أحمد حمد المك الروائي

أحمد حمد المك الروائي

والقاص السوداني المقيم بهولندا :

الغيطاني في مقدمة الروائيين العرب

لا أنكر أنني تأثرت بماركيز

فاطمة نور الصباح كانت رمزا لحياة وادعة، حملت بذور قوتها في تسامحها وضعفها الظاهري.

أحمد ضحية/ القاهرة

[email protected] 

يعتبر السرد وسيلة جبارة في نسيج وإعادة تكييف الأحداث الواقعة والمتخيلة وتوزيعها في ثنايا النص الروائي , وتمثيل المرجعيات الثقافية , والتعبير عن الرؤى والمواقف الرمزية .. وحول هذا السؤال كان لقاءنا بأحد كتاب السودان المتميزيين في جنس السرد القصصي والروائي هو الاستاذ أحمد حمد الملك , ولتميزه كخط مختلف في الرواية السودانية لفت اليه الانتباه , ووجدت اعماله الاهتمام فتناولها بالنقد بكري جابر – هاشم ميرغني – الحسن بكري – يان ياب (هولندي)- عماد الدين البليك – الخ ..من أعمال أحمد حمد الملك الروائي السوداني المقيم بهولندا رواية  :" الخريف يأتي مع صفاء" وهي الرواية الرابعة بين رواياته :"  

 (الفرقة الموسيقية في عام 90 " و"عصافير آخر الخريف عام 95" و"الموت السادس للعجوز منوفلي عام2000 فإلى  مضابط حوارنا مع هذا الكاتب المميز للتعرف على شيء من عالمه مترامي الاطراف :

س (1) الأستاذ أحمد حمد الملك , سأستهل حواري معك (على غير المعتاد في الحوارات ) من نقطة في منتصف الحوار , تتعلق بإطراء الروائي المصري جمال الغيطاني لروايتك عصافير آخر ايام الخريف وحماسه الشديد للفرقة الموسيقية (في حوار كنت قد أجريته معه قبل فترة ليست طويلة).. كيف قابلت هذا الإطراء وهو صادر من روائي بقامة الغيطاني ؟ بالطبع هذا السؤال على خلفية دعوة الروائي ابراهيم اسحق ابراهيم للمبدعين السودانيين( في أحد الحوارات التي أجريت معه) بأن يعملوا على تقييم أعمال بعضهم البعض, في ظل الغياب النقدي للمشهد السردي السوداني ( وفي ظل سيادة ثقافة الشلة والأستاذ والتلاميذ التي تحكم المشهد السردي (هذا في تصوري أنا , لا ضمن تصور الأستاذ ابراهيم اسحق والذي أؤيده تماما  ) على خلفية هذه القضايا المتشابكة كيف أستقبلت إطراء الاستاذ الغيطاني؟.

أسعدتني كثيرا شهادة الاستاذ جمال الغيطاني كونها تصدر من مبدع كبيريأتي في مقدمة أفضل الروائيين العرب، كذلك كونه متابع من موقعه كناشط في الحقل الثقافي لكل الانتاج الادبي. أتفق مع ما  ذكرته انت ايضا يا استاذ أحمد بخصوص مسألة النقد. رغم أنني أري أيضا أن مسألة النشر التي تقعد بإنتاجنا الادبي عموما تترك اثارها أيضا علي عملية النقد والتي يفترض انها تنبني علي المتابعة لكل ما يصدر من انتاج أدبي تحكمه أو تتحكم فيه مشاكل وتعقيدات النشر.

س (2) ووجهت روايتك "عصافير آخر أيام الخريف" لدى ظهورها في الوسط الثقافي بتعليقات إنطباعية قد تكون وصلت إلى سمعك . تتمثل هذه التعليقات الإنطباعية بأن عصافير آخر أيام الخريف هي رواية على خلفية مائة عام من العزلة .. هل ترى أن ثمة علاقة حوارية بين نصك عصافير ومائة عام من العزلة ؟.

لا أنكر أنني تأثرت بماركيز فهو في النهاية مدرسة لا يمكن لمن يمر بها أن يخرج دون أن يتعلم شيئا، لكنني في النهاية حين كتبت عصافير اخر أيام الخريف كنت متأثرا بقراءاتي في التراث الشعبي والاساطير الواردة في كتب مثل كتاب الطبقات. والحقيقة ان عبقرية الكتابات التي قامت علي مفهوم الواقعية السحرية أو قام عليها هذا المفهوم، مثل مائة عام من العزلة أو بندرشاه أنها تفتح الرؤيا علي العالم السحري الذي يتكون منه عالمنا اليومي القائم فعلا علي الاسطورة. أذكر أنني كتبت مرة  عن تجربة كتابة عصافير اخر أيام الخريف فقلت أنني كنت أجلس للكتابة داخل غرفة يتسرب الي داخلها صوت تغريد طائر الهدهد الحزين فوق الجدار، فيضفي غناءه الحزين الذي يتماوج صداه في الافنية شعورا طاغيا بالوحشة والوحدة تزيد من قتامة الشتاء .فأتذكر قول جدتي ان تغريد الهدهد ينبئ عن قرب هبوب رياح الشمال، وبالفعل تهب عواصف أمشير بعد قليل من انطلاق الطائر في الفضاء.

الوعي بالأشياء ينطفيءمع تغلغل

وجود الغريب :

 حين اخرج أثناء الكتابة لاستريح قليلا ، نجلس في الفناء الواسع نبحث عن الدفء في ضوء الشمس، يغرد طائر أبو البشير( نوع من العصفور الدوري) فتقول جارتنا العجوز أن تغريد الطائر يعني أن فلانا المسافر سيعود من السفر، وبالفعل يعود فلان من سفره. تلقي جارتنا العجوز بحبات الودع فتري الرسائل التي تشق طريقها بصعوبة في البريد الذي يعتمد علي الصدفة. ويتوقف في الخارج عجوز اسمه منوفل ليتنبأ بأن الماعز التي رآها تضع أطفالها في الخارج ستلد ثلاثة أطفال. تحكي جارتنا قصة رجل وأمرأته يعيشان في جوارنا ويدمنان الشجار. تذهب الزوجة للفكي فيعطيها عملا مهمته تهدئة الزوج فيتحول مؤقتا الي زوج أليف .

 قلت لها (وأنا أرقب الاحذية تتطاير في فضاء فناء بيتهما الملاصق لنا)  لماذا اذن يستمر شجارهما ما دام (العمل) يعمل!؟ فتقول تكون التهدئة مؤقتة حتي يذهب الزوج الي نفس الفكي ليدفع مقابل ابطال العمل وفي المسافة لحين عودة الزوجة الي الشيخ مرة اخري تكون هناك فترة فراغ  (دستوري) يستعيد فيها الزوج مبادرة الشجار!.

 تلك هي الاجواء التي كانت جزءا من الجو العام الذي شكّل فضاء تلك الرواية. الحياة اليومية التي تمضي الاساطير ضمن تفاصيلها بحيث لا يمكن الفصل بينهما.

إعصار مركزه الذاكرة :

س (3) في قراءة لي , كنت قد أجريتها حول "عصافير آخر أيام الخريف" لاحظت تشظي صوت الراوي إذا جاز التعبير , وخطر في ذهني أنه ربما لذلك علاقة بأجواء الهجرة والأغتراب اللتين تنهض فيهما الرواية فهي رواية تعج بالغرباء . كيف تنظر لهاتين القضيتين , تشظي صوت الراوي كتقنية . والتشظيات النفسية المسقطة من مناخات الغربة والغرباء ؟ 

يكاد الوعي بالاشياء ينطفئ مع تغلغل وجود الغريب، فتبدا مستويات جديدة للسرد، توازي التغيير الذي يتسرب الي كل تفاصيل الاشياء حتي بأثر رجعي فتتسمم حتي الذكريات. كأنه يجب ان يبق شخص ما - ولو الي حين - بعيدا عن التأثير الطاغي الذي يلجم الوعي ليستمر في السرد. قبل أن يسلم الراية الي غيره، يبدو لي ذلك أقرب الي ما قصدته الرواية حين كانت اضاءة الوقائع تخفت ثم تعود تدريجا بأصوات جديدة هم في الواقع شهود جدد.

س (4) رائحة نوار الليمون( وليل نوار الليمون المشحون بضؤ قمر لطيف ومتواطيء في آخر أيام أمشير من قبل غريب)  كمقترح سردي يهيمن على فضاءات" فاطمة نور الصباح" كبنية حكائية مركزية في "عصافير الخريف" ماذا يمثل في العالم الحقيقي لاحمد الملك؟ 

ثمة إعصار مركزه في الذاكرة وأمواجه تتمدد فوق خيوط أدق التفاصيل اليومية. ربما مثل الشمس تنسحب الخيوط لحظة الغروب الجمعي للذاكرة المنثورة فوق التفاصيل اليومية. تعود الي مركزها بعد أن وسمتها تلك التفاصيل بروائحها. ربما يمثل لي ذلك نوعا من الحنين، الحنين المبهم الي زمان غير محدد التفاصيل لا يمكن الاستدلال عليه الاّ بتتبع تلك الرائحة. الرمز.

بصيص الأمل في الحرية : 

س (5) كل من يتزوج "فاطمة نور الصباح" يموت , حتى الطبيعة تموت لدى مرورها , كأنها مرصودة ومنذورة للموت , من جهة أخرى يموت كل اولاد سيد البيت الكبير الموت ونبوءات الموت يهيمنان على فضاءات "عصافير الخريف" (حتى عندما تعود سميرة للحياة على نحو ميتافيزيقي) على الرغم من أن الخريف رمزا للخصب والحياة ؟

فاطمة نور الصباح كانت رمزا لحياة وادعة، حملت بذور قوتها في تسامحها وضعفها الظاهري. وحين تنقلب الاحوال بظهور ذاك الغريب، الذي يسعي دون كلال لاحلال زمانه الخاص عبر الغاء الذاكرة الجمعية. تتحول طاقة الضعف تلك الي قوة أشبه بالموت ربما لتدافع عن وجودها. 

س (6)  في قصتك القصيرة (حكاية الزين عبد العاطي الذي عاد من الموت) نجد الواقع الزائف و" ضآلة الإنسان" , وتراجع قيمته التي في تناقص مستمر , ماذا تود أن تضيف في هذا السياق ؟ ...

كتبتها قبل أكثر من عشر سنوات، يبدو لي عبد العاطي أقرب لرمز لبصيص الأمل في الحرية والعدالة، فقد مات في المرة الاولي  في أواخر يونيو، وحين يعود في المرة الأخيرة من داخل نفس الدائرة الجهنمية، هل سيجدنا مثلما تركنا في زمن اخر؟ لو كانت تلك نبوءة قبل أكثر من عقد يبدو أطول من قرن كامل، أحسب أن جزءا كبيرا منها تحقق وأننا فقدنا الكثير وليس فقط عدة سنتيمترات من أطوالنا الحقيقية  بحيث أنه لو مر قرن أقصد عقد اخر مثله لتعذر لنا أن نري أنفسنا بالعين المجردة..

س (7) في القراءة النقدية المهمة للأستاذ بكري جابر في روايتك" الفرقة الموسيقية" يقول : أن لجؤك "الي الفانتازيا هو من اجل خلق عالم اسطوري مواز للواقع الاسطوري خارج الرواية، ذلك الواقع الذي يضج بالغرائبية والعبثية واللامنطقية بصورة اكثر مما هي متحققة في عمل فانتازي متخيل. وبذلك تشكل الرواية عبر بنائها الدرامي المحكم وشخصياتها الممسوخة وتهكمها الصارخ أعلي هجائية للواقع وللتاريخ معا. ذلك الواقع المكتظ بالزيف والنفاق والاستبداد والتسلط والذي يسحق القيم والمبادئ ولا يقدم لانسانية الانسان شيئا سوي العدم."كيف تنظرالى ذلك؟.

س (8) التحررمن عنصري  الزمان والمكان( اللذان يستند اليهما معمار أي عمل درامي وسردي، حتي ليبدو وكأن قولها ينسحب علي كل الازمنة والامكنة، وهذا الافلات من قبضة الزمان والمكان)  إلى جانب تكسير وحدات السردكما لاحظ بكري جابر على نصوصك السردية (رواية وقصة) يجعلنا نتساءل : ما الذي تقترحه بهذه التقنية في السرد ؟.

الغرباء:

ربما كان التحرر من عنصري الزمان والمكان في الفرقة الموسيقية أكثر وضوحا لأن الرواية كانت تحمل هما عاما بصورة مباشرة كان يحتاج للرمز بصورة مكثفة لضمان ظهور العمل نفسه في ذلك الوقت ( أقصد بوضوح أمام الهمجية الوليدة للسلطة). وكان التحرر التام من عنصري الزمان والمكان لازما لاغراق بناء الرواية كلها في الرمزية. لاحقا في العصافير بقي عنصر الزمان خارج فضاء الرواية أو ارتبط بوقائع مثل ظهور الغرباء أو عودتهم في كل مرة، ربما لم تسهم تلك الوقائع في ابراز الزمان بقدر ما اسهمت في ازدياد غموضه. بينما ستبدو صورة المكان أكثر وضوحا من الفرقة الموسيقية. قبل ان ينهض الزمان والمكان من رماد الروايتين في الرواية الاخيرة فتصبح الصورة أكثر وضوحا. بيد أن البناء يظل في النهاية هو نفسه. فيكون عنصري الزمان والمكان الاضاءة التي تكشف تفاصيل العمل تدريجيا.

س (9) يان ياب دو راويتر أستاذ الدراسات العربية بجامعة تلبورخ (هولندا) في دراسته لروايتك " الخريف يأتي مع صفاء" ( التي ترجمها عن الهولندية دكتور الصاوي يوسف ) يقول : أن هذه الرواية هي أحد الكتب العربية القليلة التي استمتع بقراءتها اذ تصف سخرية السلطة والانحراف والفساد الذي يصاحبها (السلطة) ويشير إلى أن أرتباطك بقضايا وطنك إزداد وأنت في الغرب , كيف تنظر إلى كون الكتابة هي وطن الكاتب . وإلى تأثيرات الهجرة والغربة والإغتراب في الكتاب السودانيين من خلال تجربتك الشخصية ؟ وهل لكل ذلك علاقة بسؤال السلطة وتحولاتها بين العنف والثروة والمعرفة ؟

أكثر عمقا وحيادا :

تجربتي الشخصية مع الغربة كما أشرت لذلك من قبل  لم تكن مثمرة كثيرا في مجال مشروع الكتابة. انفصلت بخروجي عن ذلك الجو القديم من منابع الالهام اليومية. حقا انني استعضت عن ذلك بوهم امكانية اجترار الذاكرة لحد الاستنزاف لتوفير حد أدني من الشروط القديمة للمواصلة. كما شعرت أنه وبمرور بعض الزمن يمكن استعادة جزء من المبادرة، في ضوء المكسب الذي لا يستهان به: الحرية (رغم انه ايضا لا يمكن تجاهل قيود أخري تفرضها الغربة). ربما أيضا النظرة من علي البعد تكون أكثر عمقا من موقع حيادي. داخل الصورة تكون جزءا من التعقيدات الكثيرة من حولك فلا تري الكثير من التفاصيل المهمة. الان ربما أشعر أنني أقرب بصورة ما الي أن الكتابة هي وطن الكاتب، بعد خصم الوقت بدل الضائع من أجل استيعاب صدمة التغيير. لكن الناتج عموما يبقي أقل كثيرا مما أنتجت هناك.

س (10) لاحظ يان ياب أيضا أن هذه الرواية (الخريف يأتي مع صفاء) يشرب فيها الكثير من الكحول .. هل لذلك علاقة بالغياب أو التجلي أم أىّ دلالة هي ما ترمي إليها ؟.

أو ربما للشعور بالوحدة أو الحنين الذي نسعي للالتفاف من حوله. نحاول مقايضته بذكريات مبهمة أو نغرقه في النسيان. أو لمداراة ضعف الشخصية أو الذاكر.