حوار مع الدكتور عبد السلام العجيلي

حوار مع الدكتور عبد السلام العجيلي[1]

ماجد رشيد العويد

برغم تجاوزه بقليل عامه الثمانين إلا أنه ما يزال يعمل في عيادته وكأنه طبيب تخرج للتو من كلية الطب. إن العمل لديه شيء مقدس يعلو ولا يعلى عليه، واستطاع بفضل ما أوتي من همة ونشاط، وما أوتي من رغبة في إعطاء الأشياء حقها أن يوفق بين مهنتين اثنتين، تتطلب كل واحدة منهما وقتاً تضيق به ساعات اليوم الواحد. فهو في عيادته طبيب، وخارجها في بلدته الرقة التي ما تزال إلى اليوم تثق به طبيباً برغم شيوع العيادات الطبية في مختلف الاختصاصات في المدينة. وخارج الطب، وفي الحقل الأدبي، في وطنه سوريا وفي الوطن العربي، وفي العالم أديبٌ له حضوره المميز واللافت. كذلك فإنه لا يدع واجباً دون تأديته على أكمل وجه في مدينته الرقة التي أحبته رجلاً متواضعاً أصيلاً من منبت طيب، من دون أن يؤثر أداؤه واجبَه على اهتماماته الأخرى.

وفي زحمة مشاغله، حملت نفسي إليه. وبرغم أعبائه الكثيرة فقد استقبلني كعادته، باسماً وسعيداً بالحركة الأدبية التي تنشط في مدينته الرقة يوماً بعد يوم، داعياً بالنماء والازدهار لها، بل ومباركاً من حيث شاء الآخرون أم أبوا.         

للحديث مع الدكتور عبد السلام العجيلي متعته الخاصة. فهو، وبكل بساطة، يأسرك بعذب حديثه، ويدهشك بمقدرته الفذة على القص، ولا أرى أصدق من وصف الدكتور نضال الصالح أدبَ العجيلي القصصي والروائي (( بأسلوبيته المميزة التي تستعيد للحكاية سلطتها الآسرة في الوعي الجمعي، وتعيد إنتاجها وفق منظومة سردية تمكّن من القول باطمئنان إن هذا الأدب لا يخص سوى العجيلي.))  

في عيادته كان لي معه هذا الحوار.  وهو الثاني بعد حوار لي معه تم نشره في مجلة " الكويت " الكويتية، العام الفائت. وهذان الحواران جزء من مشروع عام يقوم على إنشاء كتاب عن العجيلي بدأت بكتابته، يقوم في بنيته الأولى على إقامة مجموعة من الحوارات يتم خلالها استعراض تجربته الأدبية على مدار ستين سنة متواصلة من الكتابة دون انقطـاع. ولا أريد هنا التعريف به فهو غني عنه، وقد تُرجمت أعماله إلى ما يزيد على اثنتي عشرة لغة.

س1ـ في كلمة لكم عن القومية العربية، في ندوة جاك بيرك في مدينة بيلفور الفرنسية تحت عنوان " فرنسا وأوروبا والعالم العربي " العام 1999 أبديتم تفاؤلاً بشأن القومية العربية، وأنها " تظل لها نواتها القاسية والغنية التي هي الثقافة العربية " وأنه بها لا بد من بعث جديد للطاقات الفعالة فيها. إلى أي مدى يصح هذا الرأي وحالنا مأسوف عليه وهو أشبه ما يكون بجاهليتنا الأولى؟

ج1 ـ تختلف الأمة العربية عن أكثر الأمم الأخرى، إذا لم أقل عن كل الأمم الأخرى، بالرابطة الوثيقة التي تربط حاضرها بماضيها. هذه الرابطة تتمثل وتستمر وتتقوى بثبات اللغة التي يتكلمها العرب، والتي لم تتغير في أسسها ولم تتبدل مفرداتها، وإن تطورت وتعددت دلالات هذه المفردات، منذ خمسة عشر قرناً مضت على الأقل إلى اليوم. واللغة هي وعاء الثقافة، بل إنها تمثل جانباً كبيراً من هذه الثقافة. فعربي اليوم حين يقرأ معلقة طرفة أو حكايات الجاحظ عن البخلاء لا يجد أية صعوبة في الفهم أو في الاندماج في الجو الذي رسمه الشاعر أو الكاتب لأجواء ومعان فهمها وعاشها أناس عرب قبل عشرة قرون أو قبل أربعة عشر قرناً. هذه حال لا تنطبق على الفرنسي أو الألماني، ولا حتى على اليونانيين الذين كانت لأسلافهم في أرض اليونان ثقافة متميزة، ولكنها لا تدخل اليوم في صميم تصوراتهم وتفهمهم. ثقافة الفرنسي والألماني واليوناني المعاصر لا تمت إلى ثقافة أسلافهم قبل خمسة قرون أو ستة بصلة. إنهم يعيشون حاضراً منقطعاً عن ماضيهم. أما العربي فإن اللغة التي هي وعاء الثقافة كما قلت ربطته بالماضي، وهي تعيده إليه كلما قضت الظروف التاريخية بإبعاده عن الماضي لفترة من الزمن تقصر أو تطول. أيام الغلبة العثمانية مثلاً، خيل للغالبين أن بلاد العرب المحتلة من قبلهم فقدت هويتها القومية، وأن الدين الإسلامي الذي يدين به العثمانيون كما يدين به أغلب العرب، قد أتى على جذور القومية عند هؤلاء. ولكن اليقظة العربية التي بدأت أواخر القرن التاسع عشر كذبت ذلك التخيل، وكان انطلاق تكذيبها من انبعاث الثقافة العربية التي حفظتها اللغة العربية في حناياها طيلة عصور الاستبداد والجهل والظلام، وبذلك أعادت العرب إلى ماضيهم وكشفت ارتباطهم الوثيق بهذا الماضي.

لقد تراجع زخم القومية العربية في هذه الأيام وتضاءل اندفاعها حقاً. طغت عليه عوامل خارجية وداخلية محاولة القضاء عليها. ولكني أظل متفائلاً ما دمت مؤمناً بأنها لن تنمحي من الوجود، ما دام الوعاء الذي يحتويها، وهو اللغة العربية، منيعاً قادراً على حفظها إلى أن يحين زمن يقظتها لتتغلب على العوامل الكائدة لها. متى يحدث هذا؟ لست واثقاً من الموعد. ولكني أدعو إلى أن نسعى إلى تقوية درعها الذي يحميها في عهود الضعف، وأن نعمل ما نستطيع ليكون الموعد على أقرب ما يكون.                     

س2 ـ " كل منهم في الحقيقة طامع في أن يصبح بسمارك الوحدة العربية أو متصور أنه كذلك " بحسب تعبيركم في الكلمة ذاتها، ويبدوا أنهم سعوا جاهدين إلى يكونوه فما أفلحوا. برأيكم ألا يعود هذا إلى الأنانية التي تستولي على العربي، وقول أبي فراس شاهـد " معللتي بالوصل والموت دونه إذا مت ظمآنا فلا نزل القطر "؟

ج2 ـ هذه جملة قلتها عن الساسة والمتولين الحكم في البلاد العربية في عصرنا هذا. بعضهم يريد أن يكون له شرف توحيد الأمة العربية لمجده الخاص، ولا يهمه أن يدوس كل القيم في سبيل هذه الإرادة. وبعضهم يريد أن يصل إلى هذا التوحيد عن رغبة مثالية وصادقة، ولكنه يخطئ السبيل إلى غايته بسلوكه مسالك بعيدة عن المثالية، معتقداً أن الغاية تبرر الوسيلة وأن نيته ما دامت طيبة فكل شيء مباح له. هؤلاء وأولئك لم يخلفوا وراءهم سوى الظلم والفساد والقضاء على الحريات. الغاية السليمة لا تنال إلا بالوسيلة السليمة. فلا عجب من أن نرى أنه كلما ازداد صراخ الساسة بالدعوة إلى الوحدة ازدادوا وازدادت معهم الأمة تباعداً وتمزقاً وتراجعاً وضياعاً.     

س 3ـ ما أشبه الأمس باليوم، وما أشبه ((   فارس مدينة القنطرة ))  التي كُتبت بعد النكسة وعنها، بما يجري اليوم على الساحة العربية والإسلامية. هل ترانا بحاجة إلى قصّ يؤرخ للنكسات الجديدة أم نحن بحاجة إلى شيء آخر؟

ج3 ـ تسألني إذا كنا بحاجة إلى قصاصين يسجلون نكساتنا أو إلى شيء آخر. مهمة القصاص أن يسجل ما يرى مبيناً مكامن المواجع علّ ذلك يسوق للأمة من يطبق طباً نافعاً للقضاء على تلك المواجع. وجود القصاصين ليس لإرضاء حاجة، بل هو تقييم لواقع ودلالة إلى النواقص وربما إشارة إلى طرق خلاص يجب أن تسلك.    

س4 ـ سُئلتم، بعد تخليكم عن العمل وزيراً في وزارة الإعلام عن " راديو ترانزيستور" فُقِدَ من الوزارة، ذكرتم هذا في كتابكم " ذكريات أيام السياسة "، وكأن المال العام ستنهار أسسه في حال فقدانه. ألا ترون أن بناءنا الآن ـ كأمة ـ قائم على خطأ عام في التوجه، ولعله يؤكد هذا ما آلت إليه أحوالها؟!!

ج4 ـ لم أرو هذه الواقعة معتبراً إياها كارثة، بل رويتها كطرفة حين يسألني مدير الإذاعة والتلفزيون عن راديو ترانزيستور صغير بعد عامين من تركي الوزارة. أعتقد أن الدافع من وراء المطالبة بتلك الأداة الهزيلة، وأنا لم آخذها بالطبع بل وجدت بعد ذلك في درج مكتب سكرتير الوزير، الدافع كان موجة حقد خضع لها بلدنا بضع سنين، كان فيها التالون يصبون جام نقمتهم على السالفين بكل طريقة. ففي الوقت الذي تلقيت فيه رسالة المطالبة بالترانزيستور روى لي أهل بلدتي أن مدير التربية الذي كان يسكن في حينا نقل إلى مثل وظيفته في بلده فحمل معه أثاث مكتب مديرية التربية في أكثر من شاحنة مستولياً عليه، ولم يقل له أحد ما أحلى الكحل بعينك حينذاك !!      

س5 ـ من يقرأ " ذكريات أيام السياسة " يرى في فترة الانفصال ازدهاراً للديمقراطية يذكرنا بالعهود السابقة عليه، وأضرب مثلاً عليها، محاولة الرئيس ناظم القدسي آنذاك أن يحصل على هاتفكم من عاملة المقسم العام في مؤسسة الهاتف، وهو في حلب يومها، دون جدوى. فهذه لم تفعل قبل الرجوع إليكم. على عكس فترة الوحدة التي امتلأت بصنوف من قمع الحريات، هل نستطيع اعتبار هذا عاملاً من العوامل التي عجلت بسقوط الوحدة؟

ج5 ـ لماذا تخص فترة الوحدة بقمع الحريات؟ ربما كانت تلك الفترة بداية فترات القمع. أما فترة الانفصال فقد كانت مرحلة حاول الحكم فيها أن يعود إلى عقلية المواطنين وأولي الأمر التي سادت منذ الجلاء حتى قيام الوحدة. حاول ولم يفلح. لأن الوصوليين والانتهازيين والضعاف من الساسة أساءوا استخدام الديمقراطية، فأدى ذلك إلى إلغائها. كان طبيعياً منذ عام 1946 حتى عام 1958 أن يجد المواطنون، بما فيهم رئيس الجمهورية ناظم القدسي ووزير الإعلام الذي هو أنا، أن لا تعطي عاملة المقسم رقماً هاتفياً مكتوماً إلى من يطلبه، لأن ذلك مخالف للقانون. ولكن حين أصبح مقبولاً أن تفتح الملفات السرية ليطلع عليها أصغر موظف في الدوائر المختصة، حين أصبح ذلك أمراً مقبولاً وعادياً فإن حكاية رفض عاملة المقسم البسيطة طلب رئيس الجمهورية غير القانوني أصبحت مدعاة للعجب والدهشة.   

س6 ـ إلى أي حدّ يمكننا اعتبار النوادر والطرائف في تراثنا " أخبار الحمقى والمغفلين " على سبيل المثال، جذراً استمدت منه القصة القصيرة جداً وجودها؟

ج6 ـ لا علاقة للنوادر والطرائف التراثية بالقصة القصيرة جداً المعاصرة ولا شبه بين هذه وتلك إلا بقصر المادة المكتوبة. النوادر التراثية حكايات عن أمور واقعية أو يفترض أنها واقعية، والقصة القصيرة جداً متخيلة بأكثرها أو بكاملها. الأولى مروية ببساطة والثانية يفترض أنها مصوغة بصورة فنية. عدا، وحسب ما أقرأه من نقد على القصة القصيرة جداً، عدا عن أن كثيراً من كتاب هذه الأخيرة هم ضعاف في لغتهم، وهذا يعني بعدهم عن التراث وعن الاستمداد منه. القصة القصيرة جداً في أغلب ما يصدر فيها نوع من الصرعة الأدبية المؤقتة التي يعمد إليها من يعجز عن الإبداع الفني الصحيح.

س7 ـ لكم علاقة وطيدة بالتراث العربي الإسلامي، تتبدى بوضوح في أدبكم، إلى أي حد يمكننا الاستفادة من هذا التراث في صناعة أدب حقيقي يُقرأ ويكتب له البقاء.

ج7 ـ التراث أحد الينابيع التي يمكن للكاتب أن يستعين بها أو يستقي منها في إبداعه. القضية ليست في الينبوع بل في الموهبة. المبدع الموهوب يمكنه أن يبني عمله مستنداً على أية قاعدة كانت. هناك كتاب لم يكن ارتباطهم بالتراث قوياً ومع ذلك أنتجوا أعمالاً أدبية ذات قيمة. إذا كان الكاتب تراثياً وموهوباً في الوقت نفسه فإن إنتاجه يزداد قيمة ويتأهل بصورة أشد للبقاء، نظراً للعلاقة المستمرة بين حاضر أمتنا وماضيها كما بينت في أول أجوبتي على أسئلتك.   

س8 ـ حكاية مجانين، القصة، وباختصار هي صورة مصغرة لعالم يتصارع لأجل إفناء ذاته .. لا أكثر، ما رأيكم؟

ج8 ـ لم أرد لقصتي " حكاية مجانين " هذا المغزى عند كتابتها. ربما كان لكل قارئ طريقته في فهم ما تعبر عنه القصة. وأنا قل أن أكتب القصة لتوحي بغاية معينة، فالغاية منها تتبدى، حتى لي أنا، بعد كتابتها. هذه القصة فيما أرى تتحدث عن نسبية الجنون أو الشعور بالجنون عند كل إنسان. قرأت القصة قبل نشرها في أحد المنتديات ذات مرة، وسمعت بعد انتهائي من قراءتها إحدى الفتيات تقول، وكأنها تحدث نفسها: وأنا والله مجنونة كما يبدو.      

س9ـ " تقوم معظـم قصص العجيلي على ثنائية العلم والروح أو الحقيقة والخيال " بحسب تعبير الدكتور حسام الخطيـب. إلى أي مدى يمكننا تطبيق وجهة النظر هذه على الرواية عند العجيلي؟

ج9 ـ في قصصي مثل ما في رواياتي هنالك دوماً قطبان متنافران أو متعارضان، أو متجادلان. وربما أكثر من قطبين. في القصص تنتمي الأقطاب التي تخوض الجدل إلى عوالم الروح والعلم، أو عوالم الحقيقة والخيال. أما في الروايات، التي تعالج في أكثرها قضايا واقعية وراهنة، فالجدل يدور بين الخير والشر أو بين البراءة والفساد. الفرق هو في نوعية الأقطاب المتجادلة وليس في الجدل ذاته. 

س10ـ أنتم أكثر الناس عزوفاً عن الضجيج الإعلامي، ومع ذلك فإن الإعلام يحاصركم. ما هو تفسيركم؟

ج10 ـ " المرأة والشهرة مثل الظل، إن تبعته هرب منك وإن هربت منه تبعك " .. وربما كان في هذه المقولة القديمة بعض التفسير الذي تسألني عنه، وإن لم يكن كل التفسير ! 

س11ـ أعطيتم فيما مضى حديثاً لشركة إنتاج تلفزيوني أردني، مع عدد من الأدباء مثل سهيل إدريس، ثم سربت هذه الأحاديث لتلفزيون إسرائيل. ولعل أقل ما يوصف به سلوك القائمين على أمر هذه الشركة بأنه ينطوي على الخديعة، بتجاهله لحقوق أدباء كبار مثلكم لا يرغبون بأن تبث أحاديثهم من منبر إسرائيلي. ما تعليقكم؟

ج11ـ هذه حكاية قديمة غريب أن أراها تثار بين حين وآخر.

بدأت هذه الحكاية في ربيع عام 1991 ، قبل أن يعقد الأردن صلحه مع إسرائيل وقبل أن يبدأ الكلام عن التطبيع مع العدو الإسرائيلي. كنت في عمان آنذاك وكنت ألقي محاضرة في مؤسسة عبد الحميد شومان. تقدم إلي بعد انتهاء المحاضرة ممثلان لشركة الشرق الأدنى للإنتاج الفني، التي مركزها العاصمة الأردنية ويملكها سهيل شماس، وأطلعاني على قائمة بمجموعة أسماء لأدباء عرب، من كل قطر عربي أديب واحد، منهم جبرا إبراهيم جبرا وجمال الغيطاني وسهيل إدريس وآخرون، ومن بينهم أنا، وقالا لي إن شركتهما تعتزم أن تجري حواراً مع كل هؤلاء الأدباء. كما قالا إنهما كانا يتهيأان للمجيء إلى الرقة للاتصال بي وتسجيل الحوار معي، فهما يغتنمان فرصة وجودي الآن في عمان لإجرائه هنا. حاولت في أول الأمر الاعتذار عن عدم تمكني من قبول ما عرضاه علي لأني مسافر في الغد إلى البتراء، ولكنهما سدا بإلحاحهما الشديد علي كل أبواب الاعتذار. قبلت عرضهما في النهاية، ولا سيما بعد أن قالا لي أن الذي سيتولى الحوار معي هو الدكتور إحسان عباس. وحين عدت بعد نحو من أسبوع من البتراء سجلت حواري مع الدكتور إحسان عباس في فندق إنتركوننتال عمان، كما سجل حوارات مماثلة، قبلي وبعدي، الأدباء الآخرون الذين ذكرت بعض أسمائهم فيما سبق.

حدث هذا كما قلت في عام 1991 . من ناحيتي لم أشاهد هذا الحوار معروضاً في تلفزيون الأردن في ذلك العام، وفي تلفزيونات أخرى في تلك الأيام، كما أخبرت من الذين شاهدوه. ولكني، بعد بضع سنوات تلت، قرأت في الصحف العربية المختلفة، صحف سورية ومصر وبلدان أخرى، أن تسجيل حواراتنا، أنا والأدباء الآخرين، تلك التي أجرتها لنا شركة الشرق الأدنى، أصبحت تبث من التلفزيون الإسرائيلي، وذلك بعد أن تطبعت العلاقات الرسمية بين حكومة الأردن وإسرائيل. هاجمت الصحف التي روت هذا الشركة التي لا بد أنها باعت تسجيلاتنا لتلفزيون العدو، فادعى سهيل الشماس أنه ليس هو الذي باعها بل شركة وسيطة غير شركته، وأنه أنذر تلك الوسيطة قانونياً وأقام عليها الدعوى في المحاكم. نحن، وأقصد الأدباء الذين بثت حواراتهم من التلفزيون الإسرائيلي، قد تألمنا ولا شك لهذا. ولكن ما الذي نستطيع قوله عن تطاول من احتل أرضنا وطرد أهلها وأذل أجيالنا، عن تطاوله على تسجيلاتنا التلفزيونية وأقوالنا المبثوثة في الهواء؟!

هذا الذي رويته تحدثت عنه الصحف منذ أربعة أعوام على ما أذكر. وقد تكرر الحديث عنه من جديد في العام قبل الفائت حين أعاد تلفزيون إسرائيل بث بعض تلك الحوارات من جديد. حواري، على ما أخبرني الذين دأبوا على مشاهدة التلفزيون قد بث ثلاث مرات في العام 1999 وقد استطعت أن أرى بعض هذا الحوار بيني وبين الدكتور إحسان عباس حين هتف لي أحد الأخوان بأن التلفزيون الإسرائيلي يقدم للمشاهدين صورتي وصوتي!!

كل هذا لا حيلة لنا فيه. ولكن ثمة أناس بلغوا من السخف أنهم يأخذون علينا، أنا والأدباء الذين بث التلفزيون الإسرائيلي حواراتهم، أن صورنا ظهرت في ذلك التلفزيون. قلت لأحدهم إني أعرف أن بعض أعمالي قد ترجمت في إسرائيل إلى العبرية منذ منتصف الخمسينات، فما الذي أملكه أنا وتملكه أنت للحيلولة دون شراء كتبي من المكتبات ودون ترجمة ما فيها؟ وقلت له أيضاً: إذا اشترت إسرائيل تسجيلات حواراتنا من شركة عربية وبثتها من تلفزيونها فهي قد اشترت قبل ذلك، ولا زالت تشتري، من عرب آخرين أكبر حولاً وطولاً ما هو أثمن بكثير من أقوالنا وأحكامنا وأفكارنا.. ألست معي في هذا؟ إذن لا حول ولا قوة إلا بالله يا صاحبي!!

            

[1] نشر في ملحق الثورة الثقافي ـ العدد 287 ـ 2001