حوار مع الكاتبة التونسية حفيظة القاسمي

الذاكرة هي الأساس

حاورتها : هيام الفرشيشي - تونس

من جبال طبرقة الشامخة تطل علينا حفيظة القاسمي . هي قاصة وروائية تونسية غزيرة الإنتاج ، التبس تحديد جنس روايتها لدى النقاد ، لكنها ترى بأن الرواية ملكة كل الأجناس وأنها حملت فيها الأسطورة والموروث دلالات أخرى ، وكثفت الرموز واستضافت الرسم والألوان والأصوات . قراءة النقاد لتجربتها الصوفية الحسية أثارت الجدل ، لكنها امتلكت من سعة البال ما جعلها تحدد مفاهيم تجربتها ونزلت الجسد منزلة القداسة والرفعة ، كرمه الله ونفخ فيه من روحه وأنزل الروح القدس على مريم . الحدس المدرك في تجربتها تجاوز المرجعية الصوفية  الأدبية الأقرب إلى روح الذكر المبدع وتجازو تذكير الزمان للتاريخ باحثة عن سلم العبور إلى الكمال المبدع .

اشتغلت على المتخيل الأنثوي والذاكرة النسائية في نصها الروائي ، ولكنها حملت عدستها إلى الوجه الخلفي للمدينة في مجموعتها القصصية " بلهاء أخرى تتحدث " ورسمت معاناة المرأة هناك ، التقيناها وكان لنا معها هذا الحوار :

حول الجزء الأول من روايتك " رشوا النجم على ثوبي " يرى الناقد محمود طرشونة أنك تنزلين الخطاب من حلول الإلاه في الإنسان إلى لغة غزلية إباحية ، وعلق على ما كتبته بأنها جرأة لا مثيل لها في دواوين شعراء الغزل والتصوف حيث امتزج الغزل باللفظ الصوفي . ما رأيك ؟

أحترم كثيرا رأي النقاد ، فكل واحد له الحق في أن يفهم النص حسب آليات نقده . بل أني أفرح كثيرا بالنقد الذي يقدم لي النصح والإضافة . ولأن الخوض في كل ما يتعلق بالدين والمعتقد طريق مثل حد الشفرة ، لا بد أن أنير مساحة الخوض بقناعاتي حتى تتوضح الرؤية أكثر . لقد خلق الله الكون بالحب وبث فيه منه ، وما الحلول عندي إلا هذه الروح التي خص بها الله جسدي ، فهي من " أمر ربي " ، أما القول بالإباحية فمفهوم أخلاقي ، ثقافي ، اجتماعي ، فأنا إذا عبرت عن متعتي بالاندماج في " الشع" العظيم تعرى جسدي وكان مبنيا عليه ، فطينته لا تتفاعل إلا بمراكز الحس فيه ، وعلى القارئ أن يتجاوز البيان الحسي للغة ، ليفهم لغة جوهر البيان . أما حديث التشخيص فما هو إلا محاولة لرفض عجز الإدراك . فالعقل البشري مصارع عنيد لا يقبل إلا بتجلي المنطق والمعاينة . تراه يجمع معجم الصورة المفترضة : "فثمة وجه الله" و"يدالله" و"قال"و"الملك" و"يستوي على العرش" و"يرى" .. وما إن يهم برسمها حتى يصطدم " وليس مثله شيء " فيؤخر فراغ الصورة مضطرا لاحتلام الروح ، عله يكتسب بذلك فسحة من إعادة نظر .

التبس تحديد جنس رواياتك عند النقاد فمحمود طرشونة يراها تجمع بين النثر وقصيدة النثر الخالية من الايقاع ، وتتساءل زهرة الجلاصي إثر تحليلها لروايتك " حمامة البرج " هل ما تقدمه الكاتبة هنا مجرد حكاية أسطورية ؟ أم رواية فكرة ؟ أم رواية تجريبية ، لكن أنى للقارئ أن يظفر بدلالات واضحة المعالم . فهل الرواية في رأيك جنس غير مقيد ومفتوح على كل الفنون ؟

لقد كانت الرواية دوما ملكة كل الأجناس ، فالأقصوصة قد تستوعب لغة الشعر لكنها لن تستوعب الرواية ، والشعر يمكن أن يستلف بعض خصائص القص لكنه يعجز عن الاستمرار في ذلك ، لكن الرواية تنفتح رحبة مطواعة للشعر والقصة والأقصوصة والروا ـ قصة ...بل أنها قادرة على استضافة الرسم والألوان والأصوات ، ويبقى لديها الاستعداد للمزيد ، فهل يمكن بعد ذلك أن نتحدث عن مقاييس ثابتة للرواية ؟ أما نص " حمامة البرج " روا ـ قصتي ، فجنس يجمع بين جنسين ، ويتمرد على الثابت ، وقد كثفت فيه الرموز وحملت الأسطورة والموروث دلالات أخرى ، وحاولت أن أقول أن الموجود ليس هو الحقيقة . أدعو  القراء إلى الاطلاع على هذه التجربة ونقدها نقدا بناء.

لكن الناقدة زهرة الجلاصي ترى أن الجانب المحير في تجربة حفيظة القاسمي وضوح الجهد الذي تبذله في البحث عن مسالك غير مطروقة إلى جانب امتلاكها إلى مخزون ثقافي ينهل من الحكاية والأسطورة وأسفار التكوين والنص القرآني ، لكنها تفتقد إلى الحرفية والقدرة على التوظيف والبناء ، واستقت هذه الملاحظات عند تحليلها لروياتك " الطرح " ؟

إن " الطرح " جزء ثالث من تساعية " رشوا النجم على ثوبي " لذلك أرى أنه لا يمكن أن نتحدث عن رؤية واضحة لجزء إلا في نسيج النص المكتمل .

لماذ تنتهي شخصية " الطرح " وهي شخصية ذكورية لجسد بلا ذاكرة بالتشاؤم ؟

لا يستطيع الإنسان أن يعيش دون ذاكرة ، فماضيه ، فعله ، قوله ، معتقده .. جذور تواجده الفعلي ، وكل حضارة لا تبنى على سابقتها محكوم عليها بالفناء ، فإذا تنكرت الشعوب لذاكرتها انفلت عقدها وأبيدت ، فانظري إلى علماء الدول الكبرى كيف يبحثون عن آثار الغرب ، وتذكري ما حصل لمتحف العراق ولقبور الفراعنة وبردياتهم . خذي قلمك وعددي عمليات النهب التي حصلت عبر التاريخ ولا تزال .. ستروعك الحقيقة ( رغم علمي بمعرفتك إياها ) لذلك ، لأن الإنسان مثال مصغر لهذا العالم لا بد أن تنتهي " الطرح " بمثل ما انتهت .

في الجزء الأول من روايتك المطولة " رشوا النجم على ثوبي " ثمة توظيف للصوفية الحسية ، فما هي قراءتك الذاتية للربط بين الخصوبة الجسدية والتجدد الروحي ؟

يجب أن أوضح قبل الإجابة على هذا السؤال بعض المفاهيم : فالصوفية كما عرفت زهد في الدنيا وإهمال شديد للجسد ورغباته وسفر ومعراج حد التنكر للطبيعة الإنسانية لكنها حسب وجهة نظري هي حياة أكثر إشراقا واعتدالا لأنها تعطي اعتبارا لتكويننا البشري . فالجسد تكوين علوي فصله الله بيده . والمادة إذا ارتفعت إلى ملكوت السر ، اكتسبت رفعة ونورا ، مسافة عاد فيها الطين غير الطين ثم توهج بنفخة الروح . فآدم أبي اكتسب رفعته بالجسد أولا ثم الروح وها هو بامتزاجهما ـ الجسد والروح ـ يتزوج في الجنة ، يلتحم بحواء داخل المكان والمكان محسوس لكنه غير فان ، لكن هذه الرفعة بدأت تتناقص بعد النزول لأنها وضعت في مزاحمة أخرى ، فآدم درءا للفناء كون له تركيبة أخرى هي النفس اكتسبها من تكوينه الأول ، من إعمال عقله ، وفعله في هذا الوجود الذي يرفب في السيطرة عليه ويسابق فيه سلطان الزمان حتى لا يمر دون أثر ، وعندما نتحدث عن الخصوبة عامة نعني الالتحام الجسمي بين الذكر والأنثى الذي يفرز الذرية  واستمرارية الوجود ، لكن الخصوبة أشمل حسب اعتقادي من هذا التعريف : فالله مالك الملك ، خصب الكون بفعل الأمر " كن " وأوجد آدم من عجين الطين ، ونفخ فيه من روحه ثم علمه الأسماء كلها وفصل الأكوان : دحاها وأنجمها ، وأدفأها وأعطاها الحياة والجسد الذي ينظر إليه على أنه تركيبة حيوانية قد ذكرنا الله برفعته يوم أنزل الروح القدس على مريم لتحمل تلك التركيبة بسر النبوة وعظمة الإعجاز ، وقد كانت تأكل وتشرب وينتابها  ما ينتاب جميع الخلق . لذلك والمجال قصير فما سمي " صوفية حسية " هو تصوير لغوي لتلك اللذة التي يشعر بها الجزء عند التحامه بالكل . فروحي قبس من نور من وجهه تعالى ، وجسدي ملمس يديه ، عاش قرب العرش وتعلم ،  أما وقد أنزلت فقد ظل الحنين إلى المكان الأول علي  أن أحترم قدسية تكويني وأخلاق وجودي الجميل فلا أمتهن جسدي ولا أبتذل مشاعري ... وعلي أن أعمل دائما لألين مسافة العودة فهي متدرجة تصاعديا بالضرورة ولارتقاء درجاتها لا بد من المجاهدة والمكابدة لأن نفسي تعمل هي أيضا بعنفوان مستمر لتحافظ على تكوينها ثلاثي الأبعاد وتمنع من هذا الانفصال ومن أفلت من رقابتها للتدرج عاش غربة اللاوجود فلا هو وصل ولا هو قدر على الرضى والسكون .

أليس الحدس المدرك في المرجعية الصوفية الأدبية هو الأقرب إلى روح الذكر المبدع ، ففي المرجعية الصوفية الإسلامية الشرقية والفارسية نجد ابن عربي ومحمد شمس الدين حافظ الشيرازي وفي المرجعية الغربية نجد الشاعر الألماني غوته وغيرهم ..

إن آدم في الأرض غير آدم في الجنة والزمان سلطان للوجود السفلي ، حكم على الجسد بالفناء لذلك سعى الإنسان منذ وعيه إلى البحث عن الخلود ، فرسم الأساطير والعقاقير والعلوم .. صورته المنفلتة عن الزمان ، المتجددة باستمرار ، القادرة على الحياة في كل الأوضاع .. وحواء حورية الجنة ، المقدرة لآدم وفتنة الأمومة وسرها ، لن تقبل هي أيضا بالتهرم والفناء . ترى في وجودها وتفصيلها ما يستحق الاكتشاف ، وقد ذكر الزمان التاريخ وأهمل أنثاه ، لذلك ستظل تبحث عن سلم العبور إلى الكمال المبدع ، إلى الحقيقة ، كل بطريقته لكن الهدف واحد .

لماذا تكرر حفيظة القاسمي قصة إعادة الخلق والتجدد الروحي في روايتها ؟

وهل هناك فرق بين الإنسان الأول وما يحصل الآن ؟ إن الجريمة الأولى هي جريمة هذا العصر ، والإنسان المتمرد العاصي التقى الخائف الكافر المفكر . هو نفسه ، قد يختلف المظهر لكن الأصل ـ الجوهر ـ واحد والكون محكوم ببداياته ، وبين النقطة الأولى والسطر الأخير أثر الإنسان الذي يتدرج في القوة والضعف لكنه يتمحور دائما في هذه المقاومة العنيفة لإثبات الكمال في الوجود الناقص ، وما الأدب إلا طرح ومعالجة ومشاكسة وتصوير لهذا الهم الإنساني في كل مظاهره وعصوره ، لا يستطيع أن يجد موضوعا منفلتا عنه .

ترى زهرة الجلاصي أن الطريف في نصوصك يكمن في اشتغالك على المتخيل الأنثوي والذاكرة النسائية ولكن ما نلاحظه من مجموعتك القصصة " بلهاء أخرى تتحدث " أن المرأة في الواقع تعاني من الانتهاك ، فهل المرأة في المنظوق المتخيل للرواية حلم لصورة أخرى لا كما هي في الواقع القصصي ؟

لكل مدينة وجه خلفي ، فما نراه من أضواء وتطور وتسهيل نقل ومعاملات .. كسب يجب أن نفخر به ونعرف نقاط ضعفه ، لكن الإنسان في ظل هذا التسارع ، ووسط لهيب الأسعار وارتفاع المعيشة تحول إلى آلة لاهثة للكسب ، والمرأة شأن الرجل عاشت هذا التحول لكنها عاشت الأزمة مرتين وتحملت العبء مضاعفا ، ولو حملت عدستك إلى الوجه الخفلي للمدن الكبرى لرسمت الصور باكية لنساء ورجال وشباب مطحونين بالآهة والتشوه . ومجموعتي القصصية " بلهاء أخرى تتحدث " رصدت صورا حقيقية لأوضاع فقيرات ينظفن شوارع المدن حقا ، ويجلسن وراء أكداس الرثاث الساعات الطويلة تحت البرد أو الصهيد ليعدن ببعض الفرنكات فهل إذا رسمت هذه الصور للقراء أكون متنكرة لمكانة المرأة اليوم ؟ ذاك كسب اثمنه وأعترف به وأفخر إلا أن الأحزان الفكرية والنفسية والاجتماعية هي الناخسة وهي الدافعة حقا للكتابة .