حوار مع الدكتور محمود طرشونة

الفن أصل وغاية وليس انتماء أو تمرد !

حاورته : هيام الفرشيشي - تونس

[email protected]

الروائي والباحث التونسي المعروف محمود طرشونة ذو فرادة في ما يكتب ، مدونته السردية زاخرة ، معه كان هذا اللقاء وكانت هذه المصافحة مناسبة لإثارة موضوع الكتابة والنقد والإبداع الحقيقي .

في كتابك " من أعلام الرواية في تونس " اهتممت بكتاب ينتمون إلى التيار التقليدي ( الوطني ، والتاريخي ، والواقعي ) وطرحت اشكالات هذا التيار ، وبينت أن وظيفة الكتابة لا تقتصر على الشهادة أو الموقف أو التعبير المباشر ، ما الغاية من تأليف هذا الكتاب النقدي ؟

الغاية من كل كتاب نقدي إنما هو تشخيص المشهد تشخيصا موضوعيا قصد التعريف بجهود المبدعين الذين ساهموا في رسمه . وهذا الكتاب بالذات اقتصر على رواد الرواية التونسية منذ محمد العروسي المطوي والبشير خريف إلى حسن نصر وعمر بن سالم مرورا بمصطفى الفارسي ومحمد صالح الجابري ومحمد الهادي بن صالح وعبد القادر بن الحاج نصر ومحمد الباردي في رواياته الأولى .

ولأنهم الأوائل في الكتابة الروائية بتونس فقد غلب على أشكالهم ومضامينهم الأسلوب التقليدي ، واقتضت ظروف المرحلة التركيز على قضايا الواقع وتناولها من زاوية النقد الاجتماعي . لكن هذا لا يعني أن لا أحد منهم حاول تجاوز الأنماط التقليدية . فالكثير منهم قد جمع بين المحافظة والتجديد مثل حسن نصر ومصطفى الفارسي . وهذا لا يعني أيضا أن الروايات المصنفة ضمن التيار التقليدي ذات " عيوب " . فنصوص البشير خريف مثلا من العمق والطرافة بمكان . وبعض روايات محمد صالح الجابري وعبدالقادر بن الحاج نصر علامات مضيئة في مسار الرواية التونسية . وعكس ذلك لا يمكن اعتبار جميع الروايات المنتمية إلى التجديد والتجريب خالية من العيوب أو يمكن تفضيلها على بعض أعمال الرواد . والتحليل الموضوعي المجرد هو القادر وحده على التقويم الصحيح وتنزيل كل علم من أعلام الرواية في تونس المرتبة التي هو جدير بها ، ثم إن هذا الكتاب لا يشمل جميع الروائيين التونسيين . فالجيل الموالي المتميز  بمواصلة البحث عن أشكال روائية جديدة سنخصه بكتاب آخر بعنوان " تجارب جديدة في الرواية التونسية " . والجديد كما سنرى فيه الغث وفيه السمين أيضا كالتقليدي تماما .

في كتابك " نقد الرواية النسائية في تونس " رغم إقرارك بوجود روائيات اقتحمن العالم الروائي بزاد فني ، فإنك سجلت عيوبا ومآخذ حول هذه التجارب . هل ترى أن الرواية النسائية في تونس لا تزال تتلمس طريقها ؟

القسم الممهد للسؤال أي الجمع بين التنويه والمآخذ في النظر إلى الرواية النسائية في تونس يؤكد توخي التجرد والموضوعية في مقاربة النصوص بقطع النظر عن انتماء أصحابها . والمبدعون لا يستطيبون دوما الموضوعية وبالخصوص إذا لم تخدم مصالحهم ولم ترض نرجسية البعض منهم . والناقد المجرد لا يمكنه مراعاة شعور هذا أو ذاك ولا ينساق إلى تملق الكتاب ومغالطتهم ودغدغة رضاهم عن أنفسهم ، بل يبين مواطن الجودة في كتابتهم والمواطن المحتاجة إلى التجويد . وفي الكثير من الأحيان يكتفي بالوصف والتحليل فيمتنع من إلقاء دروس لأنه هو نفسه يحتاج إلى دروس غيره . والكاتبة التونسية حديثة عهد بالكتابة الروائية فأول رواية نسائية نشرت سنة 1983 ( آمنة ، لزكية عبد القادر ) فمن الطبيعي أن تكون اليوم " تتلمس طريقها " وأن تسجل نجاحات وخيبات ، رسوخ الأقدام في الكتابة الروائية يقتضي مدة طويلة تقطع فيها مراحل النشأة والتطور والنضج . وهذا الأمر ينطبق على الرواية التي يكتبها رجال إذ لا فرق بين الجنسين في المضامين والأشكال وحتى في الغايات .

أشرت في أحد كتبك السابقة " مباحث في الأدب التونسي المعاصر " إلى اشكالية التجريب بين التنظير والإبداع في بعض أعمال عزالدين المدني . فهل ترى جناية التنظير على الإبداع ؟

بالطبع التنظير لا يضر بالإبداع لأنه ليس دستورا يسبق الكتابة ويحدد لها ضوابط تلتزم بها ولا تتجاوزها . بل التنظير لاحق ينطلق من الإبداع لوصف آلياته وخصائصه وبيان وجوه التجاوز والاختلاف فيه . والغاية معرفية صرف ، فليس القصد من التنظير تزويد الكاتب بجملة من القواعد يطلب منها تطبيقها لأن الإبداع كما يدل عليه اسمه ابتكار آليات جديدة ، وخصائص جديدة تتجاوز الأركان والضوابط . وكتابات عزالدين المدني أكبر دليل . فقد نظر للأدب التجريدي لكنه لم يحدد قواعد يلتزم بها ، بالعكس هو يرى أن " القواعد مقاعد " ، بل ضبط جملة من القواعد الداعية أساسا إلى حرية الإبداع وإلى عدم التقيد بالتيارات والمدارس ، فإذا كان التنطير داعيا إلى الحرية فنعم التنظير ، هو لا يجني على الإبداع بل يحرره من القيود التقليدية المكبلة له .

ونحن لم نجد ناقدا واحدا نظر للإبداع ودعا الكتاب إلى التقيد بتنظيراته أو دعى نفسه إلى الكتابة بمقتضى ما وجده من خصائص نظر لها انطلاقا من أعمال غيره . فلو فعل لجنى على إبداعه وعلى تنظيره في الآن نفسه . ولا أظنك تقصدين تجاربي الروائية الشخصية فهي قائمة على تجاهل كل تنظير وتسطير رغم معرفة صاحبها بالتنظير والتسطير . لكن الاسئناس بتجارب الغير من شأنه أن يبصر الكاتب بمعالم الطريق لا ليتبناها بل ليتجاوزها .

لكن أنصار الرواية الواقعية الاجتماعية والواقعية النقدية يرون أن الرواية " شهادة على العصر " وأن التجريب الروائي حصر نفسه في زاوية ضيقة لأنه " نخبوي " وليس في متناول القارئ العادي . ما رأيك في هذه الاشكالية ؟

هي فعلا اشكالية معقدة لأنها تتصل بعلاقة المبدع بالمتلقي ، والمتلقون غير متجانسين ، فهم ذوو مستويات متفاوتة وأذواق متباينة ومرجعيات مختلفة . فكيف يمكن التوجه إليهم بنفس الأسلوب ونفس المستوى من التبسيط والتعقيد ، ونفس الدرجة من التقليد والتجريب ؟ فلا يمكن إذن أن نفرض نفس التوجه على الجميع . الكاتب التقليدي يروق جمهورا تقليديا والكاتب المجدد يروق جمهورا متطلعا إلى التجديد  وكان بشار بن برد على حق يوم توجه إلى أبي جعفر المنصور بقصيدة اعتبرت عصماء مطلعها :

أبا جععفر ما طول عيش بدائم

ولا سالم عما قليل بسالم

على الملك الجبار يقتحم الردى

ويصرعه في المأزق المتلاحم

لكنه عندما وجه شعره إلى جارته ربابة وهي امرأة عادية لا نصيب لها من الثقافة نظم لها شعرا بسيطا كان متأكدا أنها ستطرب له لبساطته وتناوله البعض من مشاغلها اليومية :

ربابة ربة البيت

تصب الخل في الزيت

 لها سبع دجاجات

وديك حسن الصوت

هنا الشاعر واحد . لكن بالنسبة إلى الرواية ليس الكاتب مضطرا إلى التوجه العادي من القراء بأسلوب وإلى النخبة بآخر ، بل يكتب ما يرضى عنه هو ، ويترك لغيره حرية الكتابة بالشكل الذي يراه لإرضاء جمهور مخصوص .

في كتابكك " ألسنة السرد "  اهتممت بالرواية الحديثة من حيث الشكل من خلال عينات من الروايات التونسية والعربية ، هل أن التجديد والابتكار سنن يجب أن تسير عليها الكتابات المعاصرة لتخرج من فخ التصنيفات النقدية الجاهزة كما يرى بعض المبدعين ؟

لا يصحّ لهم القول أبدا إنه يجب على المبدع أن يكتب حسب سنّة من السنن ولو كانت " تجديدا وابتكارا" كما قلت ، المبدع ليس مُلْزما بأيّ توجّه وإلاّ ما كان مبدعا، وليس من حق الناقد توجيهه إلى وجهة يرتضيها هو. إنما المبدع حرّ في إبداعه وبالتالي فهو مسؤول عنه، يكتب كما يروق له والناقد يقيّم بعد ذلك ما كتب، أمّا أن يفرض عليه مسلكا بقصد إخراجه " من فخّ التصنيفات النقدية الجاهزة" فهذا ليس دوره .

 دعوت في كتابك " اشكالية المنهج في النقد الأدبي " إلى منهج متكامل بعد أن بينت قصور كل منهج إذا وقع الاقتصار عليه والتقيد بأركانه ؟

الواقع أني دعوت إلى حرية النقد ، كما يقتضي الموضوع في الإبداع الشكل المناسب له ، كذلك طبيعة النص الإبداعي تقتضي المنهج أو المناهج المناسبة له ، فلا يمكن مثلا نقد رواية حديثة بتطبيق منهج " بروب " وقد طبقه على الحكاية الخرافية ، ثم إن الاقتصار على مقاربة واحدة ، نفسية مثلا أو اجتماعية أو أسلوبية ، يوجه الناقد إلى جانب واحد من النص الإبداعي فتغيب عنه أبعاد النص الأخرى وتبدو وكأنها غير موجودة في حين أنه لا يخلو أي نص قوي منها ولا أرى فائدة في الإسهاب في هذه النقطة لأنه سبق لي أو وضحتها في عديد المناسبات . وقد سعدت بتبني العديد من النقاد والباحثين من تونس وخارج تونس لمقوماتها في أعمالهم .

انت استعرضت هذه المناهج في مقدمتك لكتاب " مائة ليلة وليلة " وبينت فيها أصوله ومصادره ووظيفة الإطار والحكايات الفرعية والراوي والجمهور واللغة وغير ذلك . فما الغاية من تحقيق هذا الكتاب ودراسته ؟

الغاية من تحقيق هذا النص التراثي الهام هو النص نفسه . فهو جزء من التراث السردي العربي كان لا بد من التعريف به نظرا إلى قيمته الفنية والإنسانية . وقد لقي رواجا كبيرا فترجم إلى الروسية في طشقند وإلى البرتغالية في البرازيل ونشرت هذه الترجمة الثانية في طبعتين متتاليتين في مدة قصيرة ودعيت إلى مزيد التعريف به في البرازيل في الصائفة الفارطة . طبعته العربية الثانية في كولونيا لقيت رواجا فاق الطبعة الأولى سنة 1979 بتونس ، وكان الكتاب منطلقا لدراسات علمية عديدة في لبنان والعراق وخاصة في جامعة الرباط . والطريف في الأمر أنه ترجم إلى الفرنسية قبل أن أنشره بالعربية بما لا يقل عن 64 سنة . وأعيد نشر الترجمة الفرنسية منذ سنوات .

وألف ليلة وليلة ؟ لماذا اخترت هذا الأثر دون غيره لتطبيق منهج الأدب المقارن في كتابك " مدخل إلى الأدب المقارن " وتطبيقه على ألف ليلة وليلة ؟ "

هذا الكتاب صار من تراث الإنسانية . وقد ساهمت عدة ثقافات في بنائه إذ هو يتكون من نواة هندية ترجمت بتصرف إلى الفارسية ، أضيفت إليها نصوص عربية في مرحلته البغدادية ثم استولى الرواة المصريون على المجموع وصهروه وأضافوا إليه أهم ما يوجد اليوم في الكتاب من حيث الحجم . وبقي يتداول مشافهة وتدوينا مخطوطا إلى أن ترجمه الفرنسيون منذ سنة 1704 وترجمه عنهم الأنكليز والألمان والايطاليون والاسبان وغيرهم ، ثم بعد ذلك كله نشر في لغته العربية بالهند ثم ببولاق بمصر قبل أن يحول إلى فنون أخرى فتقتبس منه روايات وأشعار ، وأفلام ورسوم وغير ذلك ، فهذا البعد الكوني المتعدد لكتاب " ألف ليلة وليلة " هو الذي فرضه مدونة ثرية طبقت عليها ما نظرت له من منهج في الأدب المقارن .

أنت ناقد وباحث ، لكنك روائي . وقد صنفت رواياتك وخاصة " المعجزة " و " التمثال " ضمن تيار الرواية العجائبية . فهل هو توجه فني أم تأثر حتمته دراساتك لألف ليلة وليلة ومائة ليلة وليلة ؟

التأثر بالتراث العربي وغير العربي أمر طبيعي لكنه هنا غير مقصود . على كل مهما كان المعنى المقصود فهو لا يمكن أن يكون سببا مباشرا في الكتابة العجائبية في بعض رواياتي . ما ذكرته في بداية السؤال من توجه فني هو الأصح لأن الفن هو الأصل وهو المصدر والغاية . والفن إذا شابته اعتبارات أخرى خرج عن كونه فنا إلى ما سواه . وبعض المواقف والمشاهد والشخصيات تفرض نفسها فرضا على الكاتب فلا يتحكم في مسارها و مآلها ولا حتى في أسلوبها . أحيانا تجرني الشخصيات إلى عالمها جرا عنيفا لا يقاوم ، ولا ينبغي أن يقاوم ، لأن الكاتب يخلق عالمه ، وعالمه يخلق مواقفه وأساليبه . فإذا أبدى مقاومة لها أصابه التصنع والتكلف وأنتج أذبا بائسا خاليا من التوهج وشيء من الجنون ضروري للتحرر من عديد القيود . وقد تحررت مريم في " المعجزة من رداء الواقع ومن سطوة الموت بفضل عشقها المجنون ، كما تحررت أمينة البوني في " التمثال " من ثقل المرمر وسطوة التاريخ بفضل عشقها المجنون لجمال المرمر وجلال التاريخ . والجمال والجلال غاية الفن تطلب ولا تدرك إلا إذا تحول الفن نفسه إلى غاية .

وفي روايتك الأولى " دنيا " انطلقت من الكتابة الواقعية ، لكنك كسرت منطق الواقعية في فصل وحيد عندما أدخلت القارئ دهاليز الذاكرة العجيبة ، هل تعتبر ذلك الفصل مؤشر للتمرد على تيار الرواية الواقعية سيتبلور في الروايات اللاحقة ؟

إذا كان هناك من تمرد فهو ليس مقصودا في حد ذاته بل فرضه العالم الروائي الذي حاولت إنشاءه بالأدوات الفنية المتوفرة . مرة أخرى الفن هو الأصل والغاية وليس الانتماء والتمذهب أو الامتثال والتمرد . فالتمرد على الواقع المسطح وعلى الأدب المستريح فرضه النبش في أعماق الذاكرة ومجاهل الوجدان ومسالك الإبداع . فتلك هي العناصر المكيفة والموجهة لكل خلق نفي ، وإذا خرج الإلهام عنها كان مآله الفتور والتقليد . فإذا لاحظت أن كسر منطق الواقعية في " دنيا " محدود فذلك لأن موضوع تلك الرواية الأولى مستلهم من الواقع الاجتماعي بمختلف تناقضلته ، غرقت في خضمه الشخصيات فلم يبق لها مجال للحلم والتخلص من ربقة الواقع ، إلا ما شاء ربك ، اختلاسا وهياما .

اهتممت بجمع أعمال الأديب محمود المسعدي وهو على قيد الحياة  ، هل سبب هذا الاهتمام بأدب المسعدي هو ما يزخر به من رقي إبداعي فكري ومن عبقرية فذة لم تتكرر في أدبنا التونسي بمثل ذلك العمق وبمثل تلك الحكمة ؟

 لقد تعلمت من السنوات الفارطة أن على الكتّاب أن يعوّلوا على أنفسهم للحفاظ على الذاكرة الفكرية والحضاريّة وألاّ ينتظروا من المؤسسات العامّة والمنظمات القطاعية أن تتكفّل بها إذ هي منشغلة بأنشطة أخرى تراها أوْلى بالاهتمام والاحتفال. وهي لم تدرك بعد أن تونس لن تجود في كل يوم بنوابغ من صنف ابن خلدون والشابي والمسعدي . وأرى لزاما عليّ أن أذكّر بتوصية نخبة من الكتّاب العرب من مصر وسوريا والمغرب ولبنان والعراق وتونس وليبيا المجتمعين في المركز الثقافي التونسي الليبي في ندوة عن " أعمال المسعدي الكاملة" والداعية إلى ترشيح محمود المسعدي إلى جائزة نوبل. وقد نُشرت التوصية في الصحافة العربية ولكن لا أحد حرّك ساكنا وقام بالمبادرة إلى أن عاجلته المنيّة، فتأجل إلى أحد القرون القادمة فوز كاتب تونسي تتوفّر فيه شروط الحصول على جائزة نوبل .

وقد اهتممت بجمع كتاباته المطبوعة والمخطوطة وتصنيفها ودراستها ونشرها لاعتقادي في قيمتها الثابتة ورغبة في مزيد إشعاعها. وقد صدرت وكان لا يزال على قيد الحياة فسعد بها كثيرا وكانت أجمل هديّة قدّمناها له بمساعدة وزارة الثقافة والمحافظة على التراث التي سخرت مشكورة اعتمادات كافية لإخراجها في أحسن حلّة، في أربعة مجلّدات بلغت ما يقارب الألفي صفحة، ولقيت صدى واسعا في تونس وخارج تونس لِمَا حوته من نصوص إبداعية وفكرية ونقدية وأكاديمية قلّما تتوفر في كتاب واحد بمثل ذلك المستوى من التفرّد والابتكار والعمق .

"الذي يكون المثقف مطالبا به هو أن يشعر بأن أبعاده الوجودية الفردية لا يمكن أن تكون إلا أبعاد المجتمع الإنساني الزمانية والمكانية معا " هل تعتقد أن هذا الرأي لا ينسحب على قائله في تونس فحسب ، وهو الأديب محمود المسعدي لأنه نحت كيانه الفردي والجماعي من خلال أدب وجودي عميق واضطلاعه بمسؤوليات ثقافية وتربوية لبناء المجتمع التونسي على أسس ثقافية عربية إثر فترة الاستعمار ؟

لا شكّ في أن المسعدي استلهم هذا القول من تجربته الشخصية، فقد نحت فعلا كيانه الفردي بما ابتدعه من " أدب وجودي عميق" وساهم في تأسيس الحركة النقابية بتونس، وفي النضال الوطني قبل الاستقلال، ثم اضطلع بمسؤوليات حكومية في مجالي التربية والثقافة مركّزا نشاطه على التأسيس، تأسيس الجامعة التونسية التي تحتفل هذه السنة بذكراه الخمسين ( وقد سعدت كثيرا بتكريمي يوم 16 ديسمبر 2008 بكلية العلوم الإنسانية والاجتماعية بشارع 9 أفريل ضمن الجيل الثاني من المؤسسين)، وتأسيس تصوّر تربوي هادف إلى تعميم التعليم ومجانيته وإجباريته لإيمانه العميق بأن المعرفة ضرورية كالماء والهواء، وأنه دون علم لا يتسنّى لأي مجتمع الترقيّ والتقدّم والخروج من التخلّف. ولا نبالغ إذا قلنا إن الجيل الذي ساهم في بناء الدولة والمجتمع التونسي هو ثمرة ما زرعه من نظام تربوي رائد. وبذلك يتبلور معنى " المسؤولية " بصفتها ركنا من أركان الوجوديّة وخيارا فرديا لا محالة لكنه في خدمة الجماعة.

هل ينسحب هذا الرأي على قائله فقط ؟ لا أظن ذلك لأن المجتمع التونسي قد أنجب عبر العصور شخصيات عديدة تفانت في خدمته وانخرطت في أبعاد المجتمع الإنساني الزمانية والمكانية فكانت علامة مضيئة في تاريخ الإنسانية. وقد أهدى المسعدي كتابه "السد " إلى روح فرحات حشاد لإيمانه بأن ذلك الرجل قد نحت هو الآخر كيانه الفردي وانصهرت أبعاده الفرديّة في الأبعاد الاجتماعية والإنسانية . 

ألا تعد قراءات المسعدي لأدبه من خلال اللقاءات الأدبية والحوارات هي خير مدخل يعتمد في تقريب أدب المسعدي للدارسين في رأيك ، وهل من نية لإصدار كتاب موجه للدارسين عامة يضم كل الإضاءات الأدبية التي قدمها المسعدي حول أدبه ؟

مقترحك وجيه لكنّه يهمّ النّاشرين والمراكز البيداغوجية، أمّا أنا فقد وفرّتُ المادة لمن يريد استثمارها وانتهى دوْري. والكمّ الهائل من النصوص والحوارات والمراجع التي ضمّنتها هذه المجلدات الأربعة مادّة خام في إمكان الباحثين والمترشحين لنيل شهادات الماستار والدكتورا اعتمادها لإنجاز رسالة جامعية أو كتب نقدية وغيرها. إلاّ أنني ألاحظ أن تحليل المسعدي لأدبه لا يمكن اعتباره من المسلّمات التي يُنطلق منها لتأكيدها واعتبارها القول الفصل . فقراءته ليست إلاّ إحدى القراءات وتأويله ليس إلاّ واحدا من التأويلات العديدة لنصوص لم تبحْ بعد بجميع أسرارها، ولا يمكن اعتبارها مفاتيح وشفرات لفكّ رموزها. وهو نفسه لا يريد أن يفرض قراءته على أيّ كان. وقد بيّنت هذا في مقال لي بعنوان " قراءة المسعدي لسدّ المسعدي" نشرته في كتابي " ألسنة السرد " ( الدار العربية للكتاب، 2007  ).

من خلال اطلاعي على ما كتب عن أدب المسعدي أجد أنك الأكثر إلماما بمكونات التجربة الأدبية الفكرية عند المسعدي في كتابك " الأدب المريد " وفي دراسات متفرقة في كتبك مع دراسات أخرى لنقاد آخرين ليست بزخم إلمامك بها ، بل أجدك تشاطره الرأي بأن الأدب الحقيقي ينبلج من الفكر والوجدان وأعماق الذات وأن التصنيف ليس هو الأهم في العمل الأدبي ، ما رأيك ؟

صحيح أنّي أشاطره الرأي بأن الأدب الحق ينبلج من الفكر والوجدان وأنه تعبير عن أعماق الذات ، كما أرى مثله أنّ التّصنيف أمر ثانوي في العمل الأدبي لأن الأهمّ هو صدق الفنّ، أمّا اعتبار " السد " مثلا رواية أم مسرحية أم روامسرحيّة أم غير ذلك فلا يتوقف عليه فهم النص وتأويله. وقد كثر الجدل في جنس " حدث أبو هريرة قال..." الأدبي إذ من النقاد من لا يعتبر هذا النص رواية معتمدا على توظيف فنّ الحديث والخبر فيه، واعتبره آخر رواية بأتمّ معنى الكلمة لما وجد فيه من تسلسل الأحداث وتحليل الشخصيات... المهمّ أن يقرأ قراءة معمّقة تبرز فنّه وأبعاده الوجودية والفكرية .

أما بخصوص كوني " الأكثر إلماما بمكونات التجربة الأدبية والفكرية عند المسعدي" فلا أظنّ أني الوحيد الذي أُغرِم بكتابات المسعدي وألمّ بها ودرسها درسا معمقا. فهناك عدد من النّقاد التّونسيين أدركوا تميّز المسعدي وعمق تجربته الإبداعية، أخصّ بالذكر منهم الأستاذ توفيق بكّار في مقدّماته للسد و" حدث أبو هريرة قال..." و" من أيام عمران ". وفي ترجمته لمولد النسيان إلى الفرنسية. فقد قدّم قراءة عاشقة لهذه المؤلفات تعتبر مرجعا لا محيد عنه، كما أذكر الأستاذ خالد الغريبي في أطروحته المعمّقة في موضوع " جدلية الأصالة والمعاصرة في أدب المسعدي" الصادرة في طبعتين ( 1994 و 2006 )، وهناك أيضا جملة من الباحثين الشبّان الذين اقتنعوا بفرادة التجربة فحلّلوا بعض عناصرها مثل جلال الربعي في كتابه القيّم " أسطورة الخلق في كتاب السدّ، من التّرنيم الطّقسي إلى التخييل الفنّي" ( تونس 2004 ). صحيح أنّي ألممتُ بكلّ ما كتب المسعدي وقال مشافهة فحوّلته إلى مكتوب، وصحيح أنّي اكتشفت بعض نصوص مخطوطة له كان أهملها في صناديق ولم تكن له نيّة الرجوع إليها ونشرها لأنها غابت من ذاكرته، لكن كلّ هذا اقتضاه الاهتمام بنشر أعماله الكاملة .

عرفناك عضوا ورئيسا لعديد لجان التحكيم الأدبية مثل جائزة الملك فيصل وجائزة الرواية العربية بالقاهرة وجائزتي " كومار " و" الكريديف " بتونس . هل شعرت يوما ما بظلم بعض المترشحين أو حرمان بعض الأسماء من جوائز هي جديرة بها لكن حرمت منها لاعتبارات معينة ؟

طبعا ، الظلم والحيف لا مناص منهما في مجال الجوائز الأدبية ، ففي الكثير من الأحيان يفوز بالجائزة من لا يستحقها في نظري ويحرم منها من هو أجدر. وهذا أمر طبيعي جدا في مجال الأدب ، لأن الادب فن وفكر ووجدان ، ينبع من الذات الإنسانية ويتجه إلى قارئ إنسان ، له هو الآخر فكر ووجدان وذوق كلها توجه اختياره لهذا الأثر الفني أو ذاك . ومن هنا ينشأ الاختلاف بين أعضاء اللجان ، ويكون القول الفصل بالطبع إلى الأغلبية ، وليس في إمكان أي عضو أو أي رئيس أن يفرض إرادته على الجميع ، إلا إذا تعادلت الأصوات فيحسب صوت الرئيس مرتين . وإذا كان لا بد من مثال فإني أذكر حرمان ابراهيم الكوني من جائزة عربية هامة بسبب جهل بعض أعضاء لجنة التحكيم بمؤلفاته الرائدة في مجال رواية الصحراء وأساطير الطوارق وهي تمثل إضافة هامة للرواية العربية والعالمية . فلم يجد دفاعي عنه وقد رجح صوت رئيس التحكيم الكفة لغير صالحه لأنه حسب صوتين بعد نتيجة التصويت المتعادلة . وفي تونس حرم العديد من أصدقائي وطلبتي القدامى من بعض الجوائز لأن نصوصهم لم تحظ بأغلبية الأصوات ، وقد صوت شخصيا ضد البعض منهم لأني وجدت الجودة والإضافة في نصوص غيرهم ممن لم ألتق بهم ولو مرة واحدة . ذلك هو منطق لجان التحكيم ومنطق الديمقراطية والحياد . ولو كان المنطق والقوانين تسمح بترشيح نصوصي في لجان أترأسها أو أكون عضوا فيها ووجدت ما هو أجود منها لصوت ضد نفسي ،  وهذا ليس من باب المبالغة بل أعتقده راسخ الاعتقاد . وإني أتحمل مسؤوليتي وأعرض نفسي للانتقاد والغضب وحتى المقاطعة لأني مرتاح الضمير . وقس على ذلك ما يتعلق بلجان الانتداب والارتقاء في الحياة الجامعية . فقد عانيت كثيرا من عدم تفهم بعض المترشحين وخاصة منهم القريبين مني فكريا واجتماعيا فخسرت صداقات وجلبت لنفسي عداوات لكن كل ذلك لا يهم ما دمت مرتاح الضمير .

يجابه الكاتب الشاب حين يدخل للساحة الأدبية  بمن يريد أن يصيغ ذلك النتاج الأدبي على ذائقته الذوقية والفكرية ، هل تخدم هذه الظواهر الأدب في رأيك ؟

 كلّ ما يمكن لي قوله هو التعبير عن مبدإ عام يتمثل في ضرورة تشجيع الكتّاب الشبان بجميع الوسائل وعدم التدخل في حريّة إبداعهم مهما كانت آراؤهم ومواقفهم، فلا إبداع دون حرية.