حوار مع الشاعر الفلسطيني راسم المدهون

حاورته : هيام الفرشيشي – تونس

[email protected]

علينا ننجح في جعل الشعر ينتصر على الخرافة وأن نمكن شجرة الزيتون وعريشة العنب من قهر التكنولوجيا

يواجه الشاعر والإعلامي الفلسطيني راسم المدهون  الذي يعيش في الشتات واقعة بتأصيل ثقافته الفلسطينية داخل نسيج الواقع الثقافي العربي ، وهو يتلمس في أعماله نقطة الضوء البعيدة التي بقيت مشعة في أعماقه . راسم المدهون الذي صدرت له أربع دواوين هي : "عصافير من الورد" في 1983 ، "دفتر البحر"1986 ، "مالم تقله الذاكرة"1989 ، "حيث الظهيرة في برجها" 2002 . هو ناقد أدبي وكاتب سياسي بصحف "الحياة" و"النهار" و"المستقبل" . وتبقى فلسطين من خلال كتاباته خزانة الإبداع والمكان الأول والأثير في حياته كشاعر . وعلى الرغم من أن التنقل بين المدن والعواصم العربية قد منحه فرصة الإطلال على المشهد العربي من زوايا مختلفة . يبقى حنين الشاعر إلى ذلك الباعث الذي يقدح المخيلة والذي ينبلج من نقطة الكينونة الأولى في أرضه الأم . إلى القدس التي يراها " خطوات الطفولة البشرية  وهي تتدرب على النطق والغناء والرسم ونحت الوجود والأفكار وابتداع الأدوات وحصاد القمح وتخزين الزبيب والنبيذ والتين اليابس " .

 نحن الذين عشنا في الخيام والمنافي ولكننا قدمنا للجمال محمود درويش وادوارد سعيد وأفلام سينمائية بديعة وجبارة في حساسيتها

- 1 - القدس عاصمة ثقافية كيف تعاملت مع هذا الحدث الذي يكتسي دلالة رمزية ؟

القدس عاصمة الكوكب الأرضي وعاصمة الله والتاريخ والثقافة والعرب والعجم . هي ليست مدينة وإن كانت ، وليست عاصمة وإن ستكون . القدس خطوات البشرية في طفولتها ، وهي تتدرب على النطق والغناء والرسم ونحت الوجود والأفكار وابتداع الأدوات وحصاد القمح وتخزين الزبيب والنبيذ والتين اليابس . مدينة كهذه يصبح من النافل أن نحشر قامتها الشاسعة في أيام قليلة ولو عاما كاملا . اليوم ثمة حرب كونية كبرى من حول القدس : يأتون بأوراقهم المزورة ونأتي بجلدنا الذي أنبتته على عظامنا صخور القدس ، وعلينا في هذه المعركة أن ننجح في جعل الشعر ينتصر على الخرافة وأن نمكن شجرة الزيتون وعريشة العنب من قهر التكنولوجيا العمياء في عالم تحكمه الاحتكارات الكبرى والفلسفات المهوسة بإشعال الحرب والتمتع برؤية البشر يحترقون في أتونها . أعتقد أن هذا العام بالذات هو مناسبة لإطلاق الثقافة الفلسطينية في فضاءات العالم كما لم نفعل من قبل ، نحن الذين عشنا في الخيام والمنافي ولكننا قدمنا للجمال محمود درويش وادوارد سعيد وأفلام سينمائية بديعة وجبارة في حساسيتها وجمالها ، بل واحدا منها هو " الجنة الآن " لهاني أبو أسعد نال جائزة الغولدن غلوب في هوليود ولامس الأوسكار أو كاد بينما لم تتمكن من ذلك بلدان ودول ينز من جيوب حكامها المال . كل هذا الجمال مدعو اليوم لأن يكون حاضرا في مرافعتنا عن عروبة القدس أمام كل مدينة وقرية في هذا العالم الشاسع . بالنسبة لبرنامج الاحتفالية بالذات أرى أنه يحمل الكثير من الوعود وإن كانت لا تلبي الطموحات كلها مع ذلك هي معركة الثقافة في مواجهة الطغيان .

- 2 - عشت في فلسطين قبل انتقالك الى القاهرة فعمان فبيروت فسوريا ، ماذا بقي في ذاكرتك من فلسطين ؟

بالتأكيد بقيت فلسطين . هي بالنسبة لي ليست أمكنة بذاتها وحسب ، إنها روح حياة لا أستطيع التفكير أو التصرف في معزل عنها وعن حضورها البهي . مع ذلك فصور الإنسان الفلسطيني تستدرج صور ثقافة باتت مع مرور السنوات تؤسس لنفسها كيانا يصعب غض الفكر عنه . من هنا أجد نفسي باستمرار في حالة توحد مع تلك التي صارت بعيدة في الجغرافيا دون أن تكون بعيدة في الروح . أشبه هنا بطل رواية الراحل جبرا ابراهيم جبرا " السفينة " والذي دار فوصل عواصم ومدن كثيرة على ساحل المتوسط ، ولكنه ظل مشدودا بكليته نحو نقطة ضوء بعيدة تنبع من القدس . فلسطين هي بمعنى آخر كل القضايا العربية الشائكة التي يعيشها المواطنون العرب ، فباسمها يجري قمعهم وحرمانهم حقوقهم الأساسية في الخبز والحرية . وأنا أقول عن فلسطين دائما أنها الإسم السري لقضايا العرب وهمومهم في الحداثة والديمقراطية وحقوق الإنسان .

- 3 - وصورة المكان الفلسطيني ماذا بقي منها ؟

صورة المكان الفلسطيني تتبدل اليوم بسبب إجراءات التهويد مرة ، وبسبب تطور الحياة ومتطلبات العيش لأهلها مرات أخرى . مع ذلك أعتقد أنها تظل حاضرة وفي البال رغم السنوات الطويلة خصوصا وأنها تأتي من الخزانة الأهم في الذاكرة أي خزانة الطفولة والتي أعتبرها الباعث الخفي للإبداع دائما ، الباعث الذي يحض مخيلتنا ويوجهها ويمدها بأسباب الحياة .

الإبداع حالة تغتني بالغربة والشتات

- 4 -  حملت معك طفولتك كهاجس خفي للإبداع ، وتنقلت بين عدة مدن عربية وغربية ، كيف تلملم كشاعر شتات الحالة الشعرية المتشظية  بين الغربة المادية والغربة الروحية والحنين للطفولة في القصيدة ؟

الإبداع حالة تغتني بالغربة والشتات . تنقلي بين مدن وعواصم كثيرة أغناني ، ومنحني زادا من المعارف والذكريات وفي الوقت نفسه منحني فرصة الإطلال على المشهد العربي من زوايا متعددة وفيها خصوصيات مختلفة وغنية بالثقافات و المعارف كما العادات والتقاليد . اليوم أرى رحلتي وتنقلاتي فأرى شاهدا حيا على حيوية المنفى الذي أحبه رغم قسوته ورغم أنه يظل اضطراريا يبعدني عن المكان الأول الأثير في روحي . هناك أيضا الرحلات إلى الخارج وأعني بعض المدن الأوروبية والتي منحتني امكانية الرؤية بصورة مختلفة ، وفتحت أمام ناظري نافذة على معارف جديدة وزوايا نظر جديدة . هي رحلة تتنامى يوما بعد يوم ، ولكنها رحلة حميمة كما هي الحياة حميمة أتذكرها فأهتف : أشهد أنني عشت .

- 5 - قلت إن التنقل بين المدن أغناك ومنحك زادا من المعارف والذكريات فإذا اعتبرنا أن المدن التي تنقلت بينها هي صور قد تتلاصق في قطار الزمن الذي يربطه الزمن النفسي للشاعر ، كيف تجمع الأمكنة هواجس الاغتراب وعوالم للسحر والاكتشاف ؟

ثمة ما يدفعني إلى القول أن أماكنا محددة كان لها أثرها البالغ على رحلتي مع الشعر منها بالتأكيد دمشق وتونس وبيروت . في هذه المدن العربية تعرفت على مناخات ثقافية واكتسبت ذكريات صارت جزءا من حياتي . أضيف لها بالطبع جزيرة قبرص التي أحببتها كثيرا وأقمت فيها ست سنوات منحتني الكثير . هناك دائما علاقة وشيجة بيني وبين المكان الذي أعيش فيه وحتى أزوره فهو يتجاوز كونه حيزا جغرافيا إلى الحضور في الذاكرة كعلامة حضارية وإنسانية تحمل نكهتها وثقافتها وصور وجوه بشر عشت معهم وأحببتهم ولا أستطيع نسيانهم بسهولة . المدن التي زرتها هي الألبوم الحقيقي لكتاباتي الحقيقي لكتاباتي الشعرية ، ولا يهم أن أتحدث عنها بصورة مباشرة ، لأنها حاضرة بين السطور دائما .

هناك فلسطين أخرى ليست من أتربة وشوارع ومدن وقرى ، إنها حصيلة الروح

- 6 - فلسطين ترضع أبناءها حليب الشعر وتتركهم للمنافي وللمدن الغريبة ، فقد ازداد عدد الشعراء الفلسطنيين وخاصة الشباب منهم المتنقلين من عاصمة إلى أخرى . ألم يبق للفلسطيني غير الحلم بوطن داخل القصائد ؟

يبقى للفلسطيني فلسطين حتى يرث الله الأرض ومن عليها . ومع ذلك هناك فلسطين أخرى ليست من أتربة وشوارع ومدن وقرى ، إنها حصيلة الروح التي تجعل الأشياء تزدحم بالآمال والطموحات الكبرى ، وأيضا بالرغبات الصغيرة والنزوات العابرة ، ثمة حضور للعام في روح الشاعر الفلسطيني ، لكنه مع ذلك لا يلغي خصوصيات كثيرة توضح الفوارق والقسمات والملامح بين شاعر وشاعر / هل تكاثر الشعراء الفلسطينيون كما قلت ؟ ليكن ، ولتتفتح مليون زهرة في سهول الشعر . أعتقد أن من أهم جماليات التجربة الشعرية الفلسطينية هذا التكاثر بالذات ، فهو استجابة إبداعية متناسلة لتراجيديا الحالة الفلسطينية الواقعية بكل ما يعصف فيها من آلام ومن فواجع تكاد تذهب بكل شيء . مع ذلك علينا أن ننتبه إلى أن الشعراء الفلسطينيين الشباب يفدون إلى ساحة الإبداع الشعري بحساسيات جديدة أجمل ما فيها أنها تطلع من رؤى متقدمة تتجاوز الأسئلة القديمة التي واجهها جيلنا ، والتي دفعنا ثمنا باهظا لها وأهمها محاولات حشر الشعر الفلسطيني في حيز ضيق . شعراء فلسطين الشباب يكتبون مرايا أرواحهم الداخلية وينشدون للحياة بلغاتهم المختلفة وهم رغم ذلك يحملون في ثنايا سطورهم الشعرية تراجيديا شعبهم . 

- 7 - ما رأيك في الشعر الملتزم الذي يتفاعل مع القضايا العربية وعلى رأسها قضية فلسطين ؟

حين أسمع كلمة شعر ملتزم يتبادر إلى ذهني على الفور موضوع وظائف الشعر . ليكتب كل شاعر ما شاءت له قريحته أن يكتب ، السؤال الذي يعنيني هو قدرة ملامسة روح قارئ ما ولو في الطرف القصي من العالم . المشكلة أن مفهوم الالتزام جرى استخدامه بطرائق ايديولوجية جعلته يعني الغوص في أوهام من نوع تكليف الشعر بوظائف ليست له ولا تنسجم معه وأشهرها أن يكون سلاحا في المعارك السياسية والاجتماعية . كل ذلك ذهب مع الريح ولم يبق منه إلا القليل بل النادر . أرى الشعر مخلوقا يدافع عن أحزانه ويحاول أن يرد بالجمال على فوضى العالم وعدم توازنه ، وسواء كتب هذا النوع الملتزم عرب أم من الفلسطينيين فالحال سواء .