خليل رامز سركيس

أَحَبُّ كتابٍ إليّ ذاك الذي يعلّمني القراءة بمعناها الكياني

أحمد أصفهاني

خليل رامز سركيس، أديب ومفكر لبناني، معاصر وحديث وسليل عصر النهضة والتراث العالمي، منذ الاغريق حتى الفلسفة الحديثة.

غادر سركيس لبنان منذ أن اندلعت شرارة الحرب، فهو لم يكن مهيّأً ليبصر وطنه يحترق تحت نار أهله وسواهم، فهذا الوطن كان يعني له، في ما يعنيه، أرض الحوار الحقيقي بين الحضارات، شرقية وغربية، وبقعة الروحانيات التي صنعت التاريخ وموئل الأفكار الكبيرة والمبادئ والعقائد. هاجر سركيس لبنان، لكنه حمله معه، بفكره وقلبه، وفي غربته اللندنية راح يواصل مساره الفريد، أدباً وفلسفة وتأملاً. وهناك كتب ما حسن له أن يكتبه، من نصوص وحواريات متأنقة في لغتها، رشيقة في وقعها، بليغة من غير كلفة، فلسفية متجذّرة في الذات والوجود. لم ينكفئ سركيس في غربته ولم يلذ بالصمت بل أكمل عمارته الفكرية الأدبية التي كان باشر في تشييدها، أيام كان في بيروت، أيام كانت بيروت في قلب ديمومتها.

في هذا الحوار الذي ننشر جزءاً أول منه، يستعيد خليل رامز سركيس ذكريات غاليات وصورة زمن كان ويلقي ضوءاً على شؤون وشجون بات هو من العارفين القلّة لها. وقد شارك في هذا الحوار الزميل رؤوف قبيسي. أما الجزء الثاني فينشر لاحقاً. 

> متى وأين وُلدتَ، وهل لديك ذكريات عن أيام الطفولة والفتوّة والشباب؟

- وُلدتُ سنة 1921 في بيروت، في حي زقاق البلاط وشارع خليل سركيس. لكن مسقط رأسي الوراثي هو عالَم المطبعة ومشتقاتها: المطبعة الأدبية التي أسسها جدي خليل سنة 1866، وكان مقرها الأول في سوق أياس. ثم غيَّر جدي اسمها سنة 1877 فأصبح: مؤسسة «لسان الحال»، وكانت تضم الجريدة، وآلات الطباعة، ومسبك الحروف (مسبك سركيس للحروف العربية)، وقسم التجليد، ودار النشر. وكان العاملون في المؤسسة يزيد عددهم على الخمسين، وكان أكثرهم من الذكور إلا في قسم الخياطة لمَلازم الكتب، إذ وُكل أمرها الى بعض الإناث.

ثم نُقلت «لسان الحال»، قبل الحرب الكبرى (1914 – 1918)، الى بناية في شارع البوسطة القديمة، شارع البطريرك الحويك في يومنا هذا، فاستقرّت المؤسسة هناك الى أن تخلَّيتُ عنها سنة 1959، فوقفتُ معظم العمر على الكتابة والتأليف. بيد أن ذاكرتي لم تتخلَّ عن «لسان الحال»، بل هي ما تفتأ تعود بي إليها بين الحين والحين، تريني صُوراً لها في شبهِ شريطٍ لمسوَّدات وكتب وآلات سبكٍ وطباعة وتجليد وما إليها، وتُمثِّل لي، في ما تُمثِّل، كيف كانت الحروف تُنضَّد باليد قبلما اختُرعت آلة المونوتيب للتنضيد حرفاً الى حرف، فلفظة في إثر لفظة، ثم آلة اللينوتيب سطراً تلو سطر. غير أن تلك المخترعات لم تلبث طويلاً حتى استُغني عنها، فاستُبدلت بها، في هذا النحو، منجزات النهضة الطباعية الحديثة، فمُعجزات الثورة الإلكترونية وما قد يليها على تسلسل لحظات الشاشة المتحركة في ما يسابق هرولة العصر فلا يني يكتشف مزيداً من طاقات التجديد في ميادين شتى، على اختلاف المراحل عندي ولدى سواي فضلاً عن الآخرين، ثمة هنا وهناك، في حيويات المجال العام والخاص.

تلك المراحل، بين سنة 1930 وسنة 2009، تقلّبت في أشياء منها على ما قُيِّض لي من مجرى أحوالها والأحداث، فعايشتها في ظواهر لها، وسَبَرتها في غوريات، وفقاً لطبيعة الحياة التي أسبغ عليّ بركتها نشاط العشرين، مع أني أجاور التسعين أو أكاد. ولئن عمّم رأسي المشيب، فما ذلك سوى عرض خارجي، أما الداخلي الصميم، فهو، نسبة الى نبض الساعة التي أنا فيها، وثبُ حركة في همة شباب.

سألتَني عن أيام الطفولة والفتوّة. مختصر الجواب هو أن أيامي تلك لم تكن فسحة لعب وتنزه بقدر ما كانت المقدِّمة لحركة نمو في طموح مستقبل وُلد إنسان مصيره في مقاصد التأهب لتمام أوانه ولما بعدها من ممكنات المعلوم والمجهول. فكان أن تلك الحركة شبه الدائمة، إذ كل عمل في الجريدة والمطبعة ومسبك الحروف وفي سائر أقسام المؤسسة يجب إنجازه في موعده،

- كان أن تلك الحركة المنظَّمة قد طبعتني على أن أعي معنى الوقت فأقدِّر تبعاته، وأتجنّب الإضاعة له ما استطعتُ، فنشأتُ على التشدد والتدقيق في أكثر الأمور، كبيرها وصغيرها إجمالاً وتفصيلاً. فلما بلغتُ سنتي العاشرة، أهدى إليّ مدير «لسان الحال» مَقلمةً احتوت بضعة أقلام رصاصية ومقبضة ريش معدنية يقال لها «ريَش مَلاّ» وتُراوح أسنانها بين الرقم 1 الضيّق والرقم 4 الوسيع. وأضاف الى المقلمة قُنَّينة حبرٍ أزرق اللون وكراساً لتعليم الخط العربي على حسب قاعدة عَلاّم المدرسية. فراقتني الهدية، وطاب لي أن أرقم الألفاظ أرسمها على القرطاس حرفاً الى حرف. ثم ازددت ميلاً الى فن الخط، فقصدت كامل البابا في محترفه بجوار شارع المعرض في بيروت، فرحب بي أكرم ترحيب. كان البابا، أبو مختار، هو ونسيب مكارم وفؤاد اسطفان وسيد إبراهيم وأحمد حسني من كبار الخطاطين العرب المعاصرين. فرحت أتردد الى محترف البابا مرتين في الأسبوع نحواً من سنتين راسلت من بعدهما معلِّمه نجيب هواويني، الشامي المتمصِّر المقيم في القاهرة، وكان ذلك قُبيل الحرب العالمية 1939 – 1945. كان نجيب هواويني عميد خطاطي جيله، وكان من أركان مدرسة تحسين الخطوط العربية في مصر، فرحب بي هو أيضاً. ثم رقم لي اسمي، فطبعتُه على ما أستعمل من أوراق المكاتيب وبطاقات الزيارة والمغلفات، وما أزال الى اليوم أُعيد تلك الطباعة. وأذكر أن هواويني كان يخطّ بقلم من غزار يغطّه في لِيْقَةٍ مبللة بالحبر الإسطمبولي الفاحم الذي عُرف في شرقنا قبل الحبر الصيني. وكان خطاطنا، حيثما ذهب، وضع في جيبه قلم الغزّار والليقة وقُنَّينة الحبر. فعلّمني بالمراسلة بضعة خطوط مع قياس حروفها بالنقط ومع هندسة ألفاظها وسطورها وحركاتها وفقاً لقاعدة كلِّ خط منها. أما رسائله الشخصية، فكان يكتبها بخطه الفارسي الهواويني الأسلوب والمستقل، في شيء ما، عن الخط الفارسي الذي يقال له «نستعليق» والذي يمتاز به الخطاطون في بلاد فارس وباكستان والجوار الآسيوي هناك. فبقيت عدة أشهر أتدرّب، في سوانح المراسلة، على الخط الرقعي والفارسي والنَسخي والثلثي فضلاً عن الخطين الديواني والديواني الجَلي. لكنني لم أُصبح خطاطاً، ولا رغبت في أن أحترف عمل الخط، مع كل ما بفلسفة الخط، رسّام الكلمة، من جزالة بيان وجلالة معان روحية المضمون. فاتخذت من الخط هواية لي، في بعض أوقات الفراغ. ثم ألهمني الحس أن بخلفية هذه الهواية دعوة الى الكتابة والإفصاح، فلبّيت الدعوة كأنما القلم قدري ومصيري طول مراحل العمر. في ذلك كلِّه – في المطبعة وأخواتها، وفي الخط، وفي مُناخ الكتابة والتأليف – كان مسقط رأسي، كما سلف ذكره. أما مسقط القلب مني والوجدان، فهو أبداً لبنان، لبنان فوق كلِّ فوق. أول الطريق

> كيف بدأتَ التأليف؟

- بدأته بالمختصرات تأليفاً فترجمة، ثم تدرجت الى النصوص المسهبة، فإلى الفصول المتكاملة كتاباً في إثر كتاب.

> ألا تزال تكتب الى اليوم، وماذا تكتب؟

- الكتابة، عندي، مثل التنفس، فلو انقطعت عنها لاختنقتُ. من أجل الكتابة تخليت عن الكثير الكثير، فلم يكد يعوّقني عنها شيء. الكتابة حياتي، صَلاتي، محررتي من تسلط الدهر غابراً وحاضراً الى مستقبل أيام. هذه الثلاثية الزمنية أحاول أن أبني على معطياتها كياناً لي متحاور العناصر في تجاوب لها ونتائج. (سأعود الى موضوع العناصر في بعض ما يتيسر من هذا الحديث). أما ماذا أكتب اليوم، فإن ذلك مما أحتفظ به في أمانة سره الى أن أُنجزَه بلا وعد مني ولا ميعاد.

> هل تكتب الشعر، وهل لديك من هواية غير الكتابة؟

- لم أرتكب الشعر قط وإن استهوتني روائعه، ولطالما تغنيت بها، ورددتها، فاغتنيت. لكن، مع ذلك، تبين لي أنّي كتب علي النثر، فاستوطنت عالمه، وطوّفت في أقطاره، فلقيت أنساباً لي في شجرة أُسرته القلمية جداً وأباً فولداً وحفيداً، ومَن قبلهم ومَن بعدهم من أجيال تجدد متعاقب الفصول في ربيعيِّ تفتّحٍ وصيفيِّ نضجٍ الى خريفيِّ وداعٍ وشتائيِّ اكتئاب. أما عن سؤالك حول «هواية» الكتابة، فإن جوابي، الذي يراوح بين الهواية والهوية والهاوية، هو أن الكتابة، عندي، ليست هواية على الإطلاق، ولكن الكتابة هويتي، ولولاها لانتهيت الى حافة الهاوية، فاضطربتُ في أزمات الخيبة والتشتت والضياع. أما هوايتي فهي الموسيقى والمشي.

> مَن أول مَن عرفت في «لسان الحال»؟

- رامز سركيس (1889 – 1955)، أبي، أول من عرفت. (أفضِّل «أبي» و «أمي» على «والدي» و «والدتي»، لأن اللفظتين الأخيرتين تصوِّران لي داراً للتوليد... أكثر مما توحيان إليّ بمعاني الأبوة والأمومة). أيام الطفولة لم أعرف أبي في البيت بقدر ما عرفته، مِن بعدها، في مكتبه بـ «لسان الحال»، إذ قليلاً ما كان يعود من عمله قبل العاشرة ليلاً وأنا، في تلك الساعة، نائم. ثم كنت أبكِّر الى المدرسة، صبحي التالي، قبل أن يفيق أبي من النوم. وذلك أن رامز سركيس تعددت حقول نشاطه، فتوزعت بين مؤسسة لسان الحال، ونقابة الصحافة التي انتُخب رئيساً لها ست مرات، ومهمات السياسة، ومنها عضوية الحكومة ومجلس النواب، فضلاً عن عنايته بمصالح الطائفة الإنجيلية التي كان يمثلها في البرلمان، برغم ابتعاده عن الطائفية ومشكلاتها.

> كيف تريد أن يكون لبنان الثقافي، وما هي النصائح التي تقدِّمها الى وزير الثقافة، وما مستقبل الثقافة في لبنان؟

- أولاً ليس لدي من نصائح أسديها الى أحد. حسبي أن أتلقى بعناية وامتنان كل نصيحة تسدى إلي من الثقات خُلقاً ومعرفة. ثم إن أَذن لي القارئ، صارحته بأن المستوى الثقافي العام، في لبنان، لا يدعو الى التفاؤل. لست وحدي على هذا الرأي، ولكن أجد أن كثيراً من أفراد النخبة الباقية في لبنان ليسوا دوني تخوفاً على مستقبل الثقافة في البلد الذي فرّقته علل الانقسام. أي لبنان نريد؟ هنا المسألة التي ينبغي أن نتحاور في ما لنا حيالها من حقوق وفي ما علينا من موجبات قبل أن نبحث فنتباحث في جوهريات الثقافة. الثقافة في لبنان ليست قضيتها سبباً، ولكنها نتيجة معضلة يتعذر علينا أن نتصدى لها قبل أن نعالج عللها معالجة موضوعية جريئة.

> ما الحضارة اللبنانية عندك؟ أمشرقية أوروبية هي، أم عربية متوسطية، أم مزيج من هذه وتلك؟

- لا هي هذه، ولا هي تلك. المزيج لا يكفي، وقد يؤذي. التنسيق، في نظري، هو الأولى. التنسيق إيجابي، والمزيج التوفيقي – أو التوافقي – عامل سلب. إذا صفت النيات وصحت العزائم، بات في مرتجى المستطاع أن يكون لبنان، بالقوة وبالفعل، واقع حقيقته الجغرافية والتاريخية التي لا تحتمل النعوت. لبنان بلا نعت نريد، لبنان منزّهاً عن رجس المحاولات المعنوية والبنيوية التي تبغي أن تغتصب حرمة ثوابته، فتستحل كرامة كيانه، وتشوِّه طبيعة إنسانه فرداً وجمعاً، في تراث خصوصيات وقيم ابتكار.

> الحرب اللبنانية هجّرتك وكتبت عنها. هل تشعر بالغربة، وكيف تقضي أوقاتك في لندن، وماذا تذكر عن لبنان من أشياء حلوة؟

- هاجرت، لكن لم أهجر. كل لحظة أنا في لبنان، في صميم قضاياه ومعطياته. لا مؤمَّلاته تغيب عني ولا المهددات. لبنان وطني وغربتي معاً. لا ازدواجية بموقفي هذا ولا انفصام. أما كيف أقضي أوقاتي في لندن، فكما كنت أقضيها، بنحو ما، في حرية بيروت قبل الحرب: حياة قراءة وكتابة وما إليهما وما عنهما من شؤون الثقافة يُسراً وعسراً وبين بين، ذلك مع المراعاة لفوارق السن والزمن والمكان. وأما الذكريات، لا الحلوة وحدها، بل أيضاً الذكريات المُعلقَمة، فقد أوردتُها في كتابي «الهواجس الأقلية/ من زقاق البلاط الى كنسنغتن» (منشورات دار الجديد، بيروت 1993)، ولا مسوِّغ، هنا، للتكرار.

> ننتقل الى الأدب ومشتقاته: هل من أدب لبناني مميز عن الآداب العربية؟

- لا يسعني أن أجيب إجابة مسؤولة، لأني لم أطلع على هذا الموضوع اطلاعاً وافياً.

> في الماضي، كنا نسمع عن رعيل من أرباب اللغة والشعراء والكتّاب الكلاسيكيين، كأن يقال، مثلاً، أمين نخلة، خليل رامز سركيس، ميخائيل نعيمة، عمر فاخوري، الأخطل الصغير، وسواهم. لماذا لا نسمع، اليوم، عن رعيل جديد من هذا الطراز، هل ماتت الكلاسيكية في لبنان؟

- أفهم أن تذهب الى أني في عداد أولئك الأكابر وهم، كما تدري، من أعلام الأبوة التي تقدمني شوطها مسافة جيل واحد أو جيلين. أقول ذلك بصراحة البساطة العفوية، البعيدة عن غرور الكبرياء ومركبات التفوق ومزيفات الاتضاع. فلقد عرفت مستوى كتاباتي، وما يترتب علي حيالها من تبعات، وما لي بها من منزلة لدى صفوة القراء. وعرفت، أيضاً، أنني لا أنتسب الى ثقافة ذلك الجيل الأبوي، المؤسس، بقدر ما أنتمي الى ذاتية قلمي، بمحاسنه ومساوئه، لا أدعي العصمة أبداً. ثم إذا كنا لم نسمع برعيل جديد من سلالة أولئك العمالقة، فربما عاد السبب على ثقل في السمع... أعني السمع الذي أضعف حاسته – وذاكرته – تراكم السنين! أما عن شبه نعيك للكلاسيكية في أدب لبنان، فمؤدّى جوابي هو أن الكلاسيكية قلما تنقرض، ولكنها ترقد الى وقت مجاور أو بعيد، ثم تهّب فتنهض وقد شبّت فتطورت في ما يقال له نيوكلاسيكية الكتابة والرسم والتصوير والنحت والموسيقى والرقص والتمثيل وغيرها من فنون الجمال.

> أي الكتب أحب إليك؟

- أحبّها إليّ الكتاب الذي يعلمني القراءة – القراءة بمعناها الكياني المتفوِّق وبمداها الإنساني المتعمِّق في روح موضوعها وفي جسده أصلاً وفروعاً. هنا القراءة أُختُ الكتابة سموّاً وقِيم عطاء. الرمز المختار، في تجرّد هذا القصد، صديق لي وصلتني به، عبر الأوقيانوس، قراءته لمؤلفاتي قراءة فائقة العناية والتأني والشمول. الاسم والشهرة: طوني شعشع، السن: 58، الجنسية: لبنانية، الإقامة: نيويورك، العمل: الكتابة والترجمة، الوظيفة: شغل في شركة إعلانية. شعشع إنه، في حق الذمة والاختبار، مثال القارئ الأفضل. إذا اعتنق النص، تقلّب فيه لفظة فلفظة، ثم جملة فجملة، ثم صفحة فصفحة، ثم فصلاً تلو فصل، ثم كتاباً يُبحر بقارئه الى عوالم الإبعاد في آفاق التعالي والطموح. لا ريب، عندي، أن طوني شعشع تُخجله قولتي، هذه، وإن اعتز بها، ومهما يكن من أمره إزاءها أُعلنها شهادة تستحقها مزاياه القرائية التي انتقلت «عدواها» الى يراعته المقلة، لعله يُفرج، يوماً، عن قلمه المرهف صنعاً وإبداعاً ربما استقاهما شعشع من بردونية مسقط رأسه، زحلة، وقد نأت به عنها دواعي الاغتراب.

> لو فُرضت عليك رحلة قسرية الى جزيرة نائية، على أن تحمل كتاباً واحداً، فأي كتاب تأخذ معك؟

- لو فُرضت علي تلك «النزهة»، لكان جُلُّ ما فيه أفكر جداً هو التخلص والفرار... لا يسعني أن أقرأ وأنا أسير القسر. إن الحرية، في عصمة نظامها، هي حق واجب الوجود. مَن حُرمها حُرم نعمة من أكرم نِعم الحياة.

> بعض الدراسات أظهرت أن نسبة من يطالعون الكتب في لبنان لا تتعدى 14 في المئة. ما سبب هذه الظاهرة: هل هو الكتاب، أم المؤلِّف، أم المترجِم، أم تراجع اللغة العربية، أم الهجمات عليها؟

- الواقع أن نسبة القراءة الجدية هي على انخفاض في معظم البلدان، لا في لبنان فحسب. إلا أنها، في لبنان وسائر الدول العربية، أكثر انخفاضاً مما هي عليه، إجمالاً، في بلدان الغرب. زارني، في الشهر المنصرم، اختصاصي بهذا الموضوع يعمل في دار للنشر في باريس. فذكر لي في مجرى الحديث عن نسبة القراء، أن الشاشة التلفزيونية ومشتقاتها أخذت تُنافس المنشورات المطبوعة (الجريدة، الكتاب، الخ...) كأنما عصر غوتنبرغ قد انتهى الى بعض أواخره. وأضاف الاختصاصي يقول إنه كما حلّت المطبوعات، منذ غوتنبرغ الى يومنا، محلّ المخطوطات، هكذا نرى أن منشورات الشاشة ومُدمجاتها أخذت تحل محل الكثير من منشورات الطباعة التقليدية. ولا يخفى أن المجتمعات المتقدمة وعت هذه القضية، فقاربتها مقاربة علمية وفقاً لأحكام هذا الانقلاب الحضاري الأبيض الذي ابتدأ يُنزل غوتنبرغ عن عرشه فيستبدل بمملكته، التي عمّرت بضعة قرون، نظاماً جمهوري الشاشة، إن صح هذا التعبير. بيد أن ذوي الاختصاص لا يتوقعون أن يُستغنى عن الطباعة التقليدية استغناء كلياً، في المستقبل المنظور على الأقل.

> مَن تحب من الشعراء القدامى والمحدثين؟

- الإجابة الوافية لا يتسع لها المجال في معجّل هذا الحديث. ولكن بالمختصر أقول إنني أُحب القصائد، لا أصحابها وصاحباتها... وذلك بحسب ما أكون فيه من حالات الروح والنفس والجسد، إذ عندي لكل حالة قصيدتها. ومَن زعم أنه يستطيع أن يعالج، في ضيق الفسحة هنا، مثل هذا الموضوع معالجة جدية، فليتفضّل. أهلاً به ومرحباً! لغة الصحافة والأدب

> هل تغيّرت لغة الصحافة والأدب في لبنان عما كانت عليه قبل خمسين أو ستين عاماً، وكيف تغيرت؟

- أولاً: لغة الصحافة شيء، ولغة الأدب شيء آخر. ثانياً: اللغة، صحفية كانت أو أدبية، لم تتغير أساليبها في لبنان فقط، ولكنها تغيرت، أيضاً، في سواه من البلدان، وستتغير وسوف تتغير ما تغيرت أساليب الحياة، هنا وهناك وهنالك، على مرّ الأعوام والأجيال. أما في حاضر وقتنا، فقد هبّت اللغة تطير تُسابقُ هرولة العصر، في إيجابيات الهرولة وسلبياتها. ولا يخفى أن ثقافة اللغة المعاصرة، في تنوّع ميادين الكتابة، قد أثّرت فيها عوامل العلوم الصحيحة ومحدثاتها تأثيراً مباشراً أو غير مباشر.

> لغة الصحافة والأدب في لبنان تختلف عما هي عليه في مصر أو في المغرب، مثلاً، على رغم أن لبنان بلد صغير. ما الذي جعل عربية لبنان ذات لون خاص؟

- اللغة، في لبنان وفي معظم البلدان الأخرى، هي، كالإنسان، سليلة الجغرافيا والتاريخ. لبنان، بطبيعة جغرافيته وتاريخه، هو جبل تسلّق، وسهل مسيرة، الى وادي عمق، وبحر انفتاح. من هنا سجايا التنوع والتجديد – لا الاختلاف – في لغة لبنان الذي بأصالة أقلامه برهن أن العربية هي الجامع الأول المشترك بينه وبين مواطن الضاد.

> الى أي مرجعية يمكننا أن ننسب بنية الأسلوب عند خليل رامز سركيس؟ أأزهرية هي، أم إنجيلية توراتية، أم مغربية، أم جاحظية كوفية، أم فارسية، أم، أم؟

- إنها، في رأي قلمها، بنية الأسلوب السركيسي، المستقل ما أمكن، لا أكثر، لا أقل.

> ما هي العوامل التي أثّرت في أدبك وثقافتك؟

- عوامل التجربة الحية، وعوامل المطالعة اليومية، سحابة العمر.

> هجرت الصحافة وما خلّفه لك الجد والوالد في مؤسسة «لسان الحال»، فاتجهت الى الأدب. هل تعتقد أن الأدب والصحافة يمكن أن يتعايشا؟

- سؤال قديم. مراراً طُرح عليّ، ولا بد من تكراري الجواب: معلوم أن كتّاب الصحافة، خصوصاً في عصرنا السريع التطور، هم، على العموم، غير كتّاب الأدب. الإنشائيات لم تبقَ واردة في مفاهيم الصحافة الحديثة. إنما الشأن للخبر، وللمقالة – وتوابعها – إذ تؤدى بأسلوب الحاسوب والإنترنت، حاشا الأبحاث وسائر الكتابات الثقافية البحت التي حُفظت حقوقها في صفحات معينة وملحقات منتظمة لها قراؤها في كبريات الصحف والمجلات وسائر المنشورات.

> أنت، في لبنان، قد تكون آخر من لا يزال يكتب بأسلوب نضر وبلغة هي في غاية السبك والدقة والإتقان. أسلوب الكتابة، هذا، ما فتئ ينحسر، وقد يغيب كلياً. فما السبب؟

- أتمنى ألا أكون آخر من ينشئ بالأسلوب الذي وصفت أو بما يحاكي مدرسته. فإن صح ما ذكرت، كان أن الجمال الأسلوبي قد يغيب ولو الى حين، ثم يُبعث حياً في فصح قيامة متجددة المواسم، بحسب ما سبق قوله.

> كيف ترى مستقبل اللغة العربية في لبنان وسائر دول العالم العربي؟

- في حضرة المستقبل، أنا أمّيّ. لست ممن يدّعون قراءة المستقبل!

> هل ترضى عما حققت؟

- أعتقد أن الرضى، على هذا النحو، يُقعِد، فيقيِّد، فيعطِّل. فكيف لي أن أرضى؟

> لو لم تكن خليل رامز سركيس، فمن كنت تودّ لو تكون؟

- لم أُقرر بعد... اللائحة البيضاء

> مَن عرفت من أهل القلم (أدب، فلسفة، صحافة، الخ،) في لبنان وسائر الدول العربية؟

- منذ الثلث الثاني للقرن العشرين الى أيامنا هذه، أتيح لي أن أعرف العشرات من أهل القلم. ويُسعدني أن أُورد أسماءهم في بعض ما يلي وكأنهم ضيوف الذاكرة والذكريات: خليل مطران، أمين الريحاني، شكيب أرسلان، الأخطل الصغير، مارون عبود، ميخائيل نعيمة، شبلي الملاّط، ميشال شيحا، أمين نخلة، فارس الخوري، أمين تقي الدين، إبراهيم المنذر، وديع عقل، إيليا أبو ماضي، بولس سلامة، عادل أرسلان، أنطون سعادة، عارف النكدي، جبران الأول تويني، أمين آل ناصر الدين، شفيق المعلوف، شارل مالك، عمر فاخوري، موسى الصدر، سعيد عقل، كميل أبو صوّان، توفيق يوسف عواد، يوسف السودا، سليم حيدر، مصطفى الغلاييني، شارل قرم، راجي الراعي، إلياس أبو شبكة، خليل تقي الدين، ميشال أسمر، جورج مصروعة، ميخائيل جبّور، يواكيم مبارك، أنيس فريحة، محيي الدين النصولي، أمين الغريب، شارل حلو، فيليب حتي، صلاح الدين المنجد، جورج شحادة، غسان تويني، أحمد عارف الزين، أنطون غطاس كرم، عمر أبو ريشة، إيلي تيان، ميشال طراد، جورج طربيه، ناديا تويني، رنيه حبشي، منير البعلبكي، سلمى صايغ، يوسف غصوب، فؤاد كنعان، كمال جنبلاط، عبدالله العلايلي، صلاح لبكي، خليل حاوي، لويس الحاج، فؤاد سليمان، سعيد تقي الدين، يوسف حبشي الأشقر، أحمد الصافي النجفي، طوني شعشع، نقولا فياض، سلمى مرشاق سليم، جرجي نقولا باز، فؤاد أفرام البستاني، أسعد عقل، رشدي المعلوف، صبحي المحمصاني، بدوي الجبل، أحمد طالب الإبراهيمي، فؤاد العتر، سعيد فريحة، توفيق وهبي، كرم ملحم كرم، إميل تيان، جميل مكاوي، نجيب ليان، فكتور حكيم، محمد علي الحوماني، بشر فارس، قسطنطين زريق، محسن سليم، إميل المعلوف، محمد جابر الأنصاري، أنيس الخوري المقدسي، لطفي حيدر، فؤاد صرّوف، يوسف إبراهيم يزبك، إدوار حنين، أحمد مكي، إدفيك شيبوب، أنطون قازان، كريم عزقول، محمد علي فرحات، أمين المعلوف، عمر الزعني، وديع فلسطين، جورج شامي، توفيق صايغ، نزار قباني، هكتور خلاط، صبحي الصالح، ماجد فخري، رشا الأمير، محمد النقاش، أنسي الحاج، صلاح الأسير، رنيه عجوري، بولس نعمان، ليلى بعلبكي، إلياس خليل زخريا، علي شلق، أدونيس، نصري المعلوف، لويس أبو شرف، نور سلمان، شكيب الجابري، فريدا عبس، سمير عطاالله، جميل صليبا، ناصيف نصار، كامل مروة، إدوار صعب، ماريتينيانو رونكاليا، جبران الثاني تويني، أمينة السعيد، عبدالله المشنوق، أحمد أبو سعد، سمير أنيس صالح، سليم عبو، زكي نجيب محمود، موريس شهاب، فريد جبر، وديع ديب، إبراهيم وإميل مخلوف، أنطوان تابت، رياض حنين، كسروان لبكي، نسيب زيادة، جواد بولس، عصام كرم، فؤاد مطر، خليل الجميّل، حليم دمّوس، لحد خاطر، وديع البستاني، كلود ضومط سرحال، أمين ألبرت الريحاني، موريس صقر، جوزيف نعمة، جبّور عبدالنور، سامي الصيداوي، جبران حايك، حنا غالب، رياض المعلوف، دعد طويل قنواتي، نجيب الريس، فؤاد حبيش، رشاد دارغوث، جورج قرم، جهاد الخازن، أنيس صايغ، كلود داغر، غسان شربل، مانويل يونس، قدري قلعجي، فاضل سعيد عقل، ملحم كرم، سليم نصار، عارف قيّاسة، مارلين كنعان، جورج عبدالله غانم، بهيج عثمان، سابا زريق، إلياس الديري، يونس الأب، سلمى الخضراء الجيوسي، الياس ربابي، صادق جلال العظم، فؤاد حداد، إدمون رزق، جورج نقاش، أديب نصّور، إبراهيم سليم النجار، خليل فرحات، عيسى ميخائيل سابا، إميلي فارس إبراهيم، يوسف الخال، كمال الصليبي، عبدالله لحود، أسد رستم، فؤاد الترك، محمد علي شمس الدين، هيام الملاّط، عبده وازن، بدر شاكر السياب، إدوار البستاني، سلام الراسي، محمد البعلبكي، حسان الزين، جورج سمعان، جوزف صايغ، فرج الله الحايك، مصباح الصمد، بلند الحيدري، محمود شريح، محمد مصطفى العريضي، شوقي أبي شقرا، تركي الدخيل، حسين مروّة، هنري زغيب، كمال اليازجي، يوسف الحوراني، قيصر عفيف، كمال يوسف الحاج، بطرس البستاني، عصام محفوظ، ميشال جحا، سهيل إدريس، سعيد سربيه، إميلي نصرالله، جان دايه، يقظان التقي، محمد النقاش، نديم شحادة، جوزف باسيلا، عيسى مخلوف، إبراهيم عبدالعال، نجيب صدقة، شكري قرداحي، إميل مبارك، عجاج المهتار، منح الصلح، عدلي الحاج، إميل أبو سمرا، جاد حاتم، إبراهيم يوسف يزبك، نقولا زيادة، جبرا إبراهيم جبرا، كرم البستاني، سليمان بختي، جورج ناصيف، عائدة ماريني، نزيه خاطر، سليم باسيلا، نسيب نجيم، بول شاول، عفيف الطيبي، ريمون عطا الله، رفيق المعلوف، عقل العويط، جمانة حداد. يبقى أن آخر مَن عرفتُ – عدا السهو والغلط... – هم: سليمان الفرزلي، ومن قبله: رؤوف القبيسي وأحمد أصفهاني اللذان اقترحا عليّ هذا الحديث. لائحتي، هذه، البيضاء، عفوية الترتيب، أو اللاترتيب في الأصح. أمام تنوّع فئاتها وتعدد طبقاتها، لم أفاضل ولا جادلت، بل انقدت لما تقع تبعاته على همّة الذاكرة، عندي، وسخاء القلم، لا على استسلام الإرادة واسترخاء الثمانين.

> كثيرون كتبوا عنك. مَن منهم صوَّرك كما أنت أو كما تحب أن تكون؟

- كل واحد من أولئك الكرام التقط لي صورة في لحظة من عدسة فضله، ثم أطَّرني في موضع اختياره. فكان لي من ذلك كلِّه كتاب «أقوال وآراء في مؤلفات خليل رامز سركيس»، (دار الجديد، بيروت 2007). فتلقيت مجموعة هذا الكتاب بالشكر والقدر والعرفان، على حسب ما تقدم لي قوله في مدخل المجموعة.

> في رحلتك الطويلة، وضعت سبعة عشر مؤلفاً ومارست كتابة غلب عليها الجهد والتعب. أي كتبك أحب إليك؟

- تعبي تعبُ الراحة. فإن تعذّرت عليّ الكتابة، تعبتُ. العمل الذي أريدُ لا يتعبني، ولكن العمل الذي لا أريد يتعبني فأشقى. ولو افترضنا أنني أتعب، أحياَاً، في العمل الذي أريد، فإنما ذلك لكي أُريح النص الذي أكتب. أما أحب مؤلفاتي إليّ، فهو المؤلّف الذي لم أكتبه بعد والذي أمَُنِّي النفس بأن أكتبч يوماً ما.