حوار مع الأديب التونسي رضوان الكوني

الواقعية ليست التقليدية ، هي مسايرة للعصر

حاورته : هيام الفرشيشي - تونس

القاص والروائي رضوان الكوني رئيس "نادي القصة" بالوردية بتونس، وعضو بأسرة تحرير مجلة  " قصص " . هو من الأدباء الذين يطورون كتاباتهم باستمرار ، فبين الكتاب والآخر نلمح أكثر من إضافة .  آخر إصداراته هي رواية " عيد المساعيد " وهي إضافة إلى المدونة الروائية التونسية وإثراء لتيار الواقعية الجديدة  وهو تيار فني يهدف إلى خلخلة السائد وإرساء البديل . وإجابات الكوني عن أسئلتنا هي بمثابة فسحة أدبية ممتعة .

والحوار مع الأديب رضوان الكوني ثري في رأيي ، يكشف عن جرأة في التحليل وإبداء الآراء في محاولة لتشخيص الكتابة الأدبية ، وتصحيح بعض الادعاءات في كشف المسكوت عنه في قالب من الكبت ومحدودية التناول وجدية الرؤية ، أو في حشو النص بعبارات تجاوزها الزمن بدعوى توظيف التراث مما ينفر القارئ من الأدب الحديث . للأديب رضوان الكوني وجهات نظر حول الطروحات الأدبية السائدة التي قد يختلف فيها مع أنصار التجريب ، وقد يتفق فيها مع أقطاب كتاب الواقعية في تونس ، وإن كانت شروط أدبية النص لا تتحدد بانتمائها لتيار دون سواه ، فإليكم هذا الحوار.

 " عيد المساعيد " رواية عالجت فنيا أشكال التسلق الاجتماعي على حساب القيم الإنسانية . وموقف الشخصية الرئيسية "فرحات" الصحفي وموقفه من هذه الظاهرة ورفضها للإغراءات للانصهار في هذه المنظومة . فهل عالجت من خلال هذه الرواية "القيم الإنسانية" ؟ أم مشكلات الإنسان ؟ أم موقفا فكريا متسما بالنضج ؟

حاولت في هذه الرواية إن جاز لي أن أضيف شيئا إلى ما ذكرته الرواية إبراز أهمية إسناد المسؤوليات إلى القادرين على القيام بها ، وتحقيق المقولة الشهيرة " الرجل المناسب في المكان المناسب " لأنه في غياب هذا ، ينخرم الوضع ، وتسيطر الفوضى ، فلا تكون النتائج إلا وخيمة ، عنوانها الخسران والفشل السريع . هذا ما أرادت أن تبرزه الرواية في جانب كبير منها ، إضافة إلى اهتمامات أخرى لا تبعد كثيرا عن اهتمامات هذا المشغل .

يرى البعض أن الكتابة الروائية كطائر منيرفيا تأتي متأخرة ، حيث نلاحظ أن العديد من الروايات التونسية الصادرة حديثا تعود إلى حقبات الستينات والسبعينات من القرن الماضي ، لكن " عيد المساعيد  " رواية ترصد التحولات الاجتماعية في أواخر القرن العشرين . هل ترى أن الرواية تستند في مضمونها إلى المشاكل الآنية ؟ أم أن هناك حيزا من حرية التعبير ؟

أنا أرى الأمر من جهة أخرى إذ لا أنظر إلى أحداث الرواية ، أهي قديمة أم حديثة ، بقدر ما أنظر في علاقتها بالحال ، فحتى الروايات المتوفرة على أحداث قديمة في الزمن قد تشدني حين ألمس فيها علاقة وطيدة بواقعي الحالي .

المسألة لا تنحصر في أحداث قديمة أم جديدة ، وإنما في كيفية تقديم هذه الأحداث ، فإذا كان الكاتب سيهرب إلى الماضي ليستعير منه أحداثا حدثت فعلا في السابق ، ويريد أن يقدمها إلينا فجة على أنه أضفى عليها شيئا من التلميحات مما يصفه النقاد ب " الإسقاط " فإن مثل هذه الطريقة إذا لم تكن محكمة النسج ، ومتوفرة على طرافة ، إن لم تكن كذلك فإن مصيرها الإهمال ، القارئ اليوم لم يعد في حاجة إلى مثل هذه التعمية ، والكاتب القارئ اليوم لم يعد مضطرا إلى اللجوء إلى هذه " التقية " المفضوحة والفاشلة ، أعود ، فأقول ، بأن الأساس هو ما يشد القارئ ويشبع نهمه ، فإن لم يشبعه ، فلا أقل من أن يمتعه ... وهذه إحدى أنبل غايات الإبداع : أن تمتع ، أن تكون الأحداث مستعادة ومجلوبة من الماضي القريب أو البعيد ، وأن تكون منتخبة ،  منتقاة ، مختطفة من الواقع ، من الحاضر ، المهم في كل ذلك أن تلبي انتظار القارئ ، أن يتمتع على الأقل وهو يقرأ هذا النص ، لأنه بالإمكان في حالة معاكسة ، أن يحشد الكاتب أحداثا جد قريبة ، إلا أنه يفشل في تقديمها بطريقة تقنع .

هل تعتبر أن روايتك تنتمي إلى تيار الواقعية الجديدة التي تصور عالما يخلو من الهدفية ؟

باختصار شديد ، إن كان لا بد من تصنيف ، فإن روايتي يمكن أن تدرج ضمن الواقعية الجيدة ..

لم تختلف الواقعية الجديدة في الأدب عن الواقعية الجديدة في السينما حيث هي " استعداد لمواجهة العالم وتصوير الإنسان كما ينبغي أن يكون ، إنها تبرز طبيعة الأشياء ولكن تعني ضمنيا أننا يجب أن نفعل شيئا بصددها " ، فهل تعتبر أن الواقعية الجديدة تمتلك "المعاول والفؤوس لتدمير الأوهام القديمة" كما أشاد بذلك النقاد ؟

لم يعد القارئ يأخذ بالرمز ولا بالتجريب في هذه الحال ، ليس أوفق للكاتب من أن يعود إلى الواقعية المنتقاة من أثقالها وفضفضتها وضجيجها الزائد عن الحاجة لتصبح ما يسمى " واقعية جديدة " يرى فيها القارئ أشخاصا يشبهونه في تحركهم وتصرفهم وتفكيرهم ، الآن عادت هذه " الواقعية الجديدة " كأقوى ما تكون ، لا في السنيما والأدب فقط ، وإنما في المسرح والأدب أيضا .. أنا شخصيا مقتنع الآن بأهمية الواقعية و برسالتها ولكن أطرب أكثر حين أطعم هذا النص الواقعي بشيء من " الواقعية السحرية " لذلك فالحدود عندي بين الواقعية والواقعية السحرية حدود وهمية ، ومسألة الخروج من هذه والدخول في تلك لا تمثل أي عائق بالنسبة إلي ...

ما هو موقفك من الرواية التجريبية ؟

لا بد أولا من الاتفاق على تعريف " الرواية التجريبية " ، وكل إبداع يوصف بالتجريبي .. إنه فسحة يمنحها الكاتب المتمكن لنفسه حتى يحاول غزو مناطق جديدة لم يكتشفها سابقا ، ويحاول سلوك طرق لم يسلكها سابقا ، فيضرب في أوساع الأرض ، ويحلق في أكوان الفضاء ، ويبحر في أعماق البحار والمحيطات ، وهذا مهم جدا وأمر أساسي في الأدب التجريبي ، أن يسلك طرقا جديدة لم تطرقها أقدام المارة قبله ، بل أن يخط طرقا جديدة لم تطرقها أقدام المارة قبله ، بل أن يخط طرقا جديدة ، ، أن يشق الأرض والبحر والفضاء ليعبر ويمرق إلى حيث لا يدري ، وإنما هو يمرق إلى محطة لا يعرف كيف ستكون ، وكم سيصلها ، وكم سيبقى فيها : طويلا أم قليلا ... هذا الأدب التجريبي مع ما يمكن أن يتيحه من متعة يظل دوما غير قابل للنشر ولا للترويج ، لأنه لا يخصع عادة إلى منطق ، ولا يتيقد بأية قاعدة : اجتماعية وأخلاقية ، ودينية فزاوية النظر مختلفة ، وترتيب المدركات مختلف ، والتعبير عنها بأدوات غير الأدوات المعروفة ، وتركيب الجملة هو الآخر مختلف .. كل شيء مختلف ، فإذا ظهر فيه شيء منطقي فقد زالت عنه صفة " التجريبية " لذلك لا يمكن نشر مثل هذا ، إنما فائدة هذا البحث ، وفائدة هذه الفسحة التجريبية هي ما سيسقط منها من إشارات جديدة ، ورؤى فيها إضافة وطرافة ...

أريد أن أقول بعبارة قصيرة : فائدة هذه الفسحة التجريبية أنها تساعد الكاتب على إنتاج شيء جديد ، مختلف ، لكنه متماسك ، فالذي ينتظر من المبدع ، لا حصيلة ما اقتنصه من رحلة التجريب وإنما ما سينتجه بعد تلك الرحلة وقد عاد إلى أرض الواقع متسلحا ببعض ما لقيه في رحلته تلك ، ليكون حينئذ هذا الأدب الذي ينتجه بعد الرحلة التجريبية " أدبا طلائعيا " ومفهوم " أدب الطليعة " غير مفهوم " الأدب التجريبي " وكثير من الناس يخلطون بين المفهومين والحديث عن " أدب الطليعة " قد يستغرق حيزا أطول من هذا بكثير ، ثم ليس هو موضوع سؤالك ...

حسنا ، يخلط البعض أحيانا بين أدب الطليعة والأدب الطلائعي ، هل من تدقيق سيما وأنك تنتمي إلى جيل أدباء الطليعة ؟

إن كان هناك خلطا فربما يعود إلى فهم لفظة الطليعة ومعناها كما لايخفى : المقدمة والكوكبة السابقة لغيرها ، وهي التي ترتاد المناطق البكر ، هي الباحثة عن مكان أخصب يمكن أن يستثمر بدل الأمكنة المستهلكة والمنتهكة ، والتي استعملت مرارا إلى حد الابتذال وإلى الحد الذي لم تعد هي بقادرة على أن تمنح من يتمززها ويتمصصها أكثر مما أخذ . فالطليعة هي التي تغامر لغزو الآفاق بحثا عن مكان أنسب وأصلح وهو المعنى ذاته في الأدب . فالطليعة الأدبية هي النخبة أو المجموعة الصغيرة ، التي تتطلع إلى أدب جديد في شكله وتناوله للموضوع وفي ايقاع لغته وفي جرأته على اقتحام المناطق البعيدة عبر المسالك الوعرة هي بكلمة موجزة من تبحث عن أدب مختلف . والأدب الطلائعي في نظري لا يختلف عن أدب الطليعة . لكن الذي لا يجب أن ننساه أن أهم ما يميز الطليعة هو روح المغامرة ، وأن تغامر بإلقاء نفسك في المجهول يجب أن لا تنسى ساعة خروجك من هذه المغامرة قد تعود بصيد وفير ثمين ، وبخلق عجيب ، وربما تعود بأشياء غير واضحة المعالم ، وربما لا تعود بشيء اطلاقا . والمنتظر من المبدع الطلائعي أن يقدم إلى قرائه ما توصل إليه في ثوب مختلف إلا أنه لا يغيب عنا أنه ثوب إما أن يقدم هذا المبدع أجزاء غير متماسكة ويطلب إلى القارئ أن يلفق منها شيئا يمكن أن يحمل معنى فهذا عبث ومضيعة للوقت .

لا يقيم العمل الأدبي بانتمائه إلى تيار أدبي معين بل بتوفره على الشروط الأدبية ، هل انت ضد أو مع ابتداع أشكال وأساليب فنية معينة ؟ وهل التجديد يجب أن لا يكون جذريا في رأيك ؟

لفظة "التجديد" في حد ذاتها لا يفهم منها نسف الموجود ووضع شيء آخر بدله . " التجديد " هو تخليص القديم من بعض الزوائد وبعبارة أدق : تخليصه من بعض ما أصبح زوائد ، وأصبح عوالق لا تضيف شيئا غير أثقال النص بأعباء يتصرف عنها ذوق العصر ويمجها السمع الحالي . لا شك أن هذه الزوائد كانت من أسباب الزينة ، لكنها اليوم لم تعد تشد أحدا .

 أنا شخصيا أطمح مثل جميع المبدعين إلى كتابة نص جديد في كل شيء ، لكن ، هل هذا ممكن ؟ لا أعتقد ، لأننا إذا أردنا ذلك فلا بد من الكتابة على غير مثال سابق ، ولا أعتقد أن كاتبا ما في أي مكان من العالم قادر على ابتداع نص جديد في كل شيء في موضوعه ، وطريقة معالجته ، وفي شكله وفي أسلوبه وفي لغته .

ولنبدأ أولا باللغة فهل بالإمكان إزالة اللغة العربية مثلا واستبعاد أسلوبها وتراكيبها ومعاني مفرداتها ؟ إن ذلك من ضروب العبث وإضاعة الوقت ، لأن أول عامل يجب مراعاته هو القارئ وهذا القارئ لا يمكن أن أخاطبه إلا عبر لغة فيها قدر مشترك بيني وبينه من الفهم حتى يتم التجاوب أولا ، وخلاصة رأيي لا بد من التجديد ، ولكن بمقدار حتى لا ينفصم حبل الخطاب الممدود بين الكاتب والقارئ ، غير هذا يصبح الأدب ضربا من العبث . فعلى بعض الكتاب أن يتواضعوا قليلا ويبتعدوا عن بعض الادعاءات الجوفاء .

في روايتك " عيد المساعيد " وقع توظيف الخبر الصحفي ، وهذا التوظيف لا يخلو من تجديد ، ولكن الرواية لا يمكن إدراجها ضمن الكتابات الحداثية إذ تنتمي لتيار الواقعية ، هل ذلك ناجم عن اختيار أدبي وهو المراوحة بين التجديد والتقليد ؟

هذا يرجعنا إلى السؤال  عن " الطليعة " و" الحداثة " . والحداثة في رأيي وفي رأي كثير غيري ـ أن تكتب بلغة العصر ، وبصفة خاصة بعقلية العصر ، يمكن أن تتحدث حتى عن أحداث تاريخية بعيدة ، ويمكن أن تلبس شخصياتك أثوابا قديمة ، لكن ما لايسمح به هو أن تتخلى عن " روح العصر " وخاصة " عقلية العصر " هذه العقلية المعاصرة هي التي تجعل النص حداثيا . بعض الكتاب ومعهم بعض النقاد أو القراء ، يلصقون بنصوصهم صفة "حداثي" ، وحينما تعمل الفكر في هذه النصوص وتخضعها للتحليل الدقيق نجد :

ـ إما نصوصا لا تقول شيئا ، لأنها تعاني من أزمة تعبير حادة جدا وتلمس بجلاء أن كاتبها يجاهد ليقول جملة سليمة ، أو ليعبر عن مفهوم ، أو لينقل إلينا إحساسا أو صورة ، فتشفق عليه لأنه أضاع لك وقتك في حل مشكلة محلولة ، فهو منذ البدء يرطن ، ويصعد وينزل دون القدرة على شدك. عندها لا يبقى له إلا أن يترك كلامه منقوصا ولن تجد في النهاية من الجرأة التي يرفعون عقائرهم بها ، ويلهجون بها في كل مكان غير تعرية الأشخاص وتصويرهم في أوضاع غريبة وقذرة لا يمكن أن يقدم عليها إلا من كان يعاني من كبت أبدي ومن مركبات ، فأين التجديد " في كل هذا ؟ وأين " الحداثة " في كل هذا ؟ هل بتقديم نص مازال صاحبه يتهجأ الحروف ، ويتدرب على قول جملة ، إلا أنه لا يقدر على جمع الحروف إلى بعضها ؟ أم بكتابة نص مغلق ، ارتحل صاحبه إلى الماضي البعيد وأوغل في دياجير التاريخ واندس بين أسطر معجم قديم ؟ أم بكتابة نص فضائحي ، يرشح عقدا ، لا يمكن أن تستنتج في نهايته شيئا غير أن صاحبه مريض ويجب أن يصف لنا أمراضه ؟

ـ وإما نصوصا مكتوبة بلغة وسط ، وبعامية فجة ويدعي أصحاب هذه النصوص أنهم كتبوا أدبا تقدميا حداثيا ، جريئا ويركزون على الجرأة والجسارة فإذا أمعنت النظر في ما يفخرون به ، تصدمك رائحة العفونة أولا ، وتقرع أذنيك صفاقة القول وبذاءة الكلمات ، وتعمي عينيك بشاعة التصوير وخبث الإشارة .

وإما نصوصا يعهد اصحابها إلى كتابة لغة مستخرجة من بطون المعاجم القديمة ، ولو دققوا النظر لاكتشفوا أن مثل تلك الألفاظ لم تكن حتى في زمن الجوهري وابن منظور وابن سينا مستعملة ، بل كانت من الألفاظ المهملة ، ولكن من وظائف المعاجم أن تسجل تلك الألفاظ . لذلك تجدنا أمام نصوص لا تقول شيئا لأنها ترصف جمع غريب اللغة من شتى القبائل العربية البائدة ، ومع ذلك يحلو لبعض هؤلاء أن يصف نصه ب"الحداثي" ، فإن بحثت فيه عن روح العصر أو عقلية العصر فسيعييك البحث دون طائل .

أما الموضوعات فهي قطعا لن تكون في الدرجة الأولى العقد النفسية والهوس الجنسي على أن مثل هذه الموضوعات يمكن أن تعالج بجدية أكبر ودرس أدق ، لا أن تقدم كما نقرؤها الآن بفجاجة مع بشاعة الصورة ودمامة الفكرة وعنف اللفظ . لا أن يكون النص مفككا غير مترابط ، فيوصف وقتها بأنه "حداثي" أو "طلائعي" أو "تقدمي" وبعضهم أغرم بلفظتي " عجائبي" و" غرائبي" فراح يلصقها حيثما شاء ، وإنما العجيب والغريب في حقيقة الأمر هو ترك مثل هذه النصوص تنشر على الناس

وأن تكون " عيد المساعيد " حداثية أو "واقعية" ، فإن أمرها لا يزعجني في شيء ، وإنما اقول ، وهذا عبرت عنه مرارا ، أنا أطمح إلى كتابة نص "واقعي" ناجح ، و"الواقعية" ليست" التقليدية"  ، "الواقعية" هي مسايرة للعصر ، هي "الحداثة" وهي البحث المتواصل عن نص يتناول قضايا العصر بأسلوب العصر دون الوقوع في الشكل التقليدي القديم . فالنص الواقعي الناجح هو الذي يتناول موضوعا يشترك فيه عامة الناس ، ويكتب بلغة تبدو سهلة لأنها لا تلجئ قارئها إلى الرجوع للمعاجم ، ولكنها موحية في الوقت نفسه فإن كنت قد توصلت إلى أن أشد القارئ ، أو إلى أن أجعله شريكا لي في طرحي فيؤيدني ويناقشني ، وربما يخالفني ، إن كنت توصلت إلى ذلك فإني قد نجحت ، وأشعر أني كتبت نصا اهتم به المعاصرون لي ، ولا توجد إذن حداثة أفضل من هذا .

المسألة ليست في كتابة نص غامض معقد ، أو نص سهل واضح ، المسألة أن تكتب نصا موضوعه يتوفر على قدر من الإثارة ، وتدعو القارئ إلى المشاركة ، وطريقته تلمس فيها الطرافة ، ولهجته محببة تشد القارئ وتجعله يحس بالمتعة ، إن لم تغمرة المتعة بالكامل .

 السيرة الذاتية هل هي الشكل الفني الحديث للرواية ؟

لا ، ليست الشكل الفني الحديث للرواية ، فالسيرة الذاتية منذ ولدت ولدت بهذا الشكل الذي يعتمد الاعترافات أساسا ، إضافة إلى مقومات أخرى حصرها " ف. لوجون" في ما سماه " ميثاق السيرة الذاتية " . وما نلاحظه الآن من تزايد العناوين في هذا الجنس راجع إلى أسباب ، منها التبدلات الاجتماعية والتحولات السياسية دفعت بالكثير إلى استعادة شريط الأحداث الذي عاشوه ، إما حنينا (وهذا قليل) وإما تلميعا لصورة ( وهذا كثير) ، لذلك شهدنا في هذا الجنس العديد من العناوين من تأليف أشخاص لهم نشاط سياسي فكانت كتبهم إما شهادة على العصر مثلما يدعون جميعا ، وإما تصحيحا لبعض ما استقر في أذهان الناس ، بعبارة أخرى ، يريد هؤلاء إعادة كتابة التاريخ بطريقة يكونون فيها الأبطال ، أو الضحايا ويتبرأون من كل العيوب والتهم ، إلى غير ذلك إلى جانب هؤلاء كانت هناك عناوين أخرى تنتمي إلى ما يسمى السيرة الذاتية وهذه عادة الروايات الأولى لبعض الكتاب الذين يحاولون كتابة الرواية ..

اتجه العديد من القصاصين والشعراء إلى كتابة الرواية ، فهل نعيش عصر الرواية ؟ وما هي الفروقات التي تحسب لصالح الرواية ؟

الرواية ليست ممنوعة على الشعراء ولا على القصاصين ولا على أي شخص يأنس في نفسه القدرة على الكتابة الروائية ، أما عن سؤالك : هل نعيش عصر الرواية ... فهذا صحيح .. أصبحت الرواية تجذب أكثر الأقلام ، وتغري الكتاب والشعراء أيضا كتاب ، بالإقبال عليها - إنها الجنس الأجمل والأفسح والأرحب لايواء أوجاع المبدع ، وهي أيضا الأقدر على امتصاص انكساراته وايناع أحلامه وتطلعاته .

في كتب نقدية تواكب تطور الرواية التونسية على غرار كتاب " من أعلام الرواية التونسية " للناقد محمود طرشونة ، وجدنا تغييبا لتجربتك الروائية ، الا يعد هذا غمطا في حقك ؟ أم أن الكتب النقدية يجب أن ينتقي كتابها عينات مخصوصة ؟

للناقد الحرية في اختيار ما سيتناوله بالدرس ، ثم لماذا نذهب إلى أن الناقد ظلم كاتبا من الكتاب وغمط حقه . قد تكون له مبرراته ومسوغاته ، على أن عنوان الكتاب المذكور يفهم منه منذ البدء أن الدارس سيهتم ببعض الكتاب لا جميعهم .

تعد دراستك حول "نادي القصة" مسلكا هاما للباحث لمتابعة مسيرة النادي الأدبية في فترة معينة ، هل من مشروع لدراسة تكمل دراستك سيما وأن مسار الكتابة الأدبية في النادي عرف بعض الإضافات الفنية في السنوات الأخيرة ؟

انتهيت مؤخرا من مجلد ثان اهتممت فيه بالكتابة القصصية والروائية في تونس من 1985 إلى 2005 . وأكون بهذا قد درست عشرين سنة من السرد التونسي ، تضاف إلى السنوات العشرين التي خصصت لها المجلد الأول والذي اهتممت فيه بالفترة الممتدة بين 1964 إلى 1984 وأتمنى أن يصدر هذا المجلد الثاني قريبا .

يحتاج " نادي القصة " إلى نفس جديد ينعكس على الكتابات المنشورة في مجلة " قصص " ، هل من نية لقبول تجارب قصصية مخالفة للسائد ؟

أتساءل باستغراب كبير عن سبب إلقاء هذا السؤال ، فهل وقف " نادي القصة " يوما في وجه التجارب الجديدة والأقلام الواعدة ؟ مطلقا لا ، وكل الكتاب يعرفون أن جل التجارب الجريئة انطلقت من مجلة " قصص " ، وعرفت النور عبر مجلة " قصص " ، فإن كان يبدو على مجلة " قصص " شيء من الهدوء مغاير للسنوات الماضية التي كنا نشهد فيها طفرة في التجارب وهجمة على المغامرة ، فإن ذلك يعود إلى الكتاب أنفسهم ، نحن لم نطلب يوما من أحد أن يكتب في اتجاه دون آخر ، لكن لنا شرطا واحدا ، أعتقد أن جميع الكتاب يشاطروننا فيه ، هو شرط الجودة . نحب دوما أن نقرأ نصا لا يخلو من قصصية .