حوار مع الدكتور عبد السلام العجيلي

حوار مع الدكتور عبد السلام العجيلي[1]

أجراه: ماجد رشيد العويد

في عيادته يلقاك طبيباً كريماً، وفي بيته يلقاك محباً صادقاً، تشغف به نبيلاً ما إن تجلس إليه، فهو بتواضعه قامة شامخة، رقيق الحاشية، عذب الكلام، يرسله سخياً في أناة وتبصر، وفي غير منة أو عجلة، يعيش على كتف فرات عذب عرشت على جنبيه الحضارات. إنه الدكتور عبد السلام العجيلي الأديب الإنسان. وإذا ما رأيت إليه قاصاً وروائياً، تجده ولا ريب ينهل من روح تراثه، ما يقيم به أود حاضر أدبي أعياه اللغب، وليعيد الحياة إلى روح تحتضر أقام روائعه، ومنها على سبيل الذكر رائعتيه " قناديل إشبيلية " و " الحب والنفس ".

هل يقبل الحاضر الشقي أن يشفى من شقائه، ويصب نقياً في مستقبل يكون أكثر إشراقاً وأكثر جمالاً؟ لعل الإجابة تكون " أجل"، ولأجلها كان لي هذا الحوار مع العجيلي الإنسان والطبيب والأديب.

س1 ـ تؤكدون فيما يجرى معكم من لقاءات على أن علاقتكم بالأدب علاقة هاو. وبالمقابل لكم الاسم الذي ترجم إلى ما يزيد على اثنتي عشرة لغة. كيف تفهمون الهواية ولكم أربعون كتاباً؟

ج1 ـ أفهم الهواية على أنها نشاط ثانوي في حياة الإنسان، جانب المتعة فيه أكثر من جانب الفائدة، يأتي بعد النشاط الرئيسي الذي ينفق فيه الإنسان أكثر وقته والذي يستمد منه قوام معيشته ويوليه أكثر اهتمامه. نشاطي الرئيسي في حياتي ليس للأدب. يتقدم عليه عملي كطبيب الذي يستهلك كل ساعات نهاري وبعضاً من ساعات الليل والذي أعتمد عليه كمورد رزق أساسي لي. واهتمامي بعملي الطبي يفوق بكثير اهتمامي بالأدب، كما أن تقديري الشخصي للطب كفن يعتمد على علوم حقيقية يفوق تقديري للأدب. ليس الطب وحده الذي يتقدم على الأدب في مقاربتي إياه. هناك واجبات اجتماعية أجد أن تأديتها تأخذ الأولوية على الانصراف إلى الإنتاج الأدبي في حياتي. وهناك الأسفار التي إذا أتيحت لي مناسباتها فإني أعطيها الأولوية أيضاً في الانصراف إليها. ومثلها أيضاً ما تضطرني الظروف إليه من العمل في مجال السياسة أحياناً، فأبتعد في زمن هذا العمل عن الأدب ابتعاداً شبه تام.

كل هذا الذي ذكرته يبين لك أن تأكيدي على أن علاقتي بالأدب هي علاقة هواية يرتكز على واقع محقق. ما تشير إليه من اسمي كأديب، أو أن إنتاجي كأديب، قد ترجم إلى لغات متعددة، لا ينفي صفة الهواية عني. ذلك لأني لست أنا الذي سعى إلى جعل اسمي وإنتاجي معروفين في الأوساط الأدبية، العربية منها والأجنبية، لأكون مسؤولاً عن حشر نفسي في عداد محترفي الأدب. بل إني طالما كتبت بأسماء مستعارة، وطالما تهربت من الانضمام إلى التجمعات الأدبية، وطالما أنكرت على نفسي الصفة الأدبية، بغرض الاحتفاظ بصفتي كهاو. ولكن الآخرين هم الذين تكلفوا التعريف بي وسعوا إلى ترجمة أعمالي، وهم الذين قدموا الصفة الأدبية على كل صفاتي الأخرى بدون استشارتي، بل إني أقول لك إنهم فعلوا ذلك بدون رضاي.

أما غزارة إنتاجي الأدبي، وهي الموحية لمن لا يعرف طباعي وصفاتي الشخصية بأني كاتب محترف، أما هذه الغزارة فإنها تعود إلى سهولة الكتابة في الأدب عندي. لدي، على الدوام كثير مما يستحق أن يقال وما أريد القول فيه، وأداة الإبداع الفني، من خيال وأفكار وقدرة على التعبير، متوفرة عندي. فلا يلزمني إلا القليل من الوقت لإنجاز ما يحتاج كثيرون سواي إلى وقت طويل لإنجازه. بل إن اهتماماتي الرئيسية الأخرى التي قلت إن لها الأولوية على الأدب تزودني، بما أكتسبه في الوقت الطويل الذي أنفقه في ممارستها، بمادة للأدب الذي أنتجه في ما أبقته لي تلك الممارسة من وقت قليل.

إذن، وعلى الرغم من كل ما يظن بي من احتراف للأدب، أظل على تأكيدي بأني كنت ولا أزال فيه مجرد هاو، هواية سامية ولا شك أقدر قيمتها وأسعى إلى أن أحسن الإبداع فيها. غير أن الهواية تبقى عندي نشاطاً ثانوياً، أنصرف إليه حين أفرغ من نشاطاتي الأخرى وبعد أن أنجز ما يترتب علي من واجبات في تلك النشاطات الأخرى.

س2 ـ شخصية آلسيدو أو السيد بوقلادة في رائعتكم " قناديل إشبيلية " تعطينا صورة شديدة الوضوح لعربي أضاع حاضره، وعبث في بحثه عن ماضيه. فهل تراه يفلح في التقاط مستقبله، وقد صدئ مفتاحه من شدة تعلقه بثوب " هياسنتا " ؟

ج2 ـ حين كتبت قصة " قناديل إشبيلية "، منذ ما يقارب خمسين عاماً، لم أخطط لتصوير شخص عربي معاصر وللحديث عن واقعه في الحاضر وعن تطلعاته المستقبلية. لعلي أشترك معك الآن في رؤية بطل هذه القصة، السيد بوقلادة، إنساناً عربياً يحن إلى ماضيه، أو يفاخر بذلك الماضي، ولكنه يقعد عن العمل لاستعادة مقومات ما يفاخر به وينزلق إلى أن يصبح تابعاً لمن طردوه من داره وسلبوه خيراتها. إنه يكتفي من أمجاد الماضي بالتحدث عنها أحاديث جذابة. وحتى هذه الأحاديث لا تلبث أن تنقص من قدره في عين المراقب له حين يكتشف هذا المراقب كيف تحول سليل الأمجاد الميامين إلى حامل شفوف راقصة. قد لا نكون مخطئين في التفكير بالمصير الذي آل إليه السيد بوقلادة حين نتطلع إلى مواقف كثير من سادات العرب في هذا العصر وإلى بعض أشكال تبعيتهم للدول التي الراقصة " هياسنتا " من رعاياها. الصحيح أني حين كتبت القصة لم أفكر، كما سبق وقلت، بالتخطيط للتعبير عن هذه القضية. لعل القصد فيها كان كامناً في لا وعيي. أما الآن فإني أجد المقارنة بين هذين الحدين واردة كل الورود.

هل يفلح العربي المعاصر في التقاط مستقبله كما تسألني أنت؟ إني أعتقد بأنه يمتلك المؤهلات التي تمكنه من أن يفعل .. على شرط أن يتغلب هذا العربي على شهواته اليومية والرخيصة، وعن مطامعه الشخصية والأنانية، وأن يتحلى بالشجاعة التي أوصلت أسلافه إلى ما أوصلتهم إليه. بتحقيق هذا الشرط سنراه يفلت من أصابعه ثوب " هياسنتا " ويطرح شفوفها أرضاً ويحتل المكانة التي تليق به في الحياة وفي العالم. لا أنكر أنه شرط صعب التحقق ولكنه، رغم ذلك، قابل للتحقق.

س3 ـ وتكاد الأندلس أن تكون فردوساً مفقوداً بالنسبة للعرب، وفلسطين أصبحت كذلك، فهل قدر العربي البحث عن فردوس مفقود؟

ج3 ـ ليس هذا قدراً محتماً، وإنما هو نتيجة لمقدمات يخلقها العرب لأنفسهم ويتيحون للآخرين فرصة إمعان زجهم فيها. لا تظن أن قوة الآخر هي ما تغريه بالعدوان عليك، بل هو ضعفك أنت. وهو ضعف غير مبرر، فأنت تملك كل الإمكانيات التي تؤهلك لأن تكون قوياً. إلا أنك تهمل هذه الإمكانيات، أو تتنازل عنها، أو تخاف استخدامها. ما الذي أضعف العرب إلى هذه الدرجة وأطمع فيهم القريب والبعيد؟ إنه ضياع القيم الأخلاقية وضعف الإيمان بهذه القيم وإيثار المصلحة الشخصية والمنفعة العاجلة، عند الحاكم والمحكوم في مجتمعاتنا وفي دولنا، في هذا القرن المنقضي من الزمن. وهذا ما أدى بنا إلى التناحر فيما بيننا وإلى التفكك مكان التوحد الذي يصنع القوة.

فراديسنا المفقودة كثيرة في الماضي، نعد منها الأندلس وفلسطين والأهواز والإسكندرون والجولان اليوم. وأخشى أن نعد منها في المستقبل جنوب السودان وشمال العراق وجزراً في الخليج العربي وقرب باب المندب... إلا إذا انتبه العرب إلى أنفسهم وعادوا إلى ميزاتهم التي أعلتهم في القديم، فنفضوا عنها صدأ الفساد والكذب والنفاق والجبن والتخاذل، وتسلحوا بها للحفاظ على ما بين أيديهم في الحاضر كمقدمة لاستعادة ما استلب منهم قبل اليوم.

س4 ـ " أيامي في جزيرة شاور " القصة النبوءة. فشاور المتخيلة، بسكانها الخمسة آلاف وتعدادها البالغ عشرين ألفاً من الدخلاء، بحزبيها التقدمي والمحافظ، شاور هذه تدب اليوم روحها. فـ " دحمان " بتقدميته قدم وما يزال أكثر من شاور. فما تعليقكم؟

ج4 ـ تعليقي يتلخص في كلمة كتب بها إلي الناقد المصري المأسوف عليه أحمد محمد عطية، من بلد ألجأته الظروف إلى العمل فيه، وصفات هذا البلد قريبة من الصفات التي رسمتها أنا لجزيرة شاور المتخيلة. كان المرحوم أحمد محمد عطية قد انتقد هذه القصة بشدة قائلاً إني في مهاجمتي لدحمان والزمرة المسيطرة على الجزيرة معه أهاجم التقدمية. الصحيح أن القصة لم تكن تهاجم التقدمية ذاتها بل كانت تحمل على المتاجرين بالتقدمية، أولئك الذين يدعونها بأفواههم ويخالفونها أو يحاربونها بأفعالهم، ويسوقون بذلك الشعب إلى المذلة والوطن إلى الضياع. كل هذا لم ينتبه إليه أحمد محمد عطية، أو لم يدركه، إلا حين عمل في البلد الذي قلت إنه يشبه جزيرة شاور في صفاته. من ذلك البلد جاءتني منه عندئذ بطاقة يقول لي فيها بالحرف الواحد: " كل ما كتبته أنت عن جزيرة شاور يطبق هنا على التمام! ".

كتبت قصة " أيامي في جزيرة شاور " في عام 1969 ، وأرسل إلي أحمد محمد عطية كلمته هذه بعد ذلك التاريخ بنحو من خمسة عشر عاماً. وكلي أسف وتألم من أن ما هاجمته في تلك القصة وما رآه بعينه أحمد محمد عطية لا يزال مطبقاً في أكثر من شاور واحدة من جزر الوطن العربي ومن مدنه ومن دوله.

س5 ـ تلتقون مع القاص الكبير المرحوم يوسف إدريس في أنكم أبرزتم أهمية الحكاية، رغم افتراقكم عنه في الحوار، وفي اللغة. فلديكم الحوار بالفصحى، واللغة أميل إلى الكلاسية. ولدى يوسف إدريس الحوار بالعامية، واللغة أكثر معاصرة. وتلتقون في قدرتكما على التشويق والإمتاع. ما تقييمكم لأدب يوسف إدريس؟

ج5 ـ أعجبت بقصص يوسف إدريس منذ قراءاتي الأولى لها. وعبرت عن هذا الإعجاب في كثير من المرات التي سئلت فيها، في الحوارات الصحفية المجراة معي، عن من هم أبرز كتاب القصة المعاصرين. وبالمقابل فقد قرأت أكثر من مرة كلمات قالها المرحوم إدريس في تقدير المنزلة التي تحتلها قصصي. ولعل هذا التقدير هو الذي ساقه إلى أن يبدأني بالحديث هاتفياً إلى الرقة في المرتين اللتين زار فيهما دمشق. في المرة الأولى حادثني من مكتب المرحوم الدكتور محمود سعدة، وزير الصحة السورية آنذاك، وقال إنه راغب في رؤيتي. اعتذرت بأني لا أستطيع المجيء إليه في الوقت الحاضر، فقال إنه مستعد أن يأتي لزيارتي الآن. ولما قلت له إن ستمائة كيلومتر تفصل بين دمشق التي يكلمني منها والرقة التي أنا فيها في تلك اللحظة، ضحك واعتذر باضطراره إلى العودة إلى القاهرة في اليوم التالي. بعد ذلك بسنوات دعينا معاً إلى واحد من مهرجانات الجنادرية في الرياض، عاصمة المملكة العربية السعودية، فأضاف لقاؤنا في ذلك المهرجان إلى إعجابنا المتبادل أدبياً إعجاباً شخصياً وثّق الأول وقواه. وأذكر بهذه المناسبة أن أحد المصورين التقط لنا صورة أوقفت أنا فيها بين يوسف إدريس وعبد الوهاب البياتي، رحمهما الله جميعاً. ولما كانت العلاقات السياسية على قدر من السوء في تلك الأيام بين سورية وشقيقتيها مصر والعراق، فقد قلت آنذاك لصاحبي المأسوف عليهما، وأنا أضحك: هذه مؤامرة منكما عليّ... إنكما تريدان أن تخلقا لي المتاعب والمضايقات حين أعود إلى وطني بعد اختتام المهرجان، وحين يكتشف أولو الأمر فيه أني، أنا السوري، قبلت بأن أتصور بين مصري وعراقي!

لقد بعد بي العهد اليوم بقراءاتي لأدب الدكتور إدريس التي أثارت إعجابي في وقتها، لذلك لا أستطيع أن أفصّل في تقييم هذا الأدب الآن. أكتفي من التقييم بترديد إعجابي بصورة إجمالية، بعد أن أصبحت قراءاتي المتأخرة تحول بيني وبين الرجوع إلى ما كنت قرأته من إنتاج هذا الأديب الكبير الراحل في القديم.

س6 ـ يكاد يخلو الأدب العربي مما يمكن تسميته بأدب السيرة الذاتية. وإن وجدت بعض التجارب فهي هزيلة بالقياس إلى السيرة الغربية. ما هي برأيكم الأسباب؟ وهل من عمل لديكم في الأدراج سجلتم فيه سيرتكم وهي غنية؟

ج6 ـ تأخر المثقفون العرب، بين أدباء ومفكرين وسياسيين، في كتابة سيرتهم الذاتية عن أمثالهم في الغرب لدواع عديدة، ولكنهم في العقود الأخيرة من هذا القرن بدءوا باللحاق بهؤلاء. لا تنس أننا لم نكتب القصة القصيرة والرواية إلا متأخرين عن الغرب كذلك. وأذكر أن جائزة الملك فيصل في العربية السعودية خصصت في إحدى السنين للسيرة الذاتية، مما يدل على أنها أصبحت صنفاً أدبياً مميزاً ومعترفاً به. دواعي التأخر في كتابتها، كما قلت، عديدة. منها بلا شك أن المجتمعات العربية، بتقاليدها المتشددة، لا تقبل البوح بكل عناصر السيرة الذاتية الصادقة، ولا سيما في التجارب ذات الصلة بالعواطف وبالعلاقة بين الرجل والمرأة، وهي تجارب تحتل جانباً مهماً من كل سيرة ذاتية وروايتها تشوق القراء وتلقي أضواء كاشفة على حياة كل إنسان. أما رواية التجارب السياسية فإن الصدق فيها والإفصاح عنها جديران بإثارة المشاكل لراويها ولناشرها، مما يشكل مانعاً لصدورها في كتاب أو لتوزيع هذا الكتاب. وأعرف بعضاً من كتب السيرة الذاتية تعذر نشرها أو احتفظ بها في الأدراج لهذا المانع أو لذاك.

أما عن شخصي فإن أحد موانعي من كتابة سيرتي الذاتية هو أني لا أملك عقلية توثيقية. فأنا لا أسجل يوميات لي ولا أحتفظ بتاريخ لما أمر به أو يمر بي من أحداث. أكتفي بذكريات وقائع حياتي، والذاكرة خوانة. إضافة إلى أني قليل الميل إلى التحدث عن ذاتي بصورة مباشرة، وهذا ما يجعلني أفرغ أحداث حياتي بصورة قصصية فأنسب كثيراً مما مر بي إلى أبطال قصصي ورواياتي. ومع ذلك فقد تحدثت كثيراً عن نفسي بصورة مباشرة استجابة لطلب الآخرين مني. أذكر مما كتبته في هذا المجال مقالين طويلين في مجلة العربي أحدهما في باب " كاتب ومدينة " والثاني في باب " مرفأ الذاكرة "، إلى جانب مقالين قصيرين في المجلة نفسها أحدهما عن طفولتي والثاني عن حادث مرّ بي أثناء دراستي الثانوية. فإذا أضفت إلى هذه المقالات محاضرة طويلة ألقيتها بعنوان " محطات في حياتي " أمكنني أن أؤلف بها كتاباً في سيرتي الذاتية يحمل أجزاء متفرقة منها وليس كلها كاملاً.

على أني أطالب من كثيرين بكتابة سيرتي الذاتية من الألف إلى الياء ... أو إلى ما قبل الياء بقليل! لا أظنني قادراً على أن أفعل هذا في يوم من الأيام. استجبت مؤخراً إلى بعض الإلحاح علي فكتبت، لا مذكراتي كما طلب مني، بل ذكرياتي عن فترة من فترات عملي في الميدان السياسي، فتألف من الذكريات كتاب في نحو مائتين وخمسين صفحة. الكتاب جاهز وسأعهد به إلى الناشر قريباً. وضعت له عنواناً " ذكريات أيام السياسة " ، وأرجو أن يصدر في نهاية هذا العام إنشاء الله.

س7 ـ لكم في مهرجان الجنادرية السعودي حضور ملحوظ. إلى أي حد هو المهرجان ملتقى ثقافي عربي، وما هي مساهماتكم فيه؟

ج7 ـ تلقيت دعوات لحضور عديد من دورات مهرجان الجنادرية، إلا أن ظروف حياتي وعملي لم تتح لي غير المشاركة في ثلاث دورات، كانت الأخيرة منها مندمجة باحتفالات مئوية تأسيس المملكة. المهرجان فرصة لا مثيل لها للقاء المثقفين المبدعين من البلاد العربية المختلفة والمتباعدة، يصعب تحققها على غير أرض العربية السعودية الرحبة والمضيافة. وعدا توثيق العلاقات الشخصية والتعارف بين هؤلاء المثقفين فإن المشاركة بالجنادرية تتيح لهم التعرف على المملكة في جوانبها الكثيرة وملاحظة ما هي عليه من تقدم مستمر ومتسارع في كل هذه الجوانب. كما تصحح كثيراً من الأفكار الخاطئة التي يروجها الإعلام الغربي، الخاضع للقوى المناهضة لكل ما هو عربي، حين يركز هذا الإعلام على نقاط معينة من جوانب الحياة في المجتمع السعودي معتبراً إياها متخلفة أو مشينة، وحين يتجاهل كل وجوه الخير والرقي في هذا المجتمع. أضف إلى ذلك أن نشاط الجانب الثقافي من المهرجان، المتمثل بمحاضرات وندوات تعالج في كل دورة مواضيع على غاية من الأهمية ويساهم فيها المفكرون والأدباء من كل الأقطار العربية، هذا النشاط يجعل من المهرجان ملتقى مميزاً لبحث القضايا العربية والإسلامية وتدبر أمورها وتلمس الحلول لمشاكلها.

أما عن مساهمتي في الدورات التي حضرتها فهي، على ما أراها، مساهمة متواضعة. تمثلت هذه المساهمة بالمشاركة في بعض ندواتها وبالأحاديث الصحفية التي نشرت لي، وباللقاءات التي أجريت لي في الصحف والإذاعتين المسموعة والمرئية. كانت لي، في المواضيع المطروحة للنقاش، مداخلاتي التي اعتبرها المستمعون في كثير من الأحيان مهمة. أما اللقاءات الإعلامية فهي من التعدد والتنوع بحيث كانت تستغرق من وقتي في كل دورة أحضرها من دورات المهرجان.

س8 ـ القارئ لأدبكم يخيل إليه أنكم إنما تكتبون عن أنفسكم. فهل يعود هذا إلى استخدام ضمير المتكلم؟ أم لأنكم استطعتم تمثل الشخصيات التي رسمتموها؟

ج8 ـ أعتقد أن الاحتمال الثاني هو الصحيح. فليس كل ما تبادر إلى ذهن القارئ من قصصي أني البطل فيه مروياً بضمير المتكلم. يحدث أن أسمي بطلاً باسم معين وأروي أحداث قصته بضمير الغائب، ويظل كثير من قرائي يسألونني عن صحة وقوع تلك الأحداث لي أنا شخصياً. ألقيت علي الأسئلة في هذا المجال مرات كثيرة في الندوات وكتب عنه عدد من النقاد، على الرغم من وضوح التباين بين صفات البطل وبين صفاتي أنا الكاتب، وضوحه للسائل في الندوة وللناقد الذي يعرفني معرفة شخصية. هذا الأمر يسبب لي أحياناً بعض المضايقات، ولكنه يرضيني عن نفسي في أحيان أخرى حين يدل على قدرتي في إقناع القارئ بأن ما أتخيله حدث حقاً، وبأنه حدث لي أنا بالذات.

س9 ـ ألا ترون أن الفرق شاسع بين قصصكم التي بلغت في معظمها حد الروعة والإدهاش، وبين ما كتبتم في أدب الرحلات، وألم يكن بالإمكان تحويل مشاهداتكم إلى قصص باللغة ذاتها التي كتبتم بها أدبكم القصصي؟

ج9 ـ ما كتبته في أدب الرحلات ليس قصصاً. إنه وقائع حقيقية لم يدخل الأدب إلا في أسلوب صياغتها. ليس فيها من الخيال إلا الضئيل، أحياناً وليس دوماً. ثم إني لا أقصد من كتابتها غاية أو أعرض فكرة، كما هو أمري في كتابة القصص. أدب الرحلات نوع مستقل  ومتميز بذاته من أنواع الكتابة، ولا أريد لقارئي أن يقرأ كتبي في الأسفار على أنها قصص، وإنما حكايات لوقائع ووصف لمشاهد.

ومع ذلك فإني، من ناحية أخرى، لم أقصر في تحويل مشاهداتي في أسفاري وانطباعاتي عنها إلى قصص فنية. بل إن أهم قصصي، على ما يراه القراء والنقاد، مستقاة أو مبنية على ما رأيته في أسفاري. أعد لك منها قناديل إشبيلية، سالي، الحب والنفس، موت الحبيبة، وغيرها كثيرات. بالطبع لا أملك، ولست أريد، أن أحول كل واقعة كتبت عنها في كتب رحلاتي إلى قصة. فلكل مقام مقال ولكل حادث حديث ولون من ألوان التعبير الأدبي.

س10 ـ " أرض السياد " روايتكم الأخيرة، اقتربت في روحها من رواية " المغمورون " ربما يؤخذ عليها خلوها من عنصري الشد والإدهاش اللذين اعتدناهما في معظم ما كتبتم، رغم أنها كتبت بأسلوب الرسائل، وهو أسلوب ترتاحون إليه، وبلغتم فيه غاية الفن في قصة " الحب والنفس " على سبيل المثال. ما قولكم؟

ج10 ـ الإدهاش، بصورة خاصة، هو عنصر تختص به قصصي القصيرة. أما رواياتي فإن هذا العنصر قليل البروز فيها لأني أتوخى بكتابتها وصف واقع المجتمعات التي أكتب عنها، بغاية دراسة نفسيات الشخصيات في هذه الروايات. تلتقي روايتي " أرض السياد " برواية " المغمورون ". في معالجتهما لواقع منطقتنا في وادي الفرات. والواقع بصورة عامة قد يكون مستغرباً، ولكنه قل أن يكون مدهشاً.

وربما كانت " أرض السياد " أقل إدهاشاً من رفيقتها " المغمورون ". ولكني أعتقد أني عوضت عن ذلك بتعرضي فيها إلى الكشف عن خصائص مدينة كبيرة من قطرنا مجهولة عند القراء العرب، أعني مدينة حلب. هذا ما أكده لي قراء للرواية غير سوريين. وإذا وجد قارئ ما أن روايتي هذه أدنى منزلة في أحد جوانبها من رواية أخرى فإني لن أحاول دفع التهمة عني فيما يجده، بل أقول إن هذا قصارى جهدي وكل ما في وسعي.

س11 ـ جورج طرابيشي في دراسة له " العجيلي بين الرؤية والرؤيا " ضمها كتابه " الأدب من الداخل " يميل إلى القول بأن أدبكم يصدر عن الرؤيا بمعناها الغيبي ويقول " ولكننا لن نستطيع مع ذلك أن ننكر أن العجيلي قد خلق أجواء ساحرة، متفردة، أخاذة، وأننا قد أخـذنا بها بالرغم من احتجاج العقل فينا ". ويقول عنكم أيضاً " ويفوق الشاعر والروائي والقاص ذكاء وعمقاً وفناً ". ما قولكم؟

ج11 ـ لم يبعد جورج طرابيشي عن الحقيقة فيما قاله، وإن كان قوله لا ينطبق على كل ما أنتجته في الأدب. جانب الإعجاب في ما أورده يفوق جانب الانتقاد. إلا أن هناك بعض من اعتبروا ما أعجب به جورج طرابيشي مأخذاً علي، حين راحوا ينسبون إلي تفضيل الأوهام على الحقائق وتفضيل الجهل على العلم. هؤلاء يتجاهلون، أو لا يدركون، بعض مقاصدي من رواية أمور غيبية بلغة التشكيك والارتياب لا بلغة الجزم والحتم. إني أقصد فيما أقصده القول إن علمنا الحاضر، على ما بلغه من تقدم على طول تاريخ الإنسانية، لا يزال قاصراً عن إدراك كل حقائق الكون، سواء في عناصر هذا الكون الدقيقة أو في عناصره العملاقة. لا تزال أمام العلم مجاهيل كثيرة يترتب علينا السعي الحثيث للكشف عنها وإدخالها في دائرة معارفنا. وأنا حين أروي قصة يتغلب فيها تصرف الجاهل أو المشعوذ على تصرف العالم المتمكن لا أقصد تفضيل ذاك على هذا. وإنما أرمي إلى حث العالم على متابعة البحث لمعرفة الأسباب الحقيقية لوقائع لا تنطبق عليها القوانين التي تعلمها في الجامعات وفي الدراسات الأكاديمية، والتي جعله الجهل بها مغلوباً في أعين الناس أمام ذاك الجاهل أو المشعوذ. إني آخذ دوماً في أحاديثي، وفي قصصي، على أنصاف العلماء إيمانهم المطلق بأن العلم العصري قد أدرك كل المعارف عن جسد الإنسان مثلاً، أو عن سيرورة الأحداث في الكون الذي يعيش فيه هذا الإنسان. وهو إيمان باطل تدل على بطلانه الشواهد الكثيرة حولنا في كل يوم. كما إنه إيمان ضار حين يدعو إلى التواكل والتوقف عن متابعة التقصي العلمي، وإلى محاربة كل جديد إذا كان هذا الجديد غير منطبق على القوالب الجامدة.

وكما قلت، فإن الرؤيا والغيبيات ليست كل ما أكتبه أو أكتب عنه. إنها تتظاهر أكثر ما تتظاهر في قصصي القصيرة، وهي تثير الإدهاش الذي أشرت إليه في أسئلتك السابقة. أما رواياتي الطويلة فإن نصيب الغيبيات فيها ضئيل. تظاهر هذا النصيب مثلاً في ما تضمنته رواية " باسمة بين الدموع " عن الرادييستيزي الذي سميته الاستهداء الإشعاعي، وما جاء في رواية " أرض السياد " عن الضرب بالشيش وخوارق الدراويش الذين هم السياد. وأنا على كل حال أشكر لجورج طرابيشي الناقد الجاد والمتعمق، حسن ظنه وجميل تقديره لأعمالي الأدبية في دراساته المتعددة لما كتبته من قصص وروايات.

          

[1] نُشر في مجلة الكويت ـ الشهر السادس 2000