لقاء مع شيخنا د. محمد أديب صالح

أيمن بن أحمد ذو الغنى

العلامة محمد أديب صالح في حديث عن أخيه المربي عبد الرحمن الباني

عن شيخنا الجليل عبد الرحمن الباني

أيمن بن أحمد ذو الغنى

عضو رابطة الأدب الإسلامي العالمية

في منـزل الشيخ بحيِّ النخيل في الرياض

(15 جمادى الأولى 1433هـ)

بين شيخنا العلامة الأصوليِّ د. محمد أديب صالح - حفظه الله - وشيخنا العلامة المربِّي عبد الرحمن الباني - رحمه الله – صلةٌ وثيقة من قديم؛ أيام دراستهما الجامعيَّة في مصر، وقد امتدَّت الصلةُ وتوثَّقت على مدار السنين، وبقي كلٌّ منهما يحمل لأخيه من صادق الودِّ والتقدير الكثيرَ الكثير.

وكنت استكتبتُ شيخنا الأديب الصالح (أديب) كلمةً عن أخيه باني النفوس والرجال (عبد الرحمن) - عقب وفاته يرحمه الله - فأبدى رغبته وحماسته لذلك؛ غير أنه ما كان يلبث أن يكتبَ حتى تحولَ دون ذلك الظروف. فرغب إليَّ أن يكونَ حديثه عن أخيه حوارًا شفهيًّا أسأله فيه ويجيب، ثم أدوِّن حديثه ليكونَ مقروءًا.

وهذا ما كان، ودونكم الحوارَ مع شيخنا الجليل الذي استطردَ فيه إلى أخبار من ذكرياته وأحداث سيرته، ورأيت نشره كاملاً لما فيه من فوائدَ تهمُّ المؤرِّخين والمعتنين بسير الرجال.

الحوار:

- شيخنا الفاضل، هلاَّ حدَّثتنا عن صلتك بشيخنا الجليل الراحل عبد الرحمن الباني رحمه الله، كيف ابتدأت؟

- الشيخ أديب:

كانت أول صلتي بالأخ الشيخ الفاضل عبد الرحمن الباني رحمه الله يوم أُوفدنا إلى الأزهر بعد الثانوية، وقد كان الباني أسبقَ منَّا في مصر، مع الدكتور محمد أمين المصري، درسَ في الأزهر ودرسَ التربية في المعهد العالي للتربية..

ومما يدلُّ على إخلاصه وحرصه على إخوانه أنه كان يتصرَّف وكأنه وليُّ أمر إخوانه من الموفَدين حديثًا للأزهر، يحمل همَّهم، ويبذل جهده في إفادتهم من تجرِبته سواء على الصَّعيد العلميِّ، أو العَلاقة بالأساتذة والزملاء والآخرين..

وكان إيفادي إلى كليَّة أصول الدين مع بعض الإخوة، وكان رأيه أنَّا لو أُوفدنا إلى كليَّة الشريعة لكان خيرًا لنا، ولكنَّ سوريا كانت مصرَّة على أن يكونَ الإيفاد إلى كليَّة أصول الدين، وكان حقيقةً وليَّ أمرنا في مصر برعايتنا والنصح لنا.

فهو يكبُرنا سنًّا، وتجرِبتُه أكبر وأعمق من تجرِبتنا، ناهيك عن الصِّدق والإخلاص عنده.

ما يستوقف الإنسانَ في تلك الحقبة: أن الأستاذ الباني لم يكن نشاطه يومئذٍ قاصرًا على الدراسة فقط، إذ كان لا يغيب عن انتخابات الطلاب، وعن اللِّجان من أجل أن تتحقَّقَ غايته في أن يكونَ هؤلاء الطلابُ معَدِّين لخدمة الإسلام حقيقةً في سوريا في المستقبل، وكانت هذه الأمور كلُّها تهمُّه ويسأل عنها رحمة الله عليه.

- متى كان وصولكم إلى مصرَ للدراسة؟ 

- الشيخ أديب:

 كانت سنة 1946م([1])، يسَّر الله لي أن نلت شهادةَ الثانوية الشرعيَّة من المعهد الشرعيِّ للجمعيَّة الغرَّاء، ثم بعد أسبوع تقدَّمت للثانوية العامَّة، ونلت شهادتها، فسجَّلت في كليَّة الحقوق بالجامعة السوريَّة، ثم أُوفدتُّ إلى الأزهر، فكنت أقدِّم اختبارات الدَّورة الأولى في الأزهر بمصرَ واختبارات الدورة الثانية في كليَّة الحقوق بدمشق، وكان هذا الأمر بفضل الله طيبًا، إذ من الجيِّد أن يكوِّنَ الإنسان ثقافةً عامَّة، ويحصِّلَ في الوقت نفسه علومَ الشريعة الإسلاميَّة البانية لشخصيَّته والمكوِّنة لها.

- مَن أهمُّ الطلاب الذين كانوا معكم، ممَّن كان الشيخ الباني يوجِّهُهم ويساعدهم؟

- الشيخ أديب:

كان عددنا نحن الطلابَ الذين أُوفدنا إلى مصرَ ستَّة طلاب، العبد الفقير إلى الله تعالى، والأستاذ عمر عودة الخطيب، والأستاذ عبد الحميد الهاشمي، والأستاذ عبد الغني الخطيب، والأستاذ أحمد الجنادي، والأستاذ أحمد الأحمد.

ولكنِّي كنت الوحيدَ بينهم الذي يدرُس في الأزهر وكليَّة الحقوق بدمشقَ في آن، وكان بين الدَّوام في مصر وفي دمشق تباينٌ في الوقت فاستفدتُّ من ذلك، وهيَّأ لي حضورَ أكثر محاضرات الكليَّتين، وكنت أقيم بين القاهرة ودمشق.

ومن أبرز أساتذتنا في كليَّة الحقوق بدمشق الشيخ مصطفى الزرقا رحمه الله، وأخرج علينا ستَّ ملازم من كتابه "المدخل" ودرَّسَناها، وبهذه المناسبة أقول: بعد أن تقدَّمت بنا السنُّ، صرت ألقاه في كليَّة الشريعة بجامعة دمشق، فقلت له: يا سيِّدي، كنتَ أهديت لي بضعَ ملازم من كتابك "المدخل" وهي مع الأيام ضاعت، والآن الكتابُ اكتمل بفهارسه ومقدِّمته... فلعلَّك تكرمنا بنسخة، فقال: (اطلع من هذه الأبواب) واذهب واشتر نسخة! فقلت له: أشتري نسخةً وأنت أستاذي؟ فقال: تكرم يا شيخ أديب.

ومرَّة قال شيخنا مصطفى الزرقا للدكتور عبد الوهَّاب حومد عنِّي: هذا الطالب يدرس عندنا في الحقوق وفي الأزهر بمصر. فاستوقفه هذا الأمر، فأقبل عليَّ وسألني: صحيح أنك تدرس هنا وتدرس أيضًا في الأزهر؟ فقلت له: نعم، فقال بإعجاب واستغراب: جيِّد. 

وكنَّا نلقى في مصر مع الشيخ الباني الأستاذَ محمد أمين المصري، وكان ملازمًا له ملازمةً تامَّة كأنهما توءمان، يختلفان في بعض الأفكار ولكن يجتمعان عند الغرض العامِّ، وهو نصرةُ هذا الإسلام العظيم، وكان إذا ذُكر عبد الرحمن الباني ذُكر أمين المصري، وإذا ذُكر أمين المصري ذُكر عبد الرحمن الباني، وكلاهما أحسبُه على خير كبير.

- ما أبرزُ معالم شخصيَّة الشيخ الباني؟

- الشيخ أديب:

الأستاذ الباني رجل موهوب، ذكيٌّ وسبَّاق إلى الفهم، ومثابر وصاحب جِدٍّ ودأب في طلب العلم وتحصيله، وهذا كان أمرًا ملاحَظًا وواضحًا، يضاف إلى ذلك حرصُه على نفع غيره، وخصوصًا إذا كان الأمر يتعلَّق بشباب يمكن أن يكونَ فيهم خيرٌ لبلدنا سوريا.. فكنت أقول له: أنت وليُّ أمرنا في هذا البلد.

حقيقةً مواهبه كثيرة: ذكاءٌ، وقدرة على الفهم، والتقاطُ الحكمة من وراء النصِّ الذي يقرؤه، ولم يكن بعيدًا عن المجتمع والواقع، فتراه يعرف ماذا هنا، وماذا هناك، مما يتصل بالواقع والحكَّام وغير الحكَّام..

وأذكر الآن: أننا بعد عودتنا بزمن من الإيفاد واجتماعنا من جديد في الشام وتعاوننا على البرِّ والخير، أوفدتني كليَّة الحقوق بجامعة دمشق من جديد إلى مصرَ لدراسة (الدكتوراه)، وكان إيفادي إلى كليَّة الحقوق بجامعة القاهرة، وذات صباح فوجئت بباب بيتي يُقرَع قبل السابعة صباحًا وكان أهلي معي، فتحت ففوجئت بالأستاذ الباني وكان يومئذ مفتِّشًا للعلوم الشرعيَّة بوزارة المعارف السورية، مسؤولاً عن الثانويات ودُور المعلِّمين في سوريا كلِّها.

سلَّم عليَّ وقال: لا أريد أن آخذَ من وقتك، أعرف أن عندك دراسة، ولكنِّي جئت لحضور مؤتمر للتربية الإسلاميَّة، وقد جئت على نفقتي الخاصَّة؛ لأن الأستاذ المسؤول عنها في مصر كان يحدُث بيني وبينه خلافٌ في بعض الأفكار، وعندما عُرض اسمي عليه بين المرشَّحين لحضور المؤتمر قال لهم: لا يُدعى، وأصرَّ على رفض دعوتي، فاستعنتُ بالله تعالى وجئت على نفقتي.

وأخرج لي أوراقًا سجَّل فيها أفكارًا واقتراحات للمؤتمر، وطلب منِّي الاطِّلاعَ عليها لأبديَ رأيي فيها، وأدوِّنَ اقتراحاتي، وتركَ الأوراق عندي وواعدني لأخذها.

كان ذلك في زمن الوَحدة نحو سنة 1959- 1960م.

- كنت سمعتُ هذه القصَّةَ من شيخنا الباني، وذكر أنه حين سافر إلى مصر على نفقته كان معه الأستاذ أحمد مظهر العظمة.

- الشيخ أديب:

أنا لم ألقَ هناك الأستاذَ العظمة، وهو من كبار رجال الفكر والعمل الإسلاميِّ، وكان عمله بمجلَّة التمدُّن الإسلاميِّ رائعًا جدًّا، رحمة الله عليه، وكان أديبًا متواضعًا، ينفع الناسَ بعلمه وفضله وينتفعون بسلوكه.

وكذلك كان الأستاذ الباني يعلِّم ويربِّي بسلوكه، يجمع بين الكلمة الطيِّبة والسلوك القويم والصِّدق في القول والعمل، يقدِّم لك صورةً عمليَّة لما يفهم من الإسلام، وهذا شيء نحن بأمسِّ الحاجة إليه. وهو رجل ربَّانيٌّ بكلِّ ما تعنيه هذه الكلمة، يجمع بين العلم والعمل.

والبيانُ القرآنيُّ يضيء لنا الطريقَ متى نطلق لقب الربَّاني على الشخص بقوله سبحانه: {ولكن كونوا ربَّانيِّين بما كنتم تعلِّمون الكتابَ وبما كنتم تدرُسون} فالأستاذ الباني صاحبُ علم وسلوك وحرص على مصلحة المسلمين، وسلوكه سلوكُ الأتقياء، وتمسُّكه بالسنَّة فريد.

وكان حقيقةً قدوةً ويعطي المثل لإخوانه الذين يعملون معه في حقل التدريس عندما كان مفتِّشًا في الاستقامة والطاعة والحفاظ على السنَّة، إنه بلا شكٍّ من العلماء الربَّانيِّين رحمه الله، بل هو من خير من تتمثَّل به صفة الربَّانيَّة على حقيقتها.

- كيف كانت صلةُ الشيخ الباني بأستاذه الشيخ حسن البنَّا؟

- الشيخ أديب:

أنا أعلم أنه كان على صلة صحيحة وثيقة بالأستاذ البنَّا رحمه الله، وأنه كان معجبًا به وينظر إليه على أنه الرجلُ الحقيقيُّ في الدعوة، ولكنِّي لا أعرف تفاصيل عَلاقته به وبالإخوان في مصر. وقد اعتُقل هناك، ورأينا اعتقاله أمرًا طبيعيًّا، لأن وقته كلَّّه كان مملوءًا بالخير، والعلم والدعوة، والبذل والعطاء، والصِّلة بالآخرين من علماء ودعاة، ومعاونة إخوانه في أمورهم.. كلُّ ذلك كان واضحًا في سلوكه. وكانت علاقته بالإخوان يومذاك علاقةً وطيدة وأساسيَّة، وكان هذا في المراحل الأولى من مراحل الإخوان قبل الحوادث التي جرت بعد ذلك.

هذا كلُّه في مرحلة دراستنا في الأزهر، وقد بدأت الحربُ على الإخوان المسلمين ونحن ما نزال هناك.

وكان للباني اجتهاداتٌ وآراء في بعض أمور الدعوة قد يُخالَف في بعضها، ولكنَّ الهدف الأسمى عنده هو مرضاةُ الله عزَّ وجلَّ، وكان إذا ذُكر الباني يُذكَر مع الشيخ الألبانيِّ رحمهما الله، ومن الناحية الدعوية كان تعاونه مع الشيخ محمد أمين المصري.

والأستاذ أمين المصري وصل إلى وظيفة مفتِّش في وزارة المعارف، فكان يسعى في تقديم خدمة للمناهج والكتب، وحينما جاء إلى الجامعة كان من الأساتذة المرموقين رحمة الله عليه.. وأذكر أننا التقينا غير مرَّة، إحداها في نزهة قرب بردى حينما يمرُّ بالمِزَّة، وزرته في بيته مع الأخ الدكتور أحمد الأحمد.

- لم يُعنَ شيخنا الباني بتأليف الكتب، ولكنَّه اعتنى عنايةً كبيرة بوضع المناهج للتربية الإسلاميَّة، هل من كلمة في هذا الجانب؟

- الشيخ أديب:

هذا الأمر حقيقةً من أبرز معالم شخصيَّته، فقد كان متبتِّلاً لهذا العمل، عمل التربية الإسلاميَّة واختيار الأساتذة والموضوعات والكتب، ولا أظنُّ أن كتابًا صدر في التربية الإسلاميَّة إلا وله فيه يد، ولم يكن حريصًا على السُّمعة، المهمُّ عنده أن تتحقَّقَ القضيَّة التي يُعنى بها.

أذكر أنه سكن في حيِّ المَيدان مدَّة، فزرته مرَّة في بيته وقضيت يومين عنده وبتُّ ليلتين، وكانت أسرته في حيِّ المهاجرين، استشعرت غَيرته وهمَّته في وضع المقرَّرات، إن قام وإن قعد ليس له من همٍّ سوى إنجاز المقرَّرات بدءًا من الأول المتوسط وانتهاء بالثالث الثانوي، وهذه الكتب - عمومًا - فيها خيرٌ كثير، لأنه استعان بنُخبة من الأساتذة الطيِّبين، وجاهد هو في ذلك جهادًا عظيمًا.

- ماذا تحدِّثوننا عن صلة الشيخ بالكتاب والمكتبة؟

- الشيخ أديب:

كان للشيخ عنايةٌ بالكتاب، وأعلم أن عنده مكتبةً ثمينة جدًّا، معظمُها بقي في الشام. وقد حُرم منها - ويا للأسف - حين حُرم من العودة إلى بلده!

وحكى لي الشيخ الباني رحمه الله أن أخاه الشيخ محمد بشير الباني زاره في السعودية، وبدافع العاطفة الأخوية حاول أن يقنعَه بالعودة إلى سوريا، فقال له: ما دام هذا النظامُ (نظام حزب البعث العربيِّ الاشتراكيِّ) موجودًا في سوريا لن أذهبَ إليها. لأنه عانى من البعثيِّين معاناةً عظيمة جدًّا، فقد حاربوه من كلِّ الوجوه والعياذ بالله تعالى.

وكان الشيخ بشير هواه مع الشيخ أحمد كفتارو المؤيِّد لنظام البعث الحاكم!

وثمَّة قصَّة سمعتها منه أكثر من مرَّة، وكثيرٌ من إخواننا سمعوها منه، حدَّثنا بها عن مرحلة التصوُّف حين كان مريدًا للشيخ أحمد كفتارو، فكان كفتارو يذكر لهم قصَّةً ويكرِّرها عليهم كثيرًا، وملخَّصها: أن مريدًا انتمى إلى شيخ طريقة صوفيَّة، وكان هذا الشيخ ينتقل من ضفَّة النهر الكبير إلى الضفَّة الأخرى مشيًا على الماء (كرامة له)، فهذا المريد بعد أن أمضى مدَّة مع الشيخ تشوَّفت نفسُه أن يكونَ ممن يمشون على الماء أيضًا مثل شيخه، فطلب منه اصطحابه عبر النهر العريض، فوافق بشرط أن يقولَ المريد في أثناء سيره على الماء: (يا شيخي) ولا يقول: (يا الله)، ولكنَّ المريد خالف أمرَ شيخه في وسَط النهر وقال: (يا الله) فأخذ يغرق، فعاتبه شيخُه وقال له: لو قلتَ كما قلتُ لك لما غرقت! وكانت هذه القصَّة وأمثالها - والعلم عند الله تعالى - من الأسباب الجوهرية في تحوُّل الشيخ عبد الرحمن الباني عن الصوفيَّة رحمه الله تعالى. 

- هل كان لكم صلةٌ بالشيخ أحمد كفتارو؟

- الشيخ أديب:

لم يكن لي به صلة شخصيَّة مباشرة، وأول ما رأيتُه عند شيخنا إبراهيم الغلاييني رحمة الله عليه، وكنَّا نلتقي أحيانًا في مناسبات عن غير قصد للقاء.

ومرَّة شكى الشيخ كفتارو لأخينا الدكتور الهوَّاري، قال له: إن بعض الطلاب لأنهم من طلابنا يجنف عليهم الشيخ أديب في الدرجات، وهم يشتكون من ذلك! فقلت للدكتور الهوَّاري: مَن من الطلاب؟ فقال لي: الطالب فلان الفلاني، فقلت له: أنت لست غريبًا عن كليَّة الشريعة، قم بنا ننظر في جداول العلامات، فقام معي ونظرنا في الجدول فإذا بهذا الأخ الذي يشكوني لشيخه لم ينجح في أيِّ مادَّة! فقال الهوَّاري: لا عليك، أنا أكلِّم الشيخ كفتارو.

ثم بعد ذلك قال لي: إنه حين زار الشيخَ فاتحه كفتارو بالقول: نحن ظلمنا الدكتور أديب؛ إذ تبيَّن لي أن طالبنا كلامه غير صحيح. فأخبره الهوَّاري أنه راجع الجداولَ بنفسه وتيقَّن من ضعف الطالب في جميع الموادِّ.

وأذكر في أول مرَّة رأيت فيها أحمد كفتارو عند شيخنا إبراهيم الغلاييني، وكنت يومئذٍ صغيرًا، ذكر كفتارو ماء زمزم وأنه أُخذت منه عَينات إلى المخابر في أوربَّا لتحليله والوقوف على خصائصه، وقال: إن في ذلك خدمةً للإسلام.

فغضب الشيخ الغلاييني جدًّا، وقال مُعترضًا: نحن في تعظيمنا لماء زمزم لا ننتظر تحاليلَ الغربيِّين.. وزجره، وكان أكبرَ سنًّا منه، مع أن الشيخ من عادته إكرام ضيفانه، ولكنَّ غضبه كان غَيرةً لله تعالى؛ إذ ساءه أن يتوقَّفَ الحكمُ على ماء زمزم على نتيجة مخابر فرنسا وأوربا!

- كلمة أخيرة عن تواضع الشيخ الباني وزهده في الشُّهرة؟

- الشيخ أديب:

هذان الأمران في غاية الوضوح حقيقةً عند الأستاذ الباني، وما خالطه إنسانٌ إلا وتنبَّه إلى تواضعه، وما خالطه إنسانٌ إلا وتنبَّه إلى زهده. وهذه من أخلاقه القويمة الثابتة التي لا تخفى.

الحقيقة كان الشيخ الباني يتحرَّك في الحياة لهدف وغرض كبير وهو الفوزُ بمرضاة الله تعالى والذَّودُ عن الإسلام، ولا أذكر أني جلست معه مرَّة ولم نتحدَّث عن قضيَّة عامَّة رحمة الله عليه.

وختم الشيخ أديب كلامه بقوله:

جزاكم الله خيرًا، وأسأله سبحانه أن يباركَ في هذا الجهد الطيِّب، والحقيقة التي لا شكَّ فيها أن العناية بسيرة رجل كعبد الرحمن الباني لها عَلاقةٌ بمصلحة الأمَّة؛ لأن هؤلاء الرجالَ الذين يعملون في حقل التربية والتعليم والتأليف كانوا على هذا المستوى من الحرص على مرضاة الله تعالى، والحرص على الحقيقة العلميَّة وسلامة النصِّ الذي يُستشهَد به، وهذا أمرٌ عظيم، ثم إن عبادة الشيخ وما يتعلَّق بها أمرٌ معروف، رحمه الله وغفر لنا وله.

شكر الله لشيخنا الجليل د. محمد أديب صالح ما أتحفنا به من فوائد، بارك الله في عمره وهمَّته وأنسأ أجله في خير وعافية.

والحمد لله ربِّ العالمين

الشيخ د. محمد أديب صالح إلى اليمين مع أخويه زهير الشاويش وعبد الرحمن الباني

في أول السبعينيات الميلادية من القرن الماضي

شيخنا د. محمد أديب صالح مع أستاذه الطنطاوي وعدد من كرام إخوانه

في المسجد الأقصى عام 1954م

فضيلة الشيخ د. محمد أديب صالح ومعه أيمن بن أحمد ذو الغنى

في منزل الشيخ بالرياض 2013م

               

    ([1]) الشيخ الباني كان ابتعاثه عام 1943م، وبقي في مصر إلى عام 1950م.