وهو يستمع للعود والناي).

الحجاج: ما يبكيك ويلك؟ إنما هو اللعب.

سعيد: بل هو الحزن. أمّا النفخ فذكّرني يوماً عظيماً، يوم النفخ في الصور.  وأمّا العود، فشجرة قُطعتْ في غير حق، وأمّا الأوتار، فمن الشاء، تُبعث معها يوم القيامة.

الحجاج: ويلك يا سعيد.

سعيد: لا ويل لمن زُحزح عن النار وأُدخل الجنة.

الحجاج: (مُحتدّاً) لمَ خرجتَ علينا ويلك؟ ألم نُكرمك ونقدِّمك على سواك؟

سعيد: لطالما نصحناك يا حجاج أن تكفّ سيفك عن رقاب المسلمين، فأبيتَ واستكبرتَ وأوغلتَ في ظلمك وطغيانك.

الحجاج: ولكننا أكرمناك ويلك!!..

سعيد: لستُ في حاجة إلى إكرامك يا حجاج، وماذا يفيد المسلمون من إكرامك رجلاً مثلي، وسيفُك يحصد أبناءهم؟

الحجاج: أما إنك لشقي.. فاختر لنفسك قتلة نقتلك بها.

سعيد: بل اخترْ أنت لنفسك يا حجاج، فوالله لا تقتلني قتلة إلا قتلك الله مثلها في الآخرة.

الحجاج: أفتريد أن أعفو عنك؟

سعيد: إن كان العفو فمن الله، وأما أنت، فلا براءة لك ولا عذر.

الحجاج: (صارخاً) خذوه.. اقتلوه.. اقتلوه..

سعيد: (يضحك مقهقهاً فيما يجرّه زبانية الحجاج).

الحجاج: ويلكم رُدُّوه.

(يردّ الزبانية سعيداً)

الحجاج: ويلك يا ابن جبير، ألم تقل إنك لا تضحك، فلِمَ ضحكت؟

سعيد: إنما ضحكتُ يا حجاج، من جرأتك على الله، ومن حلم الله عليك.

الحجاج: (هائجاً) إليّ بالسيف والنِّطع.

(يؤتى بالسيف والنطع والطست).

سعيد (يستقبل القبلة): وجّهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين.

الحجاج: أديروا وجهه عن القبلة.

(يديرونه عنها).

سعيد: فأينما تُولُّوا فثمَّ وجهُ الله.

الحجاج: (هائجاً) كُبُّوه على وجهه.

سعيد: (في اطمئنان شديد) منها خلقناكم، وفيها نعيدكم، ومنها نُخرجكم تارة أخرى.

الحجاج: خذوه فاقتلوه.

سعيد (يرفع يديه إلى السماء): أما إني أشهد أنْ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله. (يلتفت إلى الحجاج). خذها مني حتى تلقاني بها يوم القيامة يا حجاج.. اللهمَّ لا تسلِّطه على أحدٍ يقتله من بعدي.

- ستار -

المشهد الخامس

"الحجاج يقف ممتقع الوجه، ينظر في وجوه من حوله في ذهول مذعور".

الحجاج (يصرخ): أين الأطباء؟

الحاجب: في الباب يا مولاي.

الحجاج: أدخلهم.. أدخل الأطباء.

الحاجب: فليدخل الأطباء.

(يدخل ثلاثة أطباء)

الأطباء: السلام عليكم ورحمة الله.

الحجاج: ويحكم أخبروني..

طبيب1: بماذا نخبرك يا مولاي؟

الحجاج: لقد قتلتُ عدداً كبيراً من الناس، ولكنني لم أرَ فيمن قتلت، دماءً كدماء سعيد بن جبير.

الطبيب1: وماذا رأيتَ يا مولاي؟

الحجاج: لقد شاهدتُ الطَّستَ يفور بدم سعيد، بينما كانت دماء غيره من الناس أقلَّ من دمائه بكثير، ولونها يختلف..

الطبيب1: تفسير هذا بسيط يا مولاي.

الحجاج: هاته ويلك..

الطبيب1: لقد كان مَن قتلته يا مولاي، قد قتلته ونفسُه ليست معه.. كانت قد ماتت قبل أن تقتله.. ذهبتْ من الخوف.

الحجاج: وسعيد؟

الطبيب1: أمّا سعيد بن جبير، فقد قتلته ونفسُه معه، والدم تبعٌ للنفس.

الحجاج: معنى هذا، أنه لم يكن خائفاً من الموت؟

الطبيب1: أنتَ شاهدته –أيها الأمير- وأنت تذبحه.. فكيف وجدته؟

الحجاج: ياله من رجل.. ياله من رجل..

- ستار -

المشهد السادس

"في غرفة نوم الحجاج..

الحجاج يتلوّى فوق سريره من الألم".

الحجاج: (ينادي) أيها الحاجب.

الحاجب: (يدخل مسرعاً) مالك يا مولاي؟ ها أنذا..

الحجاج: (يصرخ) أبعدوا عنّي سعيداً.. أبعدوا سعيداً..

الحاجب: أيّ سعيد يا مولاي؟ ليس في الغرفة سواي يا مولاي.

الحجاج: ويلي من سعيد.. أبعدوا ابن جبير.. أبعدوه عني..

الحاجب: لا حول ولا قوة إلا بالله.

الحجاج: ويلك.. أقول لك: أبعدْ عني سعيد بن جبير، وأنت تحوقل.

الحاجب: لقد مات سعيد يا سيّدي، وأنت قتلته.

الحجاج: ويلك يا لُكَع.. إنه هناك.. إنه يتحفّز للهجوم عليّ.. إنه يريد أن يخنقني..

الحاجب: لا حول ولا قوة إلا بالله.. هل أطلب الأطباء يا مولاي؟

الحجاج: لا.. لا أريد أن أرى وجوههم.. أريد الحسن..

الحاجب: (في ذعر) أيّ حسن يا مولاي؟

الحجاج: الحسن البصري يا لُكَع.

الحاجب: (في ذعره) وماذا تريد منه يا مولاي؟

الحجاج: أرسلْ في طلبه حالاً..

الحاجب: (خائفاً) ماذا تريد منه يا مولاي؟

الحجاج: أريد أن أراه ويلك..

الحاجب: لماذا يا مولاي؟

الحجاج: (متوجّعاً) آه.. آه.. أريد الحسن البصري.. أرسلوا في طلبه.. لعله يخفّف من آلامي وأوجاعي. أريد الحسن.. ليدعو لي.. أرسلوا إليه..

الحاجب: (مطمئناً) سأرسل في طلبه فوراً يا مولاي.

- ستار -

المشهد السابع

"في غرفة نوم الحجاج..

الحجاج ما يزال يتلوّى من الألم، والحاجب واقف أمامه في توجّع لحاله"

الحجاج: (في ذعر واضطراب) أين الحسن؟ ألم يحضر بعد؟

الحاجب: إنه في الباب يا مولاي.

الحجاج: (في وهن وضعف) لماذا يقف بالباب؟.. أدخلوا الحسن.. أدخلوه.

الحاجب: حالاً يا مولاي.

الحسن (يتمتم): اللهم ائت على فاسق ثقيف. والله لو أنَّ مَنْ بين المشرق والمغرب اشتركوا في قتل سعيد بن جبير، لكبَّهم الله عزَّ وجلَّ في النار.

(يدخل الحسن مطمئناً حزيناً، ثم ينظر إلى الحجاج في إشفاق)

الحسن: ويحك يا حجاج.. ألم أقل لك: لا تسلّط سيفك على أولياء الله؟

الحجاج: (في تذلل وخوف) لقد مضى بذلك قدر الله يا حسن..

الحسن: تقتل أولياء الله، ثم تحتجُّ بالقدر؟

الحجاج: (في ضراعة) ادعُ لي يا حسن.. ادعُ لي يا حسن..

الحسن: ويحك يا ابن يوسف، كيف أدعو لك، وقد قتلتَ جهبذَ العلماء؟ أم أنك لا تعرف أنك قتلتَ رجلاً أهلُ الأرض في حاجة إلى علمه؟

الحجاج: (متوسّلاً) أنا لا أريدك أن تدعو لي بالشفاء يا حسن..

الحسن: إذن.. بماذا أدعو لك ويحك؟

الحجاج: ادعُ الله أن يقبضني إليه، لأتخلّص من هذه الآلام، ومن سعيد.. آه.. آه.. آه..

الحسن: لا حول ولا قوة إلا بالله.

الحاجب: (للحسن) ادع له يا سيدي الشيخ.

الحجاج: (صائحاً مذعوراً) ويلي من سعيد.. مالي ولسعيد.. أبعدوه عني.. أبعدوا سعيداً عني.. أبعدوه عني.. أبعده يا حسن.

الحسن: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

الحاجب: ادعُ له يا مولاي، فإنه يتعذّب. إنه يلقى الأهوال في مرضه يا مولاي.

الحسن: لا حول ولا قوة إلا بالله..

(يرفع يديه إلى السماء ويدعو) اللهم اقبضه إليك.. اللهمّ اقبض الحجاج إليك.. اللهم واستجب دعوة سعيد بن جبير، حتى لا يتسلّط على أحد من المسلمين من بعد سعيد.

الحجاج: (مذعوراً كأنه يدفع أحداً عن نفسه) ويلي من سعيد.. أبعدوه عني.. إنه يريد أن يخنقني.. أبعدوه عني.. أبـ.. عد..و..ه.. عنـّ.. ني..

- ستار -