حوار مع الشيخ د. معاذ سعيد حوّى حول "المرأة"

حوار مع الشيخ د. معاذ سعيد حوّى حول "المرأة"

(2)

الشيخ د.معاذ سعيد حوّى

حاورته: لبنى شرف / الأردن

[email protected]

س4: ينظر كثير من الناس إلى أن الحرية والكرامة التي تليق بالمرأة هي تلك الحرية التي أعطاها الغرب للمرأة، وهي التي تحقق مصلحة المرأة، فما هو جوابكم على ذلك؟

   نجد أن بعض الأنظمة البشرية والقوانين الوضعية شرعت للفتاة والمرأة تشريعات، وأعطتها حريات، بحسب رأيهم، فجعلوا من حريتها أن لها الحق أن لا تحتجب عن الرجال، وأن تظهر مفاتنها الطبيعية والإضافية، يسمحون لها أن تخالط الرجال، يسمحون لها أن تثير الرجال، يسمحون لها أن تزني وأن تساحق، في أي سن تريد حتى ولو كانت بنت ثماني سنين، ويمنعونها من الزواج قبل سن الثامنة عشر، يطالبون بأن تعمل في كل مجال، حتى في ما لا تحتمله أجساد النساء ولا يناسب طبيعتها وأنوثتها وعاطفتها، يطالبون بالتسوية بين الرجل والمرأة في كل شيء، يطالبون بالتسوية بينهما في الميراث، يطالبون بالتسوية بينهما في طلب العلم، يطالبون بالتسوية بينها وبين الرجال في الخدمة داخل البيت، وفي حرية سكن كل واحد من الزوجين حيثما أراد، يطالبون بالتسوية بينهما بأن نعتبرهما جنساً واحداً يتعايشان بغير ضوابط ولا قيود ولا محاذير، لأن المرأة كالرجل تماماً على رأيهم، يسمحون للمرأة أن تستأصل رحِمَها الذي تحبل به، وأن تحوِّل نفسها إلى رجل، يسمحون للمرأة أن تطرح الجنين الذي في بطنها حينما تشاء، يسمحون لها أن تترك بيتها لتترك تربية أبنائها إلى غيرها.. كل ذلك بدعوى حرية المرأة.

   حسبما أجبنا في سؤال سابق فإنه ليس من حق إنسان أن يعطي حقوقاً أو يرتِّب واجبات أو يمنع أموراً للرجال أو للنساء، وإنما هذا الحق هو لمن يملك الرجال والنساء، وهو خالقهم، لذلك فلا قيمة لأي نظر ولأي حرية يراها أحد خلاف أمر الله، فليس من المنطق أن نقدم حكم المخلوق على حكم الخالق. ومع ذلك فلننظر هل هذه التشريعات الوضعية تحقق فعلاً حرية المرأة ومصلحة البشرية؟ هل عملوا فعلاً لتحرير المرأة وإكرامها؟ وهل عملوا فعلاً لمصلحة المجتمع حينما خالفوا أمر الله في كل هذه الأمور؟ أم أن تشريعات الله في المرأة هي التشريعات الحكيمة الموافقة لفطرتها وهي المراعية لمصلحتها ومصلحة المجتمع؟ يريدون حريتها أم يريدون إخراجها من عفتها ونقائها، أم يريدون وجودها بين أيديهم في كل مجال، ليستطيعوا التلذذ بها والاعتداء عليها وانتهاك عرضها، يريدون المساواة بينها وبين الرجل أم يريدون جعلها لعبة وسلعة يتناولونها حيثما أرادوا، يريدون حريتها والمساواة لها بغيرها، أم يريدون معاندة الله؛ ولَمَّا يعلموا قيمة شرعه، ولا فطرية تشريعاته، ولا شؤم مخالفة أمره.

   إن الله تعالى أعطى المرأة حقوقها وسوى بينها وبين الرجل في التكليف جملة، مع اختلاف بعض التكاليف ليؤدي كل واحد منها دوره المختلف في المجتمع والحياة، والذي يتناسب مع الخِلقة التي خلق الله عليها كل واحد منهما.

   إن البيت مهما كان صغيراً وأفرادُه قليلين يحتاج إلى خدمات، من إعداد طعام وشراب، وترتيب، وغسيل، وتنظيف وتكنيس، وتربية أبناء، وحضانة، وإرضاع، وغير ذلك، والله تعالى هيأ المرأة لتقوم بهذا الدور تلقائياً فأمرها بأن تقر في البيت﴿ وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى﴾، فأخرجها الغرب من حجابها وبيتها، لتجد متنفساً على رأيهم، ولتحقق أرباحاً اقتصادياً، وتجد حريتها بذلك، فهل حققت ذلك فعلاً؟ لننظر إلى واقعها:

   إن حاجتهم إلى تقرير يوم للمرأة يدلك على أن المرأة عندهم مهضومة مضيَّعة مستغلة، وخروجها من بيتها وعملها؛ جعلها تعمل كالرجل، بدلاً من أن يكون عملها البيتي كافياً، ثم يضطر الزوجان لأَنْ يأتوا بعمّال وخدم للبيت، فأين الجدوى الاقتصادية في ذلك؟ فراتب الرجل والمرأة يُصرَف أكثرُ من نصفه، أو أكثر من راتب المرأة، على الأعمال التي تركتها المرأة في بيتها، فيذهب جزء المال على المطاعم التي تصنع الطعام بسعر أغلى من تكلفته حين صنعه في البيت، ويذهب جزء من المال على محلات الغسيل، ويذهب جزء من المال على ترتيب البيت وتنظيفه، ويذهب جزء من المال على تربية الأبناء وحضانتهم وتعليمهم، ويذهب جزء من المال على الخادمة وعلى مدارس الحضانة، وغير ذلك. فعندما تركت المرأة عملها الفطري الذي خُلِقَتْ له لتشتغل فيما لم تُخلَق له، وجاءت بالرجال أو النساء الآخرين إلى بيتها ليقوموا بأعمالها، فلو قامت بها لكان أربح لها ولزوجها، وأغنى لهما من أن ينفقان في هذه الأمور، وأسلم لبيتها، إذ تتولى أمورها بنفسها، مع الراحة النفسية والسكن النفسي لها وللزوج وللأبناء، فأنت ترى أن عمل المرأة خارج البيت ليس مُجْدٍ اقتصادياً، فهم يكذبون علينا وعلى أنفسهم.

   ومع الخسارة المادية والاقتصادية، هناك خسارة أكبر منها: خسارة الطمأنينة والسكن في البيت والمودة والراحة﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾[الروم:21]، فالزوج بدلاً من أن يأتي إلى بيته فيأوي إلى زوجته فيجد حنانها واستقبالها وقضاءَ وطرِه وشهوته عندها، يجدها متعبة مثله مُعرِضة عنه، فيبحث في خارج البيت عن شهواته، ثم تلحقه لتبحث عن آخرين لشهوتها، فيصير كل واحد منها كالمسعور، خرج من بيته لم يجد فيه سكناً ولا راحة ولا عفة.

   ومع الخسارة المادية والمعنوية في بيوت الزوجية، هناك خسارة أكبر منهما تأتي بسبب السُّفُورِ وترك الحجاب، الذي يؤدي إلى الإثارة الجنسية، والتي تؤدي بدورها إلى الزنا، والذي يؤدي بدوره إلى أولاد الحرام اللقطاء، فالأم ليست مستعدة لأن تتكفل الولد وحدها، لأنها لو تكفلت به يصير لها عملان؛ عمل خارج البيت، وعملها في خدمة الولد وتربيته داخل البيت، والأب لا يعترف بولده من الزنا، وليس مستعداً لأن يتكفله، لأنه غير مطمئن من أنه ولده، ولأنه لا يرغب أن يقيد بقيود، ولأنه لا يرغب بحمل وعبء مالي جديد، فيُلقَى الولد إلى الملاجئ وبيوت اللقيط والأيتام، فما هي النتيجة؟

   اجتماعياً: بدلاً من أن يعيش الولد في كنف والديه بالرفق والحنان الدائم المستمر؛ يعيش مع موظفين يتصنعون له الحنان، وفي أي لحظة يتركه الموظف ويأتي الآخر أو الأخرى، ومهما كان عندهم من حنان فلن يكون كحنان الوالدين الذي يلفه في بيته، وهذا بدوره يوجد فرداً في المجتمع لا علاقة له أسريةً ولا عائليةً ولا عشائريةً، ولا قرابةَ بينه وبين أحد، فيعيش في عذاب وانفصام، وينظر إلى المجتمع نظرة سوداوية شرانية، فيخرج هذا الولد شريراً مجرماً في كثير من الأحيان، وهذه النظرة الشرانية تؤدي بدورها إلى كثرة الجرائم كما سنبين. أما الأزواج، الرجل والمرأة إن تزوجا، فيعيشان بلا أولاد، وإن جاءهما أولاد تركوهما بسبب الحرية التي يدعونها، وبعض الآباء يطرد الأبناء بعد سن معينة حتى لا يتكفل به مالياً، فيكبر الواحد منهم، الأب والأم،  فلا يرى ولداً ولا حفيداً، لا يجد حنان الأبناء وخدمتهم وأنسهم، فلا يعيش حياة اجتماعية بصورتها الأسمى والأقوى في القرابة والرحم، بينما نجد في مجتمعاتنا الإسلامية عشرات الأبناء والأحفاد يقدمون الحنان والخدمة وخفض الجناح والأنس والإيناس وحياة الرحمة والكفالة المادية والمعنوية لآبائهم وأمهاتهم وأجدادهم وجداتهم. فهل ربح الغرب في حريته وفاحشته وتركه للحجاب، أم هو خاسر؟

   أما أخلاقياً فنتيجة وجود أولئك الأفراد من الزنا، الذين يعيشون في الملاجئ ولا يتربون على الأخلاق تربية قويمة، لأنه لا يوجد مُرَبٍّ شديدُ الحرصِ على أخلاقهم وحسنِ سلوكهم، وهو الأب والأم والجد والجدة والعم والعمة والخال والخالة وغيرهم من الأقارب، فمربية اللقطاء التي تأتي لساعات، ثم يأتي غيرها، وقد تترك وظيفتها وتنتقل إلى أخرى بعد شهر وتأتي أخرى، لا تدري ما الذي رُبِّيَ عليه هذا المولود، وما الذي لم يُرَبَّ عليه، وهي لا تحرص إلا على راتبها، أكثر من حرصها على تربية هذا المولود ليكون صالحاً في المجتمع، بخلاف المولود في كنف والديه، يحرصان على حسن أخلاقه ومعاملته وخيره من غير نظر إلى راتب ومال ونفع مادي، لأنه أمر فطري، بينما يخرج الولد من بيوت اللقطاء يشعر بالعدائية نحو المجتمع، ويشعر بالعزلة والحرمان، لأنه لم يجد من الحنان والعطف والتربية ما يكفيه.

   أما اقتصادياً: يظن الرجل والمرأة الغربيان أنهما إذا لم يتزوجا واكتفيا بالزنا وإلقاء الأولاد إلى بيوت اللقطاء، يظنان أنهما قد تخلصا من الإنفاق على المولود، ويظنان أنهما قد وَفَّرا مالياً واقتصادياً مبلغاً من المال، والواقع أنهما قد خسرا الولد، لكنهما بقيا ينفقان عليه بطريقة غير مباشرة، فقد تحول الإنفاق عليه إليهما من خلال الضرائب التي تفرضها الدولة، لتنفقها على هؤلاء اللقطاء، ولا ينفقان عليه فقط ما يحتاج من رعاية، كالتي يحتاجها لو كان في بيتهما، بل يزيد على ذلك ضريبة أخرى، لسبب آخر هو الجريمة التي تهاجم المجتمع من هؤلاء اللقطاء، فجرائمهم وما تحتاج من إنفاق هائل على الأمن والمراقبة وتبعات الجرائم ترهق الدولة، وباعتراف الغرب، فإن نسبة الجرائم التي توجد في مجتمعاتهم هي بنسبة تزيد على 90% من هؤلاء اللقطاء، فهل أدى السفور والزنا إلى خير المجتمع؟ وهل أدت حرية الفرد في الزنا إلى مصلحته فعلاً؟ أم أدت إلى هدم مصلحته ومصلحة مجتمعه معه؟ وإذا علمنا أن مواليد الزنا في بريطانيا وفرنسا-على سبيل المثال-صار أكثر من مواليد الزواج، فقد جاوز 50% في السنوات الأخيرة الماضية، فلك أن تتصور حجم المشكلات التي تتولد من مخالفة أمر الله في الزواج والزنا وترك الحجاب وفتنة النساء والإثارة الجنسية.

   وترك الحجاب والإثارة الجنسية من خلال فتنة الجمال والتجمل يؤدي إلى هدم التعليم، بسبب انشغال فكر الطلاب بل والأساتذة بالمثيرات داخل الصف المختلَط، وباعتراف أحد التقارير الغربية فإن نسبة التحصيل العلمي في المدارس والجامعات المختلَطَة هو 40% فقط من التحصيل في المدارس غير المختلطة، فهل أردوا خيرهم علمياً في هذا السفور؟ وترك الحجاب وإثارة الفتنة والجمال يؤدي إلى هدم الطاقات والانتاج في العمل، فنسبة الانشغال النفسي والشرود الذهني والانشغال الفعلي بالشهوة في المصانع المختلَطة والمعامل والشركات والمؤسسات المختلَطة كبيرة، تؤثر على إنتاج العامل تأثيراً كبيراً،  كما أن جو الفتنة في الشارع والبيت والتلفاز وفي كل مكان يذهب بكثير من طاقة العمال والشباب. ومن الأمثلة الواضحة على ذلك: أن الصين لمست في السنوات الماضية ضعفاً في أداء العمال والمدراء والطلاب وغيرهم، فتتبعت الأمر، فوجدت أن السبب الأساسي لذلك هو المواقع الإباحية في الانترنت، فقررت في العام الماضي حظر هذه المواقع وترتيب عقوبة شديدة على الشركات الالكترونية التي تسمح بمرور هذه المواقع، وقد عاقبت في هذه العام عدداً من الشركات الكبرى على ذلك، فرغم أن الصين شيوعية لا تأبه بالحلال والحرام، لكن ظهر لها كيف أن الإثارة والفتنة الجنسية تؤدي إلى تحطيم الإنتاج والعمل والعلم، فاضطرت إلى هذا التصرف الذي يشهد لدين الله أنه حق، وأن الشهوات والإثارات هي طريق انهيار الحضارات.

   وحرصاً من بعض قادة الغرب على إفساد المجتمعات والأمم، لتبقى متخلفة مشغولة بشهواتها، لا تفكر في عز ولا مجد ولا صناعة ولا تقدم، فإنهم يوجهون لبذل الأموال الطائلة في أسباب الإفساد والشهوات، كالأغاني والموسيقى والرقص والفيديو كليبات والأفلام الموجهة للإفساد باسم الحرية، إذ يُنفَق سنوياً ما يزيد على 500 مليار على ذلك. فلو تحولت هذه الأموال إلى الضعفاء والمساكين والفقراء ألا تغني فقراء العالم؟ ألا تحل مشكلات ما يسمى بالعالم الثالث؟ فأين الصادقون في دعوى إنسانيتهم، أم أن شهواتهم فوق فقر الفقير وحاجته وضعفه؟ أم أنهم يبذلون هذه الأموال لتبقى بلادنا في تخلف وذلّ وانشغال بالشهوات؟ وهم لا يستطيعون أن يضبطوا أنفسهم، فليوقعونا معهم، وليذهبوا بطاقاتنا ويحولوا دون تعلمنا وإنتاجنا وحضارتنا. فهل ننتظر بعد هذا أن تأتي الشواهد من واقع الشرق والغرب لتدلنا على أن تشريعات ديننا هي الصواب فيما شرعت للمرأة من حجاب وقرار في البيت ونحو ذلك؟

س5: يرى بعض دعاة الحرية أن الإسلام أنقص المرأة ولم يعدل بها مع الرجل حينما جعل القوامة للرجل في البيت، وحينما وصفها بأنها ناقصة عقل ودين، فهل هذا صحيح؟

   يثير الناس ويستشكلون مسألتين: مسألة إعطاء القوامة للرجل على المرأة، ومسألة وصف المرأة بنقصان العقل والدين، وقبل أن نبين معنى ذلك وحكمته، ينبغي أن لا نغفل عن مكانة المرأة وموقعها الصحيح عند الله، ضمن إطار قول الله تعالى:﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾[النحل:97]. وضمن إطار قول الرسول-عليه الصلاة والسلام-:"إن النساء شقائق الرجال" رواه الترمذي وأبو داود وأحمد، وهو حديث حسن، فالمرأة تتكامل مع الرجل، ولها أجرها في التزامها بأمر الله كالرجل، كل بحسب ما أُمِر. والمرأة ليست موضع تحقير، ولا موضع تنقيص، ولا موضع عداوة، إذ كيف نعادي المرأة، وكيف ننقصها، وكيف نحقرها وهي أُمُّنا وجدتنا وأختنا وبنتنا وحفيدتنا وعمتنا وخالتنا، فكما أعطى الإسلام للمرأة حرمتها إنسانياً، وأوجب احترامها، وأعطاها حقوقها، وجعل لها مكانتها، وحررها مما فرضه عليها البشر من قيود باطلة، كذلك جعلها الله أمك المكرمة المطاعة التي أوجب التذلل لها﴿ واخفض لهما جناح الذل من الرحمة﴾، وهي زوجتك المحبوبة المكملة لك التي تنفق عليها وتكرمها﴿ وعاشروهن بالمعروف﴾، وهي أختك وبنتك المصانة المكرمة المدللة المخدومة، وهي عمتك وخالتك التي تشتاق إليها وإلى دلالها لك، فأي عداوة بيننا وبين النساء، وأي احتقار يجوز منا للنساء؟

   فأما قوامة الرجال على النساء، فهو أمر قرره الله وقضاه، وهو أمر ترتيبي إداري تنظيمي، ولا بد من تحديد مدير في كل شيء، فحدده الله في البيت سَلَفاً منعاً للخلاف، ولِما جعل من طبائع في الرجل تؤهله لهذه الرتبة أكثر من غيره ﴿ الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ﴾[النساء:34]، فقوله بما فضل الله.. يدل على أن الأمر ليس مرتبطاً بالإنفاق فقط، بل هو قضية استعداد وخِلْقَةٍ في الرجل أَهَّلَه الله بها.

   أما نقص العقل والدين الذي ورد في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري قال: خرج رسول الله-صلى الله عليه وسلم- في أضحى أو فطر إلى المصلى، فمر على النساء، فقال:"يا معشر النساء تصدقن فإني أُرِيْتُكُنَّ [أي أراني الله إياكن] أكثر أهل النار"، فقلن: وبم يا رسول الله؟ قال:"تكثرن اللعن [أي السب بصيغة لعنه الله]، وتكفرن العشير[أي تنكر إحسان الزوج]، ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب لِلُبِّ[أي أكثر إذهاباً لِعَقْلِ] الرجل الحازم من إحداكن"، قلن: وما نقصان ديننا وعقلنا يا رسول الله؟ قال:"أليس شهادة المرأة مثل نصف شهادة الرجل"، قلن: بلى، قال:"فذلك من نقصان عقلها، أليس إذا حاضت لم تصل ولم تصم؟"، قلن: بلى، قال:"فذلك من نقصان دينها".

   إن الذي يخبر بذلك هو النبي-صلى الله عليه وسلم-، وهو إنما يتكلم عن وحي، فلا يجوز الشك في قوله ما دام الحديث صحيحاً، لكن لا بد أن نفهم؛ هل ورد ذلك على سبيل الذم والمؤاخذة، أم على سبيل وصف الواقع وليست المرأة مؤاخذة عليه:

   إن المرأة تستوي مع الرجل في القدرة على استعمال العقل للوصول إلى الهداية، وبعض النساء تكون أكثر عقلاً من كثير من الرجال في هذا، إذ تستعمل عقلها وعلمها وتنتفع منه، فلا تكونُ المؤمنةُ أنقصَ عقلاً من الكافر والغافل والعاصي. ومما يدل على أن نقصان العقل لا يعني نقص العقل التكليفي؛ أن المرأة لم تؤمر بنصف صلاة الرجل ونصف زكاته ونصف صيامه ونصف حجه، بل أمرت كالرجل على السواء، إلا ما اختص بها لأمر خارج عن مسألة العقل التكليفي. ونقص الدين والعقل المذكور في الحديث يتفرع إلى جهتين:

الأولى: نقص الدين والعقل تصرفاً منها، وهذا الذي يتحدث عنه الحديث في شقه الأول، حيث قال عليه الصلاة والسلام:"يا معشر النساء تصدقن فإني أُرِيْتُكُنَّ أكثر أهل النار"، فقلن: وبم يا رسول الله؟ قال:"تكثرن اللعن، وتكفرن العشير، ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب لِلُبِّ الرجل الحازم من إحداكن". فكان نقص الدين هنا لتصرفات منهن وأعمال تصدر عنهن، هي من المعاصي والمنكرات وسوء الأخلاق، كقلة الصدقة وكثرة الشتم واللعن وإنكار إحسان الزوج، فهي تتحمل مسؤوليتها وتعاقب وتحاسب عليها، وهي مذمومة بها لأنها من اختيارها وفعلها. وكان نقص عقلها بسوء استعمالها للعقل، فهي لا تتكلم وفق منطق سليم، بل إذا حدثها الرجل اللبيب العاقل البعيد عن الهوى بالحجة والمنطق والعقل أجابته على خلاف ذلك، حتى ينفد صبره فلا يعرف كيف يتكلم معها، ولا كيف يقنعها، مما يخرجه عن صبره وحِلمه، وهذا أيضاً من اختيارها وفعلها وتتحمل مسؤوليته، وتكون به مذمومة تستحق العقاب. وهذا الأمر إنما هو وصف لحال أكثر النساء من حيث الواقع، فالتي توافق حالتها هذه الحال فهي التي يتحدث عنها بأنها من أهل النار، ومن لم تكن كذلك؛ فهي ليست مذمومة، ولا ناقصة عقل ودين، من هذا الوجه، وكل امرأة تستطيع أن لا تكون ناقصة عقل ودين بهذا الاعتبار، وإنما يرجع الأمر إليهن، والرجل يذم إذا كان كالمرأة في تلك الأمور المذمومة، وإنما أشار الحديث إلى أن النساء في هذا أكثر من الرجال بكثير.

   والثانية: نقص الدين بإرادة من الله، ونقص العقل جِبِلَّة وخِلْقَة: وهذا الذي تحدث عنه الشق الثاني من الحديث: قلن: وما نقصان ديننا وعقلنا يا رسول الله؟ قال:"أليس شهادة المرأة مثل نصف شهادة الرجل"، قلن: بلى، قال:"فذلك من نقصان عقلها، أليس إذا حاضت لم تصل ولم تصم؟"، قلن: بلى، قال:"فذلك من نقصان دينها". وما دام هذان الأمران بإرادةٍ وخلقٍ من الله، فالمرأة ليست مذمومة به، لأنه خارج عن إرادتها وفعلها. وكان نقص الدين هنا نتيجة حُكْم من الله عليها، بأن لا تصلي إذا حاضت ولا تصوم، فما يقع منها من عبادات هو أنقص مما يمكن أن يقع من الرجل، وما دامت هي مجبرةً على ذلك، ممنوعةً حال حيضها ونفاسها أن تصلي وأن تصوم؛ فكيف تلام في شيء لا يجوز لها أن تخالفه، ولو كانت مذمومة به لأذن لها الشرع أن تستدركه بأن تصوم وتصلي في الحيض، ولم يأذن لها الشرع بذلك، بل حرمه عليها. لكن المرأة الصادقة الصالحة الحريصة على صلاحها وزيادة دينها، تستطيع أن تستدرك شيئاً من ذلك، من خلال انشغالها بطاعات أخرى. وكان نقصان العقل هنا متعلقاً ببعض الجوانب التي أراد الله أن يبعد المرأة عنها، لتكون في الوظيفة التي أرادها منها، ومتعلقاً ببعض الجوانب التي أراد الله أن يميز بها المرأة من جانب غير جانب العقل، وهو جانب العاطفة، أيضاً لتؤدي من خلال ذلك وظائف أرادها الله منها. ونقصان عقل المرأة لا يعني أنها لا تعي التكاليف أو لا تستطيع أن تدركها، فالعقل التكليفي الذي تُدرِك به المرأة الخطاب التكليفي الشرعي هي فيه كالرجل، ولا يعقل أن يكلفها الشرع بشيء وهي غير قادرة على تعقُّله، فالمقصود بنقصان العقل غير هذا المعنى. ونقصان عقلها المتعلق بجوانب محدودة كجانب الشهادة؛ راجع إلى طبيعة وظيفة المرأة، فوظائفها التي خلقها الله لها وأمرها بها، وارتباطها بالبيت؛ تجعلها لا تهتم بما ترى من أمور تحتاج إلى شهادة في معاملات الناس وخصوماتهم، فتنسى هذه الأمور ويقل ضبطها لها. والله تعالى كتب على المرأة أن تؤدي وظيفة معينة، فخلقها على حال عقلي وقلبي وجسدي يتناسب مع دورها الحياتي الذي أراده الله منها، ليتكامل دورها مع دور الرجل، إذ لا تصلح البشرية إلا بتوزيع المهام والوظائف.

   وخلاصة الأمر: أن الحديث جاء ليحث المرأة على أن لا تكون ناقصة عقل ودين، فهو يحثها على أن تستعمل عقلها حتى لا تكون ناقصة مذمومة، فلا تجعل النقص الخِلْقي الفِطري سبباً في نقصان استعمال العقل فيما كلفت به، ويحثها على أن تعرف للرجل ميزته لتعطيه القوامة، ولا تنافسه في الإمارة، ولا تعتدي على دوره الذي يختلف عن دورها الحياتي في بعض الأمور، والحديث يحثها على أن لا تكون ناقصة دين، بأن تجتهد في طاعات أخرى غير الصلاة إذا جاءها الحيض. ولا يفهم من نقص عقل المرأة أن المرأة لا تَعقل ولا تُشاور ولا تُقبل مشورتها، بل نجد النبي-صلى الله عليه وسلم-يحفل بمشورة النساء، كما حفل بمشورة أم سلمة يوم الحديبية، حيث قالت: احلق وتحلل، فيتبعونك، فنجح ما أشارت به. ولا ينبغي أن نقول: شاوروهن وخالفوهن، وإنما شاركوهن الرأي وانظروا، فربما كان رأي امرأة عاقلة برأي عشرة رجال.

نكمل في الجزء الثالث والأخير إن شاء الله...