حوار مع الروائي التونسي عبد القادر بن الحاج نصر

حوار مع الروائي التونسي

عبد القادر بن الحاج نصر

أنا أعيد رسم أحداث ومعالم تتحرك في الأرض مسجلة في التاريخ وفي ذاكرة الناس

حاورته : هيام الفرشيشي – تونس

[email protected]

بدأ عبد القادر بن الحاج نصر مسيرته الأدبية بكتابة الرواية الوطنية من خلال روايته "الزيتون لا يموت " ، وكتب رواية "صاحبة الجلالة " التي تعنى بالواقع الصحفي ، وكتب الرواية التاريخية وخاصة " جنان بنت الري" وكتب الروايات الاجتماعية مثل " الإثم" ، "زقاق يأوي رجالا ونساء"  ، و"امرأة يغتالها الذئب" . كما كتب المسلسلات التلفزية مثل "الحمامة والصقيع" و"دروب المواجهة" ، و"الريحانة" و"الحصاد" . وكتب للمسرح "كلاب على السطوح" و"محاكمة الشيخ السفطي" ، و"ولدالحفيانة" . كتب البحوث الأدبية مثل "بعض مظاهر الرواية التونسية " و" ملاحظات الزمن الرديء" . وعرف كقصاص أيضا من خلال مجموعاته القصصية ـ صلعاء يا حبيبتي - البرد - أولاد الحفيانة - زبد المياه المتسخة - عجائب زمن - عجمية .

وحين نشر الكاتب عبد القادربن الحاج نصر مؤخرا روايته الجديدة "حي باب سويقة" فقد أوحى العنوان بأن الرواية تتناول ظاهرة المكان كمعطى فني يتجاوز الواقع الخارجي إلى جمالية المكان ليكتسي المكان وظيفة ايهامية وينفذ بجزئياته إلى عالم الرواية التخييلي ، عبرخلق فضاء تتحرك فيه الشخصيات ، وتكون جزءا من ذلك المكان . وبناء علاقة المكان بالأحداث والشخصيات ويرصد من خلالها الكاتب الأهداف التي يريد تحقيقها .  ولكن الكاتب عبد القادر بن الحاج نصر كانت له وجهة نظر مختلفة إذ لم ينسج ملامح المكان في لوحات لغوية تخييلية  بل ينسج كعادته في رواياته الأخيرة وجهة نظره الثابتة في فساد الأمكنة وسلبية الشخصيات . وعكسها على الفضاء الواقعي المرجعي ليربط بين هدم مكونات المكان الهندسية بأبعاده وأشكاله بهدم القيم والجذور الثقافية والحضارية للمكان في جو يوحي بالقتامة واندثار مقومات الجمال والأصالة ، وهي رؤية توخاها الكاتب في جل رواياته الاخيرة وخاصة في "قنديل باب المدينة" ، "مقهى الفن" ، "ساحة الطرميل" ، "مذكرات مليحة" ، و"ساحة باب سويقة" . حيث يغيب التفاعل بين الشخصيات وغالبا ما يفرز غياب التفاعل شخصيات سلبية غير قادرة على التغيير الايجابي ، وتغليب الجانب السودوي على الاستعاضة بالأمل . لتندرج هذه الروايات في خانة الواقعية البورجوازية التي يمثل فيها المكان فضاء لفساد الأمكنة والأحداث والشخصيات .

حول هذه الروايات وانطلاقا من روايته الأخيرة " حي باب سويقة " تركزت أسئلتي ، لكن هذا لا يعني أن تطعن هذه الأسئلة في رؤية الكاتب فهو حر في كتاباته ، ولكن تكرر بعض الجوانب الفنية ما دفعني إلى إجراء هذا الحوار .

لم تعد الكتابات الحديثة تحفل بالمكان كفضاء واقعي ، فالرواية مستقلة عن الواقع وهي عمل فني مستقل عن الواقع الخارجي ، حيث الرواية تبني عالمها لا الواقع هو الذي يبني عالم الرواية ؟ لم لم تنحرف كتاباتك عن التوجه الواقعي ؟

وما القضية في ذلك ؟ أليس للأمكنة دلالاتها ، ألا يرتبط الناس بالمكان والزمان كي تصل الرواية إلى الناس إذ لم يجدوا فيها أنفسهم زمانا ومكانا ؟ كيف تبلغ الرواية إذا حذفت الزمان والمكان ؟ وكيف يرتبط القارئ بالأحداث وبالشخصيات وبالمواقف ؟ خذي يا سيدتي آخر رواية حائزة على جائزة "فونكور" وهي بعنوان "صخرة الصبر" لصاحبها عتيق رحيمي وهو كاتب افغاني ... ألم تكن كل الأماكن واقعية ؟ أي أنها تعكس واقعا ليس غريبا عن الواقع المعاش لدى الناس : الحرب والتناحر بين الفئات وما تخلفه من دمار اجتماعي وانكسار في النفوس ، وجراحات مفتوحة لا تنتهي ، ومن خلال ذلك إبراز للعادات الموغلة في الغرابة والتي تكمن وراء مأساة العائلات . لنأخذ رواية " الاباما سونق" لجيل لوروا الحائزة على نفس الجائزة سنة 2007 . ألم تكن الأماكن محددة والتواريخ مثبتة على حاشية الصفحات تبدأ من جوان 1918 وتنتهي في مارس 2007 . من يقرأ الروايات الحالية ، أقصد روايات العشرين سنة الأخيرة ، سيجد أنها حافلة بالمكان كقاعدة رئيسية وللزمن فيها نصيب . الرواية من زمان طويل حتى عند أكبر المجددين على الأشكال والمحتويات التقليدية لوحة اجتماعية انسانية تجسم همومنا وتترجم عن معاناتنا وأحلامنا . وتبرز لحظات من حياتنا وصراعاتنا على المستوى النفسي والاجتماعي فنجد فيها بعضا مما نحياه ويشغلنا ويؤثث حياتنا وأفكارنا ، سلبا وإيجابا .

لم يخرج المكان في روايتك الجديدة "حي باب سويقة" عن المكان الواقعي في الواقعية البورجوازية حيث يمثل فضاء لفساد الأحداث والشخصيات السلبية التي تخترق هذا المكان ، لم هذا الالتزام بالواقعية البورجوازية في مجمل رواياتك ؟

أنا لا أعرف أصلا ماهي البورجوازية  الواقعية أو الواقعية البورجوازية . حين يكتب الكاتب عن شيء أو يلتزم بشكل أو موضوع فلا بد أن يكون مدركا لمعناه بعض الإدراك على الأقل وإلا فالكتابة تصبح عبثية . إن ما دفعك إلى إثارة هذه القضية هو وجود بعض الشخصيات ذات النفوذ الإداري ، أو المالي أو المستمد من سلطة خارجة عن القانون تشبه المافيا ، سلطة مالية بحتة لا تلتزم بالأخلاق ولا بالقيم ولا بالمثل العليا ، كما أن الوطن والمقدسات لا تعني شيئا كثيرا لها ، إنها تتحرك وتعمل من أجل الإثراء وجمع الأموال ولا يتأتى ذلك إلا بسحق الآخرين وإذلالهم . هذه هي ملامح داوود المقاول في رواية " حي باب سويقة" وعبد العزيز في رواية " ملفات مليحة" لكن هذين الشخصيتين وشخصيات الرواية لا يمثلون عامة الناس وملامح المجتمع الذي أكتب عنه . هل تعتقدين أن ما أشرت إليه في سؤالك ينطبق على روايات " صاحبة الجلالة" - "الزيتون لا يموت" - " زقاق يأوي رجالا ونساء" ، "الإثم" ، "امراة يغتالها الذئب" . أخيرا أقول لك إنني لم أصادف في حياتي بورجوازيين في الأماكن التي عشت فيها . فالبورجوازيون لهم عادات وثقافة وفكر وأطر اجتماعية واضحة ، ولكن الذين صادفتهم وشاهدتهم هم الأثرياء ، والوصوليون ، والمتنفذون من أجل الإثراء والسيطرة بطرق ملتوية . خلاصة القول لا أعتقد أن مجتمعنا يتواجد فيه بورجوازيون ، ولا مظاهر بورجوازية حقيقية خالصة . علما بأنني لست ضد البورجوازية والأروستقراطية .

في هذه الرواية "حي باب سويقة" تستبدل الجزء وهوالنفق الذي أقيم في باب سويقة على حساب الكل . ولكنك جعلت هذا الكل يبتلع كل الفضاءات فضاعت مقومات المكان الهندسي الثابت ، هل مرد ذلك أن المكان فقد ألفته وهويته بتغيير الجزء ؟

لا افهم إذا كنت تشيرين إلى ما قام به الكاتب عند وصفه للأحداث ، أو ما قام به المهندسون والمقاولون الذين وضعوا النفق وغيروا معالم ساحة باب سويقة . اؤكد لك انني أنطلق من واقع عمراني وهندسي واجتماعي مسجل في التاريخ وفي ذاكرة الناس . أنا أعيد رسم أحداث ومعالم تتحرك في الأرض مسجلة في التاريخ وفي ذاكرة الناس . المواطن العادي عاش لحظة تغيير معالم باب سويقة ، والمتساكنون عانوا أكثر من غيرهم ، والفنانون والمبدعون الذين لهم ارتباطات فكرية وثقافية وفنية تأثروا سلبا . إن الشرخ الذي حدث في المكان كان وقعه في النفوس حادا .. بل إن الشرخ الحقيقي حدث في الوجدان . لو أسقطت دار أحد منا وفرض عليه الانتقال إلى مكان آخرألن يذوب حسرة وألما ؟ ألن يظل جرحه ينزف طوال حياته ؟ إن الارتباطات العاطفية بالمكان لهي اقوى الارتباطات العاطفية التي تؤثر في مجرى حياة الإنسان وتفكيره وسلوكه .. حتى إنه قد يتحول من شخص هادئ إلى شخص عدواني .

إنني لا أنطلق من الافتراض ولا من السؤال الفلسفي ... المكان تغير فعلا .. والجزء الذي تغير ليس قليلا وليس هينا ... إنه ساحة باب سويقة ، وهي الساحة الأكثر إشعاعا في تاريخ تونس ثقافيا وفنيا ونضاليا . إنني لا أتحدث عن الجدوى الاقتصادية لما حدث ... أنا أتحدث عن الأحاسيس الشعبية ... والشرخ أصبح اليوم في الذاكرة ، وسيظل في الذاكرة الجماعية حيا .

ساحة باب سويقة كمكان فقد جزءا من تركيبته الهندسية ، هل هو المكان الذي شرخ عبر النفق واستأصل ثبات الشخصيات ؟

نعم هو كذلك . بفعل ما حدث تغيرت أشياء كثيرة . وتزعزعت نفوس الشخصيات .. هناك لا شك من استفاد وارتاحت نفسه وأعني به من وقف وراء المشروع ... وهذا لا أعتقد أن لديه نفسا أستؤصلت بفعل ما حدث ، وإنما هي مستأصلة أصلا بفعل التركيز على المرابيح المادية . الشخصيات التي تزعزعت نفوسهم هم الآخرون الذين لا حول لهم ولا قوة .. الذين لم يستشاروا في الأمر ، ولم يحسب لهم حساب ، والذين لا يؤخذ رأيهم وإنما تطبق عليهم الأفعال ويتحملون تبعاتها . لقد هدم المكان ، فما طعم الحياة فيه ؟ وأقيمت بناءات عالية على الساحة فما قيمة هذه البناءات ؟ الذين سكنوا تلك البناءات لا علاقة لهم بالجذور ، وبعبق المكان وجماله وقدسيته . الذين ذهبوا أخذوا المكان القديم في قلوبهم ولم يستبدلوه بأي جديد .

نلاحظ أن استبدال الجزء بالكل ، انجر عنه انسلاخ شخصيات الرواية الذين كانوا يعيشون في زقاق لم تطأها التحولات الهندسية انسلاخا تاما عن المكان والانتقال إلى أمكنة أخرى  ، هل الرواية هدم للمكان القديم لبناء فضاء جديد ؟

ليس من حق الروائي ولا من حق الرواية ان تهدم ساحة باب سويقة ، وأن تبني مكانا جديدا ، أصحاب المشاريع والمقاولون والمتنفذون هم القادرون على ذلك . الرواية هي اختزال الصراعات والآلام والمعاناة من زاوية فنية أدبية . الرواية هي تقصي النوايا الكامنة وراء الأهداف والمخططات ... الرواية هي الشمعة المنيرة التي تتنقل في الظلمة الحالكة لتبرز للقارئ ما لا يدركه بالنظر .  وما لا يتحدث عنه المؤرخ ، والقائم بالتحقيق الصحفي .

نلاحظ أن شخصيات هذه الرواية لم تخرج عن شخصيات رواياتك الاجتماعية السابقة ، أليس هناك بصيص أمل يحور هذا التوجه بخلق شخصيات ايجابية قادرة على التغيير الايجابي ؟

الكاتب لا يخلق شخصيات تقود المجتمع إلى الفساد أو التأزم الاجتماعي والسياسي والثقافي ، الشخصيات تعكس واقعا موجودا .. فإذا كان هناك فساد في قطاع معين فليست شخصيات الرواية التي تعمقه وتنميه . الرواية لا تصنع مجتمعا ، ولكنها تعيد بناء مجتمع بطريقة أدبية فنية . الرواية ليس من مهامها وضع حجر الأساس لمجتمع فاضل أو منقلب على المبادئ والمثل ... لو كان بإمكان الرواية صنع المجتمعات لكنت بين الروائيين الذين ساهموا بغزارة في هذا المشروع . في روايات فكتور هيقو وفلوبير ومرسال بروست وهمنجواي ونجيب محفوظ وكامو وسارتر وإحسان عبد القدوس وما كتبه المسعدي والبشير خريف ورشاد الحمزاوي ورضوان الكوني وحسن نصر ..  كل ما فعل هؤلاء أنهم انطلقوا من داخل مجتمعاتهم ، واستندوا في كتاباتهم على ما عاشوه أو رأوه من حالات مختلفة ، وما قرأوا من معاناة على ملامح الناس ، ثم رسموا للقارئ صورة المجتمع التي لم يرها ، أو لم يفهمها . شخصيات الرواية لا تفسد مجتمعا . ولكنها نماذج لشخصيات قد يكون لها شبيه فيمن يهب ويدب في فترة من الزمن بعينها وعمقت أو فاقمت كما تقولين أزمة المجتمع عبر الانسلاخ عن القيم الثابتة وتعويضها بالقيم الاستهلاكية ، هي شخصيات لم يأت بها الكاتب إلى المجتمع وزرعها في خلاياها إنما التقطها من داخل محيطها وأعاد بناءها . هل تتصورين يا سيدتي لو أنني صورت شخصيات افتراضية ذات إنجازات بطولية اقتصادا واجتماعا وأخلاقا وقدمت من خلالها مجتمعا نظيفا متوازنا متكاملا هل سيصح ذلك في الواقع ؟ هل ستشهد الدنيا ثورة على الفساد والتنفذ الخاطئ ؟

بالإضافة إلى هذا وذاك فإنني لا أعطي في الرواية آمالا خادعة ، وإلا فإن دوري ، ودور من سبقوني من الروائيين ومن أتعايش معهم سيكون مشابها لدور العرافات والعرافين الذين يوزعون الأمل على الصبايا والنساء العاقرات والمرضى بالوساوس والأوهام .