السيدة زينب الغزالي الجبيلي

السيدة زينب الغزالي الجبيلي

محمد المجذوب

قبل أن تكرمنا بزيارتها في المدينة المنورة عام 1933هـ كنت على صلة وثيقة بأخبارها، إذ كانت مع أخواتها وإخوتها من المعذبين في سجون الطواغيت، مطاف أرواح المؤمنين في كل مكان من عالم الإسلام، يتتبعون أنباءهم ويستمعون أنينهم، الذي تموج به أقبية الظالمين، ولا يملكون لهم من عون سوى الضراعات الحارة يرفعونها إلى الله بإنهاء المحنة، التي لم يسبق لها مثيل حتى في العهد الأول للبعثة، يوم تكالب طغاة المشركين على لحوم الأبرياء يمزقونها بالسياط ويستحلونها على رمال مكة الحزينة ورمضائها اللاهبة. فهم ينظرون بأعين قلوبهم إلى هؤلاء الإخوة، على الصورة نفسها التي كان ينظر بها صلاح الدين الأيوبي، وجنوده المجاهدون، إلى صليبيي عكا، وهم يذبحون الآلاف من مسلميها دون أن يجدوا منفذا للوصول إليهم من وراء الأسوار، ولا يملكون لهم سوى الدعاء والبكاء.

وكانت الأخت الفاضلة في جولة دعوية لإلقاء الأحاديث الواعظة، في أوساط المدرسات والطالبات والجمعيات النسوية في هذه المملكة الإسلامية. وانتهزنا تلك المناسبة فدعوناها مع بعض أهلها لإفطار مع الأسرة في أحد بساتين المدينة، وآسفنا أن مخلفات التعذيب في سجن حمزة البسيوني على ساقيها لم تدع لها قدرة على الجلوس الطبيعي، فتناولت الطعام وهي شبه متمددة على جانبها. وكان مشهداً جدد ذكريات الآلام التي توارت إلى حين، عقب الإفراج عنها وعن بقية الشهداء الأحياء الذين تخلفوا عن مواكب البنا وسيد قطب، والصفوة السابقين إلى الملأ الأعلى.

وكانت فرصة أخرى كريمة تلك التي لقينا خلالها هذه الأخت المجاهدة أثناء زيارتنا الأخيرة للقاهرة ـ محرم 1404 ـ وأبت إلا أن تكرمنا بدعوة حضرها العديد من كرام الشباب والشيوخ العاملين في حقل الدعوة، فزادتنا هذه المناسبة علماً بمكانة هذه الفاضلة في نفوس أهل الحق، ومدى تقديرهم لجهودها التي لا تتوقف في سبيل الإسلام، الذي وقفت حياتها كلها على خدمته وترسيخ مبادئه وتعميق التوعية بمعانيه.

والواقع الذي لا يمارى فيه أحد من دعاة هذا الدين في مصر وسواها هو إجماعهم على أن أختهم هذه قد بلغت من الفضل والتسامي المنزلة التي تلحقها بكبار السابقين من علية المجاهدين في سبيل الله ، وقد شاء الله أن يمد في أجلها لنكون أحد شهود المأساة التي فرضها الظلم والزيغ والطغيان على حملة النور، الذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً، وإنما يريدون فقط إرشاد الضالين إلى الطريق القويم لاستعادة السلام والعزة والقوة المميزات لأهل الإسلام....

وكانت مناسبة صالحة لاستطلاع آراء هذه الحكيمة المجربة في أهم القضايا التي تشغل بال مفكري الإسلام. وقدمنا إليها الأسئلة التي أعددناها لهذه المناسبة، وها هي ذي مع أجوبتها المفصلة.

م: من المقدمات التقليدية أن تتكرم الأخت الفاضلة بتعريف نفسها للقارئ اسماً وأسرة ونشأة وبيئة ودراسة.

السيدة: اسمي زينب الغزالي الجبيلي ولدت في الثاني من يناير عام 1917 في " ميت يعيش " في مركز " ميت عمر" بمديرية الدقهلية من أعمال مصر، ومن أسرة يميزها الطابع الإسلامي. فكان والدي من خريجي الأزهر الذين حصلوا على شهادته العالية التي تعادل الدكتوراه، إلا أنه لم يعمل في التدريس بل انصرف إلى التجارة، إذ كان أبوه من كبار المزارعين ومن كبار الأعيان في مديرية الدقهلية... وقد درجت في هذا البيت المحافظ على مواريث الإسلام من فضائل السلوك والأخلاق والتربية، وبعد وفاة والدي تركنا القرية إلى القاهرة ولما أتجاوز الثانية عشرة من العمر.

وعن خصائص هذه الأسرة تقول السيدة: كنا أحد عشر أخاً ثلاثة من الأب وثمانية أشقاء، وقد توفي أكبرنا وتبعه الثلاثة، وكانت الخاصة الأساسية لهذه الأسرة هي الاحترام المتبادل بين أفرادها، حتى ليختار كل منها في النهاية سبيله الأحب، فكان منا المنتسب إلى جماعة الإخوان المسلمين، ومنا الوفديون، ومنا المستقلون، والكل مخلص للجهة التي انتمى إليها سياسياً أو عقدياً.

أما الدراسة فتقول السيدة إنها كانت في خطوطها الرئيسية إسلامية، تلقت أصولها عن شيوخ الأزهر، فكان من أثر ذلك أن أقبلت على علوم الفقه والتفسير ثم الحديث الشريف، وقد شغفت بالفقه وتعلقت به، وأولت العلمين الآخرين الكثير من اهتمامها... على أن الصورة الغالبة على دراستها هي الخاصة التي لا يقيد صاحبها سوى الميل الذاتي، أما الدراسة المنتظمة فقد وقفت بها عند حدود الثالثة عشرة.

وتركز على أثر والدها في توجيهها الأدبي والفكري فتقول: لقد كان يدربني على الخطابة من السادسة، ويعني بدراستي فيذاكر معي مقررات المدرسة فيجدني سريعة الحفظ لها، ولا تقل درجاتي فيها عن الحدود النهائية ..... وكثيراً ما كان يقص علي أخبار الصحابيات بأسلوب مبسط ، يقرب المعاني إلى صغيرة لم تتعد الثامنة... ومن ذلك حديثه عن الصحابية الجليلة أم عمارة المازنية نسيبة بنت كعب إذ يصور لي مواقفها الجهادية العظيمة في أحد واليمامة، ثم يقص علي أخبار هدى هانم شعراوي، ويسألني في النهاية أيهما تختارين أن تكوني يا زينب ؟... ويكرر علي السؤال، ويعرض للمقارنة بين عمل المرأتين في تفصيل ودقة، فيكون جوابي له: بل نسيبة يا والدي.

وتقول السيدة الفاضلة: لقد خلاف بين أبوي في شأني، فالوالدة تريد إعدادي لعمل المنزل فتأخذ بيدي إلى طباخ الأسرة، تأمره أن يعلمني ما وسعه من مهنته، ولكن الوالد لا يلبث أن يستلني من هناك ويمضي بي بعيداً وهو يقول: أنت يا زينب لم تخلقي لهذا. وينبه الطباخ ألا يدخلني المطبخ أبداً، ثم يبدأ في تحفيظي الشعر، ويمرنني على إلقائه... ومن هنا كان والدي رحمه الله أول المؤثرين في حياتي وفي توجيهي إلى النهج الذي اختاره لي الله ، ثم جاءت النقلة إلى القاهرة عقيب وفاة الوالد كما أسلفت...

وقد شاء الله أن تكون هذه النقلة نقطة الانطلاق لحياة جديدة استمرت حتى الآن قرابة نصف القرن... حياة ملأى بالعمل والأحداث، ذات الأثر البعيد الذي عرفت حتى اليوم بعضه، وفي علم الله سبحانه ما سيكون بعده. ففي القاهرة بدأت أنواعاً من النشاط الاجتماعي والسياسي والإسلامي، ثم استقرت مسيرتي في طريق العمل الذي استأثر بولائي كله أخيراً.

ذلك أني وجدت في هذا النهج الرباني عناصر كل إصلاح، وبه نصحح أوضاعنا الاجتماعية، وعن طريقه ننظم وجودنا السياسي حتى نعود خير أمة أخرجت للناس كما كان سلفنا الصالح وهكذا اندمجت روحي في تعاليم الإسلام، فأعطيتها حياتي كلها...

م: لا شك أن لتلك النشأة في كنف ذلك الوالد الصالح ذي النظر البعيد أثرها العميق في مسيرتك الفكرية والتوجيهية، ولكن.... أليس هناك من أثر آخر لبعض الشخصيات الأخرى في هذه المسيرة...؟

السيدة: في القاهرة التحقت أول الأمر بالاتحاد النسائي الذي كان على رأسه السيدة هدى شعراوي، وظللت في عضويته مدة كننت خلالها أتساءل: لم لا تتحول هذه الجمعية إلى مؤسسة إسلامية تنهض بواجبها نحو دعوة الله ؟.. ولم يكن هذا الموضوع ممكناً أثناء ئذ، على الرغم من تقدير السيدة هدى لأفكاري، وحرصها على استمراري في عضوية إدارة الاتحاد وأنا أصغر أعضائه سناً، حتى وصل إلى علمي أن ثمة دروساً دينية رتبها قسم الوعظ في الأزهر الشريف للسيدات، فقصدت إليها مع زميلتين أخريين من الاتحاد النسائي، هما السيدة سيزا نبراوي والسيدة حواء إدريس، وكان لذلك أثره في تفكيرنا. إذ وجدنا المجال فسيحاً للمناقشة والبحث مع أولئك المدرسين، وتوليت أنا إثارة الكثير من هذه المباحث النافعة انتهت بنا أخيراً إلى التفاهم معهم، ومنذئذ انصرفت عن ذلك الاتحاد وفكرت في تأسيس " المركز العام للسيدات المسلمات " وكان صاحب الفضل في هذا الاتجاه هو الشيخ محمد سليمان النجار أحد العاملين في قسم الوعظ والإرشاد بالأزهر، فقد كان لهذا الأستاذ أسلوب مؤثر في سامعيه، وقد أوتي حلماً وعلماً وصبراً، إذ كان يختم كل محاضرة بفترة كافية للنقاش الهادئ، الذي ينتهي بنا إلى القناعة التامة بأن الإسلام هو النظام القائد إلى صلاح الجنس البشري، وهو الملاذ الذي يجب أن يتشبث الناس عامة بتعاليمه أياً كانوا، فكيف إذا كانوا من المؤمنين بأنه دين الحق الذي أنزله الله ، وتكفل بحفظه واستمراره !...

وتستأنف السيدة الفاضلة حديثها فتقول: لقد نزلت لي في تلك الأثناء أزمة صحية نذرت فيها لله أن أمضي في تنفيذ عزيمتي بإنشاء المركز، على أن يكون وسيلتي لنشر الدعوة الإسلامية والإهابة بالمسلمات في كل مكان للعودة إلى المنهج الذي كانت عليه نساء السلف الصالح.

وحقق الله نذري فأسست هذه الجماعة التي أولتني شرف رئاستها منذ قيامها، واتخذنا من الأستاذ الجليل الشيخ محمد سليمان النجار، الذي كان أول أستاذ لي في الدعوة، أول مستشار لها..

يقول أبو غسان: ويخطر لي أن أتساءل هنا عن السر الذي كان يدفع هدى شعراوي للتشبث ببقاء هذه الفاضلة في اتحادها النسائي، وحرصها على الاهتمام بأفكارها والتظاهر بتقديرها ؟.. والذي أراه أنها كانت على إدراك تام لنزعتها الإسلامية وحجم مواهبها العالية، فهي تحرص على استرضائها والاحتفاظ بها خشية انصرافها إلى تحقيق ميولها الإسلامية، التي لا تتفق مع خطتها التغريبية.

م: حتى الآن لا يبدو لك ولا لجماعتك أي علاقة بالإخوان المسلمين فمتى حدثت هذه العلاقة ؟.. وكيف ؟..

السيدة: عندما قمت بتأسيس المركز العام للسيدات المسلمات عام 1356هـ ، 1937م لم يكن لدي أي علم عن الإمام حسن البنا ولا عن جماعة الإخوان، وكنت قد أسست معهداً ملحقاً بالمركز يتولى تربية الفتيات من السادسة عشرة، وإعدادهن لمهمة الوعظ والإرشاد فكن يدرسن في هذا المعهد العربية والحديث والتفسير وطرق الدعوة...

وذات يوم زارني في المركز فضيلة الشيخ عبد اللطيف الشعشاعي، ولأول مرة عرفت عن طريقه أخبار الإخوان المسلمين ومرشدهم حسن البنا، وسرني ما سمعته عن أفكار هذه الجماعة، واتفقت مع فضيلة الزائر على أن يكون أحد المدرسين في المعهد، ومن ثم أصبح همزة الوصل بيننا وبين جماعة الإخوان المسلمين، حتى إذا كان أواخر العام 1938 تلقيت دعوة من فضيلة المرشد العام لإلقاء محاضرة على جمع من الأخوات المسلمات في دار الإخوان بالعتبة الخضراء، فلبيت الدعوة وحضرت إلى هناك ولما أشرفت على نهاية المحاضرة وضعت أمامي ورقة تحمل دعوة من الإمام البنا لمقابلته بعد صلاة المغرب.. وفي الوقت المحدد أقبل أحد الإخوان فتقدمني إلى مكتبه، وكان جالساً على مقعد طويل فرحب بي ودعاني للجلوس على مقربة منه ... وبعد كلمة الترحيب جعل يحدثني عن أهداف جماعته، وعرض لي رغبته في إنشاء جماعة باسم الأخوات المسلمات، وأنه مضى في هذه السبيل خطوات، ويريد أن يجمع بين جماعة السيدات والأخوات المسلمات، وبدل أن تكون ثمة جماعتان أحداهما للسيدات المسلمات والأخرى للأخوات المسلمات، تقوم جماعة واحدة باسم الأخوات المسلمات وبرئاستك.... ومضى يشرح لي فكرته وضرورتها من أجل وحدة المسلمين ولمصلحة الدعوة الواحدة وأشعرني فضيلته أنه ينتظر رأيي بصراحة، فقلت له: أرجو من فضيلة المرشد أن يدع لي مهلة أراجع بها مجلس المركز العام للسيدات المسلمات فقال: لا بأس.... ولكن أحب أن أقف على رأيك الخاص في هذا العرض ؟ فأجبت: لا أستطيع أن أبدي رأياً بهذه السرعة، ولا بد من العودة أولاً إلى مجلس الإدارة. إلا أن لم يكتف بما سمع بل ذهب يبسط لي من جديد ضرورة وحدة العمل الإسلامي، ووحدة العاملين للدعوة رجالاً ونساءً، وعلق أهمية خاصة على وحدة الصف ووحدة الرأي ووحدة الكلمة.. ولكني ظللت على كلمتي الأولى بوجوب العودة إلى المسئولات قبل البت بأي شيء.

وفعلاً عرضت الأمر على مجلس الإدارة وانتهينا من البحث إلى قرار يقضي بأن تظل السيدات المسلمات هيئة مستقلة في عملها وإدارتها وأفكارها، ولا مانع لدى المركز العام للسيدات المسلمات من التعاون مع الإخوان المسلمين في نشر الدعوة، وأن تكون هناك حركة اتصال مستمرة بين الجماعتين لتوحيد الصف والرأي والتأليف بين وجهات النظر، على أن يظل كل من الفريقين على استقلاليته....

ومر على ذلك ما يقارب العشرين من الأيام ثم أرسل يدعوني لمقابلته، حيث أبلغته قرار المجلس.. وكان بيننا هذا الحوار:

ـ أخبريني يا زينب مع أي الجانبين كنت ؟ مع المؤيدين للاندماج أم مع المعارضين له ؟...

ـ كنت مع المعارضين يا فضيلة المرشد....

ـ إذن فأنت غير مقتنعة بالاندماج ؟.

ـ ولقد صارحتك من قبل أن " السيدات المسلمات " هي حبة قلبي وسويداؤه..

ـ ويوم تكون الأخوات المسلمات ستكون كذلك حبة قلبك وسويداءه. ومع ذلك أرجو أن لا ينتهي لقاؤنا بهذا القرار..

ولبث فضيلته يلتقي بي على مدى عشر سنوات حتى عام 48، إذ كانت الحكومة الملكية قد أصدرت قرارها بحل الإخوان المسلمين، واعتقلت الكثير منهم، وصادرت دورهم وأموالهم.. وقد أحدثت بي هذه المواقف أثراً كبيراً، ورحت أذاكر الأمر مع نفسي.. وكانت الأخوات المسلمات قد أصبحت هيئة قائمة، فأخذن يترددن على مركزنا، ويقصصن علينا ما يقع لهن لدى المسئولين، وعندما يذهبن إلى السفارات الإسلامية بشكواهن واحتجاجاتهن على تصرفات السلطة مع الإخوان.. وأحسست بالصدمة كبيرة، وتساءلت: لم يضطهد الإخوان المسلمون .. ولا ذنب لهم سوى الدعوة إلى الله ، والسعي لإصلاح المجتمع ؟! وكان الإمام الشهيد محتجزاً في منزله لا يصرح له بمغادرته إلا إلى جمعية الشبان المسلمين في شارع الملكة نازلي، أو لمقابلة أحد المسئولين، وقد أصبحت السجون تعج بالمعتقلين من أعضاء الجماعة.. وهناك استقر رأيي على أمر فبعثت إلى الإمام الشهيد بوريقة صغيرة أودعتها هذه الكلمات:

فضيلة الإمام المرشد حسن البنا. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. فإن زينب الغزالي الجبيلي هي اليوم أمة مجردة من كل شيء إلا عبوديتها لله سبحانه وتعالى، وليس لأحد أن يتصرف بها سواك.. أنت وحدك الذي يستطيع أن يبيع هذه الأمة بالثمن الذي يرضيه لدعوة الله. بانتظار أوامرك/ زينب الغزالي الجبيلي.

ولم يتأخر جواب الإمام وفيه يقول:

"إنه سيكون بدار الشبان المسلمين في تمام الخامسة. وفهمت من ذلك أنه يريد لقائي هناك. وفي الموعد المضروب كنت أصعد درج جمعية الشبان المسلمين مع الإمام البنا، وانتهينا إلى الدور الثاني وقمت إليه بيعتي مباشرة، ومنذ ذلك اليوم وأنا أحد الجنود المجهولين في صفوف الإخوان المسلمين.."

وقبل الانتقال مع الاستطلاع إلى الخطوة التالية يحسن بي أطرح على نفسي هذه الأسئلة:

1 ـ لم أخرت السيدة بيعتها للمرشد العام كل هذه السنوات إلى ذلك اليوم ؟!.

2 ـ لم حددت السلطة حركة الإمام الشهيد في نطاق هذا المثلث الضيق وحده: منزله ـ جمعية الشبان المسلمين ـ مكتب المسئول الذي يريد مواجهته ؟!.

أما أنا فلا أرى تفسيراً للسؤال الأول إلا عمل الإيمان في نفس هذه البطلة العجيبة. لقد كانت على أتم القناعة بسداد النهج الذي يسلكه الإمام البنا، ولكنها كانت إلى ذلك حريصة على الاحتفاظ بمؤسستها الغالية، التي تقول إنها كانت بالنسبة إليها كالولد الوحيد لأم لا ترى سبيلاً سواه.. بيد أنها لما شاهدت نوازل المحنة تضرب بالإخوان، لغير سبب سوى ما تؤمن بأنه الواجب والحق، كبر عليها أن تسلم من ذلك البلاء، وأبت عليها مروءتها إلا أن تتحمل قسطها من المحنة..

ولها من محنة سبق إليها صاحب رسول الله عثمان بن مظعون حين شاهد الأطهار من إخوانه يفتنون ويقتلون ويعذبون، وهو في نجوة من البلاء بجوار الوليد بن المغيرة، فرد عليه جواره إيثاراً لجوار الله ، وليشارك المستضعفين في آلامهم، حتى يقضي الله بأمره!.

أما تفسير السؤال الثاني فلا يخرج عن تقدير واحد لا ثاني له، وهو اتخاذ ذلك المثلث الضيق فخاً يسهل على عبيد الطواغيت مهمة اغتيال الرجل، الذي زلزل الأرض تحت أقدامهم.. ووصلت دعوته الخالصة لله إلى كل مكان تطل عليه الشمس...

وتستأنف السيدة المجاهدة حديثها عن أيام الشهيد الأخيرة، فتقول:

"لقد استمر اتصالي بالإمام عن طريق بيت أخي، وكانت أول رسالة منه إلي تكليفاً بالتوسط بين الإخوان والنحاس الذي كان خارج الحكم، وعين النحاس المرحوم أمين خليل للقيام بإزالة سوء التفاهم، وكنت أنا حلقة الاتصال.. وذات ليلة من فبراير سنة 1949م جاءني أمين خليل يقول لي: يجب الإسراع بسفر الأستاذ البنا من القاهرة، فالمجرمون يأتمرون ليقتلوه..

ولم أجد يومئذ وسيلة للاتصال بالإمام إذ كان أخي قد اعتقل، فحاولت لقاءه شخصياً، وبينما أنا في طريقي إليه بلغني نبأ اغتياله.

س ـ كان نصيبك من المحنة كبيراً وبخاصة في أزمة 1965 فلو تفضلت بسرد أهم هذه الوقائع ؟.

السيدة: " ابتدأ نشاطي العملي مع الإخوان المسلمين من عام 1954 عندما كشف لهم عبد الناصر عن طويته، وتنكر لعهوده التي قطعها لهم بتنفيذ شريعة الله وإقامة أحكامها، وكان علي أن في تحمل المقدور من البلاء الذي صبه الطاغية على الإخوان، فقررت مع الشهيد عبد الفتاح عبده إسماعيل إعادة تنظيمهم، بعد أن بدأ المتسلطون في الإفراج عمن لم يصدر عليه حكم من الإخوان.. وبإذن من الإمام الهضيبي أقدمنا على إقامة تنظيم نعيد به نشاط الجماعة، وركزنا على التربية الفردية بوجه خاص، وعملنا في مساعدة أسر السجناء ورعايتهم وتوفير ما أمكننا من الأسباب التي تحافظ على أبنائهم تعليماً وتنشئة على المنهج الإسلامي، وقد وقف الله مساعينا، حتى جاءت أحداث 1965 وأدخلنا السجن في قضية العصر، ونصر على تسميتها كذلك أنها قضية الرسالة الخاتمة.. وكالمجزرة السابقة عام 54 تمت مجزرة العام 1965 في ظلمات الإرهاب الناصري، وأكرم الله بالشهادة قافلة جديدة كان على رأسها سيد قطب، وقدر الحياة لبقية القافلة من المعذبين، الذين شاء الله أن يغادروا مجازر الطواغيت أعلاماً، لم تزدهم المحن إلا صفاء وألقاً وتصميماً على مواصلة الجهاد في سبيله، حتى تقوم دولة الإسلام مناراً يشع على الدنيا بأنوار الخير والحب والعدالة.. وليعذرني فضيلة الأستاذ المجذزب إذ أوجزت الكلام عن هذه المرحلة الرهيبة، وإذا كان ثمة ضرورة لبسط الحديث عنها ففي كتابي " أيام من حياتي " ما يفي ويشفي ".

وأقول للقارئ بدوري إن في صفحات هذا الكتاب المئتين ما لا غنى عنه لمسلم يهمه الوقوف على مسيرة الدعوة الإسلامية خلال هذا القرن، ويريد أن يعرف نوعية الطواغيت الذين يواجههم أهل الحق، وقد أعدوا لدعاته من أنواع النكال ما لم يخطر على بال السابقين من أصحاب الأخدود..

لقد أتيح لهذه السيدة أن ترى وتسمع وتعاني من وحشية الجلادين ما لا يخطر في تصور ذئب ضار طاو أطلق في قطيع من الغنم، فهو لا يكتفي بالنهش والقضم، ولكنه يحاول ألا يدع واحداً من القطيع دون تمزيق وتحطيم وتشويه..

لقد تجددت في تلك المجزرة مأساة آل ياسر وهم يتلقون نكال أبي الجهل، من السياط إلى الإغراق بالماء إلى الطعن بالحراب، فلا يرى منهم سوى الصمود الخارق الذي يتحدى عالم الكفر كله بعزة الإيمان، بل لقد استحدث ورثاء أبي جهل في سجون هؤلاء الطواغيت من ألوان التعذيب لدعاة الإسلام. ما لم يدر بخلد أبي جهل وأعوانه قط.. فعلاوة على الطرائق التقليدية من الجلد والحرق والصلب والإغراق في الماء والأقذار.. كانت هناك تعليق الضحايا من أقدامهم مع إلهاب سائر أعضائهم بالسياط، التي شبهها رسول الله ، صلوات الله وسلامه عليه، بأذناب البقر.. ثم هناك الاعتداء على أقدس كرامات الإنسان مما لم يسلم من هوله إلا من أدركه الله بمعجزة منه، كما صنع لطفه بأمته العظيمة الصابرة زينب الغزالي الجبيلي في أحرج اللحظات !.

ومع كل هذه الفواجع لم يجد حمزة البسيوني وشمس بدران وصفوت الروبي في نفوس ضحاياهم البررة ما يطفئ نيران قلوبهم، ولم يستطيعوا أن يحنوا من تلك الرؤوس الشاخصة إلى السماء سوى واحد غلبه الخوف من عذاب المجرمين، فنسي عذاب رب العالمين، وراح ينفث ما يريده الجلادون من التهم للمؤمنين.. وحسبهم هذا الإخفاق خساراً ومهانة..

وهنا يراودني تساؤلان أحدهما يتصل بهذا المسكين الذي أذله الرعب فانطلق يقذف بالباطل على الحق، حتى كان أحد المسوغات لإعدام خير شباب مصر سيد قطب وإخوانه.. أترى لانهياره من مبرر في حكم الشرع؟. وهل يدخل مثله في زمرة المضطرين الذين أبيح لهم أن يقولوا ما يكرهون وقلوبهم مطمئنة بالإيمان؟؟..

أما أنا فلا أجد له عذراً يلحقه بالمضطرين، لأن المفتونين الأول إنما أبيح لهم ذلك في حقوق الله فقط حتى الكفر، ولا نعلم سابقة واحدة أبيح فيها لأحدهم أن يوقع بالأبرياء فيرميهم بما يسوقهم إلى الموت ليحصل بذلك على السلامة من العذاب أو الموت..

ويبقى ثاني التساؤلين خاصاً بهذه السيدة التي نكتب عن سيرتها العجيبة..

لقد رأينا عند الكلام عن بيئتها المنزلية تلك النشأة الناعمة التي أحاطت بها في ذلك البيت المترف، وفي ذلك الدلال الذي نعمت به من والدها، حتى لا يسمح بشغلها في عمل المنزل... فكيف تسنى لها ذلك التماسك الخارق أما مخالب القتلة والمجرمين، حتى لتعجز وسائلهم الرهيبة كلها عن إيهان عزيمتها فضلاً عن سحق مقاومتها !!.

الحق أنني لا أجد لذلك من تعليل سوى الإيمان ملأ وجودها بالمثل العليا التي تعلمتها من حياة سمية ونسيبة وزِنيرة...

ألا نذكر ذلك الدرس الذي تلقته على أبيها يوم عرض علها حياة كل من المرأتين، الأنصارية نسيبة بنت كعب المازنية، والمستغربة هدى شعراوي، ثم كرر العرض وكرر السؤال: أيهما تريدين أن تكوني يا زينب ؟ فإذا هي تجيبه بملء ما في قلبها من القناعة: بل نسيبة يا والدي... وها هي ذي تؤكد لنا بصبرها على ألوان العذاب حتى الحكم بالإعدام، أنها ملتزمة بمنهج أم عمارة، تلك اللبؤة التي ملأت الجراح جسدها الطاهر وهي تذود عن رسول الله ، عليه صلوات الله وسلامه، يوم أحد..

ولقد علمت حتى وثقت أن جراحات زينب في سجون الطغاة لا تقل عدداً عن جراح أختها نسيبة في ذلك الموقف، ولا تتأخر عنها في الدلالة على البطولة المرضية لله ولرسوله، إن شاء الله.

وما أراني مغالياً عندما قلت في قصيدتي المطولة " عبر وعبرات " أيامئذ وأنا أصف محنة زينب الغزالي وحميدة قطب وعلية الهضيبي وغادة عمار وأخواتهن:

ومحتجز في غيهب السجن شوهت
تـفنن جلادوه في العسف iiوالأذى
تـراه عـلى الأغلال شلواً ممزعاً
بـنفسي وجوه أطفأ الجور iiبشرها
تـنـازعها لفح العذاب فأصبحت
لـئـن سلبت نور الحياة فلم iiتزل





مـعـالـمـه المثلى يد iiالمثلات
ولـم يـحـن رأساً أو يفه iiبشكاة
يـخـيـل لـلرائين بعض iiرفات
وإن هـي لـم تـبرح وجوه iiهداة
ولـيـس بـهـا إلا ذمـاء iiحياة
تـنـيـر سـواد الليل بالصلوات

س ـ ما مدى تأثير هذه المحن على حياتك، وما العبرة التي خرجت بها من تلك التجارب الرهيبة!

السيدة: خرجت من المحنة على أتم الاستعداد للجهاد في سبيل الله حتى الموت أو قيام الحكم الإسلامي وعودة الخلافة، وهذا عهد مني لله أن استمر على هذا الخط حتى ألقاه، وقد سلمت راية الجهاد إلى واحدة من بناتي لتواصل الطريق في سبيل الدعوة، التي من أجلها نحيا، وفيها نموت، وكل عيش بدونها فموت محقق(1).

س: فضيلة الأخت. هل لك أن تمدينا بلمحة عن مطالع نشاطك القلمي، والأغراض التي عنيت بها فيما أسلفت من إنتاج ؟.

السيدة: لقد زاولت الكتابة في سن مبكرة، فمنذ الرابعة عشرة بدأت أكتب وتنشر لي الجرائد والمجلات، أذكر منها روزا اليوسف وغيرها، وبعد تأسيس المركز العام للسيدات المسلمات كانت الصحف تحصل مني على أحاديث وموضوعات.. ثم جعلت أنشر مقالاتي في شبه انتظام بمجلة " نور الإسلام " التي كان يصدرها قسم الوعظ والإرشاد في الأزهر.. وكان اللون الإسلامي هو الطابع الرئيسي في كل ما كتبت وأكتب ولله الحمد والمنة. وذلك طبعاً غير الذي كانت تكتبه في " مجلة السيدات المسلمات".

س: سبق أن حدثتنا في المدينة عن مذكرات كتبتها عن أيام النكبة ثم فقدتها، فلو تكرمت بخلاصة عنها وعن ظروف ضياعها. وعما إذا كنت قد أعدت كتابتها من جديد ؟.

السيدة: هذه المذكرات سرقها من منزلي بعض العملاء، ولكن الله عوضني عنها بكتاب " أيام من حياتي " وهناك تخطيط فكري لكتابين: الأول في إطار " الإسلام " والآخر بعنوان " قصة الوجود " إذا مد الله في الأجل رجوت أن أوفق إلى إخراجهما قريباً إن شاء الله.. والأمر فيهما موقوف على تيسيره سبحانه.

س: تعتبر مصر أهم أكبر منائر العلم في العالم الإسلامي، عن طريق الأزهر، أو عن طريق الحركة الإسلامية فيها، وقد لمسنا ذلك في كل قطر زرناه من وطن الإسلام. فما توقعات فضيلتك بالنسبة إلى دور مصر في هذا الصدد، على مستوى العالم الإسلامي قريباً وبعيداً ؟.

السيدة: أعتقد أن مصر هي المنطلق الذي ستبزغ منه اليقظة الإسلامية إن شاء الله ، وأظنك تقصد بالحركة الإسلامية في مصر حركة الإخوان المسلمين، بوصفها التحرك الإسلامي العالمي في القرنين الرابع عشر والخامس عشر، فليست الجماعات الإسلامية الأخرى إلا نباتاً انبثق من حديقة الإخوان المسلمين، وهو عندما يستوي على سوقه، ويعي رسالة المسلم الحقة لا يسعه إلا أن يعود إلى أصله ومصدره.. وفي يقيني أنه من مصر سترتفع راية التوحيد من جديد، توحيد الله في ألوهيته وربوبيته وحاكميته، وتوحيد المسلمين بقيادة محمد رسول الله لإقامة نظام الإسلام المنقذ، كما أنزله الله ديناً ودولة وحرية وسلاماً للمسلمين وللعالمين..

س: على الرغم من كل المعوقات التي تواجه الدعوة الإسلامية في مصر، يلاحظ أن ثمة نهضة إسلامية تتنامى بقوة في أوساط الجامعات وبخاصة في الكليات العلمية منها.. فما تفسير فضيلتك لهذه الظاهرة وما توقعاتك بشأنها !..

السيدة: لم تأت هذه النهضة من فراغ، فشباب مصر ينتمي إلى الفكر الإسلامي الذي أيقظ طاقاته مجدد الدعوة الإسلامية الإمام حسن البنا، ثم خلفه الإمام الهضيبي، الرجل الذي ينطبق عليه وصف رابع الراشدين القائل: " أنا في حق نفسي كالعبيد وفي حق ديني وربي كالحديد " فعلى طريق هذين الإمامين انطلق شبابنا الإسلامي يبني وجوده على أساس العقيدة السليمة والإرادة الحازمة، فكان طبيعياً أن يصطدم بالعقبات التي يقيمها الكارهون لحقائق الإسلام، فكانت المآسي التاريخية، وكانت مجازر الـ48 و54 65، وكان الصمود وكانت البطولات التي أعيت الظالمين، وحركت طاقات الإيمان في صدور المسلمين، فكثرت الجماعات الإسلامية، وكثرت التحركات الإسلامية، ولكنها على تعددها واختلاف مناهجها منتهية أخيراً إلى الوحدة بمشيئة الله ، تحت راية الجماعة التي بايعت الله على ألا تفتر عن الجهاد المشروع حتى تتحقق أمنيتها بإقامة الدولة الربانية وعودة الخلافة الإسلامية إن شاء الله .

س: لقد أثبتت جماهير المسلمين في مصر خلال أكثر من استفتاء أنها مع تطبيق الشريعة السمحة، ومع ذلك لم تزل محكومة بغيرها، وها نحن أولاء نرى أقطاراً إسلامية كموريتانيا وباكستان والسودان تسبق مصر في هذا الميدان، فما السبب في ذلك ؟..

السيدة: طبيعي جداً أن تكون إجابة السواد الأعظم من المصريين في جانب الشريعة المطهرة، وهكذا جاءت نسبة الموافقين 99% ولم يرفض هذا الاتجاه سوى النزر اليسير وهو من غير المسلمين طبعاً، لأن المسلم الذي يرفض حكم شريعة الله يرتد عن دينه ويتبع غير سبيل المؤمنين، لإنكاره معلوماً من الدين بالضرورة.. فالشعب المصري إذن محكوم دون إرادته بالأنظمة الوضعية، التي جرت على مصر، وعلى الإنسانية بأسرها، أنواع الشقاء وفنون الأرزاء.

أما سبق الأقطار الإسلامية التي ذكرتها إلى تطبيق الشريعة فهو خير نتمنى دوامه وتناميه في الطريق السليم، وفي يقيني أن ذلك هو الوضع الطبيعي الذي لا مندوحة عن الاتجاه إليه، بعد ان أفلست سائر التنظيمات التي فرضها الزائغون على شعوبهم بتوجيه أعدائها، ولئن تأخر تحقيق ذلك في مصر حتى الآن إنما هو إلى حين، وفي النهاية لا بد من زوال العقبات المصطنعة التي يقيمها الجاهلون والمضللون في وجه العودة إلى فطرة الله التي فطر الناس عليها.

س: إن خبراتك الطويلة في نطاق الحركات النسوية تدعونا لأن نستوضح رؤيتك إلى مستقبل المرأة المسلمة في مصر خلال ما تبقى من القرن العشرين، وما نواجهه من مطالع القرن الخامس عشر ؟.

السيدة: منذ أسست المركز العام لجماعة السيدات المسلمات كنت ـ ولا أزال ـ أعتقد جازمة أن ليس للمرأة قضية منفصلة عن قضية الرجل المسلم، فالكل مسئول عن مصير الوجود الإسلامي في مصر وحسبنا في ذلك قول ربنا تبارك اسمه:[والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر] التوبة71. وإنما جاءنا هذا التفريق بين مسيرتي كل من الجنسين من قبل التيارات الوافدة، التي تستهدف صرفنا عن أهدافنا العليا إلى توافه الأمور. أما الفروق التي قررها الشرع الحكيم بينهما في بعض الجوانب كاختلاف أنصبة الميراث، وقوامة الرجل على النساء، وما إلى ذلك فإجراء تنظيمي قدر فيه تخصص كل منهما من جهة الاستعداد، فالمرأة أم وللأمومة خصائصها ولوازمها، وهي زوجة وللزوجة حقوقها وواجباتها، وهي راعية في البيت وذلك هو مركزها الطبيعي.. وهكذا القول في الرجل فقد زوده الخالق بكل ما يساعده على قيادة الأسرة، وتأمين مصالحها، والذب عن سلامتها، ولكل من هذه المهام وسائلها المناسبة. وبالتعاون المخلص بين الرفيقين تتكامل الحياة وتتوافر السعادة للجميع.. وفيما عدا ذلك فمسئوليتها متكافئة في نطاق الواجب نحو المجتمع المسلم، على أساس القاعدة النبوية " كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته.." فإذن فالقضية الجامعة بين الجنسين هي ضرورة العمل الدائب لإقامة المجتمع الإسلامي المتكامل، ويومئذ فقط يجد كل منهما طريقه الصحيح إلى سعادة الدارين.. وعندئذ تخفت هذه الأصوات الناشزة. التي تنعق بما يوحي إليها شياطين الجن والإنس، دون أن تعي بما تقول وما تعمل...

ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله ...

الجريمة!!

"مع الضحى. جاء صفوت وأخرجني من الماء. ورماني في زنزانة أخرى بجوار زنزانة الماء.. ابتلعتني هذه الزنزانة.. وتكورت في ركن من جوفها مستندة إلى حائط.. كان الحائط بالنسبة إلي وسادة ناعمة محشوة بريش النعام !! كانت آلامي عاتية متنوعة.. آلام الجوع تفري أمعائي.. وآلام جروحي تمزقني.. جروح جسدي وجروح نفسي.. لقد صرت كتلة آلام كل جزء منها يئن ويصرخ!!

ويدخل صفوت ومعه مارد أسود !! أخذ يتحسس سوطه بيده اليسرى ثم يضرب الأرض والحائط. وكأنه يستحث لهيبه. أو يستنفر حميته !!

ووقف صفوت وألقى أوامره وتعليماته إلى هذا المارد الأسود بأن يرتكب أبشع جريمة ممكن أن يقترفها بشر..!! وترك له السوط وهو يقول في صلف وغرور: إذا وجدت منها أي معارضة فالسوط معك...

انشغلت عن هذا السفه بالله سبحانه وسألته متوسلة إليه " اللهم إني أمتك، وعلى عهدك ما استطعت أدعوك بضعفي، وقلة حيلتي، وانكساري، وهواني على الناس. أن تدفع عني شر الأشرار، وتحميني بقدرتك، وتعينني على ظلمهم..

أخرجني من إغراقتي في مناجاة ربي صوت هذا الإنسان المأمور بإيذائي بأبشع جريمة.. يناديني " يا خالة!! " ونظرت إيه ودهشت.. فقد تغير وجهه وارتسمت عليه ملامح إنسان!!

ثم بصوت منخفض فيه شفافية: " لا تخافي يا خالة .. لن أوذيك، ولو قطعوني..

فقلت بصعوبة بالغة: ربنا يهديك يا بني.. ربنا يكرمك .

فتح باب الزنزانة في عنف وانطلق صوت الروبي يضرب الرجل بالسوط ويسبه ويقول:

"يا ملعون يا ابن الكلب.. لقد أوردت نفسك مورد الهلاك، وستقدم إلى مجلس عسكري. هذه أوامر جمال عبد الناصر يا ابن الكلب أنت تكسرها ؟! أنقذ نفسك فوراً قبل أن أذهب بك إلى شمس باشا يحولك إلى مجلس عسكري.. ثم أعاد عليه الأوامر الفاجرة والتعليمات الفاحشة بكلمات صريحة صارخة لا يمكن أن تخرج من فم إنسان. وأغلق الزنزانة وأطل من الفتحة وقال أنا سأتركك ساعة، ثم أعود إليك لأنظر ماذا فعلت .. أنقذ نفسك، ونفذ الأوامر !!.

حيا الجندي تحية عسكرية من داخل الزنزانة وقال " حاضر يا أفندم !!".

كنت أستمع إلى هذه الجاهلية وذلك الفجور، فأناجي ربي بتلك الكلمات، " إنها دعوتك. ونحن جندها. وشهداؤها.. فغيرتك على جندك. وأعراضهم يا الله !. اجعلنا أقوى من ظلمهم وألوان تعذيبهم " وكنت أدعو لهذا الرجل بالهداية. ظننت هذا الرجل ـ بعد الأوامر الجديدة ـ سيخشى البشر، فيسلك مسالك الوحوش.. ولكنه كان رائعاً وشجاعاً. وقال لي في براءة الأطفال:

" لماذا يعذبونكم هكذا يا خالة ؟."

فقلت: إننا ـ يا بني ـ ندعو لله. ونريد حكم الإسلام لهذا البلد. ولا نطلب لأنفسنا سلطاناً..

وسمعت أذان الظهر فتيممت على حائط الزنزانة وأديت الصلاة. فقال في رجاء " ادعي لي يا خالة" فدعوت له بالهداية وقمت لصلاة السنة. فقال:

"ادعي لي يكرمني الله بالصلاة يا خالة.. أنت لستم بشراً. ربنا يخرب بيتك يا عبد الناصر!!.

فقلت له: هل تعرف الوضوء؟.

فقال: طبعاً. أنا كنت مواظباً على الصلاة.. لكن جيش حليمة لو رأوني أصلي سجنونني...

فقلت له: صل ولو سجنوك. فالله معك.

فقال ونور الإيمان يملأ وجهه " سأصلي ".

وهنا ضرب أحد الجنود باب الزنزانة بعنف وقال:

"يا ابن الكلب ماذا تفعل ؟!."

فقال الرجل: الست لم تفرغ من الصلاة.

فقال الجندي في صفاقة: صفوت آت إليك. وأرسلني أنظر ماذا فعلت.

وجاء صفوت كحيوان مجنون وهجم على الرجل بوحشية شرسة. وظل ينهال بسوطه على الرجل حتى أفقده حتى الأنين!! وجاء مساعدو الجلاد وحملوا المسكين إلى مصيره، وأغلقت الزنزانة على آلامي وهمومي.. آلمني ما نال هذا الرجل بسببي. إن الله أضاء بصيرته فلم يطع الظالم !! كانت السياط التي مزقت جسده تمزق جسدي وتحفر أخاديد في نفسي !!.

وهربت من همومي وآلامي إلى صلاة العصر (2).

       

الهوامش:

(1) لحكمة من الله لم ترزق الأخت بولد، وصرف الله سبحانه عواطفها نحو دعوته وجنودها فما فيهم إلا ولدها وبنتها.

(2) مشهد من كتاب السيدة " أيام من حياتي " ص 95 ـ 97.