مع العلامة د.عدنان النحوي

والدي طرد القنصل الفرنسي من بيته

- ج1- من حوارنا مع العلامة د.عدنان النحوي

د.عدنان علي رضا النحوي

www.alnahwi.com

[email protected]

حاوره وقدم له: د. ناجح إبراهيم

ضيفنا اليوم يمثل موسوعة علمية شاملة ومتكاملة.. فقد جمع بين علوم الدنيا والدين.. وأدلى بدلوه في كل منهما .. وضرب بسهم وافر في معظم العلوم الإنسانية والشرعية .. وساهم بجهد كبير في كل مجالات الخير تقريبا ً ..  فهو حاصل على الماجستير والدكتوراة في هندسة الاتصالات من أمريكا .. وهو يجيد العربية والإنجليزية والفرنسية بطلاقة .. وهو حاصل على شهادات جامعية متعددة في التاريخ واللغة العربية والانجليزية .. وهو في الوقت نفسه من الدعاة والعلماء الإسلاميين البارزين .

 فقد ذهب إلي معظم بلاد الأرض داعيا ً إلي الله وناشرا ً للعلم ومذكرا ً بالله .. وقد ألف للمكتبة الإسلامية قرابة مائة وعشرين كتابا ً .. وهو في الوقت نفسه شاعر مجيد معروف .. وله مئات القصائد في كل القضايا الوطنية والإسلامية .

وقد ولد ضيفنا ً في مدينة صفد في فلسطين لأسرة كريمة معروفة حملت لواء الدين والوطنية ومقاومة المستعمر الانجليزي ثم اليهودي زمنا ً طويلا ً حتى طردت من فلسطين كلها إلي الشتات بعد نكبة 1948م .

فقد كان والده رحمه الله مديرا ً لأوقاف القطاع الشمالي في فلسطين.. وكان من أنصار وأتباع الحاج أمين الحسيني رائد الكفاح الشعبي ضد المستعمر الإنجليزي ثم الإسرائيلي .

 وقد كان لوالده مواقف عظيمة مشرفة .. وله قصة مشهورة مع القنصل الفرنسي في فلسطين والذي طلب منه أن يبيع أرضه وداره ويهاجر إلى سوريا كغيره .. ولكن والد ضيفنا طرده من بيته شر طردة .

وقد نزح ضيفنا مع أسرته من فلسطين  بعد نكبة 1948م.. حيث سافر إلي سوريا ثم إلي بلاد كثيرة منها أمريكا والأردن وغيرها من البلاد .. حتى استقر به المقام في أخريات حياته في الرياض بالسعودية .

ضيفنا هو العلامة الكبير والعالم والداعية الشهير د/ عدنان النحوي .. رمز العطاء للدين والتضحية من أجله حتى أخر لحظة من عمره.

حياة ضيفنا د/ عدنان النحوي عبارة عن سلسلة متواصلة من الدعوة إلي الله والعمل للإسلام .. والكفاح من أجل قضايا الإسلام والأوطان العظمى .. فعندما قرأت بعض كتب د/ النحوي ذهلت من كونه سخر كل لحظة في حياته من أجل الدفاع عن الدين .

 ففي الطائرة يدعو من يجلس إلي جواره إلي الإسلام.. وحينما كان مهندسا ً صغيرا ً كان يناقش ويحاج الشيوعيين الذين يعملون معه بالحجة القوية والدليل الدامغ .. وفي أوروبا وأمريكا وفي كل مكان لا تغيب قضايا الإسلام عن قلبه ومشاعره ولسانه وجوارحه.

 حتى إذا كبر سنه استقر في الرياض مؤسسا ً لمجموعة من المدارس الخاصة الإسلامية التي تجمع بين المنهج الدراسي العلمي مع التربية الإسلامية العملية .. وقد سمى هذه المدارس "لقاء الإيمان".. وجعل لها قواعد تربوية خاصة كتبها في بعض كتبه.

ثم أقام دار نشر أسماها "دار النحوي للنشر والتوزيع" .. فضلا ً عن المشاركة في المؤتمرات والمجامع الإسلامية بأبحاثه أو محاضراته أو أشعاره .

أن حياة مثل د/ عدنان النحوي المملوءة بالكفاح والعطاء تصلح لتقديمها للمسلمين عامة والشباب خاصة كنموذج يحتذي وقدوة تقلد .. وليعرف الشباب كيف تحدي مثل هذا الرجل النزوح من بلده ووطنه .. وطرده من أرضه وبيته .. وكيف جاهد وبذل في كل هذه الميادين المتشعبة ليصل إلي ما وصل إليه .

وقد راودتني فكرة عرض بعض تجاربه الدعوية التي شرحها في كتبه .. ولكنني أثرت الحوار معه مباشرة.. ولم أكن أتصور أن يستجيب بهذا الكرم وهذه الحفاوة وهذه السرعة والدقة وهو في الواحدة والثمانين من عمره .. ولكنني دائما ً أشعر أنه أكبر عزيمة وهمة وقوة من كثير من شباب اليوم .. حتى الملتزم منهم.. فله منا كل الشكر والتقدير .. والترحيب

في البداية نرحب بفضيلتكم.. سعادة الدكتور/ عدنان ضيفا ً عزيزا ً على الموقع .. ونشكر لكم استجابتكم السريعة لدعوتنا ؟

مرحبا ً بكم .. وأهلا ً وسهلا ً بكم .. وأنا سعيد جدا ً بالحوار مع هذا الموقع الجيد               

نريد التعرف على بطاقتكم الشخصية  ؟

الاسم: عدنان بن علي رضا بن محمد النحوي .

الميلاد: 15/1/1928م الموافق 22/7/1346هـ

في مدينة صفد ـ فلسطين .

 لقد حصلت على عدد كبير  من الشهادات الدراسية في مختلف التخصصات بدء ً من التربية والآداب واللغات .. وانتهاءً بالدكتوراة في الهندسة ..  فهل يمكنكم  إعطاء القارئ فكرة عن الشهادات الدراسية التي حصلتم عليها ؟

 أهم الشهادات الدراسية التي حصلت عليها هي :

 دبلوم في التربية والتعليم وعلم النفس وأصول التدريس.

 وشهادة الدراسات الجامعية المتوسطة في العلوم والتاريخ واللغة العربية وقواعدها وآدابها .

 واللغة الإنجليزية وقواعدها وآدابها من الكلية العربية في القدس .

بكالوريوس هندسة الاتصالات السلكية واللاسلكية بتقدير جيد جدا ً مع مرتبة الشرف الثانية من  كلية الهندسة جامعة القاهرة .

الزمالة في نفس الاختصاص من معهد المهندسين الكهربائيين في إنكلترا .

شهادة دراسات عليا في الهندسة الكهربائية من جامعة الملك سعود .

شهادة تدريب من شركة طومسون هوستون فرنسا في الهندسة الكهربائية.

 وشهادة في اللغة الفرنسية من جامعة بيزانسون ـ فرنسا .

شهادة ماجستير ودكتوراه في نفس تخصص الهندسة الكهربائية من أمريكا .

 وماذا عن أسرتك الصغيرة وأولادك ؟

 تزوجت في  سنة 1961م .

 ولي من الأبناء .. د/ بلال .. وهو طبيب .

وأروى بكالوريوس في الصيدلة متزوجة وربّة بيت ولا تعمل.

ود/ عمار.. هندسة ميكانيكية.

 وإياد يرحمه الله.

ومحمد بكالوريوس تسويق وإدارة.

 وما هو عملكم الحالي.. الذي تمارسونه ؟

العمل الحالي هو إدارة دار النحوي للنشر والتوزيع .

وكذلك لي نشاطات عامة  في الفكر والأدب والدعوة الإسلامية تنبع كلها من رؤيتي السابقة.

سعادتكم من الضيوف النادرين ممن لهم نشأة تختلف تماما ً عن معظم الضيوف الذين شرفونا من قبل .. فقد نشأت وولدت في فلسطين .. ثم طردت منها مع أسرتك .. ثم طفت العالم كله بدء ً من سوريا حتى أمريكا وغيرها .. ونحن في شوق لمعرفة قصة نشأتكم من البداية ؟

نشأت في مدينة صفد في فلسطين بين ربوعها الجميلة ومناظرها الخلاّبة وجوّها الرائع.. وكنا نعيش هناك في بيتنا الذي نسفه الإنجليز في ثورة 1936م.

 ثم انتقلنا إلى بيت العائلة والأجداد الذين كانوا قضاةً ومفتين وعلماءَ وشعراءَ وأدباءَ مشهورين في مدينة صفد وما حولها .

ولقد استفدت كثيرا ً من حضور مجالس الوالد التي كان يفد إليها شيوخ وعلماء.. ورجال سياسة وأدباء.. من مختلف أنحاء فلسطين وسوريا ولبنان والأردن ومصر وغيرها .

ومنهم من كان يزور من خلال ذلك مكتبة آل النحوي التي ذكرها الأستاذ محمد كرد علي في كتابه خطط الشام.. وكنت أجد فيها ديوان شعر لأحد أجدادي بخط يده ولعله لجدي الشيخ حسن النحوي.

 واكتسبت من هذه المجالس دينا ً وعلما ً وأدبا ً.. وارتبطت في نشأتي هذه خمسة موضوعات: الإسلام ، اللغة العربية ، العلم ، الأدب ، السياسة .

ولكن هل كانت حياتك ودراستك مستقرة في هذه الفترة.. مع أن أسرتكم كان لها دور كبير في مقاومة الانجليز وقتها.. وكان هناك اضطراب في الأحوال كلها في فلسطين؟  

 لقد كنت أتابع الدراسة في مدارس صفد وعكا والقدس حسب مراحلها وحسب تواجدنا رغم اضطراب الأوضاع خلال الثورات المتلاحقة في فلسطين وما يتبعها من أحداث..  ورغم اضطرار والدي لمغادرة فلسطين مع قادة الثورات ورجالها إلى سوريا ولبنان مع سماحة الحاج محمد أمين الحسيني رحمه الله.. وخاصة مع  اندلاع ثورة 1936م.. واشتداد ملاحقة الإنجليز لوالدي ولرجال فلسطين.

وماذا فعلتم بعد ذهاب والدك إلي سوريا مع الحاج أمين الحسيني  ؟

 لقد لحقنا بوالدي إلى دمشق حيث قضينا سنة أو أكثر.. ثم عدنا بعدها إلى صفد حين هدأت الثورة وتوقّفت.. وعاد والدي بعد ذلك بسنة أو أكثر حين سمح له ولغيره بالعودة .

وهل طال بكم الاستقرار في صفد .. أم ماذا ؟

 لقد انتقلنا بعد ذلك إلى مدينة عكا حيث أصبح والدي مديرا ً لأوقاف اللواء الشمالي.. وهذا هو العمل الذي كان يشغله قبل المغادرة إلى سوريا ولبنان.. وكان هذا العمل مرتبطا ً بالمجلس الإسلامي الأعلى الذي يرأسه الحاج محمد أمين الحسيني  وبالعمل السياسيّ معه .

 وماذا فعلت حينما ذهبت إلي عكا مع أسرتك؟

أنهيت دراستي الثانوية في عكا ثمّ انتُخِبْتُ لمتابعة الدراسة في الكلية العربيّة في القدس..  وهذه الكلية كان يُختار لها الأوائل من كل مدينة في فلسطين في دراساتهم الثانوية.

وبقيت في الكلية العربية بالقدس حتى انتهاء الانتداب.. ثم عدت إلى عكا.. ثم كان النزوح عن فلسطين إلى سوريا سنة 1948م .

كيف كانت بدايتكم مع الشعر؟

خلال مسيرة حياتي الصعبة حتى وصلت إلي مرحلة الجامعة في القدس  ظهرت موهبة الشعر عندي..  وبدأت أنظم الشعر دون أن أعرف العروض .. ولكنه كان موزونا ً ومقفى.

وربما كانت البداية سنة 1942م .. وقد فُقِد ما نظمته في تلك السنة مع ظروف النزوح الصعبة والقاسية من فلسطين .. ولكن نشر ما بقي بعد ذلك في ديوان" الأرض المباركة ".. الذي كان أول ديوان أنشره لي وهو في الوقت نفسه أول كتاب لي يطبع وينشر .. وقد قدّم له أ.د/ محمد مصطفى هدارة.. و أ.د/  محمد الصباغ و أ.د/  أحمد كمال زكي.

ثم توالت الدواوين والملاحم الشعرية والمؤلفات المختلفة حتى بلغت اليوم مئة وعشرين كتابا ً .

وكيف كانت حياتك بعد نزوحك مع أسرتك من فلسطين؟

كانت حياة الطفولة والصبا مضطربة بسبب الأوضاع في فلسطين والثورات.. ولكنها بعد النزوح كانت أشدّ اضطرابا ً وصعوبة .. وكأن حياتي كلها حين أستعرضها الآن.. كانت حياة  كلها تحدِّيات متتالية .

ما هي أهم هذه التحديات التي واجهتها في طفولتك؟.. وهل أفادتك هذه التحديات  وصقلتك .. أم ماذا ؟ 

كان أهم تحدٍّ في طفولتي هو مرضي الشديد والمتكرر في الصدر .. حيث لم يكن هناك مستشفيات مثل اليوم.. ولكن كان يحضر الطبيب إلى المنزل ويعالجني وأنا في الفراش حتى مَنّ الله علينا بالشفاء.. وأذكر أن المرض الذي ألمّ بي آنذاك كان التهابا ً في الصدر.

ثمّ كان التحدّي الثاني هو النزوح عن فلسطين في أجواء الهزيمة والهوان والضعف والشتات .. وتوالت التحدّيات .

ولكن كل هذه التحديات صقلت شخصيتي وأكسبتني رجولة مبكرة وقوة كبيرة على التحمل ومواجهة الصعاب والحفر في الصخر حتى يتحقق ما أصبوا إليه من خير .

 والدك كان من العلماء وكان مديرا ً للأوقاف في الإقليم الشمالي في فلسطين قبل النزوح منها .. كيف كان أثره عليك؟.. وماذا تعلمت منه ؟

 لقد كان أثره كبيرا ً جدا ً علي ّ.. وأنا  لا أذكر أنه استعمل الضرب معنا أبدا ً .. ولكنه كان يربينا ويوجهنا بالكلمة والتوجيه والمراقبة.

 وكان من عادته رحمه الله أن يجمعنا حوله كلّما وجد لديه الوقت لذلك.. ثمّ يحدّثنا عن تاريخ حياته.. وعن دراسته في استانبول في الجامعة الملكية ، وعن أساتذته .

ولعل من أطرف ما حدثنا به أن أحد أساتذته "لا أذكر اسمه".. قال لهم: إن أحد رجال الثورة الفرنسية قال في أحد الاجتماعات: " لِتَعِشْ أنت يا محمد لأنك أوجدت العدالة بنفسها " .

 ثمّ يحدّثنا عن الإسلام وعظمته وعن الرسول( صلى الله عليه وسلم ).. وعن الصحابة حديثا ً ممتعا ً .

وكان من أجمل ما رأيته في خلقه أنه لا يغتاب ولا ينمَّ .. ويتجنّب الحديث عن الناس بعامة بسوء.. إلا إذا كان عند أحدهم خيرٌ يستفاد منه .

وقد تعلمت الكثير والكثير من صبره وصموده واستمراره على  كفاحه وجهاده بالرغم من ضراوة الإيذاء من الإنجليز خاصة ومن أتباعهم عامة  .

هل تذكر مواقف محددة لوالدك لا تزال محفورة في وجدانك ومشاعرك حتى اليوم ؟

 نعم .. أذكر الكثير والكثير .. ولن أنسى حينما  حاول اليهود بعدّة وسائل شراء بعض أراضينا وأملاكنا في "بيسَمون" قضاء صفد وغيرها ، وسخّروا لذلك القنصل الفرنسي الذي زار والدي في البيت وعرض عليه المُغريات كلها.. ثم نصحه أن يغادر إلى سوريا حيث يوجد أصدقاء الدراسة هناك وكلهم في مناصب رفيعة .

فما كان من والدي إلا أن ردَّ القهوة التي حضرت لضيافته.. ثم أنّبه بكلمات قاسية وأشعره بوجوب المغادرة .

وماذا قال القنصل الفرنسي لوالدك بعد طرده ؟

لقد قال هذا الرجل لوالدي وهو مغادر على درج البيت:

 سيأخذ اليهود أرضك وغيرها إن شئت أو أبيت.. وأمامك فرصة تستفيد منها .

فقال له والدي: إذا أخذوا فلسطين كلها فكيف آسى على قطعة أرض لي.. فنتألم عندئذ ونأسى على فلسطين كلها لا على قطعة أرض .

ما هي أهم الصفات في والدك رحمه الله؟

من أهم الميزات البارزة التي وضحت في مسيرة حياة  والدي رحمه الله أنه لم يكن حريصا ً على الدنيا وزهوتها..  ولكنه كان حريصا ً على قيمه ومبادئه.. فحينما  كان في الأردن متصرّفا ً في عدد من المحافظات.. عُرِضت عليه وزارة العدل.. ولكنه آثر الاستقالة بسبب الأجواء السياسية.. وعاد إلى مدينة صفد ، وانتخب رئيسا ً لبلديتها.. وعلى إثر صراعه مع الإنكليز فقد ذلك أيضا ً .

هل تذكر شيئا ً مما قصه عليك والدك رحمه الله .. ومازال يؤثر فيك حتى الآن .. أو جعلته منهاجا ً لحياتك؟

 نعم.. فقد حكى لنا قصّة حقيقية عاشها بنفسه حينما كان طالبا ً في جامعة استانبول بتركيا وهذه القصة  تصوّر قيمة الدنيا وتفاهتها وملخصها :

 ذلك أن محافظ استانبول كان ذات يوم جمعة ذاهبا ً بعربته التي تجرّها الخيول إلى صلاة الجمعة .

وكان الناس على جانبي الطريق يقفون احتراما ً له.. إلا رجلا ً رثّ الثياب جالسا ً في زاوية من الشارع لم يأبه للمحافظ ولم يقف كما فعل الناس .

 فغضب المحافظ وأوقف الركب وطلب من جنده إحضار الرجل إليه.. ودار الحوار التالي:

 لِمَ لا تقف مثل باقي الناس ؟!

 قال الرجل: لِمَ أقف من أنت ؟!

 قال المحافظ: أنا المحافظ !

فردّ عليه: لو أَنَّك ترقّيت ماذا ستصبح .

فأجاب: سأصبح وزيراً !

قال: وإذا ترقيت أكثر ماذا ستصبح ؟

 قال: رئيس الوزراء !

قال: ولو ترقيت أكثر ؟!

قال: سأصبح الخليفة !

 قال: وإن ترقّيت أكثر ؟!

 قال: لا شيء !

 فأجابه الرجل: أنا الآن لا شيء !.. فانظر كم بيني وبينك من تفاوت .

 لقد تعلمت من والدي ووالدتي وبيتي كله الكرم وحب الخير والإصلاح بيْن الناس.. والزهد في الدنيا وطلب معالي الأمور في طاعة الله.

ومع شدّة عدائه للإنجليز واليهود.. وشدّة إيذاء الإنجليز واليهود له.. إلا أنهم كانوا يهابونه ويحترمونه دون الإقلال من إيذائه.

وماذا عن والدتك  رحمها الله ؟.. وما هو أثرها عليك ؟ وكيف تفاعلت مع المحن المتتالية التي مرت بأسرتكم في فلسطين ؟

والدتي رحمها الله واسمها عطرة بنت الحاج عبد الكريم الحاج عيسى.. ووالدتها هي شريفة النحوي شقيقة الشيخ العالم الشاعر حسن النحوي .

كان أثرها عليّ وعلى إخوتي عظيماً كما كان أثر والدي كان أثرها بحنانها الكبير ورعايتها الدائمة وصبرها علينا .

كانت توقظنا إلى صلاة الفجر يوميا ً ونحن أطفال تجاوزنا السابعة من العمر .

أذكر ذلك الآن وأنه كان بعد عودتنا من دمشق.. ووالدي مازال ممنوعا ً من دخول فلسطين.. وبعد الصلاة تُعِدّ لنا الإفطار مبكرين.. ثم تُهيِّئ لنا جوّ الدراسة قبل أن نذهب إلى المدرسة.. فندرس ونؤدِّي واجباتنا.. حتى كنتُ أنا وإخوتي الأوائل في صفوفنا .

 لقد كانت امرأة صابرة وقفت مع والدي في أحلك الظروف السياسية وما أكثرها.. تخفّف عنه وتثبّته.. وتخفّف عنَّا وتنشر البسمة والرضا في حياتنا .

 كان من أشد الظروف القاسية التي مررنا بها عندما يأتي العيـد ووالدي لم يُسمح له بالعودة.. والحالة المادية قاسية.. وللعيد وأطفاله حاجات وحاجات .

فكانت رحمها الله تجهز لنا مائدة طيبة وتوفر لنا حاجاتنا كلها قرضا ً ودَيْنا ً حتى يفرجها الله . وما أسرع فرج الله.. فقد كانت لنا أراضٍ مستأجرة وكان يأتي إيجارها دوما ً في اللحظة الحرجة.. فنشعر كلنا برحمة الله وفضله الواسع.

كانت امرأة ذكيّة لماحة سريعة الخاطر كثيرة اللجوء إلى الله

والدعاء إليه في السرّ والعلن.. وكانت كثيرا ً ما تشارك في معالجة مواقف ضيق أو مواقف محرجة نمر بها.. كانت تشارك برأي سديد وعقل رشيد.

كانت تضحي بكل ما لديها من حليٍّ.. لكي تسدَّ حاجة من حاجات حياتنا كلنا.. وما أكثر فترات الضيق والشدّة التي كان أهم أسبابها المواقف السياسية لوالدي رحمه الله.. وقضية فلسطين والغارة على العالم الإسلامي.

كانت هي ووالدي يصلان الرحم.. ويعلماننا وجوب صلة الرحم وما ورد عن ذلك من آيات وأحاديث.

كانت رحمها الله تملك ذخيرة غنيّة من الحِكم والأشعار تستشهد بها في مناسباتها المختلفة .

من أول من ترك بصمة عمليّة أو دينية أو تربوية أو أخلاقية في شخصيتك من مدرسيك ؟

في طفولتي وأنا في الصفوف الابتدائية.. كان لكل مدرس أثر في حياتي مهما كان بسيطا ً.. وأهم ظاهرة أتذكرها الآن هي  جِدُّ  واجتهاد المدرسين جميعا ً وعطاؤهم القوي الكريم كلٌّ في اختصاصه.. وكذلك احترام النظام وحسن الإدارة واحترام الأساتذة للطلاب .

كان جو التدريس يحمل الهيبة والجدّية والرعاية.. فيستفيد الطلاب جميعهم على قدر وسع كل طالب.

كانت المناهج يحددها ويرسمها الانتداب البريطاني.. فكانت مادة الدين لا يُعطَى لها اهتمام كبير ولا صغير..  ولولا رعاية البيت ما عرفتُ إلا القليل منها .. وكذلـك التاريخ الإسلامي..  فقد كانت العناية به قليلة جدا ً.

وكان الاهتمام ينصبّ على اللغة الإنجليزية وتاريخ اليونان والرومان.. وتاريخ إنكلترا.. وتاريخ أوروبا بعامة .

ولكنّ أول من ترك الأثر الديني هو بيتي والدي وأجدادي..  وما تركوا من آثار مكتوبة ومؤلفات ولو كانت قليلة..  والمجالس الطيبة التي كان يملؤها الشيوخ والعلماء في بيتنا .

وهكذا ينتهي الجزء الأول من حوارنا مع العلامة د/ عدنان النحوي الذي جاوز الثمانين عاما ً .. ولكنه يملك عزيمة أقوى من عزيمة الشباب وهمة تذكرنا بهمم السلف الصالح .. وصدق من قال"ذو همة يحيي  أمة" .. فله منا كل التقدير والتحية والدعوات بطول العمر وحسن العمل .. والتوفيق في خدمة الإسلام والدعوة إلي الله .. وحتى نلتقي معه في الجزء الثاني لكم تحياتي ودعواتي.