مع رؤوف مسعد

رؤوف مسعد: لست مستعدا أن أدفع لنشر أعمالي مثل الكتاب المبتدئين الذين لا يعرفهم أحد صاحب «بيضة النعامة» لـ«الشرق الأوسط»: الرواية العربية تفتقد إلى ناقد يمتلك أدواته وغير متحيز شخصيا لعمل ما أو لكاتب ما

أمستردام: مروان علي
 

قرر أخيراً الروائي المصري رؤوف مسعد، مع مجموعة من الكتاب المهاجرين، تأسيس دار صغيرة للنشر باسم «المهاجرون»، وذلك بعد أن انعكست حالة التردي السياسي العربي العام على بعض الناشرين العرب، كما يقول في هذا الحوار الذي يتحدث فيه عن تجربته الروائية، ومشروعه المقبل الذي يعتبره تجربة جديدة:

كيف جاءت فكرة «مهاجرون»؟

 

ـ فكرة «مهاجرون» نبتت في خاطري بعد ما خذلني ناشران كنت أتوسم فيهما حسن النية: الاول الناشر المصري «مدبولي» وقد نشر لي من قبل 3 كتب : اعادة طبع بيضة النعامة بعد نفاد طبعتها الاولى الصادرة عن دار «رياض الريس»، واعادة طبع «مزاج التماسيح» بعد نفاد الطبعة المحدودة التي طبعتها على نفقتي وطبع أيضاً «في انتظار المخلص». وقد اعطاني ما طلبته من عائد مالي وكانت علاقة طيبة بين ناشر وكاتب. وطلب مني اكثر من مرة ان يكون ناشري المصري ورحبت بذلك بل وشكرته كتابة  )يا للسذاجة !) في مقدمة الطبعة المصرية لبيضة النعامة.
وفي العام قبل الماضي اتصل بي خالد المعالي صاحب «دار الجمل» وتفاوضنا واتفقنا على ان ينشر لي «غواية الوصال» وكتاب «السودان ستون عاما من الحنين» ووقعنا عقدا بنشر الكتابين واصررت على تحديد موعد ولو تقريبي للنشر في العقدين المنفصلين للكتابين.. وقد كان! وارسل لي المعالي بروفات التصحيح واقتراحاته وتصوراته عن الغلافين وقمت قبل ذلك بزيارته في المانيا واتفقنا على التفصيلات المالية والفنية. لكنني فوجئت بأنه تجاوز المدة المتفق عليها في العقدين ولم ينشر او حتى لم يهتم بأن يرد على مكالماتي الهاتفية فأرسلت له خطابا مضمونا ابلغه فيه بأني في حل من الارتباط معه طالما انه لم يف بالاتفاق المكتوب بيننا واكتشفت انه خلال المدة كلها لم ينجز خطوة واحدة مما اتفقنا عليه! قمت بالاتصال بمدبولي وابدى استعداده للنشر فبعثت له بديسكات رواية «غواية الوصال» وكتاب «السودان ستون عاما من الحنين»، وهو كتاب تسجيلي لرحلتي الاخيرة الى السودان مسقط رأسي تناولت فيه الحرب الاهلية بالاضافة الى تسجيل ليوميات الرحلة التي زرت فيها المناطق والبلاد التي اعرفها من طفولتي وصباي هناك، كما عرضت عليه ايضا كتاب «الاسلام لابني»، وهو الحوار الذي قمت به مع الدكتور نصر حامد ابو زيد.
الغريب انه بعد ان قمت بتصحيح مسودات الكومبيوتر للكتابين الاولين اعلن بعد شهرين من انتهاء التصحيحات انه لن ينشر الكتب الثلاثة، بحجة انها «كتب تثير المشاكل !!» كما قال. ووجدت نفسي في موقف غريب.. ففي حوزتي 3 كتب لا استطيع نشرها، كما فوّت علي فرصة الاتصال بناشرين آخرين للتفاوض معهم في نشر هذه الكتب، خاصة بعد ان صرحت اكثر من مرة في لقاءات صحافية وفي ندوات بأني انهيت كتابة هذه الكتب الثلاث!!
كنت اظن ـ ويا للسذاجة ايضا ـ بأن مهمتي ككاتب تنتهي بعد انتهائي من الكتابة وتسليمي انتاجي لناشر والاتفاق على التفاصيل.. لكن يبدو ان حالة التردي السياسي العربي العام انعكست على بعض الناشرين العرب ولن اقول كلهم.
هكذا وجدت نفسي «ككاتب» احمل انتاجي فوق كتفي ـ مجازا وحقيقة ـ بعد ان حققت بعض الانتشار وبعد ان تمت ترجمة بعض اعمالي للغات اوروبية، وبعد ان اعتبرت نفسي حصلت على بعض الشهرة، لأجد نفسي في وضع مؤسف بأني مطالب ان ادفع لبعض الناشرين المصريين او غيرهم نفقات طباعة اعمالي مثلي مثل المؤلفين المبتدئين الذين لا يعرفهم احد !
فقررت انه طالما سأقوم بدفع تكلفة الطباعة، فسأتولى طباعة الكتاب على نفقتي واكون انا الناشر في الوقت نفسه. وهكذا قمت بالاتصال مع عدد من الزملاء والاصدقاء من «كتّاب المهجر» وعرضت عليهم فكرة «مهاجرون» وكتبت بيان التأسيس وسأتلو لك مقتطفات منه كما هو مكتوب في صدر المطبوعات التي اصدرتها، وهي 4 حتى الآن.
«
مهاجرون» تعني الابداع بمعانيه المختلفة : هجرة جسدية من وطن الى مكان آخر يصبح هو الوطن الثاني، وهجرة من الابداع التقليدي الى ابداع آخر.. انها هجرة من النشر التقليدي الى النشر الشخصي، بحيث لا تتحكم في النشر سوى جودة النص، بدلا من ان تتحكم فيه طلبات الناشر الاقتصادية والشخصية.. نعتمد على انفسنا وعلى قروشنا الزهيدة ولأنها مطبوعة تتطلع الى التحرر من سيطرة الناشر وآليات السوق، فلا يبق امامها سوى الاعتماد على المبادرات الشخصية من المبدع والقراء.هذا وقد اصدرنا رواية «السر» للكاتب السوداني المقيم في السعودية عبد الفتاح عبد السلام، وديوان شعر بعنوان «يسقطون وراء الغبار» للشاعر السوداني نصار الصادق الحاج ومجموعة قصصية بالعربية للكاتبة الافغانية رقية سيد المقيمة في هولندا بعنوان «زهور من قلب الشتاء وزهور من جوف الحرب»، هذا بالاضافة الى «غواية الوصال». جميع هذه المطبوعات تقوم بتوزيعها مؤسسة توزيع وسوف يوضع العائد المالي في «حساب خاص» اشرف عليه للمساهمة في نشر نصوص جيدة لا يمتلك اصحابها نفقات الطباعة.هذه هي مهاجرون !


*
لماذا اعدت كتابة «بيضة النعامة» رغم الشهرة الكبيرة التي حققتها بصيغتها الاولى؟


الطبعة الاولى من بيضة النعامة صدرت من دار رياض الريس عام 1994 في خمسة آلاف نسخة كما جاء في العقد، وبالمناسبة حصلت منها على خمسمائة دولار «مقطوع» وان كنت حصلت من الترجمة على اكثر بكثير! وقمت بطبعها طبعة خاصة محدودة على نفقتي ثم طبعها مدبولي طبعة ثالثة عام 2000 وقد نفذت ايضا وحينما فكرت بطبعها الآن قمت بمراجعتها ووجدت فيها بعض الثرثرة والترهل، كما وعيت ان هناك بعض الاسماء التي اتصل بي اصحابها يحتجون عليّ فقررت تغيير بعض الاسماء وحذف الفقرات المترهلة، كما اني الوحيد الذي اعرف ان فصلا كاملا قد سقط «او حُذف» في الطبعة الاولى وطبعة مدبولي، وكنت قد اهملته في الطبعة الخاصة فقررت اضافته الى الطبعة الرابعة.
كذلك سأطبع «البضة والغواية» في مجلد واحد وبسعر رخيص لأني اعرف ان «غواية الوصال»، هي الجزء الثاني من بيضة النعامة ولكن بينهما عشر سنوات، وكذلك رواية «مزاج التماسيح» ومجموعة قصص «صانعة المطر»، التي نفدت ايضا من سنوات.


*
هل تغير شيء في رواياتك عند إعادة طبعها، كأن تحذف أو تضيف، أو تعيد الصياغة لبعض الفصول أو المقاطع؟


ـ إني انظر إلى أعمالي المنشورة جميعا بعين غير راضية وناقدة وقاسية، فمثلا في غواية الوصال قمت في الطبعة العربية (الثانية) بترجمة الفقرات الانجليزية، كما اني سأضيف اليها في الطبعة الجديدة فصلا قمت بحذفه عند الطبع عندما نصحني بعض الاصدقاء واستمعت لنصحهم، لكني اكتشفت انها كانت نصيحة خاطئة واني كنت متهاونا في قبولها كذلك في «صانعة المطر» اجد فيها بعض التفلسف واستعراض العضلات. سأقوم بالحذف إذا ما قررت اعادة طبعها وهذا ينطبق ايضا على «مزاج التماسيح». اكره احيانا «بيضة النعامة» لأنها القت بظلها على «مزاج التماسيح»، التي اعتقد انها رواية متفوقة تقنيا عن بيضة النعامة، ولأن بيضة النعامة صنفتني، ككاتب ايروتيكي فقط، وهذا شيء يشرفني وافخر به، لكن هذه «قراءة» متعجلة لها وترى طبقة واحدة منها وهي تحتوى على طبقات اخرى مختلفة.مرور الوقت يجعلني ارجع واقرأ أعمالي السابقة ـ كما قلت من قبل ـ لاكتشف مواطن الضعف فيها لأحاول تجنبها ومعظم الوقت تكون «قراءتي» مزعجة ومؤلمة فالقي بالكتاب جانبا غاضبا من عدم وصولي للكمال المنشود، لأني اؤمن بقول الشاعر «لم ار في عيوب الناس عيبا كنقص القادرين على التمام». اعتبر نفسي «قادرا على التمام» لولا العجلة والكبرياء الكاذبة والكسل الذي هو واحد من طباعي ولن اقول نقائص!

 

* هل هناك رواية جديدة او مشروع كتاب ما ؟


ـ على وشك الانتهاء من المسودة الاولى من رواية تشاركني ابنتي «يارا» في كتابة اجزاء منها، وهي تجربة جدية ـ بالنسبة لي على الاقل ـ مخيفة ومثيرة لأنها تمزج الخاص والشخصي بالعام والفني، ولكل فضاؤه وقوانينه. انها رواية سوف تكون الحلقة الاخيرة فيما اطلق عليه «السرة الدانية المروية» بعد «بيضة النعامة» و«غواية الوصال».اقترحت انا عنوانا هو «ابنة المهاجر»، واقترحت ابنتي «سجون ابي» ووافقت على اقتراحها ! وهو عنوان ادق ويتضمن فكرة الرواية من سجون حقيقية وسجون معنوية.ببساطة هي الفصل الاخير في عملية البحث التي بدأت في «البيضة» وتواصلت في «الغواية».في الروايتين كان بحث الراوي ( الثلاث روايات مكتوبة بضمير المتحدث) يدور حول نفسه وحول الجسد وحول العلاقة بالعالم.. في «السجون»، يبحث الراوي عن ابنته كما تبحث البنت عن ابيها. البحث هنا معنوي ونفسي; فالأب وهو مهاجر سياسي يساري مصري، لاجئ سياسي يعيش في هولندا، ومتزوج من هولندية، محبط سياسيا واجتماعيا وعائليا يجد نفسه في السجن رهن التحقيق بعد احداث الحادي عشر من سبتمبر. في السجن يبدأ بمراجعة حياته واحباطاته واهمها انه لم يستطع ان يفهم ابنته او ان يجعل ابنته تفهمه، فالصراع بين ثقافتين ورؤيتين للحياة بينه وبين وطن اللجوء تمحور في علاقته بها ورفض كل منهما لرؤية الآخر للحياة.
في السجن ترسل له ابنته خطابا تقول له في بضعة اسطر «من انت ؟ انا لا اعرف» اقترحت على ابنتي يارا الفكرة وتحمست هي لها.. سترسل لي الخطابات وسأجيب عليها مسترجعا حياة طويلة تقارب نهايتها للأب السجين يحكي فيها عن اسرته الاولى وعن سجونه في بلاد العرب وبلاد الافرنج وعن آماله التي لم تتحقق، يحاول ان يفتح حياته واسراره لابنته، وهي بالمقابل ستحاول ان تفهمه وتجعله يفهمه. وسأضع اسم يارا معي على الغلاف بجوار اسمي!احاول الحصول على إذن بزيارة بعض السجون الهولندية حتى اقارن بينها ـ في الرواية ـ وبين السجون العربية التي اعرفها. كما اني اجمع معلومات من محام هولندي صديق عن «اجراءات التحقيق» في هولندا وحقوق المتهم قبل المحاكمات وبعدها حينما تثبت عليه التهمة او حقه في التعويض حينما تثبت براءته !


*
كررت اكثر من مرة انك كاتب مزعج


ـ الحكاية ان معظم الكتاب العرب ـ مع تقديري لهم ـ لايستطيعون او لايجرؤون على الخروج والعمل بعيدا عن المؤسسة بكل انواعها بما فيها مؤسسة الكتابة، واعني الكتابة التي تعني بكل ما هو لطيف وجميل وتتحاشى الاقتراب من القبيح والبعيد عن المألوف. أعتقد انه على الكاتب ان يكون مفكرا ايضا، اي ان يتمعن بما هو مطروح باعتباره من الحقائق التي على الجميع الاعتراف بها وعليه ان يكتشف مدى صدقها او زيفها ثم عليه ان يعلن اكتشافه حتى لو كانت مخالفة لما هو مطروح وسائد ومريح، من هنا يأتي الازعاج الذي احبه واخلص له.

 

* من هنا كيف ترى المشهد الروائي العربي ؟


ـ الرواية العربية تفتقد الى ناقد يمتلك أدواته وغير متحيز شخصيا لعمل ما او لكاتب ما. فالنقد ليس مجرد قراءة وعرض كما هو سائد الان. على النقد ان يقوم بدور الفاحص المتمعن وان يكتشف النص ودلالاته وتأويلاته، ويقدم لحرفة الكتابة القوانين المستخرجة من النص وليس العكس.على الروائي الخروج من الاطر القديمة والمستهلكة وان يكتب عن التغيير الهائل الذي حصل في الحياة والاشياء وعن المشاعر الانسانية العميقة والمختبئة داخل النفس البشرية.

 

* ما الكتابة بالنسبة إليك؟


ـ الكتابة بالنسبة لي مثل حبة الاسبرين تخفف عني آلام التواجد في الحياة اليومية. الكتابة بديل لافعال هزمت فيها شر هزيمة مثل السياسة وبقية المؤسسات الاجتماعية. الكتابة هي حصني الاخير.