ريـاض الـتـرك

الإنسـحاب من لبنان سـيعيد العلاقة التاريخية بين الشـعبين الى مسـارها الصحيح
ريـاض الـتـرك: بـنـيـة السـلـطـة السـوريـة هـي الـعـائــق الكـبـيـر والحـل بـمـبـاشـرة الإصـلاح الـسـيـاسـي والانـفـتــاح علــى الـشـعـب

حاوره  : محمد علي الأتاسي

في المحاضرة العلنية الأولى والأخيرة التي ألقاها رياض الترك في منتدى جمال الأتاسي (5/8/2001) تحت عنوان "مسار الديموقراطية وآفاقها"، وأدخل بعدها مجدداً الى السجن، لم يتطرق المعارض السوري الى القضية الكردية رغم أنه أوضح معظم المعوقات التي تقف في وجه انتقال البلاد من الاستبداد الى الديموقراطية. يومذاك، وقف شاب كردي، هو سجين سياسي سابق، وتحدث معاتباً وشارحاً كيف أنه اجتاز مئات الكيلومترات آتياً من شمال سوريا  للاستماع الى الترك الخارج من 17 عاماً ونصف العام سجوناً، على أمل أن يتطرق في حديثه الى واقع الأكرد كجزء من مسألة الديموقراطية في سوريا. ولنعترف أن رياض الترك ومعظم المثقفين السوريين المعارضين بقوا فترة طويلة مقصّرين حيال إدراج المسألة الكردية على أجندة العمل الديموقراطي في سوريا.وربما يكون الجانب الإيجابي الوحيد في أحداث القامشلي المؤسفة تنبيه المشتغلين في الشأن السياسي السوري الى ضرورة إدراج هذه المسألة في سياق برنامج العمل الديموقراطي الوطني الأشمل قطعاً لدابر الفتن وحفاظاً على وحدة الوطن السوري. في هذا المقابلة، يرد الترك على أسئلة متعددة، من أحداث القامشلي الى سقوط نظام البعث في العراق الى مسألة الإصلاح السياسي في سوريا... فإلى الوجود العسكري السوري في لبنان.التزام أسلوب العمل السلمي في الاحتجاج والنزول الى الشارع.

*
لنبدأ من الأحداث المؤسفة التي شهدتها منطقة الجزيرة. من هو في رأيك المسؤول الأول عن هذه الأحداث وما إنعكاساتها على مستقبل التعايش بين الأكراد والعرب في سوريا؟ وما الإجراءات الواجب إتخاذها لضمان عدم تكرار مثلها؟

-
اجتمعت في أحداث القامشلي أمور عدة منها: سياسات السلطة الخاطئة، الأوضاع الأقليمية الحساسة وخصوصاً بعد الأحتلال الأميركي للعراق وسياسات شارون الأجرامية ضد الشعب الفلسطيني وكذلك الإحتقان القائم لدى فئات واسعة من مجتمعنا السوري. هذه كلها  تجعل الأوضاع قابلة للتفجر نتيجة أي حادث صغير.دعني أقول رأيي بصراحة. إنني أحمل السلطة المسؤولية الأولى من زاويتين: زاوية لها علاقة بحال البلد الذي أوصله الإستبداد إلى عزلة السلطة التامة عن المجتمع، وزاوية أخرى تتصل بحال التوتر التي أصابت النظام بسبب إحتلال العراق والسياسية الأميركية في المنطقة.سوريا في هذا المعنى كانت غير مهيأة لمواجهة أحداث كأحداث القامشلي. والنظام بسبب ضعفه معرض لهزات كثيرة أرجو أن تكون أحداث القامشلي أولها وأخرها، وإن كنت لا أظن ذلك. نحن الآن في عنق الزجاجة، والنظام يبدو مصرا على الإستمرار في سياساته الإستبدادية واللجوء الى الحلول الأمنية، كما أن الخارج يمكن أن يستخدم مثل هذه الحوادث للضغط على سوريا لتلبية متطلبات الأجندة الأميركية في ما يتعلق   بسوريا والشرق الأوسط عموماً.يجب أن نرى حال الإحتقان الموجودة في المجتمع. فالتفجر الذي حصل في القامشلي لا يتناسب مع الحدث المباشر المتعلق بالصدام بين مشجعي فريقين رياضيين. كان واضحا فيه الموقف الإستفزازي لمشجعي نادي الفتوة. فسوريا معتادة على أحداث الشغب، بين مشجعي النوادي الرياضية. لكن الطريقة المتحيزة التي تعامل بها ممثلو السلطة التنفيذية، وفي مقدمهم محافظ الحسكة، مع أحداث الشغب وسماحهم للشرطة بإطلاق النار على الجمهور الكردي ساهم في تأجيج المشاعر ومفاقمة الحدث، بدلا من تطويقه ومعالجته بالحكمة.إن وضع الجزيرة له خصوصية تنبع من النسبة العالية للأكراد بين السكان. وبعض الأكراد عبّأهم  بعض الأحزاب القومية الكردية  كما عبأتهم منعكسات الوضع
العراقي الحالي والمتأزم . إذاً هناك أجواء وتصورات لدى البعض بأن الدولة الكردية المستقلة أصبحت قاب قوسين أو أدنى. الأمر الذي أعطى أحداث القامشلي أبعاداً سياسية بالغة الخطورة. هذا علما بأن بعض الأحزاب الكردية في سوريا تفتقر إلى تاريخ في النضال من أجل الديموقراطية وضد الإستبداد، بل إنها كانت تستخدم في فترة سابقة من طرف النظام السوري في صراعه ضد غريمه اللدود، النظام العراقي.أما بالنسبة الى الأكراد، كمواطنين وكأبناء قومية أخرى، فأنا أرى أن الكثير من حقوقهم القومية لا تزال مهضومة. وعلينا أن نلبي مطالبهم المشروعة كمواطنين سوريين وفي مقدمتها إعادة الجنسية للمحرومين منها وحقهم في تعلم لغتهم وممارسة أنشطتهم الثقافية والإجتماعية بعيدا عن قمع السلطة وترهيبها.أما أولئك الأخوة الأكراد الذين يقولون إن الجزيرة جزء من كردستان واٍن سوريا تحتلها فهذا كلام هراء ومناف للحقيقة والتاريخ، عدا أنه يحول الصراع الى صراع بين العرب والأكراد وهذا في غير مصلحة القضية الكردية . إن مصلحة الأكراد في سوريا هي في أن يلتحم نضالهم مع نضال الحركة الوطنية الديموقراطية في مواجهة الإستبداد ومن أجل إقامة دولة القانون والمواطنة القادرة على إعطائهمم حقوقهم المشروعة في إطار وحدة المجتمع  السوري.لا يجوز اليوم وفي أي حال من الأحوال فصل أحداث القامشلي عن الذي جرى في العراق، وعلينا نحن أن نجنّب سوريا ما حدث في العراق وأن نأخذ عبرة منه. وفي هذا السياق تقع المسؤولية أولا على السلطة، لأنها لم تسلك السلوك السليم في
مواجهة التدخلات الخارجية، وهو الإنفتاح على الشعب. من هنا تأتي أزمة السلطة ومن هنا تأتي حلولها الزجرية في غياب أي سياسة حكيمة تعالج الإستحقاقات الداخلية والخارجية برؤية عقلانية جديدة.الوطن مهدد والسلطة تفاقم الضعف

*
حيال خطورة الحدث، ألا تعتقد اليوم أن مصير الوطن هو على المحك لا مصير السلطة فحسب، وبالتالي هناك حاجة اليوم  للتسامي على الجراح، من أجل المساهمة في إيجاد حلول سلمية يشترك الجميع في تحقيقها؟

-
نعم، لا شك أن الوطن مهدد، لكن هذا السؤال يوجَّه الى حكامنا في الدرجة الأولى. لأنهم لا يدركون الأخطار التي تحدق بالبلاد، ويدفعون بالأمور إلى مثل هذه الحالات الخطرة بسبب سياساتهم الإستبدادية وعقليتهم القائمة على القمع ومصالحهم الضيقة. الإنسان الغيور على وطنه يعبّىء الناس لمواجهة هذه الأخطار. لكن ماذا نراهم يفعلون؟ وهل الحل الذي إتبعه رجال الأمن في القامشلي كان حلا أطفأ النار أم أججها؟ والأن، بعدما هدأت النفوس نسبياً، ألا ترى معي أن النار تبقى تحت الرماد؟الوطن مهدد، لكن السلطة تتحمل المسؤولية الكبرى وليس أمامها الآن أي طريق آخر إلا طريق الإنفتاح على الناس. الشعب هو الذي يحمي وطنه ويحبط المؤامرات وليس
السلطة المصرة على الحلول الأمنية والأساليب القمعية. ولنا في تاريخنا السوري غير البعيد أمثلة على دور الشعب في إحباط المخططات الأجنبية المعادية، ومثالها القوي فترة الخمسينات من القرن الماضي. لكن ما العمل؟ لقد قامت مجموعة من ممثلي الأوساط الديموقراطية بواجبها في لفت نظر السلطة إلى ضرورة معالجة حوادث الجزيرة بشكل عقلاني وهادئ لقطع الطريق على إحتمال فتح نافذة خارجية للتدخل في الشأن السوري. وقد أصدر التجمع بيانا بالإشتراك مع مجموعة من الأحزاب والجمعيات والهيئات دانت فيه لجوء السلطة إلى إطلاق الرصاص واستنكرت أعمال العنف والتخريب. أنا من جهتي اتصلت بالعديد من ممثلي الأحزاب الكردية في القامشلي ودعوتهم إلى التهدئة، وكان هناك تجاوب من طرفهم، وأصدروا بيانهم المعروف الداعي إلى الوحدة الوطنية والتهدئة .

كأني بك لا تبحث إلا في إدانة السلطة. ألا تعتقد أن ممارسات من مثل حرق العلم السوري وتدمير بعض المنشآت والمرافق الحيوية  تستحق هي الآخرى الإدانة؟

-
ليس هناك أدنى شك بضرورة إدانة مثل هذه الأعمال، التي إن دلت على شيء فعلى تحلل من الشعور الوطني. مع ذلك أرد هذه الأعمال إلى فعل  الغوغاء وإلى الشحن الذي  جرى ويجري في اوساط الجمهور الكردي ضد كل ما هو عربي  إنطلاقا من تصوّر أن العرب معادون لحقوق الأكراد القومية. وهذا غير صحيح بتاتا. تتشكل هذه المنطقة منذ غابر الزمن من قوميات وأديان وطوائف عديدة، تصارعت حينا وتصالحت حيناً أخر، لكنها حافظت على حد معقول من التعايش المشترك. لكن مع قدوم المستعمرين إلى منطقتنا في أعقاب الحرب العالمية الأولى وتفكك الدولة العثمانية، لم يكن الأكراد وحدهم الذين لم ينالوا حقهم  في تشكيل دولتهم القومية، والعرب كذلك لم يقرروا مصيرهم حتى الآن. فالوحدة العربية لا تزال حلماً. والحكام المستبدون الذين بلينا بهم بعد الإستقلال لم يفعلوا شيئا إلا زيادة الطين بلة، وهم إضطهدوا مواطنيهم العرب مثلما إضطهدوا الأكراد. إذاً، لنا وللأكراد من وجهة نظري عدوان هما المستعمر والحكام المستبدون. وعلى الحركة القومية الكردية أن تدمج نضالها مع العرب ضد هذين الخصمين، وعندها يُحلّ الكثير من التناقضات القائمة حاليا. فلا يجوز أبدا أن نربط نضالنا الوطني والديموقراطي بأي توجهات إستعمارية مشبوهة.لا أحد يوافق أبدا أن يحرق العلم السوري، أحد رموز الوطن، وكذلك تخريب المنشآت العامة والخاصة. إنها جريمة نكراء. ولكن هل يجب إلحاق هذا الفعل الغوغائي بالأحزاب الكردية وبعموم جمهور الأكراد وأن ننادي بالويل والثبور لهم؟ أم علينا أن نكون حكماء ونحصر هذه الأفعال بالمندسين الذين يؤججون الفتن ونقوم بتعريتهم وعزلهم؟ السياسة لا الأمن

*
لكن، ألا تعتقد معي أنه بغض النظر عن موقفنا من النظام، فإنه في مواجهة أحداث كهذه، يقول البعض، هناك منطق دولة يفرض نفسه في النهاية على الجميع ما دام الوطن السوري مهدداً في وجوده، ويجب في النهاية محاسبة المسيئين؟

-
أنا لا أغفل مسألة محاسبة المسيئين، ولكن ماذا فعلت السلطة؟ يكاد الوضع يتحول إلى صراع بين العرب والأكراد من خلال إقحام العشائر العربية على خط الصراع. السلطة لا تزال تعمل بالحلول الأمنية التي لن تفعل شيئا سوى تأجيج الوضع. رجل الأمن لا يستطيع أن يخمد الفتنة لأنه لا يستخدم إلا لغة التهديد والوعيد. يجب
معالجة الأمور بهدوء والإفراج عن المعتقلين ثم تأتي لجنة تحقيق مستقلة تحدد المسؤوليات وتعاقب المذنبين. إننا أمام فتنة وأهم شيء هو قطع الطريق على من يحاول أن يثيرها من طريق جر الواعين من الأكراد إلى جانب المعالجة العقلانية.الأمر لم يعد يحتمل الإنتظار، ويجب التنبه إلى أن هذا الإحتقان ليس موجودا عند الأكراد فقط، ولكن عند فئات أخرى من المجتمع، قد ينفجر هو  الآخر، خصوصا إذا دفع بعض المدسوسين في إتجاه الفتنة.
يجب إذاً تنفيس هذا الإحتقان من خلال الإنفراج السياسي والتعاون مع مختلف القوى التي تتلمس جديا الأخطار الآتية مع الأميركان. أخطار تهدد الوطن قبل أن تهدد السلطة. الجميع يريد لوطنه أن يكون معززا كريما في مواجهة الضغوط الخارجية. ولكني أقولها بصراحة: إن المواجهة الجدية لن تحصل ما  لم تبادر السلطة إلى الإنفتاح على الشعب. سنكون دائما ضد الفتنة وفي مواجهتها، وعلى السلطة أن تقطع الطريق على أصحاب الفتن بمباشرة الإصلاح السياسي، لأن هذا في صالح الوطن كما هو في صالح النظام.


ما قولك بالرأي القائل إن أحداث القامشلي يمكنها أن تقوّي أصحاب الرؤوس الحامية داخل السلطة وتسمح لهم بفرض الحل الأمني كحل وحيد ممكن للوضع السوري؟

-
لا أعتقد أنهم سينجحون في هذا المسعى، لأن الوضع في سوريا دقيق جدا جدا، ومثل هذه الحلول الأمنية ستوسع أخطار التدخل الخارجي. الموقف الأسلم هو أن تتنحى الأجهزة الأمنية وأن يأتي العاقلون من أهل النظام والمجتمع لمعالجة الأمور سياسيا برويّة وحكمة. إن مواجهة المخططات الأميركية في المنطقة لا تبنى على منطق القوة المحض، ولنا في المثال العراقي وفي عنتريات صدام حسين خير دليل على المآل الذي انتهت إليه سياسات كهذه. الوضع الجديد في المنطقة المفروض من الولايات المتحدة الأميركية يحتاج إلى سياسات عقلانية تواجه المخططات الأميركية بالشعب وبالإنفراج السياسي. أمام مصلحة الوطن، الكثير من أطراف المعارضة
مستعدون أن يتناسوا ما عانوه في السابق، ولكننا لن نسير أبدا وراء الحلول المفروضة من الأجهزة الأمنية. إن بنية السلطة السورية القائمة على الإستبداد، هي العائق الكبير في الإنفتاح على المجتمع. وبدون تغيير هذه البنية من الصعب مواجهة المخططات الأميركية ومن الصعب أن يقف الشعب إلى جانب حكامه في مواجهتها. في المحصلة، لا يجتمع الإستبداد ومقاومة المخططات الأميركية. الشعب وحده هو القادر على المقاومة ولكن شرط أن تعاد له حريته. وتاريخ المنطقة يعلمنا أن الشعوب الحرة هي التي نجحت في النهاية في نيل إستقلالها. وهي أيضاً قادرة على تحقيق أمانيها .

أفهم من كلامك أنك لا ترجو شيئا من الضغوط الأميركية، وأن الاطروحات الديموقراطية الديموقراطية لن تكون في صالح شعوب المنطقة؟

إذا كانت الإدارة الأميركية تتبنى اليوم بعضا من الحلول الديموقراطية، فإن الديموقراطية كانت برنامج المعارضة الوطنية على مدى ثلاثين عاما وكانت الأنظمة العربية المستبدة مدعومة من الأميركان الذين باتوا يعون أن هذه الأنظمة أصبحت مهترئة ولم تعد تخدم مصالحهم، ولكن كل ما يرتأونه هو أن يأتوا بحكام
ديموقراطيين في الظاهر، هم في كل الأحوال لا  يمثلون مصالح الشعب وآمانيه في الحرية والديمقراطية الحقة . ولنا في المثال العراقي خير دليل. فأين هو دور الشعب العراقي في إدارة شؤونه وبناء دولته؟ الأميركان لم يزيحوا فقط ديكتاتورية صدام حسين، لكنهم مع الأسف فككوا الدولة وحلوا الجيش. هل يعقل أن يكون كل الجيش العراقي جيشا صدّاميا؟ لو سرّحوا الضباط القادة الموالين للنظام القديم  وأبقوا الجيش،  لكان في الإمكان تجنيب العراق الكثير من المآسي والفلتان الأمني.

ما هي العبر التي يجب أخذها من السـقـوط المدوي لنظام البعث في العراق؟

-
أهم درس نتعلمه من المثال العراقي هو أن الإستبداد لم يستطع أن يحمي الوطن. كل ما فعله هو أنه سحق المجتمع وأزاح القوى الوطنية والديموقراطية وأدخل العراق في حروب عبثية  ضد جيرانه، الأمر الذي أدى إلى إهدار طاقات العراق وإيران ودول الخليج، كما أدى إلى شرخ عربي وإسلامي كبيرين كانت إسرائيل والولايات المتحدة المستفيدتين الوحيدتين منهما. وهكذا أضحى النظام العراقي معزولاً وأصبح سقوطه مسألة زمن. إذاً لا مستقبل للإستبداد، وعلى حكامنا أن يعوا أهمية الإعتماد على الشعب في مواجهة الأخطار.إذا نظرنا إلى الواقع السوري ماذا نجد؟ لقد أتى البعث إلى السلطة بإسم الوحدة والحرية والإشتراكية، فأين نحن اليوم من هذه الشعارات؟ حتى  المسألة الوطنية لا نجد مخرجاً لها وأرضنا ما زالت محتلة!عندما كانوا في المعارضة، كانوا يدعون إلى الحرية وما أن تسلّموا السلطة حتى وأدوها وجعلوا السياسة حكراً على البعث، وعلى الأخرين أن ينسحبوا من السياسة ومن الشأن العام، وإلا فمصيرهم السجن أو المنفى أو القبر. أما الإشتراكية فأين هي اليوم في ظل نظام إستبدادي لم يولّد إلا الفساد والفقر والمحسوبية وأصحاب المليارات من بطانة السلطة وحاشيتها؟ هذا الطريقة في حكم البلد قادت إلى حال خطيرة جدا، إنعزل النظام فيها عن الشعب وضعفت المناعة، مما سهّل عودة الخارج إلى التدخل في شؤوننا الداخلية. المخرج اليوم أصبح واضحا في مواجهة الضغوط الخارجية والأوضاع الإقليمية الجديدة. وعلى السلطة أن تتراجع عن سياساتها السابقة وأن تنفتح على الشعب وعلى القوى المعارضة. لكن ما لم تثبت السلطة حسن نيتها من خلال إتخاذ تدابير توحي للشعب بالثقة (إلغاء حال الطوارئ، إطلاق السجناء،  الكشف عن المفقودين، عودة المنفيين ورد المظالم...)، فإني أرى أن من الصعب التحاور معها من أجل إيجاد مخرج يمكّن سوريا من الإنتقال من الإستبداد إلى الديموقراطية والحفاظ على الإستقلال الوطني ومواجهة المخططات المعادية، الأميركية والإسرائيلية.
 
ألا تعتقد مع ذلك أن هناك خطوات إيجابية تم إتخاذها في السنوات الأربع الأخيرة، منها مثلا إطلاق سراحك وتخفيف القبضة الأمنية وسن قوانين جديدة؟

-
إني لا أرى في هذه الخطوات إصلاحا حقيقيا ولكن تكتيكا يريد أن يؤخر الإستحقاقات المطلوبة، على أمل أن يأتي ظرف جديد يستطيعون فيه أن يعيدوا إنتاج انفسهم بأسلوب آخر. وفي إعتقادي أنهم لن ينجحوا. من المؤسف أنه لا يوجد اليوم في سوريا سياسة عقلانية مركزية لمواجهة التحديات الجديدة. لكن هناك مراكز قوى مختلفة يجمع بينها الخوف من المستقبل.لقد فقدت السلطة دعمها الخارجي وفقدت السكوت على سياساتها الخاطئة، وسيكون إستمرارها على هذا النهج إنتحاريا. أما المعارضة فإنها اليوم لن تكون بديلا من النظام لأنها  أعجز من ذلك. لكن يمكنها على المدى المتوسط أن تكون لاعبا أساسيا في مواجهة التدخلات الأجنبية وعليها أن تضغط على النظام في إتجاه الإنفتاح السياسي. فليس لنا من مخرج آخر.

*
هناك من يقول إن وجود معارضة سياسية داخل سوريا وهم كبير. فالأحزاب محاصرة وفاقدة لأي نفوذ شعبي وعاجزة عن الخروج من سياسة البيانات إلى ميدان الفعل الحقيقي والمؤثر في مصير البلد. ما قولك بهذا الرأي؟

-
أنا من حيث الجوهر أوافق الرأي القائل بعجز المعارضة الحالي عن تجديد سياساتها والإلتقاء على برنامج حد أدنى وتوحيد أوسع طيف سياسي ممكن. لكن مع ذلك إذا أردت أن أقوم بمقارنة مع الحال العراقية حيث تم سحق كل أشكال المعارضة الداخلية، أعتقد أن المعارضة السورية في وضع أفضل، وسيكون لها دور وطني فاعل في
مواجهة التحديات الجديدة، وإن كان دورها في الضغط على النظام لتغيير سياساته لا يزال ضعيفا.



*
ما الذي تقترحه إذاً من حلول عملية لإخراج المعارضة من أزمتها الراهنة؟

-
لا شك أن العائق الأساسي أمام تحرك المعارضة هو افتقارها لرؤية سياسية واضحة. فأغلبية أحزابها  لا تزال تحمل فكرا قديما تخلّف عن مواكبة العصر. يضاف إلى هذا أن القمع أضعف كثيراً من روحها الكفاحية وقدرتها على الحركة والتجدد وهي بحاجة إلى توحيد رؤاها ضمن الحد الأدنى وأن تتجه إلى حواملها الإجتماعية بحيث تكون قادرة على تحريك المجتمع الصامت. المعارضة اليوم بحاجة إلى القليل من الكلام والكثير من الفعل للوصول إلى الناس وللضغط على السلطة من أجل تغيير سياساتها. وضمن هذا التوجه، على المعارضة اليوم أن تنزل إلى الشارع في إعتصامات سلمية تطالب بالتغيير. وليس على طريقة أحداث القامشلي وما رافقها من شغب وتدمير للمرافق العامة وحرق علم البلاد وإشعال نار الفتنة. أنا أعتقد أنه إذا تم إلتزام أسلوب العمل السلمي في الإحتجاج والنزول إلى الشارع، فإن النظام سيكون محرجاً إذا لجأ الى القمع .مع الآسف، لم يعد الصراع اليوم، محصورا بين سلطة ومعارضة أو بين سلطة وشعب، لقد دخل عنصر جديد هو التدخل الأميركي المباشر. وعلينا اليوم أن نعمل على تكوين حالة ثالثة ليست منحازة الى السلطة تحت اسم الوطنية، وليست منحازة الى الأميركان تحت اسم التدخل الأجنبي. حالة تقول لا للإستبداد ولا للتدخل الأجنبي وتعمل أيضاً من أجل الحفاظ على لإستقلال الوطني وبناء دولة القانون في ظل نظام وطني ديموقراطي.

يحضرني هنا سؤال عن سبب قبولك بإجراء  مداخلة عبر الهاتف في برنامج مخصص للشأن الداخلي السوري من على تلفزيون "الحرة"، هذا في الوقت الذي تداعى فيه العديد من المثقفين العرب والسوريين لمقاطعة هذه الفضائية الممولة مباشرة من الإدارة الأمريكية؟

-
دعني أقول بداية أني أحترم خيارات هؤلاء المثقفين وأثني عليها، لكني كرجل سياسي يحاصرني الإعلام  الرسمي السوري، ويصبح من واجبي إيصال مواقفي السياسية إلى أبناء بلدي من على جميع المنابر الإعلامية في الخارج عندما تطلب إستضافتي، وخصوصا عندما يكون حاضراً في البرنامج  شخصية  تعبر عن وجهة النظر الرسمية، كما كانت الحال عليه في برنامج "الحرة". ومن ثم هل ممثل السلطة الذي إستضافته "الحرة" في البرنامج نفسه، أكثر حصانة وطنيا مني؟ مع ذلك، أنا اليوم جاهز لمقاطعة فضائية "الحرة"، لكن شرط أن يسمح لي تلفزيون بلدي بالتعبير عن آرائي من خلاله، ولو لدقائق معدودة.

 
*  
مع إقرار الكونغرس الأميركي "قانون محاسبة سوريا" أصبح ملف الوجود السوري في لبنان على رأس أولويات الـضـغوط الخارجية المستخدمة ضد سوريا. كيف ترى اليوم مستقبل هذا الوجود؟ وما رأيك في تحرك بعض القوى الـلـبنانية المعادية لكل ما هو سوري وليس للنظام فقط، في إتجاه دعم هذا القرار؟

أريد أن أصوغ هذا السؤال بطريقة أخرى. ما الذي يدفع هذه القوى المعادية لسوريا وللسوريين إلى رفع هذه المطالب؟ أنا أعتقد أن الوجود السوري في لبنان هو السبب الأول والأساسي. اليوم، وبعد مرور 28 عاما على هذا الوجود وبعدما انتهت الحرب الأهلية اللبنانية، علينا أن نسأل ما هي الدواعي لإستمراره في ظل الظروف الدولية والأقليمية الجديدة؟ مطالبتي اليوم بخروج الجيش السوري من لبنان لا تعني أبدا أنني مع هذه القوى المعادية. فعندما كانت هذه القوى متحالفة مع النظام السوري في بداية الحرب الأهلية اللبنانية، كنا نحن ضد التدخل السوري في لبـنان. إذاً هذا الوجود في رأينا هو في الأسـاس خـاطىء. وحتى لو إفترضنا تساهلا أنه كان ضـروريـا فـي الـسنوات الأولى، فلم يعد له مبرر بعد إتفاق الطائف وعودة السلم الأهلي.وإذا نظرنا من جهة أخرى إلى هذا الوجود كمسألة سورية، فماذا نجد؟ لقد كان لسوريا في مرحلة سابقة دور إقليمي يحظى بتغطية دولية. ولكن بعد سقوط صدام وقدوم الأميركان ضعف هذا الدور الإقليمي كثيرا وأصبح حجة لممارسة ضغوط جديدة على سوريا. ضمن هذه الظروف أليس من الأجدى لسوريا المحاصرة أن تتراجع إلى داخل حدودها الدولية لتحصن جبهتها الداخلية وتحسن الدفاع عن نفسها بشكل أفضل!  المسألة كما أراها، معكوسة. أي أن مصلحة سوريا هي اليوم في التراجع إلى حدودها الدولية وإعادة النظر في دورها الإقليمي وإعادة ترتيب بيتها الداخلي. إن في إنسحاب الجيش السوري من لبنان إضعافاً للضغوط الدولية عليها، بل وإضعافاً لغلاة المتطرفين الناشطين في لبنان. ولا أعتقد اليوم أن هذا الإنسحاب السوري سيفجر الوضع في لبنان. فالشعب اللبناني أصبح قادرا على إدارة شؤونه بنفسه. بل إن هذا الإنسحاب سيعيد العلاقة التاريخية بين الشعبين إلى مسارها الصحيح وسيضعف في الآن نفسه تيار غلاة المتطرفين المعادين لسوريا، وكذلك المنتفعين اللبنانيين من الوجود السوري.

*
في العودة إلى الوضع الداخلي السوري، أصدر حزبكم، الحزب الشيوعي السوري- المكتب السياسي، حديثاً، مشروعا للموضوعات تحضيراً لمؤتمره السادس. وقد صيغت هذه الموضوعات بلغة تنظيرية مغرقة في الفلسفة السياسية الموروثة من القرن التاسع عشر الأوروبي وغلب عليها إدعاء تحويل الحزب تنظيميا وإيديولوجيا إلى حزب ديموقراطي. ألا تعتقد أنه بإستثناء بعض المشتغلين في الحقل السياسي، فإن أغلبية الناس لم تعد معنية بتاتا بهذه الجوانب التنظيرية؟ وأن هناك حاجة اليوم إلى إعادة صياغة الفعل السياسي بشكل يكون أكثر إلتصاقا بمتطلبات واقع الناس الملموس وتحدياته، بدلا من التحليق في الفضاء المجرد للفلسفة السياسية؟

-
أولا، إن الخط العام للموضوعات يسعى ما أمكن إلى الإبتعاد عن الإيديولوجيا في إطار التوجه أكثر فأكثر نحو الفعل السياسي الديموقراطي. ولكن في الآن نفسه عليك أن تفهم أن الجانب النقدي النظري في الموضوعات مرتبط اساسا بإعادة موضعة حزبنا بالنسبة إلى تاريخه الخاص وبالنسبة إلى خريطة الأحزاب السياسية السورية. نحن اليوم نسعى إلى الإنفتاح على التيارات الفكرية و السياسية الأخرى ونعتبر الماركسية محطة في تاريخ الفكر الإنساني. الآن أتى زمن يتطلب إعادة النظر فيها والسير نحو ما هو جديد وأكثر ملاءمة لواقعنا ولمكاننا في العالم. أما ما يتعلق بالحاجات الإجتماعية  والمطالب المختلفة للشرائح الإجتماعية وأقصد هنا البرنامج الذي يمس حياة الناس فقد كتبناه بخطه العام وتركنا أمر صياغته إلى الحوار الذي يجري بين  الأطراف السياسيين والاجتماعيين المختلفين وسوف نصوغه في ضوء ذلك في المسودة الثانية التي سنطرحها على المؤتمر. الموضوعات لم يقرها الحزب كنصوص مبرمة وإنما كخط عام غير ملزم الآن لي ولا لبقية أعضاء الحزب. ليست وظيفتنا اليوم الدفاع عنها. إنها مطروحة للنقاش في الحزب ولدى الأصدقاء والحلفاء وأصحاب الرأي من المهتمين بالشأن العام. إذن الحوار هو الذي يساعد في إعادة صياغة وثيقتنا هذه بما تتطلبه المرحلة التي نمر بها جميعاً. اذاً هذه الوثيقة ليست نهائية وسيتم تعديلها إستنادا إلى مختلف الآراء النقدية التي تناولتها.

يتهمك البعض اليوم بالتسلط وبإقصاء الآخرين ومنع بروز وجوه قيادية جديدة وبفرض كل هذه التحولات الجذرية التي يشهدها حزبكم بشكل فردي. من جهة أخرى يأخذ عليك بعض أطراف المعارضة السورية تحليقك وحيدا خارج السرب وتشكيكك الدائم في نيات بعض أطرافها وعجزك عن القبول بتعدد الآراء. مار أيك بهذه الإنتقادات؟


-
أنا أقبل كل هذه الإنتقادات على حدتها وأعمل جاهدا للإستفادة من بعضها إذا كان صحيحا. لكن دعني أوضح شيئا: أنا خرجت من السجن في العام 1998 لأجد أن سقف الإحتجاج على سياسات النظام منخفض جداً وبذلت جهداً في إطار الحزب والتجمع من أجل رفعه. صحيح أنني في إطار الموقف السياسي تصرفت بمفردي في البداية وطرحت وجهة نظر شخصية أعلى من السقف المطروح، لكني لم أفرض مواقفي السياسية لا على الحزب ولا على التجمع. أنا هنا مارست حقي في إبداء رأيي كرجل سياسي داخل الحياة العامة، أما في إطار الحياة الحزبية الداخلية فأنني لم أفرض رأيي على أحد.أما تجاه بقية أطراف المعارضة، فأنا لم أظهر إلا من خلال مواقفي وخطي السياسي، وليس لي من ذنب إذا كان الآخرون مترددين في بلورة مواقف سياسية متمايزة. في
النهاية، الحياة هي التي ستحكم من نجح أكثر في رفع سقف التعبير السياسي المعارض في  سوريا.طموحي اليوم أن يستطيع الحزب رسم خط سياسي يتلاءم مع المرحلة الحالية و المقبلة ويتبناه الجيل الشاب، وأعتبر أن دوري كأمين أول للحزب انتهى ولن أكون مجددا في هذا الموقع ويكفيني أن أكون عضواً في أي هيئة حزبية يضعني فيها مؤتمر الحزب المقبل أو هيئته المركزية.

إذاً أنت تحضّر نفسك للتقاعد وللخروج من الحياة السياسية، بعدما  تجاوزت 74 عاما؟

-
أعتبر تركي لمنصب الأمين الأول بمثابة تقاعد، لكنني لن أترك العمل السياسي لأنه بالنسبة إليّ  حق وواجب، وإن كانت طاقتي الجـسـديـة لـم تـعـد تسمح لي بالقيام بالأعمال نفسها التي كنت أمارسها سابقا. في النهاية  كل ما فعلته قابل للنقد وأنا لا أتهرب منه .وهاجسي هو عقد المؤتمر المقبل وإعادة بناء الحزب وفق خط سياسي وتنظيمي جديدين يستطيع من خلالهما لعب دور سياسي فعال مع الحلفاء في المرحلة الحالية التي تمر بها بلادنا.

تركت وراءك بعد خروجك من سجنك الثاني رجالا من أمثال رياض سيف وعارف دليلة وحبيب عيسى. هل تفكر فيهم أحيانا؟ وماذا تفعل من أجلهم؟

-
أفكر فيهم دائما، لكني مع الآسف مقصّر في زيارة عائلاتهم. هم اليوم يدفعون ثمن نضالهم من أجل حرية سوريا. وعلينا أن نناضل لإطلاق سراحهم وسراح جميع السجناء السياسيين كما أدعو من خلال صحيفتكم جميع الأحرار وجمعيات حقوق الإنسان لتبني قضيتهم والضغط من أجل الإفراج عنهم.

 

هل عندك أمل أن ترى في حياتك سوريا وقد إستعادت حريتها؟

-
على الرغم من أنني أتمنى أن يأتي هذا اليوم سريعا، ولكنني في المحصلة غير معني كثيرا أن أعيشه بنفسي. فالمهم بالنسبة إليّ أن يزول الاستبداد وتتحرر سوريا منه .