عبد الله الطنطاوي

عبد الله  الطنطاوي

محمد علي شاهين

أجرى الحوار : محمد علي شاهين

الطنطاوي يكتب للأطفال العرب مئة كتاب وكتاب

"أنا لا أتجاوز الحقيقة وأركز على الجوانب الإيجابية

الطفل العربي مظلوم, أهله يظلمونه, ومربوه يظلمونه, والصحافة تفتئت عليه، وتحرمه حقه "

يسعدنا أن نلتقي على صفحات موقع (رابطة أدباء الشام) مع الأديب الأستاذ عبد الله محمود الطنطاوي أحد الكتاب النقاد المهتمين بأدب الأطفال في حوار هادئ وصريح, يتناول جانباً من القضايا التي تهم أدب الطفل العربي وهو يعكف على إتمام مشروعه المؤلَّف من مئة كتاب وكتاب الذي يؤرخ لعدد من مشاهير المسلمين بعنوان: من نجوم الإسلام. ويتابع رسالته الأدبية من خلال عدة مجلات للأطفال: مجلة فراس، ومجلة الرواد، ومجلة سلام، وفي إصداراته الأخرى.

* رغم اهتمامكم بأدب الكبار, فإن الكتابة للأطفال تأخذ حيزاً كبيراً في إنتاجكم الأدبي. نرجو إعطاء القارئ الكريم نبذة عن أهم أعمالكم في مجال أدب الأطفال؟

- أنا أكتب للأطفال منذ كنت صبياً يافعاً.. كنت أكتب في جريدة "الشهاب" الدمشقية, في ركن الطلاب, عام 1955 وأنا طالب في الصف العاشر ثم انقطعت فترة من الزمن, شغلت فيها بالكتابة للكبار, قصة ومسرحية ونقداً أدبياً, ونقداً اجتماعياً وسياسياً, ثم عدت في الثمانينيّات إلى أدب الصغار من جديد, أكتب وأنشر القصة القصيرة, ورواية الأطفال, والسيناريو وما إلى ذلك مما له صلة بأدب الطفل, ثم أنشأت صحيفة متواضعة داخلية للأطفال باسم (الأشبال)، أما أهم أعمالي في مجال أدب الطفل, فهو مشروع كبير أطلقت عليه اسم "من نجوم الإسلام" وهو يتألف من مئة كتاب وكتاب صدر منها حتى الآن ستة وعشرين كتاباً, كل كتاب تتراوح صفحاته ما بين الأربعين صفحة إلى مئة وعشرين صفحة من القطع الكبير. أرجو من الله أن يعينني لإكمال هذا المشروع الذي لقي قبولاً واستحساناً من كل من اطلع عليه. والحمد لله.

* هل تعطينا فكرة عن هذا المشروع?

- يتناول المشروع حياة شخصيات إسلامية متميزة في العصر الإسلامي الأول. وما تلاه من عصور حتى العصر الراهن.. شخصيات من الصحابة الكرام, وشخصيات من التابعين. ومن تابعي التابعين, وهكذا حتى الوقت الحاضر.

* مثل من الشخصيات الحديثة مثلاً?

- مثل شخصيات: الأفغاني, ومحمد عبده, ورشيد رضا, والكواكبي, وحسن البنا, ومصطفى السباعي, وسلميان الجوسقي, وسليمان الحلبي, ومحمد الحامد, وعز الدين القسام, وكامل القصاب, وبدر الدين الحسني، وحسن حبنكة, وعلي الدقر, وسيد قطب, ومحمد فرغلي، وعبد القادر عودة، ويوسف طلعت، ومحيي الدين القليبي, وسعيد النورسي, والمودودي, ومحمد المبارك, والبشير الإبراهيمي ومحمود شيت خطاب، وعلال الفاسي، ونوّاب صفوي، وعمر المختار، وعبد الكريم الخطابي،... و.. شخصيات متميزة أغفلها الكاتبون.

* لا شك أنها شخصيات جديرة بالاهتمام, وواجبنا جميعاً كشف الجوانب المضيئة من سيرة هؤلاء الرواد وأن شخصية مثل سليمان الجوسقي تحتاج إلى بيان فمن هو سليمان الجوسقي?

- الشيخ سليمان الجوسقي شخصية عجيبة, كان أزهرياً, وكان أعمى, واستطاع تشكيل جيش من عميان مصر, التقاه نابليون بونابرت, وأعجب به, وعرض عليه سلطنة مصر.

* سلطنة مصر?

- نعم يا سيدي, سلطنة مصر, ولكن الجوسقي رفض ذلك وقد خاض بجيشه من العميان معركة ضد الفرنسيين الغزاة, وكانت الشهادة خاتمة حياته, على يد نابليون.

* هل تذكر لنا طريقة عرضك لهذه الشخصيات?

- هناك أكثر من طريقة عرض.. طبعاً الكتابة عينها كانت بأسلوب قصصي, روائي.. أو مس- رواية، إذا جاز التعبير. مثلاً.. شخصية عبد الله بن رواحة رضي الله عنه وهو الشخصية الثانية من نجوم الإسلام, قدّمته على هذا الشكل:

"حدثنا الفتى صادق أمين قال:

- رأيت فيما يرى النائم, أنني أمام رجل جميل بهي, مهيب, أعرفه ولا أعرفه. تقدمت منه قليلاً في شيء من التردد وسألته:

- من أنت رجاء?

فقال وهو يبتسم:

- احزر.. اسمي: عبد الله, وكنيتي: أبو محمد.. ولدت في يثرب, وأنتسب إلى الخزرج، وتعلمت القراءة والكتابة, وكنت من العرب القلائل الذين يكتبون في الجاهلية. أسلمت على يد الداعية العظيم مصعب بن عمير, وشهدت بيعة العقبة الثانية, وكنت أحد النقباء الاثني عشر..

وهكذا يستمر ابن رواحة في التعريف بنفسه, في رؤوس أقلام.. ويعرفه الراوي بطل المسلسل: "الفتى صادق أمين" وتأتي "صادقة" أخت صادق, وهي في الثانية عشرة من عمرها أي تصغر أخاها بسنتين. ويكون حوار بين الثلاثة نعرف منه شخصية ابن رواحة.

وفي الشخصية الأولى من النجوم (محمد بن مسلمة: فارس رسول الله) أبدأ على الشكل التالي:

"حدثنا الفتى صادق أمين قال:

هكذا كل المشروع أو كل كتاب من هذا المشروع يبدأ بهذه البداية: حدثنا الفتى صادق أمين قال.

* أنت تمزج بين الخيال والتاريخ إذن.

- ولكن لا أتجاوز الحقيقة التاريخية.

* ولكنني لاحظت أنك تركز على الجوانب الإيجابية فقط?

- هذا صحيح, والسبب: أنّ في حياتنا من السلبيات ما تضيق به الصدور، وتشمئز منه النفوس, ثم.. ألا تكفي كتابات أعداء هذه الأمة, من مستشرقين ومستغربين وأذناب تلك التي تركز تركيزاً هائلاً على السلبيات, حتى إنهم إذا لم يجدوا سلبيات في حياة قادتنا كالرسول القائد - صلى الله عليه وسلم-, وكالخلفاء الراشدين, ومن هم على سننهم أقول: إذا لم يجدوا سلبيات افتعلوها.. افتعلوا وجود سلبيات لا تقف أمام أي تحقيق تاريخي.. هذه واحدة.. والثانية.. ما يراه أطفالنا من ازدواجية في حياتهم في البيت وفي المدرسة ولدى بعض (الدعاة) الأدعياء.. كلام كالعسل المصفى, أو كالعسل بشهده, وأفعال مغايرة لذلك الكلام المعسول.. إنهم - وهم أذكياء- يرون الهوة الواسعة الشاسعة بين القول والفعل, مما يشكل انفصاماً في شخصياتهم كآبائهم ومربيهم.. مثلاً.. يسمعون من أولئك (الكبار) قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه) ويسمعون منهم وصايا الرسول العظيم بالجار, ويسمعون ويسمعون عن الصدق والكرم والشجاعة والنجدة والنخوة والمروءة, ثم ترى أعينهم غير ذلك تماماً.. مئة وثمانين درجة -كما يقولون- وتكون الطامة, إذ يظنون أن هذه هي سنة الحياة، وأن هذا هو الصحيح؛ كلام جميل وفعل قبيح... قبيح جداً.. أليس هذا هو الواقع الذي يكتوي بنيرانه أبناؤنا وبناتنا? لذلك.. قلت: يا عبد الله, ركز على الجوانب المشرقة, ودع الجوانب المظلمة -إن وجدت-.

* هل هناك قاسم مشترك بين شخصيات نجوم الإسلام?

- هناك جامع مشترك أنا أحب الذي يجمع, ومنه الجامع الذي نصلي فيه, وأمقت الذي يفرق ويقسم.. الجامع المشترك لشخصيات نجوم الإسلام, هو الجهاد بمعناه الواسع, لأننا نعايش ظروفاً صعبة قاسية, فيها إحباط ويأس وظلمات متراكب بعضها فوق بعض.. أردت تعريف فتياننا وفتياتنا بقادتهم الحقيقيين, في القديم وفي الحديث.. وتركيزي على الشخصيات المعاصرة سيكون واضحاً لأن الناس ما عادوا أو لا يكادون يعرفون شيئاً ذا بال عن الشخصيات المعاصرة المتميزة بصدقها في القول والعمل.. ولعل الدافع المباشر لهذا, هو أن أخي الكاتب الأديب الباحث حيدر قفه, قال لي مرة:

- نحن نقرأ الكثير عن الرجال العظام في تاريخنا.. عن زهاد, ومجاهدين, وصادقين, وأصحاب نخوات ومروءات.. عن شخصيات علمية لم تتخذ علمها سلماً للوصول إلى مآربها الدنيئة, ولكن لا أكاد أرى من يملأ قلبي وعقلي وعيني الآن.. فهل تدلني على مثل تلك الشخصيات?

هذه واحدة, والثانية هي أن من كان قبلنا, كان يكتب ما يشاهد وما يسمع عن الشخصيات المتميزة. أما نحن فالأمراض القلبية والنفسية تقف سداً منيعاً دون ذلك. الحسد والغيرة, وما سواهما من ألوان الجرب النفسي وما ينجم عنه من كذب وغش وخداع وتدليس, واستغفال الطيبين الأطهار.. هذه الأمراض جعلت الناس, أكثر الناس. يتحدثون عن السلبيات ويتجاهلون الإيجابيات بل إنهم ليكذبون وهم يتحدثون عن الآخر وعن أنفسهم الهزيلة.. ولو كنت ممن يحب كشف الغطاء عن بعض من عرفت وعاملت لفاحت روائح تزكم النفوس قبل الأنوف. ورحم الله أبا العتاهية عندما قال:

أحسن الله بنا أن الخطايا لا تفوح

فإذا المستور منا بين ثوبيه  فضوح

وأحسن الله إلى أخي وصديقي الكاتب الكبير الأستاذ حسن التل (رحمه الله), عندما نبهني ذات يوم إلى قول الله تعالى في كتابه العزيز:

﴿قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله﴾.

سمعت هذه الآية من أبي بلال وكأني أسمعها لأول مرة في حياتي وقلت لنفسي:

"إذا كان الله -سبحانه- يطلب من المؤمنين أن يغفروا للذين لا يرجون أيام الله, فمن باب أولى, أن نغفر لمن يرجون أيام الله".

ولكنهم يصرون على انحرافاتهم وأكاذيبهم وسرقاتهم وضلالاتهم.. ومنذ ذلك اليوم صرت أغني مع حكيم المعرة:

ولما رأيت الجهل في الناس فاشياً     تجاهلت حتى ظن أني جاهل

وصرت أدندن معه:

خسئت يـا أمنا الدنيا, فأفّ لنا    بنو الخسيسة أوباش أخسّاء

ادندن وأتجاهل, وأرثي لمن مطعمه حرام, ومشربه حرام, ولكنه على زي حسن ومظهر جميل يظهر به أمام الناس, ولسان لا أريد أن أصفه, وأقول مع من قال:

جمال الجسم من قبح النفوس     كـقنديل على قبر المجوسي

* دعنا نعد إلى أدب الأطفال, ألا ترى أن ثقافة الطفل تحتاج إلى المزيد من اهتمام الصحف والمجلات?

- هذا صحيح.. فالطفل عندنا -كسائر بني آدم -مظلوم. أهله يظلمونه والصحافة تفتئت على حقه.

* كيف يظلمه أهله?

- الوالد الذي يطعم أولاده من الحرام هو ظالم لهم, والوالد الذي يكذب ويعلم أولاده الكذب ظالم لأولاده, والوالد الذي لا يربي أولاده على الصدق والأمانة والفضيلة, ظالم لهم, وأما أوضاع المعلمين والمربين فحدث ولا حرج.. أو.. أقول لك: لا تحدث إلا إذا نفع الحديث.. وآدابنا (القديمة) أولت الأطفال رعاية خاصة, فبنت شخصياتهم منذ نعومة أظفارهم.. وآدابنا وبعض صحافة الأطفال عندنا تهدمها.. ويا حسرة على العباد..

* فرحنا جداً بصدور مجلة فراس, ثم بصدور أختها مجلة الرواد اللتين تنهض بتحريرهما. فماذا عن المجلتين? وهل توقّفتان عن الصدور؟

- (فراس) و (الرواد) شقيقتان تعاهدتا على رعاية أطفالنا من سن مبكرة, وكان يقوم بتحريرهما أساتذة مختصون بشؤون الأطفال وأدب الأطفال من سائر أنحاء الوطن العربي من المغرب غرباً, حتى العراق شرقاً, كان يكتب فيهما ويرسم كتاب وشعراء من الأردن وسورية وفلسطين ومصر والعراق والمغرب ولبنان والسعودية واليمن ودول الخليج وكانت صفحاتها مفتوحة لسائر الكتاب والشعراء والرسامين الأصلاء, كانت المجلتان تعملان على إشباع رغبة الطفل, وموضوعاتهما تسمو بنفوس الأطفال, وتربيهم على الفضيلة؛ فضيلة الصدق والأمانة والشجاعة الأبية كل ذلك بأسلوب حي بعيد عن المباشرة والوعظية. وقد زادهما تنوع الكتاب والشعراء والرسامين بيئة وثقافة.. زادهما غنى. ففي كل عدد كنت تقرأ لحوالي عشرين كاتباً وشاعراً, ولحوالي عشرة رسامين مبدعين, وهذا لا تجده في صحافة الأطفال الأخرى التي سبقت فراس والرواء في الظهور لسنين والحمد لله. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، فإن مجلة فراس انتقلت إلى جدّة في السعودية، وأمّا (الرواد) فقد توقفت فترة، ولعلها تعود إلى الحياة قريباً إن شاء الله تعالى.

* لكن ألا ترى أن فراس والرواد كانتا جادتين?

- طبعاً جادتان.. لا تنشران عملاً ليس وراءه هدف خلقي، تربوي.. قصة أو سيناريو أو مسرحية أو قصيدة أو موضوعاً أو رسمة.. حتى التسليات تتوخى من ورائها فوائد, كإدخال المتعة والسرور إلى نفس الطفل, وكرياضة ذهنه وتحريك عقله, وتنمية قدراته ومهاراته وذكائه.. كانت المجلتان جادتين في كل ما تنشران.

* وكيف كان انتشارهما?

- ممتاز ولله الحمد.. كنّا نطبع من فراس عشرين ألفاً, ومن الرواد ستة وعشرين ألفاً توزع في دول الخليج ومصر والأردن ولبنان, وكنا نتمنى ونسعى أن تتمكنا من اختراق الجدران الصماء في الدول العربية الأخرى.

* شكراً لك يا أخي على إجاباتك ولعلنا نلتقي مرة أخرى حول أدب الأطفال وصحافة الأطفال, وكتاب الأطفال وشعرائهم ورساميهم.. شكراً لك ونرجو تقديم كلمة موجزة للأطفال.

- أوجه كلمتي هذه للصغار والكبار. إلا إذا أعلنا يأسنا من بعض (الكبار) الذين يربون أولادهم على الغش والخداع والكذب, ليفوزوا بالمال والمنصب والجاه في هذه الحياة القصيرة.

أقول لهم: الصدق الصدق فيما تقولون.

الأمانة الأمانة..

الفضيلة الفضيلة..

اعملوا بصدق وأمانة وإخلاص, فأمتكم في أمس الحاجة إليكم, وأوضاعنا المتردية هذه, نتيجة طبيعية لبعدنا عن ديننا.. عن تعاليم إسلامنا العظيم.. عن قيم أمتنا.. عن تكالبنا على المصلحة الشخصية, وإن تعارضت مع المصلحة العامة.. مع مصلحة الأمة.. وإلى لقاء آخر يا أيها الأحباب.