كان هدفي أولاً نشر كتبي

كان هدفي أولاً نشر كتبي

فاضل السباعي

لو أنك تسألني: لماذا أنت ناشر؟ ذلك أني بدأت حياتي كاتباً ولم أزل، ولكني أعترف بأني منذ أمسكت بالقلم كاتباً وأنا على مقاعد الدراسة، كنت أزور المطابع، وقد أحببت العمال في وقفتهم أمام "الدزكة" يجمعون الحروف، ومع جمعها كنت أحس الأفكار تزدهر في نفسي وتروق الآمال!

في خمسينات القرن الماضي، كان الكتّاب العرب يطمحون إلى أن ينشروا مؤلفاتهم في عاصمتي النشر العربيتين: القاهرة وبيروت. وتطلعت، أنا المقيم في سوريا، إلى عاصمة النشر الأٌقرب، بيروت دون أن أغض الطرف عن القاهرة. فنشرت من أعمالي، هنا وهناك، ما تجاوز العشرين، فلما أن صرنا في سبعينات القرن العشرين، ورجونا أن تغدو كل عاصمة عربية عاصمة للنشر أيضاً،، تطلعت إلى أن تكون لي زهرة في رياض النشر السورية.

وهكذا تقدمت بمخطوطة كتاب إلى وزارة الثقافة بدمشق، وسرعان ما أعادوها إليّ، متمنين لي حظاً أوفر في المرات القادمة! وتقدمت أيضاً بمخطوطة أخرى إلى اتحاد الكتّاب العرب بدمشق، الذي بدأ يرعى الأدب ناشراً بالإضافة إلى رعايته الأدباء منتسبين إليه، فلبثت المخطوطة عندهم عاماً وبعض العام، قبل أن يعتذروا لي من عدم النشر، وضاعت المخطوطة في أدراجهم، ولكنني لم أرد لقصصي أن تذهب أدراج الرياح!

فكان أن بعثت، بما رفضته الوزارة إلى "دار المعارف بمصر" فنشر في سلسلة "اقرأ" أنه كتابي "رحلة حنان" وحملت نسخة جديدة من الكتاب الآخر إلى بيروت، وسرعان ما نشرته دار "الأهلية للنشر والتوزيع" (في طبعة تكررت بعد ذلك مرتين)، إنه كتاب "حزن حتى الموت"، الذي ترجم أربع مرات، وهو يترجم الآن كاملاً إلى الفرنسية ليصدر في شهر أيلول القادم في باريس.

رفضت وزارة الثقافة واتحاد الكتّاب كلاهما نشر هذين الكتابين، آية ذلك أنه كان في الأولى نابغاً في كتابة الرواية، وكان في الثاني نابغاً آخر في كتابة القصة، وبدا لي كل منهما "مالكاً سعيداً" في مؤسسته، ورافضاً أن يزاحمه منافس يرى فيه خصماً أو.. لدوداً!! فالنزاهة مغيبة!!

بدأت حديثي عن النشر بهذه المقدمة لأن تحيز هاتين المؤسستين الثقافيتين الكبيرتين هو الذي حملني - وليس أي دافع آخر - على أن أنهض بنفسي بمهمة النشر. فاستحصلت، بصعوبة ما، على ترخيص بإحداث دار للنشر بدمشق، من أجل أن أنشر الجديد من كتبي وأعيد نشر ما كان قد صدر، بعيداً عن مزاجية المزاجيين واستبداد المستبدين!

فلما أخذت في تحقيق مشروعي مقدماً كتبي في حلة قشيبة، بسلسلة حملت عنوان "الأعمال المتكاملة" (عَنَيتُ أنها ما تزال تتكامل في حياة صاحبها!) سألني أصدقائي ممن يحرصون على أناقة الكتاب حرصهم على مستوى مضمونه، أن أنشر لهم ما تبدعه قرائحهم، فاتسع عملي، يعاونني ابني الوحيد "فراس" وابنتي الفنانة التشكيلية "خلود" فتجاوز ما نشرناه حتى اليوم ثلاثين عنواناً، وأصبح لنا جناح في معرض القاهرة الدولي للكتاب، وسيكون لنا في الصيف القادم، جناح في معرض الإسكندرية الدولي الأول للكتاب.

أقول، مهنة النشر التي أمارسها، هي الرديف الجميل للكتابة التي مضى عليّ فيها خمسون عاماً، أتسلى بهما في شيخوختي البيضاء!

هل من صعوبات في النشر؟

عندما بدأت العمل ناشراً، في عام 1990، أخذت أقدم لصناع الكتاب ملاحظاتي، هم، بحكم العادة ينجزون أعمالهم بعفوية تنجم عنها أخطاء -أريد أن أتلافاها- في أثناء التنضيد، وعند التحضير الطباعي والطباعة والتجليد، كان بعضهم يعبر عن ضيقه بملاحظاتي، ولكن بعضهم الآخر يستجيب، ويوم يخرج الكتاب إلى النور، من بين أيدي هؤلاء جميعاً، زاهيا أنيقاً، يعودون إلى أنفسهم معجبين بما أنتجته أياديهم.

في خارج البلاد سألني بعض المثقفين العرب: أفي لبنان تطبع كتبك؟ وفي "مهرجان النهر الصناعي العظيم" في بنغازي، في أيلول (سبتمبر) 1991، سألوني: أفي مالطا طبعتَها أم في إيطاليا.

بعد ذلك اليوم، صرت أخصص صفحة في آخر الكتاب لـ "صناعة الكتاب بدمشق" أدرج فيها أسماء المؤسسات التي ساهمت في الإنجاز!

ولكن ما يضايق هو الرقابة!

كانت الحكومة قد تنازلت، في عام 1971، عن حق رقابة المصنفات الأدبية إلى اتحاد الكتّاب العرب المولود حديثاً تعزيزاً له وتأييداً لدوره في مجال الإبداع الأدبي، ثم تبين لنا، بعد حين، أن خضوع المخطوطة عند تقويمها لمزاجية الأدباء (الذين تنتخبهم إدارة الاتحاد من بين أعضائها، من الصفوة وأهل السطوة)، هو أشد وطأة علينا من أقلام الرقباء من موظفي وزارة الإعلام، الذين يحكمون بموازين ثابتة. وعلى مر الزمن افتنت رئاسة الاتحاد في "تقنين" الرقابة، بأن وضعت لها إجراءات وقيوداً، وهي في ذلك توزع "القراءات" على المنتخبين الموزعين في أرجاء الوطن، في المدن والبلدات والقرى البعيدة، ترسل إليهم المخطوطات فتلبث هناك وقتاً، تعود بعده مقترنة بالموافقة، أو بالملاحظات، أو بالرفض، فإن هم وافقوا، ختم الاتحاد لك مخطوطتك ورقة ورقة حتى ترضى المطبعة بمباشرة العمل، ثم يكون عليك أن تعود إليها بنسخة من الكتاب مطبوعاً ومرفقاً بالمخطوطة المختمة أوراقها، ليجري التدقيق والمقارنة..

ويا لها من ثقة بين المبدع وبين ما يبدعه اتحاد الكتّاب العرب من فنون رقابة تمسك برقاب الكتاب!