في ذكرى علي عبد الحليم محمود

حديث عن رب الأسرة الممتدة

عبد الرحمن هاشم

قالت وفي صوتها حنان، ينم عن كامن التياع:

اسمي نجاة شاكر زيدان خريجة المعهد العالي للفنون الجميلة وأولى دفعتي بدرجة إمتياز. رشحت لبعثة لدراسة تاريخ الفن في إيطاليا ولكن أسرتي رفضت سفري ولعل هذا الرفض كان مقدرا من الله عز وجل حتى ألتقي بالدكتور علي عبد الحليم محمود ونتزوج .. عملت بالتدريس في مصر لفترة في معاهد المعلمات ثم عملت بالتدريس في كلية التربيه للبنات بالرياض.

أول معرفتي بالدكتور علي كانت في مؤتمر من مؤتمرات وزارة التربيه والتعليم وخلال شهر من هذه المعرفة تقدم لخطبتي وتزوجنا وكانت الأمور ميسرة كما لو كنا مخطوبين من فترة طويلة.

ثم ألقت إلي نظرة طويلة حزينة وقالت وهي تتنهد:

أعلم أنك ألححت في طلب هذا الحديث عقب الوفاة مباشرة لكننا كنا في حالة من الحزن العميق لم نستطع أن نخلص منها حتى اليوم.

قلت وفي نفسي حزن لا يكاد يبين:

لا يلبث الأحباب حتى يدعوهم للفراق داع، فهنيئاً له الجنة ولا نزكيه على الله لكن أحسبه ممن صدق فيه حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم "خيركم من طال عمره وصلح عمله"، وأريدك يا سيدتي أن تقصي علي بعض ما كنت فيه معه لعلي أنشر هذا المقال في ذكرى رحيله الأولى بعد أيام معدودات.

قالت وفي عينيها الدموع:

سأظل أستغفر له مصبحة وممسية وهذا أيسر ما له علي من حق، فقد بر بي ورفق بي وأحسن إلي ومهما قلت فلن أوفيه حقه لكن الله سيوفيه بالحسنات إحسانا وبالمكرمات رفعة وجنانا. وأقول وكل من حولي من الأقارب و الأولاد والأحفاد لقد أكرمنا بكرمه المحدود فليكرمه الله بكرمه الذي ليس له حدود.

إعلم يا سيدي أن جدي هو الشيخ محمد زيدان صالح من علماء الأزهر الشريف وكذلك والدي الشيخ شاكر وعمي كان من قيادات الشرطة أيام الملك وتوارث مهنته أبناء عمي وكذلك إخوتي ومنبت أسرتنا العياط بمحافظة الجيزة.

أما أسرة الدكتور علي فمنبتها قرية بنجا مركز طهطا بمحافظة سوهاج ووالده هو الشيخ عبد الحليم من علماء الأزهر الشريف وكذلك جده لأبيه كان من العلماء أيضا. وعندما تقدم (علي) لوالدي قال عنه إنه شخصية لا ترفض أبدا ويا ليت كل شباب المسلمين يكونوا هكذا.. علم وجديّه وحسن خلق وذوي مباديء حريصون عليها.

قلت: برغم اعتقاله أيام الملك منذ كان سنه 17 عاماً؟

قالت سيدتي: ثق كما وثقنا أنه كان يجاهد الإنجليز في القناة وفي هذا شرف ما بعده شرف ولذا فقد أقبل أهلي عليه فوجدوه نعم الإبن وتزوجنا في سبتمبر عام 1958.

وقد عاصرت محنة إعتقاله عام 1965 وكان معي ثلاثة أطفال وعانيت عذاباً وألماً شديدين بسبب غيابه عنا رغم إحتواء أسرتي لي ولأطفالي ولأخته التي كانت تقيم معنا. ولكن مما كان يزيد عذابي أننا لم نستطع معرفة مكانه أو إن كان من الأحياء أو غير ذلك لا قدر الله. حتى قيض لنا الله بعضاً من جنوده التي لا نعلمها فأخلي سبيله بعد سنة كاملة وكان يقال حينها إنهم سوف يبيدونهم ولن يرى أحد منهم النور أبداً.. ولكن الله غالب على أمره.

المهم خرج (علي) ليناقش رسالة الماجستير التي كان منتهيا منها قبل اعتقاله وحيك له الكثير من الكيد لمنعه من المناقشه ولكن بفضل الله ثم بفضل أساتذته وإدارة كليته حصل عليها وواصل البحث ونال شهادة الدكتوراه التي كان موضوعها "الحياة الجاهلية في القرآن الكريم" فقد كان رحمه الله قلبه دائما معلقا بكتاب الله ولم يخلو بحث من أبحاثه من نهل آياته وبركاته.

وقد حورب في عمله كثيرا فمنع من وظيفة معيد في كلية التربيه أو في جامعة الأزهر ومنع من التعيين في وزارة التربيه والتعليم لمدة ثلاث سنوات ومنعنا من الإعارة معا إلى السودان  وجاء اسمه بعد عدة سنوات من المنع في قائمة المعارين إلى ليبيا لكن الأمن رفض ذهابه إلى ليبيا ولم يرفض الكويت فأعير إلى الكويت وبعد سفره بأسبوع توفي عبد الناصر في سبتمبر 1970.

وبالرغم من كل ما لاقاه من عنت في حياته كنا لا نسمع منه إلا قول اللهم لك الحمد والشكر يا رب.

ظل بالكويت سنة واحدة لم يسترح فيها نظراً لطبيعة جوها شديد الرطوبة غير الملائم لحالته الصحية فانتقل إلى الرياض بالمملكة العربية السعودية متعاقداً مع جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلاميه وسافرت إليه بأولادي سنة 1971 وعملت هناك بكلية البنات لمدة 12 سنة.

وهناك عرف عنه غزارة علمه وحسن خلقه وسيرته الحسنة فسعت إليه وزارة الحج ليتعاون معها وانتدبته لتوعية الحجيج كل عام وابتعثته للدعوة في أكثرمن دولة إفريقية وأوروبية وأمريكية.

داخل البيت هو الأب الحنون والزوج الكريم العطوف المضياف لكل من ينزل ببيته.. أتذكر أنك منذ وطئت قدمك هذه الدار أنك أحسست إحساساً قويا أن رب الدار لا يظللنا إلا بمظلة الحب.. أتذكر ذلك؟ قلت: نعم! 

قالت: وبيته كان مضيفة طوال الوقت وكان يخصص شهرين في كل عام يستضيف أولاده وأزواجهم طوال شهر رمضان وطوال شهر المصيف بالساحل الشمالي، لا يكلفهم في ذلك مليماً واحدا! وليس أفراد الاسرة فقط بل كثير من الأقارب أيضا.

دأب على هذا منذ عدنا من الخارج سنة 1984 وإليك بعض المواقف دليلاً على ذلك.. أتذكر أخته التي أبى إلا أن تعيش معنا في البيت وقد خصص لها جناحا مستقلا. فكان بيته واحة لكل من يقصده وليس لأسرته فقط بل وأسرتي أنا أيضا فقد كان لي أخ برتبة لواء شرطة لم يتزوج وكان يقيم مع والدتي وعندما توفي في سن الخمسين أقسم الدكتور (علي) على أمي أن تأتي وتعيش معنا برغم وجود ثمانية من أبنائها على قيد الحياة وبرغم أنها كانت تحيا في ظروف مادية واجتماعية طيبة جدا.. أكرمها وبرها وما كان يناديها إلا بأمي. ولم تغادر منزلنا إلا بعد 12 سنة عندما تقاعد أحد أخوتي وأقام معها بمنزلها.

قلت: لا يقدم على ذلك إلا ذو حظ عظيم.

قالت: هل تريد مثالاً آخر؟ لي أخت متزوجة من طبيب ألماني من أصل مصري وتعيش معه في ألمانيا ولما لم يكن لهم بيت أو شقة في مصر كانت لما تنزل في أجازة صيفا أو شتاءا تكون ضيافتها عندنا هي وأسرتها على مدى 12 سنة.. تصور أختنا المسافرة وكل من يريد أن يراها أو يسلم عليها سواء من داخل القاهره أو خارجها فكان البيت يمتلأ عن آخره بالضيوف من إخوتي وأقاربنا على شرف أختي المقبلة من الغربة.

قلت، وقد أثر ذلك في نفسي أبلغ الأثر: أي طاقة مادية ونفسية جعلته يوفي لرحمه بهذه الصورة المثالية؟

أمنت على سؤالي قائلة: لا تنسى أن النية الطيبة التي تكون حبا لله ولوجهه تعالى يجعل الله فيها الخير والبركه  مصداقا لقول الله تعالى: "ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب" وقوله تعالى " ومن يتق الله يجعل له من أمره يسرا" وكنت أنا نفسي أجهد وأتعب من أعباء الضيافة واشتكي له وأقول إنني لا أكاد أفرغ من الإفطار حتى أفكر في الغداء ولا نكاد نفرغ من الغداء حتى نفكر في العشاء حتى يصيبني الإجهاد والتعب وأكثر الوقت الصداع النصفي وأعلم أنهم أهلي وإخوتي لكن لا يكلف الله نفساً إلا وسعها.. فكان يطالبني بالتحمل إكراما لأختي أمام زوجها فكان رحمه الله وأكرمه دائما في جانب إكرام المرأه وإعزازها.

وليست أختي فحسب بل جميع إخوتي - وهم في مراكز مرموقه هم وأولادهم – كانوا جميعا لا يجدوا في صحبة الدكتور علي وفي بيته الا المودة والحب و الكرم.

فهو من قبل ومن بعد يعتبر أخوتي أخوة له وأسرتي أسرته وهذا من فضل الله وكرمه علي.

ولكني أسمع صوتك الداخلي يسأل عن أهل (علي) وحاله معهم؟ أليس كذلك؟

قلت: بلى! وأحس يا سيدتي أنك تختطفي الفكرة التي تخطر لي قبل أن أستتمها في ذهني.

فاعتذرت إليّ متلطفة وهي تقول: لا بأس عليك! فقد كان أبوه عليه رحمة الله  من علماء الأزهر يعمل بالتدريس بالمعاهد الأزهرية وكنت أحبه وكان يحبني والبيت الوحيد الذي كان يرتاح فيه هو بيتي وبيت علي.

ماتت أمه وتركت ثلاثة ذكور أصغرهم علي وبنت وحيدة عندها 5 سنوات وكان علي في سن السابعة عشر فكان بالنسبة لأخته الصغرى هو الحنان كله والعطف كله والبر كله.. كان يذهب بها إلى المدرسة وظل يرعاها حتى زوجها من مهندس تدرج حتى أصبح الآن وكيلا لوزارة العدل في مصلحة الخبراء.

وكان كلما يتذكر أمه تدمع عيناه وماتت رحمها الله وعمرها 38 سنة وتزوج والده بعدها وأنجب البنين والبنات أخذوا مكانتهم في قلب عليّ فكان يبرهم ويصلهم ومنهم أخته التي كانت في  بيته منذ ميلاد ابننا شريف حتى انتقلت الى رحمة الله منذ بضع سنوات.

وكان لإخوته وابنائهم نصيباً من بره ورعايته ومنهم أخيه غير الشقيق الذي درس الطب في الأزهر لكنه تزوج وكثرت عليه أعباء الحياة فترك الدراسة واتجه للعمل فذهب إليه عليّ وسأل زوجته أمامه: كم يكفيك في الشهر حتى يفرغ زوجك لدراسته ويتخرج؟ وبالفعل تكفل بمؤونتهم لمدة سنتين حتى تخرج أخيه وتعين طبيباً بإحدى المستشفيات الحكومية وحاليا هو على المعاش ويعمل بعيادته الخاصة.

وترملت أخته غير الشقيقة وهي عروس حين ذهب زوجها في حرب اليمن وجاءها نبأ وفاته وهي حامل في شهرين ولم تكن على علم بهذا الحمل وعندما أنجبت طفلة كفلها خالها (علي) وتابع دراستها حتى تخرجت وزوجها وأقام حفل عرسها في بيتنا على الرغم من أنها لم تكن في حاجة مادية ولكنه أحاطها بالرعاية والحب.

ولاحظت (أم شريف) عليّ الذهول فهتفت بي: أين أنت! ألا تسمع لما أقول؟ فأعود إليها مترفقاً مبتسماً، وأعتذر إليها في سذاجة بأني أعيش في خيالي أجواء هذا العرس.

قالت وابتسمت: فعد إلى ما أنفق من الحياة وفياً للحق حفياً بالفضيلة مترفعاً عما يخس الرجل ويزري بالمروءة، فقد يخيل إليّ أنك أنسيت الحديث الذي أتيت من أجله..

كان بالنسبة لأولاده شهيرة وشريف وإيمان وشيماء (كل حاجة) كان يفضل ألا يفطر وحيدا أبداً ويفطر معهم حتى وهم متزوجون.. لم يكن يشعرهم بمشكلة ولم يكن يثير مشكلة مع أحد وهذا يحتاج إلى قوة نفسية عظيمة وتضحية مادية كبيرة.

وعندما كنت أصر على أن نأخذ حقوقنا المهضومة ممن اعتدوا عليها يغضب منى ويقول :مهما يسىء إليك الأحياء فإنهم يسيئون إلى أنفسهم ذلك أن لهم ضمائر إن لم تعذبهم الآن فستعذبهم بعد أن يفارقوا الحياة وكان على يقين ثابت بأن الله يدافع عن الذين آمنوا.

اتخذ لنفسه طريق تقوى الله هدفاً وغاية وكانت هذه هي وصيته لي ولأولاده حين قرأناها بعد وفاته رحمه الله ورضي عنه وأرضاه.

وكان يقول: يكفي أن أقول وأفعل ما يقربني إلى الله.

كان لا يبحث عن المادة ولا الشهرة ولا الظهور سجل للإذاعة السعودية برنامج يومي قبل أخبار الثانية مساءاً بعنوان: (يا أخي  المسلم) ولما أحس بأنه سيكون معروفاً ومشهوراً ترك البرنامج ولم يعد للإذاعة مرة أخرى وكذلك بعض البرامج التلفزيونيه على الرغم من الإغراءات المادية ولشهرة التي قد تغري أحدا غيره .

كان من عادته النوم في حدود الحادية عشر مساءا والإستيقاظ لصلاة الفجر وكان قلبه معلقا بالقرآن فكان يختمه كل أسبوع وفي السنة الأخيرة كان يختمه  كل ثلاثة أيام وكان يقضي وقته طوال أيام المصيف مع المصحف الشريف يخلص لقراءته وتدبر آياته وكان يرجع الفضل لأبيه فهو الذي حفظه القرآن الكريم وقد ختمه آخر ختمة في حياته قبل أن يذهب إلى المستشفى أي قبل وفاته بأسبوعين. وأثناء مرضه وهو بالرعاية المركزه طلب جهاز مسجل عليه القرآن بصوت بعض القراء المعروفين، وكانه معه ممرض يقوم على وضوئه لكل صلاة. 

وأكرمه الله ووفقه أن يفسر سور المائدة والنساء والأنفال والتوبة والنور وآل عمران والأحزاب بطريقة تربوية رائدة.

ولك أن تعلم أنه أثر كثيراً في طلاب البعوث الإسلامية بالأزهر الشريف عن طريق الدورات التربوية التي كان يحاضرهم فيها وكان لهم الفضل بعد ذلك في ترجمة كتبه إلى عدة لغات. وقد أرسلت لنا تعازي كثيرة من بعض دول العالم الإسلامي.

وهنا، أوقفت سيدتي عن الحديث بإشارة من يدي وقلت: ما سر حنوه على المرأة وعطفه عليها واهتمامه بها وتأليفه الكتب في إسهاماتها الدعوية والتربوية؟

قالت: عرفت منه أنه كان يحب جدته لأبيه التي كانت تقيم معهم وكانت تحفظ القرآن الكريم فكانت تسمع له أحيانا ما كان يحفظه من الآيات ولما صار شابا كان يحنو عليها كثيرا ويشتري لها ما تحبه من أطايب الطعام كما كان يحب أمه حبا جما ولما ماتت انتقل هذا الحب إلى أخواته البنات ثم إليّ أنا وبناته ثم إلى عموم المرأة المسلمة ويظهر هذا الحب ـ كما ذكرت ـ في مؤلفاته التي خص بها المرأة المسلمة بمزيد عناية ودراسة وتوجيه وإرشاد.

وكان يرفض أن يستخدم الزوج زوجته كطباخة أو غسالة ويقول إن عقد الزواج ليس عقد إستخدام بل عقد شراكة وحياة وتكوين أسرة مسلمة صالحة.. وكان يضعني في مكانة الزوجة الصديقة الحبيبة وما خطه قلمه في هذا المجال لم يخطئه واقعه معي ومع بناته وحفيداته، فكان دائما لا يسأم من خدمتنا والحدب علينا جميعا.

واها للدكتور عليّ، وقد كان في خدمة أهله، فكانت من عادته غسل أطباق العشاء وظل حريصا على تلك العادة حتى قبل مرضه الأخير بيوم واحد وكان يحرص على أن يوقظنا على كوب الشاي باللبن من صنع يديه ويأتينا به حتى آخر وقت قبل مرضه.

وإذا وقع مني شيء أو ضاع تجدني أحزن عليه خصوصا إذا كان ذو قيمة معنوية أو مادية لكنه كان يواسيني ويقول لي: ليس من نصيبك لا تحزني.. لعله مقسوم لغيرك.. وأجده قد فكر قبل أن ينام كيف سيأتيني ببديله في اليوم التالي وذلك تكرر أكثر من مرة!

مثال آخر:أنا لا أحب قيادة السيارات وعندما أركب سيارة أظل أقرأ ما تيسر لي من القرآن حتى نصل الى وجهتنا ومع ذلك أصر على شراء سيارة بإسمي وعندما كلمته في ذلك قال: حتى لا تحتاجي لأحد من أولادك وتكون سيارتك تحت أمرك في أي وقت هكذا كان رحمه الله يفكر فينا وفي كل نواحي حياتنا قبل أن يفكر في نفسه.

أضمر قلبه الحب والود والحنان لجميع من حوله فأنبت الحب حباً في نفوسهم ومنهم حفيداته اللاتي كبرن وتخرجت بعضهن وقد اجتمعن بعد وفاته في منزلنا وهن يرتدين أساور من فضة منقوش عليها "جدو عليّ كريم علينا حبيب إلينا".

أبدع حين كتب في فقه الدعوة إلى الله بصورة فردية وكان يتعامل مع من حوله سواء من أفراد أسرته الكبيرة الممتدة أو غيرهم من الناس بأسلوب الداعية المربي المعلم.

أقول: شغل أوقاتنا بالنافع المفيد وأسقط نظريات التربية الإسلامية على واقعنا الأسري والحياتي.

من فرط حبه لأولاده كان يلقب كل واحد منهم بلقب.. فشهيرة (أم أبيها) وشريف (ولي العهد) وإيمان (مجلس العائلة) وشيماء (مؤنسة الشيخوخة).

رفض أي قيود إدارية سواء في عمله الدعوي أو عمله المهني تبعده عن الشيء الذي وهبه حياته ألا وهو علمه ودعوته وأسرته.

لم يخرج بأي معاش من عمله سواء في التربية والتعليم أو في جامعة الأزهر وكذلك أنا لم أخرج بمعاش من وزارة التربية والتعليم وعندما أردت أن أسعى في هذا عقب عودتنا من السعودية قال: يا شيخة أتريدينني أن أجري وراء ملاليم!

وبعد عودته من الخارج رفض عدة عروض جاءته للعمل في جامعات لها اسمها وإغراءاتها كذلك رفض إدارة مراكز إسلاميه مختلفه في أوروبا وفي الولايات المتحدة الأمريكية وكندا.

قلت: ما أكثر ما تعرض له من محن وابتلاءات وبخاصة في السجون ولكن أستحي منك وأستحي من نفسي وأشفق من هذا السؤال!

قالت: فعلا لقد تعرض للكثير من صنوف التعذيب والإيذاء مما ترك آثارا على جسده وصحته ففقد السمع بإحدى أذنيه وأصيب مفصله الأيسر مما حرمه من السجود وكان يصلي جالسا كما تأثر بصره تأثرا كبيرا ولكنه رحمه الله كان لا يحب التحدث عن تلك الأمور حسبة لله تعالى.

هذا ما كنت أريد أن أسمعه ولكن ألتمس العفو، فأنا أيامن مرة وأياسر أخرى، حدثيني عن المزيد من أحواله حديثاً يفتح لي أبواباً أخرى من الأسئلة؟

قالت: فافهم عني هذا الكلام.. كان نظيفا مرتباً ومنظماً في حياته في مطعمه وملبسه ونومه ويقظته فلا أذكر أنه تركني أعلق له بذله أو أحضر له ملبسا فكان يقوم بكل ذلك بنفسه وهو مسرور ويقول لي ضاحكا: أنا أقوى منك بدنا..وكان رحمة الله عليه لا يترك مكتبه إلا في أتم حال من الترتيب والتنظيم ولا يحتاج منا سوى النظافة الأسبوعيه وكذلك ـ لا تصدق ـ سرير نومه أيضا كان يرتبه بنفسه ولا يترك لنا إلا النظافة الدورية وتغيير الأغطية.

في دروسه ومحاضراته كان لا يخرج عن الموضوع الذي يتحدث فيه وكان يعلم تلامذته ألا يكون أحد منهم "داعية بورقة" فكان ينصحهم أن يتحدثوا للمدعوين من الذاكرة وليس من ورقة أو كتاب. وكانت محاضراته الجادة لا تخلو من بعض الأحاديث الطريفة التي تبهج المستمع وتزيد من إهتمامه فتكون دائما محاضرات رائعة شيقة.

كان يعاني من حساسية الصدر وفي العشر سنوات الأخيرة من حياته كان يتأثر من أي غبار أو رطوبة أو برد وبخلاف ذلك كانت صحته جيدة لم يصب بأي أمراض مزمنة وامتاز جسده بالحيوية والنشاط حتى آخر لحظة في حياته.. حتى في مرضه الأخير وهو في غرفة الرعاية المركزة وجهاز التنفس الصناعي على فمه كان يكتب لنا ما يريد أن يتحدث به بل ويمازحنا أحيانا ونحن في قمة الألم من أجله وإن كنا نتظاهر بالمرح والضحك.

وإن كنت أعلم أن لديك من الوقت ما يسمح لك بسماع قصة مرضه ووفاته لأطنبت في ذلك ولكن أرى أنه يكفي الإيجاز.. قلت على الفور: ما أحسب أنني يمكن أن أمل من حديثك يا سيدتي.

فقالت: قصة مرضه الأخير غاية في الغرابة، فقد أصابته الانفلونزا عن طريق أخذ العدوى مني وكنت أحذره من ذلك، ولحساسية صدره زاد عليه المرض فذهب إلى العناية المركزة بمستشفى بالمعادي وعاد إلى البيت بعد أسبوع ولما لم تتحسن حالته ذهبنا به مرة أخرى إلى المستشفى وقلت لشيماء ابنتي وهو خارج من البيت "عندي إحساس يا شيماء أن بابا لن يعود .. هو قال لي أنا عارف لو ذهبت لن أرجع.. فلماذا يا ابنتي نلح عليه؟" فقالت شيماء وهي تذرف دموعها "يا ماما لا نستطيع أن نراه يتألم ونقف دون فعل شيء".. المهم بعد إجراء التحليلات اكتشفنا إصابته بفيروس نادر في الرئة انتقل إليه من حجرة العناية المركزة التي دخلها طوال الأسبوع الماضي وشاءت إرادة الله أن يموت بهذا الفيروس وأن تصعد روحه إلى بارئها فجر 10 مارس 2014م، عن عمر ناهز السادسة والثمانين وأن يدفن بعد صلاة الظهر ونحن في صدمه وألم وحزن يلازمنا حتى الآن.

حدثتك عن علاقته بأسرته وأقاربه ..دعني أحدثك عن علاقته بخدمه :عندما كنا نعوده في مرضه كان يسأل عن أم محمد ويقول أم محمد وحشاني وكنا نجعلها تكلمه في التليفون وكانت تقول له أنا شغالتك أم محمد فكان يغضب ويقول لها لا تقولي ذلك لن أقل لك أنت أختي لأنني أكبر منك بسنين ولكن أنت ابنتي.. وكان يجلسها على المائدة فتأكل معنا وساعدها في تزويج ابنتها وعندما شرعت في بناء بيت لها في بلدتها أعطاها الأبواب والشبابيك ولم يشعرها في يوم من الأيام أنها خادمة أو شغالة ولكن كما كان يقول لها "أنت ابنة من أبنائي".

أنجبت حفيدته (شادن) ابنة شريف – وهي خريجة صيدلة القاهرة - طفلها الثاني خلال مرض جدها الأخير وأسمته بلالاً فكان يسأل عن بلال بعد أن علم بمقدمه ويقول: الحمد لله جاءني بلال ولولا وجودي هنا (يقصد الرعاية المركزة) لذهبت لأكبر وأقيم للصلاة في أذنيه.

دارت حياته كلها حول أسرته التي كان يسميها "الأسرة الممتدة" وكان بحق هو رب هذه الأسرة الممتدة.

كان يجلس مع أولاده قبل البلوغ يرشدهم إلى التغيرات الجسمانية التي ستعتريهم وما يترتب عليها من مسؤولية وتكاليف ربانية فكانت البنت عندما تبلغ مبلغ النساء تذهب فرحة مسرورة إلى والدها لأنه وعدها بجائزة قيمة فيقدمها لها ممتناً ويذكرها بالقواعد الشرعية والفقهية المترتبة على هذه المرحلة من مراحل العمر.

عندما ذهب ليشتري جهاز ابنته إيمان قبل زفافها اتصل بشهيرة أختها الكبرى وقال لها: انظري لو عندك حاجة ناقصة في البيت أشتريها لك مع جهاز أختك.

أوصاني منذ زمن أنه لا يحب أن ينشر نعيه في الجرائد وعندما اعترضت على ذلك قال هذه وصيتي وهي واجبة التنفيذ. ونفذتها بالفعل وتحملت لوم الكثيرين في ذلك.

وأوصاني أيضاً بجعل أي ريع يأتي من كتبه ومؤلفاته صدقة جارية للفقراء والمساكين.

كان آخر كتاب يقرأ فيه وينقل منه هو كتاب لجدي الشيخ محمد زيدان صالح.. وجدته على مكتبه وفي وسطه كراسة وقلم ما زلت محتفظه بهما على حالهما. 

أنجب له المهندس شريف من الأحفاد المهندس علي والدكتورة شادن وعلياء طالبة في طب أسنان وأنجبت الدكتوره شهيرة المهندس زياد ورامه وهي خريجة تجارة قسم لغه إنجليزيه، وأنجبت المهندسة إيمان نبيل وهو يدرس الهندسه الميكانيكية  وريم وتدرس علم نفس .

أما ابنتنا شيماء صغرى بناتنا "مؤنسة الشيخوخة" كما كان يحب أن يناديها، فقد أنجبتها بعد فترة طويلة وأخوتها شبابا وفرح بها فرحاً كأنه لم ينجب سواها وأعاد معها سيرته مع شهيرة وإيمان فكان يوصلها إلى المدرسة ويعود بها كل يوم ويجلس مع صديقاتها وقد تأتي الواحدة منهن وتبيت مع شيماء فيقوم بنفسه على تجهيز الطعام حتى لا تخرج دون إفطار.

ولك أن تعلم أنه في أثناء عودته بشيماء من المدرسة كان يركن سيارته ويشتري ما يستطيع حمله من البصل والثوم واللحوم والأسماك والفاكهة ليهدي أسرته الممتدة وحين يصل إلى العمارة يطرق باب كل شقة من شقق الأولاد ويعطي لكل نصيبه.

ولعل الله أمد في عمره حتى يكمل واجبه تجاه مؤنسة شيخوخته شيماء فزوجها قبل وفاته بشهرين وكذلك زوج حفيده علي بن شريف وأشرف بنفسه على ترتيب بيتهما قبل الزفاف لكن لم يمهله القدر ليبارك لهما بعد الزفاف وذهب للقاء ربه وهو مطمئن وفرح بكليهما.

ربى الأحفاد الذكور (علي وزياد ونبيل) على قيمة الأخوة وحجز لهم شققاً متجاورة كي يتزوجوا فيها وكي لا يفترقوا أبدا.. وكانت آخر رحلة خرج فيها معهم رحلة نيلية بين الأقصر وأسوان.

أرأيت مثل هذا الود الخالص الذي لا يفسده مصانعة أو رياء، والذي لا يبتغي عندك نفعاً ولا يتقي منك ضراً، والذي لا يكدره ما يكدر صلات الناس من هذا الشر المنكر الذي تخفيه الضمائر وتكتمه القلوب، وإنما هو الود الصفو والحب الذي يصدر من النفس إلى النفس، ويصل القلب بالقلب، ويبلغ الضمير رسالة الضمير..

أتحدث إليك عن ماذا .. وماذا؟

كان من عادته في رمضان كل عام حين كان أحفاده صغارا الإتيان بحلواني نعرفه كي يصنع أمام الأولاد كعك العيد حتى أنهم كانوا يعاونونه ويخرجون معه بالصاجات إلى الفرن ويعودون فرحين بالكعك وبالعيد. كما كان يحرص على حضورهم ذبح الأضحيه وتوزيعها قبل أن نجتمع جميعا على مائدة العيد ليعلمهم قيمة الإرتباط الأسري والإحتفال بالشعائر الإسلامية.

كان يأخذ شهيرة كبرى أبنائه ويقول لها أنت على علم بمقاسات أبنائك وأبناء شريف وإيمان فهيا لنشتري لهم ملابس العيد.

لم يكن يبخل على أحد بشيء وكان يكافىء المجتهد من أحفاده بالمكافآت المالية عقب إعلان النتيجة كل عام ويحفزهم على نيل أعلى الدرجات ولم ينس بلال آخر أحفاده فظل حتى آخر لحظة يسأل عنه محاولاً أن يبثه عطفه وحنانه قبل أن يلقى ربه.

كان يحب الجدية في العمل ويكره التراخي أو الإهمال وكان يقول لنا: الرزق بيد الله لكن القيام بالعمل على أكمل وجه وبصورة متقنة هذا هو الواجب الذي ينبغي علينا القيام به. وكان يحث أبناءه وأحفاده على التفوق الدراسي و الإجتهاد في جميع مناحي الحياه.

قالت وقد عادت الدموع إلى انهلالها: هكذا كانت أحواله معنا، وهكذا مضت حياته في أناة مستأنية ورفق رفيق.. تصور حياته هذه كشجرة مثمرة لا يشقى بها الناس، وإنما هي قائمة واضحة أوضح من أن تنكرها النفوس، تؤدي رسالتها وتلقي خيراتها لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.

قلت: وأشهد أني لأنحني أمام هذه الشخصية التي صانت نفسها عما يدنس نفسها محاولاً تقليدها ومحافظاً لذكراها والله على ما أقول شهيد.