حوار مع الشاعر والروائي التونسي حافظ محفوظ

أنا مع اللغة الشعرية في الرواية

حاورته : هيام الفرشيشي – تونس

[email protected]

حين نقرأ رواية "حورية" ، آخر إصدارات الكاتب والشاعر حافظ محفوظ ندرك أن هذا العمل الأدبي يرتفع بالنص إلى المراتب الجمالية حقا ، تنصهر فيه فنون عديدة دون الخروج عن ضوابط الرواية كجنس أدبي مخصوص . وما هذا الحوار المتعلق بالرواية والعملية الإبداعية ذاتها والتقاطعات بين الوعي واللاوعي أثناء عملية الكتابة إلا تأشير بأن هذا النص يحمل بين طياته ذاتا مبدعة خلاقة منشغلة بلذة التشكيل الفني ، تعبر أكثر مما تحلل ، تاركة مسافات كبيرة من الغموض بينها وبين النص ، بين الكاتب والراوي ، وذلك ما يفجر العملية الإبداعية .

هل تصنيف الرواية هاجس لا يشغل المبدع أثناء كتابة الرواية ؟ أم أن هدفك ككاتب هو تصنيف روايتك في قالب أدبي ؟

كأن سؤالك يحيل إلى مسألة هي الآن من فرط ما تداولتها الدراسات النقدية أمر بديهي ، أعني استغلال الرواية لأجناس كتابية أخرى أو كما يقول البعض صهر فنون أخرى داخلها . إذا هذا ما ذهبت إليه أقول إن الرواية بقدرة من المكان بحيث تستطيع صهر ما يحيط بها في داخلها صهرا عجيبا فينقلب مكونا من مكوناتها دون أن ينفرد بمكان خاص فيها . السينما والمسرح والرقص والفن التشكيلي والموسيقي وغيرها ملك للروائي يستفيد منها كيفما يشاء لكن عليه أن يعي أنه يكتب جنسا مخصوصا هو جنس الرواية بكل ضوابط هذا الجنس وإلا خرج عمله من أصل تكونه .. روايات عديدة ركزت على فن دون آخر واستفادت منه لإثراء ذاتها . روايتي " حورية " استفادت بلا شك من فنون عديدة لا سيما على مستوى بنائها  لكني أعي جيدا طبيعة النص الذي أكتبه . " حورية " رواية  وليست سيناريو لشريط سينمائي وليست كما ذهب أحد النقاد سيرة ذاتية أو غير ذلك . هناك فرق كبير في بناء الرواية بين الشخصية التي تتأثر بالموسيقى في ردود أفعالها وبين الشخصية التي تختزن داخلها بعدا موسيقيا .

أما على مستوى الاستفادة من تقنيات كتابية أخرى فإن من حق الكاتب أن يثري نصه بما يراه ملائما له نشدانا لغايات يضعها في اعتباره وهو يباشر عملية الكتابة . وددت لو ينظر إلى العلاقة بين مضامين الرواية ذاتها واستدعائها لنمط من الكتابة مخصوص من الوصف يفترض كاميرا إن صح التعبير ، أما المواجهة بين شخصيتين أو الدراما فتفترض الإخراج المسرحي في معناه الدراماتولوجي والحواري أما العالم الداخلي للشخصيات فيفترض قدرة على التحليل النفسي دون تغييب السردي .

هل الشعرية " في ظاهر معناها " في كتاباتك الروائية اختيار أم أن تجربتك كشاعر ساهمت في بلورة الشعرية بكثافة ؟

سآخذ الشعرية على ظاهر معناها لا سيما وقد ربطتها بتجربتي الشعرية . نعم أنا مع اللغة الشعرية ومع السرد الذي يعول فيه على الايحاء والتجريد والاستعارة وغيرها ، وأعتقد أن الحكاية كلها الواردة في أي رواية هي في النهاية استعارة او هي شكل من أشكال التجريد وهي تجل لرؤى وأفكار وحالات ذهنية ووجدانية ، فالأجدى أن يكون المحمل شعريا حتى يضيف إلى ما ذكرت ما به يرتفع عن الكلام العادي ، قد أقصد الأدبية ولكن لنقل أن الرواية تستدعي الشعر إلى رحابها ليشد إزر الفكر والعاطفة فلا يطغى أحدهما على الآخر وإن فعل فبمقدار ، لكن هذا لا يعني أن تخرج الرواية عن أصل تكونها فيزول إسمها ويسيل معدنها في وادي الشعر وهو لعمري محاء للعناصر ، قادر على تحويل السردي إلى مادة له تلف جوانبه وتقوي جريانه .

كنت أحلم منذ الطفولة بكتابة رواية وقد جربتها صبيا ، كانت خواطر وأقاصيص ونتف من سيرة لم تتجاوز صفحات قليلة ولا أخفيك أنني أتهيب الكتابة الروائية كثيرا لا سيما في هذا الزمن الذي يحمل إرثا روائيا كبيرا من سرفاتس إلى كارلوس رويز تافون ومن المويلحي إلى محفوظ والغيطاني ومن لاكلو كلود سيمون وليكليزو ومن جويس إلى دان براون ...

وكتبت الشعر الذي يرعبني التفكير فيه الآن ، وأخاف إذا قلت إني لم أفعل شيئا في رواياتي إلا قراءة شعري . انا أرى كتاباتي الشعرية على أنها ما يمكن النهل منه في الرواية وقد فعلت . كتابي " الخزاف " صار في النثر نصوصا  قد أعينها ذات يوم وقصصا بها ما يشير إلى منطلقعاتها النصية لدي ، لكن هذا لا يعني أني أفسر شعري بل أبحث له عن معان يمكن تحديدها . خوف " سعيد " بطل روايتي " حورية " من النسيان والامحاء جاء في كتابي الشعري " تعريفات الكائن " أما مجموعتي الشعرية " عرائس الله " فقد قادتني إلى البحث على الهوية ومنها إلى العزلة ومنها إلى رسم ملامح شخصية عريم العبادلي بطل روايتي " حارس الملائكة " . أعرف أن هذا الكلام يحتاج إلى براهين ملموسة في النصوص لكنها الحقيقة . أنا أكتب الشعر والنثر بنفس الأسباب وبتقنيات مختلفة بل أني بصدد العمل على نص فيه من هذا وذاك وفيه أشياء أخرى سنرى ماذا ستعطي في مستقبل الأيام .

صحيح أن الفصل الأول من رواية حورية يمكن أن أخرجه مفردا ولا أتحرج من تسمية قصيدة نثر ولكن الرواية في اعتقادي مكانه الأثير ، وقد ساعدني هذا الفصل على إعادة كتابة الحكاية بالنظر إلى طبيعته المتفجرة .

هل ترى أن ظهور بعض الشخصيات في روايتك وفي الجزء الأخير منها تحديدا مثل " الشوك " و"الكوميسار "  هو من أجل خلق لتوازن ما  ؟أم هي شخصيات دافعة للراوي ليعبر عن جانبه الكامن في الاستفاقة تحت تأثير الصدمة والبحث عن الوجه الآخر ؟

منذ بداية الرواية أي منذ انبثاق فكرتها الأولى كانت شخصية " الشوك " حاضرة نصب عيني ، فهي صورة من صور "سعيد بن عيسى " الذي يعيش الصدمة تلو الصدمة . وكذلك شخصية الكوميسار مع ما تمثله في مجتمعنا ولكنها صورة للأب أيضا ، الأب الغائب الذي يريد سعيد تصفية حسابات معه . ولكنه يفاجئنا بتلك العلاقة التي يربطها مع جاره الذي يذكره بوالده شكلا ولكنه يخالفه في غير ذلك .

نحن ننظر بأعين مختلفة إلى ذات الشيء وننظر إلى ذات الشيء بطرق متباينة إذا غيرنا زاوية النظر والزمان والمكان والإطار العاطفي . لكن شخصية "الشوك" و"الكوميسار" سمحت للكاتب بالتخلص من مثاليته الكاذبة والتي نرى أنها تتناثر شيئا فشيئا مع تقدمنا في الحكاية ، لعلها الوزن المقابل للموزون . الابتعاد عن الناس والخوف من إساءتهم هي في النهاية خوف من الذات التي تكون عاجزة . يضاف إلى ذلك أن الشخصيات في روايتي مرتبطة ببعضها ببعض فإذا ما استغنيت عن واحدة فإن قراءة عميقة ستفرض وجودها وتقر بضرورة أن تضاف لكي لا يختل توازن البناء الروائي بشكل من الأشكال .

أما مسألة الوجه الآخر والبحث عنه فذلك هو المحاولة الأولى أي القادح " الأول " للكتابة ، كل كتابة هي في النهاية بحث عن وجه مفتقد سواء أكان ذلك الوجه هو وجه الكاتب الراوي ذاته أو وجه شخصية من شخصياته أو هو وجه مفترض للمكان أو للزمان أو للواقع ، إنه ذاك المنشود في شتى وجوهه .

سعيد بطل روايتي ينطلق من الفقد في بحثه . ألم يفقد الأصل والحب والأرض والوجود المتزن ، إنه يبحث عن كل ذلك معلنا حينا عن غاياته مبطنا حينا آخر ما يريد الوصول إليه . تعلمنا الروايات الكبرى في عمقها أن سبيل الإنسان ليس واضحا كل الوضوح وأن الحياة تبنى أصلا من النقص وتذهب إلى النقص وبينهما مسافة هي التي علينا قطعها مجبرين ولكن داخل تلك المسافة يتبلور الفعل الإنساني ويتجلى الوجود إن سلبا أو إيجابا . لقد استحالت تلك المسافة قصيرة مع ما طرأ على الإنسانية ووحدها الحكايات قادرة على إلى إعادة رسمها أو التخفيف من هولها أو المساعدة على قطعها بيسر حتى لا يفقد العقل البشري البوصلة لا سيما في واقعنا العربي .

رواية " حورية" رغم أنها عمل إبداعي فقد كتبت بروية ، فكيف تقع عملية عقلنة اللاوعي الخلاق برأيك ؟ سيما وأنه في هذا الصدد أكد الدكتور حسين مجيد : " يوجد بين الذات الواعية للفنان وماضيه اللاواعي حاجز مغمور من الخداع والوهم وظيفته حماية الفنان ، عالم ضبابي نرى من خلاله مستوياته التركيبية الهشة تلك المعاني العميقة الغور داخل الفنان والتي تؤلف شخصيته والفنان نفسه هو من يسلط الضوء على مكنون نفسه أو أنه يستعيض عن التفسير الغيبي لذلك المكنون بتفسير عقلاني يتمثل في عملية الإنطاق أو الحذف " . الكتابة على هذا النحو " كفارة لذنب غير واضح لم يرتكبه الكاتب أو أنه دعوة إلى القارئ للمشاركة في تحمل هذا الوزر " .

لم يكن عمل فرويد على آثار أدبية مجرد بحث عن قوالب جاهزة لنظريته أو بمعنى آخر إيجاد أمثلة من الأسطورة والرواية تنطبق مع نماذج من الشخصيات التي يعالجها أو التي يتصور أنها موجودة في الواقع . في الحقيقة كان ذلك آخر انشغالاته . يعلمنا درسه الثالث  أن اللاوعي ليست منطقة محددة يمكن لنا أن نرسم لها حدودا واضحة تفصلها عن الوعي وبالتالي ليس الفعل اللاواعي صنف مغاير للفعل الواعي بل أن كليهما ممتزجان داخل الشخصية الواحدة امتزاجا يجعل هذه الشخصية تصدر في كل تصرفاتها عن هذا وذاك . تحليل فعل الكتابة يفترض تحليل الذات الكاتبة لحظة الكتابة وليس قبلها أو بعدها ، تلك اللحظة فيها من انعكاسات اللاوعي الكثير وفيها من الوعي ما يجعلها فعلا مسؤولا لحظة الكتابة مسكونة بعوالم عديدة ، خاصة الثقافة والدين والشخصية الفكرية والحالة النفسية .. وعامة الأطر المحددة للعلاقات الاجتماعية والسياسية . اللاوعي يتسلل إلى كل هذا دون استثناء والكتابة ليست عملية عقلنة اللاوعي لأن ذلك يفترض امكانية أن يضع الكاتب نفسه فوق منطقة اللاوعي مسيطرا عليها ويحولها من معطى غير معقلن إلى معنى معقلن هذا غير ممكن لأنه لا يقع إلا في مستوى تصوير هذه العملية وتجريدها . الكاتب حين يكتب عمله الإبداعي لا يفكر بهذا الشكل ، إنه ينكتب أي يضع كل ما هو عليه في خدمة نصه أي وعيه ولا وعيه وما بينهما بشكل غير مفكر فيه ثم يأتي القارئ بأنواعه فيحدد المناطق التي اشتغل عليها اللاوعي ، إن الكاتب الذي يحاول أن يشير ولو بشكل خفيف إلى أنه استعمل كذا وكذا في عمله أو ينسج على مثال تحليل نفسي معلوم روايته سيفقد هذا الأخير تلقائيته وايقاعه الطبيعي ويجعله مسخا لإيقاع غيره .

أنا لا أفهم معنى الأدب خارج الفن ومن داخل هذا الفهم أشتغل في رواياتي محاولا تجويد عملي أي أنا أسعى دائما إلى الابتعاد عما ينزل النص من مراتب جمالية إلى الوظائف الدون " الروائي ليس خادما لدى السيد التاريخ " وليس عبدا لدى السيد المجتمع ، إنه يستعمل هذا وذاك لينحت عالمه الجديد الذي ليس صورة للتاريخ أو المجتمع او لحالة وجدانية ما .

ولكن تبدو " حورية " شخصية الرواية رامزة إلى تلك الخيوط العنكبوتية التي تلتقي بالجانب اللاواعي للراوي ، وللرواسب الفكرية المتكلسة التي لا تدفع بالذات فالمجموعة من السير نحو الأمام ؟

إن اختيار عنوان عمل أدبي ليس فعلا مجانيا إنه جزء مهم من العمل ، عليه يعول فقط في التسمية أي تعيين الأثر وتمييزه عن غيره بل في القراءة النقدية أيضا والحديثة منها على وجه الخصوص . الملاحظة الأولى التي نسوقها تتعلق بتطور هذه التسمية ، فالعناوين القديمة للآثار النثرية العربية في غالب عددها تدخل في المتن إذ نلاحظ أن الكاتب وهو يقدم لعمله أو هو يخط إهداءه لأحد الأمراء أو الولاة أو لأصحاب الأمر والنهي في عصره ، فإنه يذكر عنوان كتابه وفي بعض الأحيان يشرح أسباب تلك التسمية فإن كانت ردا وضح ذلك وإن كانت إنشاء لغاية تعليمية أو جمع خالص قاله . وهناك من يطابق العنوان بما في مؤلفه من غاية فيشير  الإسم إلى المسمى . وهناك من ينحت العنوان من مادة لغوية محددة ومقصودة لذاتها والأمثلة على هذا وذاك كثيرة معلومة وهناك من لم ينتخب عنوانا وإنما نسب إليه الكتاب لأنه علم وسار أثره في إسمه .

أما في العصور الحديثة فالعنوان يشر  إلى عتبة نصية وهو مفتاح من مفاتيح القراءة وكم من عنوان يرسخ في الذاكرة دون أن يرسخ إسم صاحبه وعناوين أخرى هي إشارة إلى أبطال الروايات أو القصص أو إشارة إلى المكان المذكور في المؤلف وثمة عناوين وبخاصة في الشعر يذهب فيها أصحابها مذاهب كثيرة بالنظر إلى أمور مختلفة كالاتجاه الإيديولوجي أو الفكري أو الجمالي أو غيرها وقس على ذلك .

حورية " شخصية من شخصيات الرواية أولا . لها وجود فاعل في الاحداث وفي باقي الشخصيات كما لها دلالات تقصدتها وأخرى بانت لي أثناءالكتابة وأخرى بانت لي أثناء الكتابة وأخرى هداني إليها بعض القراء .

أما علاقتها بالجانب اللاواعي كما ذهبت فإن ذلك ما لا أستطيع الإجابة عنه ما دامت تلك المنطقة قصية وعصية على التحديدد والكاتب إذ يباشر عمله لا يفرق بين الوعي واللاوعي فلا يقول هنا سأكتب بالوعي وهنا سأكتب باللاوعي وهنا سأمزج بينهما أو غير هذا وذاك ، ولكنه يكتب من ذاته ، من ذكرياته ، من ثقافته ، من هويته ، من آلامه وأفراحه ، ومن غايات معلنة وغير معلنة ، وهو يكتب بإيقاع خاص لا يمكن إلا أن يكون له وحده . كل هذا لا يمكن أن يرتبط باللاوعي بشكل من الأشكال ويكون رمزا متواريا يحاول بناءه وإظهاره بالكتابة ، لكن الأكيد عندي هو أن اختيار عنوان روايتي كان ببساطة كبيرة منذ التفكير في إخراج الكتاب إلى الناس عملا مؤجلا إلى أن وضعت أمام الأمر الواقع  فاخترت هذا العنوان لأني متعاطف جدا مع هذه الشخصية دون غيرها .

وإذا جاز لي القول بأني اخترت فإني أرجع الفضل لأصدقاء لي من روائيين وشعراء ونقاد وفنانين تشكيليين قرأوا الرواية قبل صدورها وأشاروا علي ببعض الملاحظات عملت بأغلبها وركزوا على هذه الشخصية بالذات مما ساعدني على الاختيار .