جلسة مفتوحة مع مالك بن نبي

جلسة مفتوحة

مع مالك بن نبي

إبراهيم عاصي *

معتقل في سجون أسد منذ عام 1979

(كلمة)

(جلسة مفتوحة) ،حوار على السجية مع المفكر الإسلامي الجزائري المعروف ، مالك بن نبي . وأقول على (السجية) لأن اللقاء لم يكن مرتباً من قبل ، كما أن الأسئلة بالتالي لم تكن محضرة مسبقاً .. وبهذا يكون من الطبيعي أن تأتي الأجوبة كذلك ..

وأسميتها (جلسة مفتوحة) ، لأنهاكانت بالفعل هكذا . لقد ضمت جلستنا ـ وعلى الأصح جلساتنا ـ عدداً غير قليل من المستطلعين والمثقفين والمناقشين . فكانت أشبه بندوات فكرية ، وإن كانت على نطاق مصغر .

كما أنني أردت من هذه التسمية شيئاً آخر ، هو المعارضة لجلسة لي سابقة أجريتها مع نمط معين من (محترفي) الدين ، وأسميتها (جلسة مغلقة) ، صغتها قصة ونشرتها في مجموعتي القصصية (ولهان والمتفرسون) ، وقد آتت أكلها ثماراً طيبة مشجعة والحمد لله ، بما أحدثته من ردود فعل إيجابية ، إن لم أقل عند (المشايخ) المعنيين أنفسهم ، فعند عدد غير قليل من مريديهم الذين رأوا الحق فأخذوا يتبعونه .

وليس قصدي بالطبع من التسمية الجديدة ، المعارضة لوجه المعارضة ! وإنما القصد أن أربط في ذهن القارئ شيئاً بشيء ، ولو من قبيل الربط الضدي ، أو الربط بالتداعي .

في (جلسة مغلقة)  كان الحوار مع شيخ (نمط) ، شيخ محترف ،سطحي ، مغلق ، يؤثر الظلمة ،يخاف نور الفكر والعقل أن يسلط على أفعاله وأقواله ليناقشه الحساب ! يحيط نفسه بهالة و(هيلمان) ما أنزل الله بهما من سلطان ويضع نفسه في مصاف الرسل والأنبياء تصريحاً أو تلميحاً !!

أما في (جلستنا المفتوحة) هذه ، فلسوف تجد نفسك أمام نمط آخر مختلف كل الاختلاف .. نمط يتميز بعمق الثقافة ، وسعة الأفق .. نمط يعيش الإسلام ماضياً وحاضراً ومستقبلاً .. ويعيش العصر بأبعاده المختلفة : اجتماعياً واقتصادياً ، ومذهبياً .

ومن هنا .. ولأن الرجل كذلك ، فلسوف تجدني في هذه الجلسة المفتوحة ، مختلفاً عني في الجلسة المغلقة اختلافاً كبيراً !!

في (المغلقة) ، كنت مناقشاً ومحاجاً ، وكاشفاً لزيف ، ومصححاً لخطأ .

أما في (المفتوحة) ، فستجدني : مستمعاً ، أكتفي بإثارة الأفكار ، أحرص على تفتيق ملكات الذهن ومذخوراته أنصت إلى الاستطراد ولو طال .. أسعى لسماع أكبر عدد ممكن من التحليلات والتعليلات .. أحاول سد ماقد يبدو لي بين الحين والآخر من ثغرات الحديث ، بمزيد من الأسئلة .

وليس هذا المسلك بالذي يعني ، أن كلام الرجل له امتياز العصمة ، فهو فوق النقاش !! لا ، لا .. إن العصمة لله وحده ثم لأنبيائه فيما بلّغوا من رسالات ..

كل ما يعنيه هذا المسلك مني ، هو الارتياح العام إلى منطق الرجل ، والإحساس بقصر الوقت معه ، والحرص على الاستفادة منه باستقراء فكره ورأيه عياناً من خلال أكبر عدد ممكن من الأجوبة والتفسيرات .

وفيما يلي ، وقبل عرض الحوار سيجد القارئ وصفاً خارجياً مختصراً ، ثم وصفاً آخر لطريقته في التفكير وأسلوبه في استنباط الأحكام والتفسير ، كما بدوا لي من خلال اللقاءات التي جمعتنا . أردت من ذلك أن تأتي الصورة ، صورة الحديث والمحدّث ، متكاملة قدر المستطاع . والله ولي التوفيق .

إبراهيم عاصي

لقيته أول مرة على غير اتفاق في إحدى دور النشر في بيروت ، ثم توالت لقاءاتنا ، والتأم اثنان منها على شكل أمسيتين فكريتين استمرت كل منهما حتى منتصف الليل ، وقد ضمتا لفيفاً من المستطلعين والمثقفين .

لا أدري كيف يتصوره الذين يقرأون له ولم يسبق لهم أن شاهدوه !.

إنه رجل يميل في قامته إلى الطول ، غير بدين ، لم يكتمل الشيب في رأسه بعد وإن كان الوقار سمته .. رقيق الحاشية ، متوقد العينين يطل بهما من وراء نظارته الطبية .. بادي الاعتناء بهندامه إن لم نقل التأنق . وقد يكون مختلفاً في هذا من الكثيرين من أمثاله من كبار المفكرين الذين يهملون مظهرهم ـ في الغالب ـ وينسون شعورهم فتطول وتسترخي بداعي الالتفات إلى الأهم والاشتغال بالعلم أو الفن الذي وقفوا أنفسهم من أجله !!

إذا تحدث انفعل هادئاً مع حديثه ، وبدا كمن يلد الأفكار أو يتمخض عنها ، إلا أن جوابه حاضر غير شرود إذ تكفيه الإطراقة الواحدة العجلى لدى مفاجأته بسؤال ما حتى يرفع وجهه إليك ثانية ويعطيك الجواب الفاصل .

يستخلص المعنى الكبير ، من المشهد الصغير ، بل يستخلص القانون العام من الحادثة العادية ، شأن أرخميدس الذي اكتشف قانونه العلمي الشهير من مشهد الطاسة التي طفت في جرن الحمام !

ومن هنا فإنك تلحظ كثرة ضربه الأمثلة والقصص التي يستحضرها للتو من ذاكرته ، ومعظمها مما مرّ معه وجرى له شخصياً .

إن الجالس إليه يحس مباشرة بأنه أمام مفكر كبير شمولي النظرة ، واسع التجربة ، عالمي الثقافة ، يشرف على الأمور والمشكلات إشرافاً ،يطل عليها من شاهق ولا ينظر إليها من جانب أو من تحت .. وهكذا يتاح له أن يحلل ويركب ، وأن يحيط بالكليات والجزئيات معاً ، وأن يربط الأسباب بالنتائج وأن يعطيك في النهاية الحكم السديد والرأي الناضج العميق الذي لا تحس معه بأية سطحية أو ابتسار .

لقد كتب عنه مرة أحد معارفه الأقربين فقال (1) : " ليس مالك أديباً أو كاتباً من أولئك الذين ينتجون بالقطعة أو بالمقالة ، وإنما هو يعيش مشكلة كلية ، تشمل عالم الإسلام طولاً وعرضاً وعمقاً . وهو من أشد الناس إيماناً بالعالم الإسلامي ، ومما ينطوي عليه من طاقات يمكن أن تسهم في حل مشكلاته ، وتحضير أرجائه ، وتطوير حضارة العالم بل إن العالم الإسلامي المعاصر لم يشهد وقف تفكيره من أجل تأصيل فكرة (الحضارة) في حياة المثقفين خاصة ، سوى مالك " . إن مجالس مالك ومحاوره ليحس بصدق هذا الوصف كلمة كلمة . وزيادة على ذلك فإن مالكاً يؤمن بالمنهج العلمي ويسترشد به في أحاديثه وأقواله . قال لنا في معرض كلامه عن تعريف العلم : العلم هو أن تقول إن 4 + 4 = 8 وكفى ! وإن هذا ليس بالأمر السهل ولا العادي كما قد يتبادر إلى أذهان بعض الناس ! ثم أضاف إنني ما زلت مديناً بهذا التفكير إلى أحد أساتذتي يوم كنت طالباً في باريس ، لقد عرف لنا العلم بقوله : العلم هو أن تقول عن القط هذا قط . دون أية زيادة أو نقصان .

شديد العناية والتدقيق على " المصطلح " فهو لا يسترسل معك في الإجابة على أي سؤال ، قبل أن يتفق معك على المدلول الموضوعي لكل كلمة مما تفوه به . وما ذلك إلا لاعتقاده ـ كما صرح ـ بأن عدم التحديد الدقيق لمدلول " المصطلح " هو الآفة الكبرى التي تعمل عملها في تزييف الأفكار وتضارب الآراء واختلاط المعاني بين المتحاورين أو المتصدين للتوجيه وقذف الكلام من فوق المنابر العامة أو من وراء الميكرفونات .

ومن هنا فإنه قلما يجيب على سؤال يكتنفه الغموض أيّ غموض في الصياغة أو اللفظ .. إنه لا يجيب عليه إلا بعد أن يصححه هو أو تصححه أنت بحيث يوضع في الصيغة الجامعة المانعة ! من ذلك مثلاً أنني طرحت عليه أحد أسئلتي بالصيغة التالية :

" هذا الانهيار الأخلاقي في بلادنا ما سببه ؟ وهل هو عرضي أم مقصود ؟ وهل جاء قبل أوانه ؟ "

فكان أول رده عليّ أن قال : الجزء الأول من سؤالك مفهوم ومحدد ، ولكن لماذا أضفت عبارة (جاء قبل أوانه) ؟ إن السؤال قد بدا لي بهذه الصيغة معقداً غير واضح !

فقلت له : لنحذف هذه العبارة ، لعلي تسرعت في استخدامها ، إذ أنني كنت أريد القول : " وهل كان لابد منه ولكنه جاء قبل أوانه ؟ "

عندها قال : الآن أصبح سؤالك محدداً ، ثم شرع في إعطائي الجواب .

نعم .. هكذا يبدو مالك بن نبي ، ذلك المفكر الجزائري ، العربي المسلم الفذ .. هكذا يبدو لمن يجالسه ويستمع له .. ولعله هكذا يبدو لمن يقرؤه من خلال كتبه الكثيرة (2) القيّمة التي أضافت إلى المكتبة العربية بخاصة ذخراً من العلم والفكر لا يقدر بثمن .

لقد كان الحوار معه ـ ولا سيما في الأمسيتين إياهما ـ مفيداً ، ودسماً ، وغنياً ، ولكم وددت لو أنني أتقن الاختزال الكتابي ، إذاً لقمت بنقل الفائدة كاملة للقارئ العربي .. ولكن كما تقول القاعدة الأصولية : (ما لا يدرك جُله ، لا يترك كله) ، وها أنا ذا أوافيه بأبرز ما دار بيننا من حوار ، أعني بأبرز ما أدلى به ـ حفظه الله ـ من آراء سديدة وأفكار قيمة خلال اللقاءات التي جمعتنا .

***

س : سؤال شخصي إذا سمحتم ؟

ـ : تفضل

س : كم عمرك الآن ؟

ـ : إنني الآن أشرف على السبعين ، بعد أن بلغت الثامنة والستين .

 فقلت : حفظكم الله ومد في عمركم وعافيتكم .

ـ : شكراً يا أخي .

س : مانوع الاختصاص الدراسي الذي تحملون شهادته ؟ ومن أي بلد ؟

ـ : حاولت بادئ الأمر ـ في سنة 1930 ـ أن أدرس الحقوق في معهد الدراسات الشرقية في باريس لأتخرج محامياً ولكنني استبعدت عن المعهد لاعتبارات سياسية استعمارية لقد كان يكفيهم مسوغاً لاستبعادي أنني مسلم جزائري !!

ثم كان أن حولت دراستي إلى المعهد اللاسلكي في باريس نفسها ثم منه إلى معهد الكهرباء والميكانيك حيث أتيح لي أن أدرس الهندسة الكهربائية .

س : إذاً من حقي أن أقول : إن اختصاصكم شيء ، واهتماماتكم الفكرية شيء آخر ؟

ـ : لا تعارض بينهما أبداً .. إن للدراسة العلمية الرياضية مصل واقٍ ضد مرض الثرثرة . أما دراستي للمذاهب الاجتماعية والاقتصادية والفلسفات المختلفة والتاريخ فقد مارستها في الكتب والمجتمعات والأفراد .

س : الذي أعرفه ، هو أنكم كنتم لا تعرفون العربية ، وقد كتبتم مؤلفاتكم الأولى بالفرنسية قبل أن تترجم إلينا . فمنذ متى تعلمتم العربية ؟

ـ : منذ سنة 1956 في مصر . ومن أصحاب الفضل علي في هذا محمود شاكر في مصر وراتب النفاخ في سورية وعدد من الإخوة الأفاضل ..

(وهنا أدركت سر هذه اللغة العربية الفصيحة التي يحدثنا بها)

س : لو نظرنا الآن إلى خارطة العالم الآيديولوجية فماذا نجد ؟

ـ إن الخارطة الآيديولوجية للعالم تقرر الحقائق التالية :

1 ـ إفلاس الديانة البرهمية .

2 ـ إفلاس الديانة البوذية . هذا في الشرق .

3 ـ وإفلاس الديانة النصرانية في الغرب .

ولذا فإن الصراع الذي لابد منه سيكون بين دينين اثنين فقط وهما : الإسلام والشيوعية !

س : وهل تعتبرون الشيوعية ديناً ؟

ـ : نعم هي كذلك ، هي دين أرضي برغم أن أتباعها يتنكرون لكل دين ! أوليست عقيدة يدين بها أصحابها ويناضلون من أجلها ويموتون ؟!

س : وماذا عن الديانة اليهودية التي لم توردوا لها ذكراً ؟

ـ : اليهودية تعرف هذه الحقائق وما سيؤول إليه أمر الصراع القريب المباشر بين الإسلام والشيوعية . وإنها لتراقب الموقف بيقظة ودقة ولذلك اختارت ضرب الإسلام وخلخلة صفه من الداخل بتشجيع حركة التشيع (الدخول في الشيوعية) ! اليهود يعتقدون أن الحوار والمواجهة مع الشيوعية في النهاية ، أسهل عليهم من الحوار مع الإسلام .. اليهودية تستطيع ـ على سبيل المثال ـ تسلق واستلام مراكز القيادة في الشيوعية وقد حصل هذا فيما مضى (كارل ماركس وكثيرون ممن جاؤوا بعده في مستواه) ؛ أما بالنسبة إلى الإسلام فمستحيل أن يصل إلى سدة الرياسة أمير مؤمنين يهودي !!.

إن الذي يدخل الإسلام لا يخرج منه ، بينما الذي يدخل الشيوعية يخرج منها ولو بعد أربعين سنة .. وهذا ما حصل (لروجيه جارودي) الزعيم الشيوعي الفرنسي المعروف .. الشيوعية لا تمنح الإنسان الاستقرار وتبقيه في قلق وحيرة وهو لهذا قد يصحو ويرتد . إذاً ـ في منطق اليهودية ـ لتكن الدعوة إلى الشيوعية ، لأن الحرب في النهاية معها أسهل وأسلم نتائج . وإن اليهودية تستخدم الآن ـ فيما تستخدم ـ الكنيسة من أجل تشييع أبناء المسلمين !!

س : يبدو لي أن هناك صعوبة في فهم ما أشرتم إليه من دور الكنيسة في تشييع أبناء المسلمين ؟!

ـ : لا صعوبة ولا غرابة ، فهذا هو الواقع . عد إلى هوية الأشخاص القياديين الذي أدخلوا الحركة الشيوعية إلى بلاد الشرق المسلم ، تجدهم يهوداً ومسيحيين ! ثم تأمل الدور الذي تؤديه جامعة مثل الجامعة الأميركية في بيروت إذ تعمل بشكل أو بآخر على بث الفكر الماركسي في أذهان شبابنا ! ولا يفوتنك دورها التبشيري الذي قامت عليه في الأصل ! وبعد هذا لا بأس من رواية هذه الحادثة استطراداً :

" جرى منذ عهد قريب احتدام في جامعة الجزائر بين جهتين من الطلبة المسلمين والشيوعيين ، وبلغ هذا الاحتدام أوجه على المجلات الحائطية . وعندما أراد الطلبة المسلمون أن يحسموا الجدال ، كتبوا على مجلة الحائط عبارة واحدة فقط ، أصابوا بها مقتل الآخرين فأخرسوهم بشكل تام . كانت تلك العبارة : اسكتوا أيها الشيوعيون ، فنحن نعلم من أين تخرجتم ، لقد تخرجتم من أبواب الكنائس !!

إن كنائس الجزائر قبل الاستقلال هي التي شيعت من تشيع من أبنائها هناك !!

س : وهل هذا ما عنيتم من (إفلاس النصرانية) ؟

ـ : أبادر فأقول : لا ، لأن الذي عنيته من كلامي السابق هو سوق الشواهد على الدور الماكر الذي تقوم به اليهودية من خلال الكنيسة في تشييع المسلمين .

س : إذاً كيف نفسر إفلاس النصرانية في أوروبا ؟

ـ : تفسير ذلك يكمن في أن العقل الأوروبي نضج ولم يعد قادراً على الإيمان بأن (1+1+1=1) أو أن (1=3) أي أن الله يساوي (أب + ابن + روح القدس) .

س : وهل هناك أدلة عملية على هذا الإفلاس الذي ذكرتم ؟

ـ : الأدلة كثيرة . فمن ذلك دور التعليم العالي المسيحي في العالم وخاصة في أمريكا اللاتينية تغلق أبوابها الواحدة بعد الأخرى . ثم تتبعها الأديرة .. ومن ذلك الحادثة التي جرت منذ سنتين وأخذت أبعاد الفضيحة .

" أحد الأديرة ذو التاريخ العريق الممتد إلى ستة قرون أو سبعة ، أصبح مهدداً بالإغلاق ، لأنه فقد البنات المتطوعات لسلك الرهبنة ولبس المسوح ، مما حدا بالقس المشرف على الدير ـ رغبة منه في تفادي الموقف ـ أن يسافر إلى الهند وإلى منطقة (كارالا) بالذات نظراً لفقرها الشديد ، ليشتري بالعملة الصعبة عدداً من البنات كي يعلمهنّ في دورة تدريبية دامت شهرين " كيفية ارتداء المسوح " والقيام ببعض الطقوس البسيطة قبل أن يزجّ بهن في الدير كل ذلك كي يبقى الدير !! " والذي كشف السر صحيفة إنكليزية ثم الصحافة العالمية .

س : ذلك دليل على الإفلاس ،فهل من دليل على النضج في عقل الأوروبي ؟

ـ : الذي يحضرني الآن ، هو ما قام به رجل دين مسيحي من رتبة عالية جداً . وأعني به (الكاردينال الهولندي سانس) . لقد قدم هذا الكاردينال مؤخراً استقالته من المجمع المسكوني ، مساندة للقساوسة الشباب الذين تمردوا على المسوح وشروط ارتدائها ، ثم احتجاجاً على سياسة الفاتيكان الاجتماعية !!

س : إذا كان العقل الأوروبي قد نضج ـكما تفضلتم ـ فبماذا تفسر قابليته على أن يستغله اليهود ؟ أليس ـ وهذا حاله ـ يتنافى واقعه مع وصفنا إياه بالنضج ؟

ـ : لا تنس قبل كل شيء ، أن اليهود قد استطاعوا في الآونة الأخيرة أن يتسللوا إلى أعلى المناصب الكهنوتية (ربما إلى أعلى من منصب كاردينال!!) ولن نخوض الآن في التفاصيل . ثم بعد ذلك هنالك شيء يتصل بطبيعة الإنسان الأوروبي نفسه ، الإنسان الأوروبي يمتاز على نطاق فردي ـ وألح على كلمة فردي ـ بالطيبة والعاطفة الإنسانية وحسن الجوار ، وقد أدرك اليهود ذلك ، كما اشتمّوا بأنوفهم ـ وهي حساسة جداً !! ـ أن مركز القوة الحضاري سيكون في أوربا (3) فنظموا إليها هجرتهم منذ وقت مبكر وبشكل مركز ومقصود وليس عفوياً أبداً .. وما ذلك إلا ليجعلوا من شعوبها مطيتهم إلى أطماعهم وليجعلوامنها " بقرتهم الحلوب " .

هذه حقيقة ظللت أحس بها فترة طويلة من الزمن وأنا في أوربا ، إلا أنني كنت أبحث لها عن دليل مادي إلى أن جاءني هذا الدليل ذات يوم .. (ثم مضى يروي هذه الواقعة) :

" كنت أنزل في أحد الأيام ـ وأنا في فرنسا ـ ضيفاً على أسرة جزائرية أصلها من مدينة قسنطينة . ومن المعروف أن اللهجة العامية لأهل قسنطينة تشبه إلى حد كبير لهجة اليهود الجزائريين . حصل في يوم أن ذهبت ربة البيت الذي يضيفني إلى السوق مع والدها الصغير لتشتري بعض اللوازم البيتية . وفيما كانت على باب دكان تديره سيدة فرنسية بكى والدها وأخذ يتشبث بأذيالها ويضايقها . فالتفتت إليه وزجرته ببعض كلمات عربية بلهجتها القسنطينية . في هذه اللحظة انبرت امرأة عجوز كانت تقف إلى جانب السيدة الفرنسية في الدكان ، وقد ظهر البشر على وجهها ، انبرت لتقول للمرأة الجزائرية بالعامية الجزائرية أيضاً ، وهي تعني بقولها السيدة الفرنسية : (الحمد لله الذي سخر لنا هؤلاء البقر) " .

إن هذه الشمطاء قد أخطأت التقدير إذ ظنت أن المرأة القسنطينية امرأة يهودية مثلها ، فأباحت لها بالسر الدفين ! وبهذا تكون قد أدلت بالشاهد الذي ظللت أبحث عنه زمناً طويلاً !! وتابع الأستاذ مالك يحلل نفسية الإنسان الأوربي ويقارن بينها وبين نفسية الفرد اليهودي فساق لنا هذه الواقعة الأخرى فقال :

ـ كنا يوماً نجلس في أحد المقاهي في باريس أنا ولفيف من معارفي وأصدقائي وكان أحدهم صحافياً باريسياً معروفاً دارت بيننا أحاديث شتى ثم وصلت إلى اليهود . واليهود في تلك الآونة (عام 1936) كانوا قد بدأوا يتعرضون لاضطهاد النازية في ألمانيا الهتلرية فوقف ذلك الصحافي يدافع عن اليهود وينحي باللائمة علينا نحن العرب لأننا نتهمهم بالعصبية ولكي يدعم هذا الصحفي وجهة نظره مضى يقص علينا هذه القصة قال :

" إنني أرأس جمعية خيرية للإحسان ومنذ مدة قصدت جمعيتنا فتاة يهودية من المغرب ، كانت قد قدمت إلى باريس للعمل ولكنها لم تجده ، فرجتنا أن نساعدها فنؤمن لها أجرة العودة إلى أهلها في مراكش . حسبنا الأجرة فوجدناها (750) فرنكاً ونظراً لضيق إمكانيات جمعيتنا فإننا لم نستطع أن نوفر لها أكثر من (250) فرنكاً وخطر في بالنا أن نستنجد ببنك آل روتشيلد فهو مؤسسة يهودية ، فذهبنا إليه وقصصنا على مديره قصة الفتاة اليهودية طالبين منه مبلغ خمسمائة فرنك .. وفي النهاية لم يصرف لنا إلا خمسين فرنكاً !! " وعقب الصحافي على هذه الحادثة قائلاً : أفترون في هذا عصبية وتعصباً ؟!

قال الأستاذ مالك : وعندما وصل صاحبي إلى هذا الاستنتاج لاحظت الثغرة في منطق هذا الإنسان الطيب الساذج فسألته :

ـ عفواً سيدي .. وبالتالي هل رجعت البنت اليهودية إلى بيتها أم لا ؟

ـ طبعاً .. طبعاً .. إننا سفرناها على أية حال ..

فقلت :

ـ وهذا ما كنت متأكداً منه ، والسيد روتشيلد متأكد منه أكثر مني فحقق عدة مكاسب في آن واحد :

ـ وفر على صندوقه مبلغ أربعمئة وخمسين فرنكاً !

ـ سفر البنت على حسابكم !

ـ وفوق كل هذا أعطاكم الصورة التي أراك تدافع عنها بإخلاص !!

س : لقد أصبتم صميم الحقيقة يا أستاذ عندما حللتم معنى تصرف مدير البنك اليهودي .. ولكن ماذا نستخلص من الحادثة بمجموعها ؟

ـ نستخلص من الحادثة بمجموعها ، أن العقلية الأوربية بليدة برغم نضجها العلمي ! إنها تفتقر إلى الحدس الذهني الذي يستشف ما وراء الأشياء ، فلا يكتفي بالظواهر المشاهدة وحدها فينخدع ؟

وكثيراً ما صارحت أصدقائي الأوربيين بقولي لهم ـ بلهجة الصداقة طبعاً ـ أنتم بلداء !! وكثيراً ما قلت لهم مداعباً : لا تدافعوا عنهم (اليهود) ، إنهم أبناء عمومتنا ونحن أدرى بهم منكم .

س : ما طريق الخلاص الذي يمكن لأمتنا أن تسلكه لكي تنهض من هذا الحضيض الحضاري الذي باتت تتردى فيه ، لتعود من جديد خير أمة أخرجت للناس ؟

ـ السؤال مهم وعريض إلا أنه محدد ، وأنا سأجيب عليه بعبارة صغيرة جداً .. طريق الخلاص هو : " فك التبعية " .. فك التبعية بجميع أشكالها عن الحضارة الغربية .. ثم استطرد يقول بشيء من الانفعال (وقد فتح كفه اليسرى) : هذه فقط من صنع الله ـ وكان يشير إلى زهرات من الياسمين استقرت فيها ـ أما ما عدا ذلك ، فكل ما حولنا ها هنا هو من صنعهم ، من نتاج حضارتهم . هذه الكراسي التي نجلس عليها .. هذه الطاولة .. هذا الشراب الذي نشرب .. الطعام الذي نأكله .. اللباس الذي نرتديه .. السيارات التي نركبها .. كل شيء !

نحن تُبّعٌ لهم وعالة عليهم ، وما دمنا هكذا فلا خلاص ولا نهوض . إن تبعيتنا لهم ، ليست تبعية استهلاك فقط ، ولكنها تبعية إنتاج أيضاً . وهذا أمر أخطر من سابقه بكثير . تبعية الاستهلاك أن تستهلك ما ينتجون ، وتبعية الإنتاج أن تنتج على شاكلة ما ينتجون دون مراعاة لاحتياجاتك الخاصة وظروفك المحلية .

تبعية الاستهلاك قد تكون مقبولة في حالة واحدة وهي أن تكيّف محلياً المادة المستهلكة . أضرب مثالاً على ذلك فأقول : (الكسكسية) أكلة شعبية جزائرية . لقد انتشرت هذه الأكلة في فرنسا وفي غيرها من الدول الأوربية كبلجيكا .. فبينما ما تزال تصنع في الجزائر بأيدي النساء العجائز أو ربات البيوت ، فإنها باتت تصنع في فرنسا وبلجيكا بمعامل آلية . حتى إن أكبر معمل لصنعها هو في بروكسل ! فنحن لو كانت تبعية استهلاكنا لمنتجات الحضارة الغربية على هذا النحو ، لما كان هنالك من ضير يذكر . أما أن نأخذها حرفياً فهذي هي التبعية القاتلة .

على أن تبعية الإنتاج هي أخطر بكثير . والأخطر من الاثنين معاً هي تبعية الفكر والعقيدة ، الأمر الذي نبه الله تعالى عليه رسوله الكريم منذ وقت مبكر فقال له : " قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ، ولا أنتم عابدون ما أعبد ولا أنا عابد ما عبدتم ، ولا أنتم عابدون ما أعبد . لكم دينكم ولي دين " إنها الفك التام للتبعية العقدية بشكليها الجزئي والكلي في الحال وفي الاستقبال وعلى مدى الدهر !!

الصين المعاصرة انتبهت إلى هذا في علاقتها مع السوفييت .. الصين تصعد الآن سلم الحضارة من جديد . وما كان بمقدورها أن تفعل هذا لولا فك التبعية عن روسيا بحزم وتصميم .

علماً بأن روسيا منحتها الكثير فكراً وآلة ، ولكن الصين أدركت أنها ستظل ذيلاً تابعاً ما دامت مرتبطة ، فانفكت . وكانت الثورة الثقافية ذروة الانفكاك ، لا أعني عن روسيا فقط ، وإنما عن التبعية للحضارة الغربية بشكل عام .. وبالمناسبة لا تتصوروا أن الجامعات بشكلها الحالي يمكن أن تبني لنا حضارة ، لأن جامعاتنا هذه لا تنشيء سوى تُبّاع جدد !! إن الثلاثين أو الأربعين نفراً الذين كانوا يجتمعون مع النبي صلى الله عليه وسلم في دار الأرقم ، هم الذين بنوا الحضارة الإسلامية .. إن الحضارة الإسلامية انطلقت من دار الأرقم وعلى نفس الطريقة يمكن أن  نبعث حضارتنا من جديد .

س : هل تتصورون أن بمقدور الفرد أن يفك التبعية بمفرده ؟

ـ : طبعاً هذا أمر صعب جداً ، ولو حصل فإنه لا يثمر ولابد من فكها بشكل جماعي . الفرد لا يحقق شيئاً وحده دون روابط جماعية اجتماعية . الفرد لا يستطيع تكوين نفسه إلا بشروط معنوية هي (الإرادة الحضارية) أو العقيدة بمعناها العام ، وشروط مادية ، هي (الإمكان الحضاري) ، والإرادة سابقة على الإمكان . (الإرادة) تتكون في النفوس ، بينما (الإمكان) نتيجة وتتكون في الزمن والله تعالى يقول : " إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم " إذاً لابد من الإرادة بمعناها الجماعي .

س : ولكن يبدو للسامع أن هناك ثغرة بين ما تفضلتم به آنفاً (من حيث التركيز على المسؤولية الجماعية) وبين المسؤولية الكبرى التي أناطها القرآن الكريم بالفرد في آيات كثيرة من مثل قوله تعالى : " كل امريء بماكسب رهين " وقوله : " إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبداً ، لقد أحصاهم وعدهم عداً وكلهم آتيه يوم القيامة فرداً " . ؟

أما قلت لك من قبل إن المصطلحات هي الآفة الكبرى دائماً ؟..

يجب أن نفرق بين ما هو (مسؤولية) وبين ما هو (تكليف) . الآيات التي ذكرتها تنصب على التكليف تكليف الفرد . ومفهوم التكليف الفردي ـ بالمناسبة ـ لم يعرفه دين كما عرفه الإسلام ! أما قيام الحضارة فهو مسؤولية جماعية بالدرجة الأولى ..

س : هل لكم أن تتفضلوا في أن تزيدونا إيضاحاً بأمثلة عملية عن مدى الدور الذي هو كائن (للمسؤولية الجماعية) في بناء الحضارة ؟

ـ : لا بأس .. الفهم العلمي ضروري .. وهذا الفهم يقول : إن أي مولود مهما يكن ، يولد اليوم تحت قانون إحصائي عام ، يحدد له منذ اللحظة التي يولد فيها نصيبه من (العمل) ونصيبه من (العلم) ونصيبه من (المال) .

فالمولود الذي يولد على خط (واشنطن ـ موسكو) يكون حظه من (العلم) بنسبة (95% ـ 00%) بينما الذي يولد على محور (طنجة ـ جاكرتا) يكون حظه بنسبة أقل بكثير (5% ـ 10%) .

وهكذا بالنسبة إلى (العمل) فإن الذي يولد في إنكلترا يكون حظه من البطالة بنسبة 1/67 فقط في حال افتراضنا أن هناك مليوناً عاطلين من أصل (67) مليوناً الذين هم مجموع السكان . بينما تختلف النسبة هذه في مصر ـ على سبيل المثال ـ اختلافاً كبيراً . فقد تكون النسبة هنا 25/35 في حال افتراضنا أن مجموع عدد السكان في مصر هو (35) مليوناً !!

أما بالنسبة إلى (المال) فإني أسوق لكم هذه الحادثة :

كنت أجلس مرة (في سنة 1938) على سطح مقهى في مرسيليا مع رجل جزائري من أصدقائي ، أعرف فيه الصدق والاستقامة والأخلاق النبيلة . وأعرف فيه العلم الواسع فقد كان من علماء الجزائر التقليديين . وكان ـ إلى جانب هذا ـ رقيق الحال لا يكاد كسبه يفي بمتطلباته أباً وحتى أعطيكم صورة عن مدى إخلاصه وقوة خلقه ، فإني أذكر أنني زرته يوماً في مستشفى حيث كان يعالج مرضاً ألمّ به ، فوجدته متألماً ويبدو عليه التجهم ، فلما سألته عمّا به ـ وأنا لا أشك في أنه يبكي من فرط الألم ـ قال لي : (واحسرتاه إنني لم أعد أصلح للجهاد) !!

نعم ذات يوم كنت جالساً مع أخي هذا الجزائري على سطح مقهى في مرسيليا يحدثني عن نوائب الزمان التي ألمت به والضيق المادي الذي هو محدق برزقه فلما انتهى من تحديثه ودّعني وانصرف لبعض أعماله ، وبقيت وحدي أفكر في أمر أخي . وبينما أنا كذلك إذ بامرأة عجوز شمطاء دخلت المقهى وعلى وجهها أمارات حياة قذرة ، قد يخيل من ملامح وجهها أن رائحة الخمر تنبعث من فمها ، فوقفت وسط المقهى وغنّت بأقبح صوت وهي ترقص على رجل واحدة ، فما إن انتهت من الذي هي فيه حتى مدت يدها إلى الجالسين فكانت حصيلتها التي جمعتها عن طيبة خاطر الفرنسيين ما يكفي أخي الذي كان معي وأهله أسبوعاً !!

وهكذا دار في ذهني هذا السؤال : لماذا هذا الرجل الفاضل المخلص يحرم من سعة العيش وهذه المرأة المحرومة من كل ميزة خلقية يأتيها رزقها رغداً ؟ عندها وقعت على القانون الإحصائي الذي أشرت إليه قبل قليل ، إذ فهمت أن حياة الفرد قبل أن تكون منوطة بذاته الخاصة وموهبته الشخصية ، هي منوطة أولاً وقبل كل شيء بصلته بمجتمع معين . فإذا كان المجتمع يقدم الضمانات للفرد فإن كل فرد ولو كان هذه المرأة الشمطاء لا يحرم من الحياة .. إنها تأخذ نصيبها مالياً ومعاشياً بنفس النسبة التي يأخذها أي مواطن من المجتمع الفرنسي الذي تنتمي إليه ..

وإن صاحبي البائس هو الآخر يأخذ نصيبه بنفس النسبة التي يأخذها أي مواطن من المجتمع الجزائري الذي ينتمي إليه !!

إذاً لابد من (الإرادة) بمعناها (الجماعي) .. قال الله تعالى : " ولتكن منكم (أمة) يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون ".

***

س : هل لنا أن نتحدث اليوم في موضوع (الحضارة) فقط ومشكلاتها ، لاسيما وأن هذا الموضوع هو شغلكم الشاغل في معظم ما تكتبون ؟

ـ : إن ذلك من دواعي ترحيبي وسروري .

س : إذا أردنا أن نمضي في طريق الحضارة كيف نفعل ؟ أيكون سيرنا سير المبتدئ أم سير المستأنف ؟

ـ : سير المستأنف طبعاً . وإلا نكون متنكرين لأعز فترة من تاريخ أمتنا ، وأعظم إنجاز إنساني قدمته لنفسها وللعالم .

س : الحضارة الغربية سبقتنا بأشواط لا متناهية ، وهي لا تنتظرنا بالطبع .. والهوة بيننا وبينها هائلة جداً .. إنهم في القمر وفي طريقهم إلى كواكب أخرى ، وما نزال نحن حيث لا يخفى على أحد !! فما العمل ؟

ـ : إن الهوة التي أشرت إليها قائمة بيننا وبينهم ـ كما هو ملاحظ ـ في ميادين التكنولوجيا والذرة والفضاء .. وإذا كان المسلم متخلفاً في هذه الميادين ولا يستطيع فيها الاستدراك فإن عليه أن يبحث عن الصدارة والاختصاص في ميادين أخرى .. ميادين تخلف فيها الآخرون تخلفاً لا تستطيع استدراكه العلوم المدروسة في الجامعات .. إن الجامعات المتقدمة متخلفة في مجال (الإنسان) . وهذه الظاهرة هي الطامة الكبرى في القرن العشرين ! يجب على المسلم تمريض العالم ومعالجته اجتماعياً ونفسياً . فيقدم للصنف الذي يعاني الفقر الروحي الإسلام وللصنف الآخر الذي يعاني مشاق التخلف الاقتصادي نوعاً جديداً وسريعاً من الحضارة ، تضعه في مستوى المتقدمين دون أن نورطه في مشكلاتهم النفسية .. إن مهمتنا يجب أن تكون قائمة على أساسين ومتجهة إلى هدفين :

ـ رفع الإنسان المسلم اجتماعياً إلى مستوى الحضارة ..

ـ ورفع الإنسان الغربي أخلاقياً إلى مستوى الإنسانية التي تفصله عنها العاهات النفسية الموروثة من عهد الاستعمار .

س : لو أردنا تعريف الحضارة تعريفاً محدداً فماذا نقول ؟

: نقول : " إن الحضارة هي مجموعة الشروط المادية والمعنوية التي تتيح لمجتمع ما أن يقدم جميع الضمانات الاجتماعية لكل فرد يعيش فيه " هذا هو التعريف الوظيفي المحدد للحضارة لديّ .

س : شكراً .. ولكن هل تتصورون إمكان قيام حضارة بلا عامل أخلاقي ؟

ـ : لا طبعاً .. وأنا أعني (بالشروط المعنوية) الأخلاق قبل كل شيء .

س : إذاً ،ما رأيكم في الحضارة الغربية ؟ ما نصيبها من الأخلاق ؟

ـ : إنها آلت إلى حضارة مادية صرف ، ولذلك فإنها آيلة إلى الانهيار السريع والسقوط . بل لن يمر عليها وقت طويل حتى تكون قد سقطت فعلاً !!

: وهذا التقدم العلمي العظيم الذي يطير الغرب على جناحيه ؟!

ابتسم بهدوء وقال :

ـ العقيدة ، الروح توجد علماً . أما العلم فلا يوجد عقيدة ولا روحاً .. هذا العلم الذي ترى هو نتيجة للحضارة الغربية ، وليس سبباً لها . ومتى انهار الإنسان من داخله انتهى فيه كل شيء ، ولا يغرنك الظاهر !

الشعوب الأوربية تعاني الآن من حيرة قاتلة وضيق خانق في النفوس .. يضيقون من شيء مجهول ! بسبب أن الحياة باتت لا معنى لها عندهم ولا غاية ! لقد استنفدوا منها كل شيء ! إن (ثالوثاً) رهيباً يتهددهم بالسقوط العاجل ذلك الثالوث هو : المخدرات ـ الانتحار ـ الجريمة !!

أسرة بكاملها بأطفالها .. أبادتها عصابة مراهقين السنة الماضية (1971) في أمريكا .. ولما قبض على العصابة واستجوبت للتحقيق قالوا : " كنا نتسلى " .

إن بعض الإحصائيات الأخيرة ، التي نشرتها مصلحة الأمن في تقرير رسمي لمحافظة باريس تفيد بأن نسبة المدمنين بين الشباب للمخدرات تضاعف بنسبة عشرين في المئة خلال السنتين الأخيرتين . هذا في فرنسا فما بالك في أمريكا ؟!

وإن السويد برغم أنها حققت لشعبها أقصى حد من الضمانات الاجتماعية فإنها ـ كما تفيد الاحصائيات ـ تتصدر رأس القائمة في (إحصائية الانتحار العالمية) ..

بينما الإنسان المسلم ، المسلم التطبيقي ، ليس في ضيق من نفسه وإنما في ضيق من الحياة ، المسلم يؤمن بالحشر والنشر . يؤمن بالله دائماً ، ويستشرف عالماً آخر فيه الخلود ..

فنحن في ضيق من الحياة وهم في ضيق من النفوس ينتظرون من يشرح صدروهم .. ينتظرون عقيدة المسلم .. يفتقدون صوت السماء ..

س : هذا الانهيار الأخلاقي في مجتمعنا ما سببه ؟ وهل هو عرضي أم مقصود ؟

ـ : هو عرضي من حيث هو نوع من التقليد والتأثر .. ولكنه مقصود ، ومقصود بشكل مرعب من جهة أخرى ..

لأن هناك قوى خفية تعمل في زيادته ، وتريد لنا أن نبلغ اللانهاية في هذا الانهيار بأسرع وقت ممكن !. وكأني بك قد وضعت إصبعك على نقطة خطيرة جداً باستخدامك كلمة (مقصود) .

س : هل هناك ما يعزز ريبتكم تلك في مجال غير مجال التهديم الخلقي ؟

ـ : نعم فأنا ألاحظ أن يدنا كلما امتدت لتحقيق غاية كانت تحلم بها وتسعى لها منذ زمن بعيد .. امتدت يد أخرى إلى تلك الغاية لتحولها إلى أمل ، وهكذا من جديد .

س : هل لليهود دور في إفساد الأخلاق على مستوى عالمي ؟ وما حدود هذا الدور في رأيكم ؟

ـ : اليهود لهم الضلع الأكبر في تهديم الأخلاق أينما وجدوا إنهم يمارسون هذه الحرفة ،حرفة تخريب الأخلاق عن عمد وتصميم ولذلك فهم يسيطرون على جميع أدوات تعفين الأخلاق في العالم ، ولعلي أعني السينما ـ المسرح ـ التلفزيون ـ الصحافة ـ دور النشر ـ دور تصميم الأزياء ـ مجلات الجنس .. إلخ وهم يحققون بذلك غرضين اثنين :

الأول : جمع المال الذي هو أداة السلطة والنفوذ .

والثاني : تخريب الأخلاق .

س : كيف تستطيع إذاً ـ والحال هذه ـ أن توفق بين القانون التاريخي " في تلازم سقوط الحضارات مع سقوط الأخلاق " ، وما بين ارتقاء اليهود حضارياً في عصرنا هذا مع سقوط أخلاقهم ؟.

عندما طرحت عليه هذا السؤال ، كان الحديث المتبادل يجري في منتهى الهدوء ، فما رأيته إلا أطرق ملياً ثم رفع رأسه إليّ بعد قليل ـ وابتسامة رضية على وجهه ـ فقال :

ـ : هناك أمور كثيرة قد تبدو لأول وهلة متناقضة ، ولكنها ليست كذلك ..

ثم مضى بلا مقدمات يسرد علينا هذه القصة :

" كانت تصلني بطبيب فرنسي كبير صلة مودة وصداقة . وكان لهذا الطبيب عشيقة يهودية . وقد حدثني مرة عن أمر ظل يشغل اهتمامه طوال المدة التي كان بها على صلة مع عشيقته تلك . لقد كان يلاحظ عليها أنها ـ لحظة الرعشة الجنسية ـ تبحث عن أي شيء حولها لتمسكه وتشدّ عليه .."

إن هذا العمل ما هو في حقيقته إلا إبعاد لمعنى اللذة اللاإرادي أو ما يسمى بمصطلح علم النفس (عملية العزل) أي أنها لا تضاجع عشيقها عن هوىً ولذة ، بل تضاجعه عن إرادة و" رسالة " .. إن رسالتهم هي تدمير الأخلاق عن وعي وتخطيط بالنسبة إلى جميع الملل من غير اليهود .

أما فيما بينهم فلهم أخلاقهم الخاصة ومعاملتهم الخاصة ليس في موضوع الزنا فقط ، وإنما في موضوع الربا وغيره وغيره ، فهو حرام بينهم مباح مع الآخرين .

إنهم على هذه الأخلاق الخاصة يشيدون حضارتهم المعاصرة وهنا علينا أن نتذكر ما قلناه سابقاً من أن الحضارة تُبنى بإرادة جماعية قبل أن تبنى بسلوك فردي . فإذا كان السلوك الفردي للشخص اليهودي (لا أخلاقياً) ، فإن (الإرادة الجماعية) لليهود تتركز على بعث وجودهم وبناء حضارتهم على أنقاض أخلاقهم وكيانات الحضارات البشرية جميعاً . وهذا ما ينفذونه الآن عملياً ، كما أنه ديدنهم منذ القديم .

س : أستاذنا الكريم ، أرجو ألا أكون أثقلت عليكم وأطلت فهل تسمحون لنا بعود على بدء ؟

ـ : لا ، أبداً ، تفضل ..

س : لقد أطلقتم ـ فيما مضى من حديثنا ـ على الشيوعية اسم (دين) . والإسلام ولا شك هو دين .. ففي هذه الحالة ما الفرق الذي ترونه جوهرياً بين حضارتين ، إحداهما تنبثق عن الشيوعية والأخرى تنبعث عن الإسلام ؟.

ـ : الفرق الحاصل ، وإنه لواسع وعميق ، وإني لأعرضه عليك من بعض وجوهه :

إن العلاقات الاقتصادية والاجتماعية مقعدة ومؤسسة في الشيوعية ـ ومثلها في بقية المذاهب المادية العلمانية ـ على مبدأ مطالبة الفرد (لحقه) ، بينما هي في الإسلام مقعّدة ومؤسسة على مبدأ قيام كل فرد (بواجبه) .

إن (الحق) في هذه الحالة هو ما يأخذه الفرد من المجتمع وهو عمل سلبي .

أما (الواجب) فهو ما يقدمه إلى المجتمع وهو عمل إيجابي . التحريك الاجتماعي يكون في الشيوعية لطبقات معينة (عمال .. فلاحين ..) بينما هو في الإسلام (للنفوس الخيرة وللعلماء) ، أعني العلماء على اختلافهم ، الملمين بجوانب الحياة الروحية والمادية معاً . الحديث الشريف يقول :

" اليد العليا خير من اليد السفلى ". إن هذا الحديث يبرز لنا حقيقتين اثنتين : أولاهما أن الواجب أهم من الحق ، وثانيتهما أن الإنتاج أشرف من الاستهلاك .

العلاقات المبنية على مفهوم (الحق) تستلزم (المطالبة) أي المناضلة بغية (الأخذ) والوصول إلى الحقوق . ولذلك فهي تنتهي بالصراع ، فالحقد ، فالزوال السريع .

في حين أن العلاقات المبنية على مفهوم (الواجب) تستلزم (الأداء) ، أي (العطاء) فهي تنتهي بالوئام ، فالحب ، فالخلود .

***

وقبل أن نفترق ، بعد آخر لقاء تمّ بيننا ، قلت له :

أتأذن لي بنشر ما دار بيننا من حوار وأحاديث في لقائنا هذا واللقاءات السابقة ؟

فردّ عليّ باسماً :

آذن لك .. بل أكون شاكراً ، لما أظن من أن أحاديثنا تلك ـ وقد جرت على سجيتها ـ كانت لا تخلو من جديد وفائدة ، لعل القارئ العربي ينتفع بها .

ثم كانت مصافحة .. وكان افتراق على أمل لقاء .

بيروت في 5/ رجب / 1392 و/ 14/8/1972

               

الهوامش :

* أديب سوري معتقل منذ عام 1979

1- انظر مجلة الفكر الإسلامي اللبنانية ـ العدد العاشر ـ مقال الدكتور عبد الصبور شاهين.

2- من أشهر هذه الكتب : الظاهرة القرآنية ـ شروط النهضة ـ فكرة الآفرو آسيوية ـ وجهة العالم الإسلامي ـ مشكلة الثقافة ـ ميلاد مجتمع ـ الاستعمار والصراع الفكري ـ المسلم في عالم الاقتصاد ـ مذكرات شاهد القرن ...

3- هذا قبل الحرب العالمية الثانية ، وقبل أن يدركوا بأنوفهم الحساسة إياها أن مركز القوة الحضاري هذا سيتحول إلى الولايات المتحدة الأميركية التي تحولوا إليها بدورهم.