مع الدكتور سلمان حرب

الأبناء والأحفاد يغارون منه ويفتخرون به

حصول سلمان حرب على الدكتوراه

في عمر الثمانين لن يكون نهاية المطاف

وراء كل رجل عظيم زوجة محبة

ريما عبد القادر- غزة

[email protected]

في بداية الأمر حينما سمعت بخبر حصول فلسطيني من مدينة غزة على درجة الدكتوراه، وعمره تقارب الثمانين أحببت كثيراً إجراء معه مقابلة صحفية، وكنت في ذلك الوقت وضعت في ذهني أن أبدأ بمقدمة قد تكون قريبة جداً من التقليدية، حيث صأصف بها الدكتور سلمان عبدالله حرب برجل ذات الشعر الأبيض وبعض ملامحه التي تحيط بوجهه الذي تجاوز 79 عاماً، لكن في حقيقة الأمر كل ذلك تغير بعدما استضافني في منزله وسط عائلته الكبيرة التي أمضيت معهم ساعات دون أن أشعر بها، حيث أن الحديث امتزج بكثير من الابتسامات، والمحبة، والفخر التي تبادلها أفراد الأسرة مع الأب، والزوج، والجد الذي أصبح قدوة ليس لعائلة حرب وحدها بل لكل من عرفه. وأكثر ما أضاف للجلسة لقاء بطعم مميز أن د.سلمان لم يكن اقترب من الثمانين بل كان أقرب من الأربعين، أو الخمسين من خلال تطلعاته إلى ما بعد حصوله على الدكتوراه، وأن هذا الأمر كان من خلفه زوجه محبة ...

الشاي يعيد الذكريات

"نشرب شاي أو فنجان قهوة الأول أو نختار الشاي الأول ونختمها بقهوة.." بهذه الكلمات أراد أن يكرم د.سلمان ضيفته، وبابتسامة علق بها على فنجان القهوة "الباحث هو من يختار فنجان القهوة وإن لم تكون سادة فستكون سكر خفيف"، ورغم ذلك فقد وقع الاختيار الأول على فنجان الشاي.

وقبل أن يبدأ بشرب الشاي عاد بذاكرتها إلى ما قبل 72 عام، وبالتحديد حينما كان في السابعة من عمره في الصف الأول الابتدائي على مقعد مدرسة ذكور اسدود الابتدائية التي أنهى فيها صفه السابع، حيث كان في الرابعة عشر من عمره، ورغم صغر سنه في ذلك الوقت إلا أنه أحب العلم كثيراً فكان جزء من حياته بل الهواء الذي يتنفسه.

وبابتسامة كانت تمتزج في كل كلمة من كلماته وهو بجوار الزوجة، والأحفاد، والأبناء " بعد هذه المرحلة اشتغلت في معسكرات الجيش البريطاني عامل مثلي مثل الكثير من كانوا في سني، وبعدها انتقلت للعمل في سكة حديد فلسطينية لمدة لا تتجاوز 24شهراً".

ويتابع بعد أن شرب شيء من الشاي " كنت في ذلك الوقت أحصل على راتب يساوي 23جنيه، و75 قرش، و3 مليم، وكنت في كل يوم يتولد لدي رغبة بالتعليم، لكن كانت تارة تبرز على السطح، وتارة تكون بالأعماق حسب الظروف التي كنا نعيش بها".

وما إن رأى مفتاح قي يد حفيدته الصغيرة حتى تذكر بيته في أسدود قبل الهجرة، حيث انتقل مع عائلته إلى رفح بعد أن أغلقوا أبواب منازلهم ظناً منهم بأن العودة ستكون قريبة، فلم يأخذوا إلا الشيء البسيط جداً من الأشياء إلا أن الحال طال في خيام مخيم رفح عام 1952م.

ويذكر د.حرب أن شقيقه الأكبر علي كان يعمل في غزة وكثير ما كان يقول له:"تعال إلى غزة فيوجد بها مجال الشغل بشكل أفضل"، وبانتقاله لغزة صار قريب من مجال التعليم.

من مدرس إلى مدير

وكان كثير ما يأتي إليه حفيده فاروق ويقول له" ثيدو حبيبي بدي أصير دكتور مثلك"، فكان فاروق رغم صغر عمره إلا أنه تمنى أن يكون مثل جده خاصة أنه هو من علمه كيف يفرق بين رقم سبعة وثمانية من خلال أنامله الصغيرة.

وقبل أن يكمل فنجان الشاي تذكر الفترة التي عمل بها مدرس لكافة المواد حتى مادة الرياضة، والأشغال الفنية في مدارس مخيمات اللاجئين. وبعدها انتقل لمدرسة الإمام الشافعي ثم مدرسة غزة الجديدة بعدما حصل على شهادة ثقافة التي تعادل 4 سنوات قبل دراسة الثانوية العامة.

وكان في كل مرحلة من حياته يزيد حبه للتعليم، ولم يكن يذهب عن ذهنه استكمال التعليم بقدر المستطاع فمهنة التدريس لم تشغله بأن ينتسب للجامعة مابين عام 1958- 1959م بعد أن حصل على توجيهي مرتين قديم، وجديد.

وفي عام 1964م حصل على ليسانس تاريخ، ويصرف على نفسه وعلى سفره لإجراء الامتحانات وعلى عائلته من خلال راتبه في وظيفة مدرس، لينتقل إلى التعليم في مدرسة صلاح الدين لتدريس المواد الاجتماعية فقط.

"ابن البط عوام" هذا المثل انطلق على ابنته سربين التي تقول:" أعمل مدرسة مواد اجتماعية المجال الذي تعلمه وأحبه والدي فأحببت أن أكون مثله".

"إنني أفخر كثيراً بوالدي وحينما حصل على الدكتوراه شجعني ذلك أكثر بأن أكمل الدراسة، وأن الأمر لا ينتهي بحصول الإنسان على وظيفة".

وفي ضوء خافت صادر من "ضوء لمبة الكاز" كان يجتمع د.حرب مع تلاميذه المتميزين لإعداد وسائل تعليمية مثل مجسمات للخرائط، وغيرها من الوسائل، وكما يقال "لكل مجتهد نصيب" الأمر الذي لفت انتباه المسؤولين ليعملوا على ترقية د.حرب إلى منصب مدير مدرسة عبسان الصغيرة "كنت أذهب للمدرسة كما إنني ذاهب لعرس"، وبعد عدد من التنقلات  تم ترقيته إلى أن أصبح عام 1968م موجهاً للوسائل التعليمة وغيرها من المناصب إلى أن وصل التقاعد.

عكازة الدكتور

لم يكن التقاعد الذي حصل عليه د.حرب يجعله أن يسكن في حركته وأن يكتفي بالقراءة وشرب فنجان الشاي الساخن، أو القهوة التي يحبها قرب مدفئة تعكس عليه دفئها، بل كان عكس ذلك خاصة أنه أصبح أكثر تفرغاً لإكمال مسيرة حبه للتعليم، فكانت القراءة غذاء جسده وروحه ومقياس نبض دقات قلبه.

وفي مرحلة جديدة في حياته بعد التقاعد حصل على مرتين دبلوم ليستطيع أن يكون طالب من طلاب العلم في الدراسات العليا، ليحصل على درجة الماجستير في التربية من جامعة الأزهر عام 2000م في رسالة قدمت بعنوان"العلاقة بين مستويي الجانبين النظري والعلمي في إعداد المعلم".

وبكثير من الابتسامات التي كانت تعلو من زوجته خديجة التي كان تنطبق عليها المثل القائل "وراء كل رجل عظيم امرأة"، تقول بابتسامة مزجت بها كثير من الفخر:" كان زوجي في برودة الشتاء وحرارة الصيف يذهب للجامعة بنشاط، قد يكون أكثر بكثير من الطلبة الذين جاورهم في مقاعد الدراسة".

وحينما سألتها عن دورها في حياة د.حرب؟؟ كانت تجيب بتواضع :" زوجي هو عظيم بذاته ولم أكن سبب ما هو فيه". قالت هذه الكلمات تواضع منها خاصة حينما كان ينظر إليها د.حرب كأنه يقول لها: " كفاكي تواضعاً يا زوجتي العزيزة أتذكرين حينما كنت متعبة وأنت قادمة من المدرسة قبل التقاعد في حرارة الصيف المرتفع وأنا كنت انتظرك وبمجرد أن لحظتك قلت لك انتظري سنذهب لشراء كتاب فرغم تعبك قابلت ذلك بابتسامة فأنت عكازة حياتي".

وتابعها بكلمات شعره الذي أتقن فيه بموضوعات مختلفة،: " قالوا العسل غالي قلت الحبيب أحلى "، مبيناً بأنها قد ساعدته في توفير له الكثير من الهدوء والأجواء للحصول على الدكتوراه.

وبضحكة أرادت بها خديجة أن تضع السكر على الجلسة ليعطيها نكهة لذيذة استذكرت بها فاتورة التلفون التي تجاوزت 400دولار،" بمجرد أن يرى مؤتمر أو كتاب في أي دولة ويرغب بالحصول عليه مباشرة يتصل بهم لمحاولته الحصول على الكتاب".

"في كثير من الأوقات كنت ادخل للبيت بعد العودة من المدرسة، وأعد الطعام وزوجي لا يعلم هل أنا أتيت للبيت، أو لا، فكان المكتب صديقه الذي لا يفارقه إلا أوقات قليلة جداً، كما أن الضيف إذا جاء وتكلم بأمور غير عن الكتب والعلم فإنه لا يروق له الجلوس معه".

وفي نظرات استرقتها لزوجها مع ابتسامة :"زوجي يجمع بين الدين والعلم فله الكثير من الكتابات التي تم من خلالها تصنيف الآيات القرآنية المتعلقة باصلاح الفرد وأكد من خلالها أن الدين الإسلامي سبق كافة الباحثين في ذلك".

"يتصف بهدوء الطبع لا يوقظني إن كنت نائمة لإعداد شيء له، ولا يأكل إلا القليل ولا يكره الطعام"، وما إن وصلت بالكلمات الأخيرة فقطاعه بضحكات عالية بعض الشيء إلا طعام الفسيخ والكرش لا أحب تناولهما.

لأسد الجوع

"لأسد الجوع فحينما أجوع أشعر بأنني بحاجة للقراءة، والبحث، والكتابة فالدودة خلقها الله تعالى ليس لها عينان لكنها تسير نحو الطعام فتأكل منه، وحينما تشبع تسكن رغم أنها لا ترى لكنها تجد طعامها بقدرة الله تعالى" بهذه الكلمات عبر بها د.حرب بفخر سبب استكماله للتعليم وهو في سن تجاوز 79 من عمره.

وبكلمات هادئة "رغم مشقة الطريق للسفر من أجل مناقشة رسالة الدكتوراه في مصر إلا أنني كنت أشعر بأنني أسير على ريش نعام، ولم أشعر بأي تعب طالما كنت ولازلت أتغذى بالعلم والبحث".

وما إن ذكرت كلمة التعليقات وقبل أن أكمل السؤال ..هز رأسه واتبعها بكلمة" كثير من كان  يعرف أنني أحضر لرسالة الدكتوراه يقول لي لماذا هذا التعب ؟؟!هل تريد الحصول على وظيفة؟؟!".

ويوضح أن ذلك لم يؤثر عليه، لأن العلم بمثابة غذاء له فإن توقف عن البحث فكيف سوف يتغذى خاصة أنه من الأشخاص الذين لا يفكرون بالمال.

إمبراطورية حرب

سفيان ..سوزان..سمعان..سرين ..سربين ..سلوان..صفوان ..عصام...هند..عبدالله  هؤلاء هم أسماء أنجال د.حرب الذي اهتم بتربية أبنائه كما يربي الآباء أبنائهم ينصحهم، ويوجههم، ويقدم لهم المساعدات المادية والنفسية، ويؤمن بأن لكل واحد منهم قدرات معينة يساعدهم على تنميتها لكن لا يجبرهم على فعل شيء لا يريدونه.

وفي وسط هذه الكلمات كان يستمع إليها الأبناء، والأحفاد وينصتون جيداً لكلام والدهم وجدهم والابتسامة لا تفارق وجوههم.

وبالقرب من والدها كانت تجلس الدكتورة هند التي اختصرت كلماتها عن والدها بقولها:"والدي تجاوز المستحيل الذي كان بتوهمه الكثير، فعمره لم يكن حاجز لأن يكمل تعليمه خاصة أنه حصل على درجة امتياز مع مرتبة الشرف واستطاع السفر لمصر في وقت كان السفر شبه مستحيل".

وبابتسامة بادلتها مع والدها:"الحمدلله إن والدي مفخرة كبيرة لنا ومصدر تشجيعي لإكمال التخصص والحصول على الدكتوراه إن لم يكن اليوم فسيكون غداً".

وتشير إلى أنها سوف تعلم أطفالها بقدر الإمكان ليكونوا مثل جدهم، فهم يتأثرون به رغم أنهم أطفال صغار "فطفلي فاروق لم يكن يعلم الفرق بين السبعة والثمانية فجده علمه كيف يفرق بينهما من خلال الأصابع".

وأما سربين التي كان اسمها يحمل معنى زهرة كانت بالفعل مثل زهرة ترتوي من أبيات شعر والدها "دائماً اتصل على والدي وأخبره بأنني أريد قصيدة عن المعلم وتارة عن الربيع، وهكذا فكان دوماً يقدم المساعدة لي في أبيات شعره".

وتتابع كلماتها بكل حب وفخر" أبي حصل على الدكتوراه وهو في الثمانين فالأمل موجود أن أحصل على الدكتوراه أنا أيضاً حتى إن وصلت لعمر الثمانين"، وبكلمات أخرى" بصراحة أنا غرت من بابا إنه حصل على الدكتوراه وأنا لم أحصل عليها رغم أنني صغيرة بالنسبة له".

أما عبدالله أصغر أبنائه فكان كما قالت والدته" أصغر العنقود جبلنا أخر العنقود حيث أن الله تعالى رزقه بطفلة قبل فترة قصيرة الحفيدة التي احتلت رقم 42 من أحفاد د.حرب".

يقول وهو يرسم على كلماته الكثير من الفخر" كنت أنظر لوالدي وهو يعد الدكتوراه نظرتين نظرة تحمل الإشفاق لكونه قرب على الثمانين وقد أصيب في قدمه العام الماضي بجلطة بسبب جلوسه لساعات طويل على المكتب، ونظرة الاستغراب بالوقت ذاته".

"بابا عمرك 80 وممكن تتعب من القراءة، والبحث لكن بصراحة بنفس الوقت كنت أغار منه و فخور به جداً لكونه يمتلك هدف عمل على تحقيقه وقد حصل على الدكتوراه وأنا عمري 28 عام ولم أحصل إلا على الدبلوم".

ويبين بأنه يرغب بأن يكمل تعليمه ليس من أجل الوظيفة لكونه يرى بأنه من الصعب أن يجد من يقدر العلم خاصة في ظروف الحياة الصعبة،" حيث يوجد كثير من الأصدقاء منهم من تخرج مهندس ويعمل سائق تكسي لذلك إن أكملت تعلمي فسيكون  من أجل أن أكون متعلم مثل والدي مثقف يدرك أمور الحياة".

معقول!!!

"هل هذا معقول أنا وش مصدقه معقول جدك في الثمانينات حصل على الدكتوراه!!!" بهذه الكلمات قالت إحدى صديقات سهيلة حفيدة د.حرب.

وتوضح بابتسامة أرسلتها لجدها تحمل رسالة"أفخر بك يا جدي"،" صديقتي لم تصدق الأمر إلا حينما شاهدت الخبر بالجريدة فاستبدلت استغرابها بقول ماشاء الله تعالى على جدك".

وتضيف:" لما برى جدو  بيدرس بغار كثير بصير اعمل مثله وأدرس وبتمنى أصير مثله وأحصل على الدكتوراه.

وكانت كثير ما تقترب الطفلة ملك لجده وتقول له" ثيدو..ثيدو بدي أصير مثلك دكتورة" وكانت إما أن تسبق كلماتها بابتسامة أو ضحكة تداعب بها جدها.

وأما صابرين ونادين كما اشتركتا في الشكل كذلك اشتركتا ًبما يحمله فؤادهما من كل معاني الحب إلى جدهما، حيث تعبر نادين عن سعادتها وفخرها خاصة حينما علمت زميلاتها بالمدرسة بأن جدها حصل على الدكتوراه فكثير من صديقاتها حينما عرفوا بالأمر رغبوا بأن يعرفوا المزيد عن جدها.

وتكمل عنها الشعور صابرين التي كل يوم يمر تزداد حباً وتقديراً لجدها،متمنية بأن تكون مثله وتحصل على الدكتوراه.

وفي همسات من خديجة"أم عبدالله "في مسامع الحاضرين،" سأطبع شعر زوجي لتكون بمثابة هديه أقدمها له خاصة أن شعره يستحق أن يحتفظ بها".

وفي كلمات اختتم بها د.حرب كلماته بعد أن شاركته بتناول الحلوى وشرب فنجان القهوة:" لا تتعلموا من أجل الوظيفة بل من أجل أنفسكم لإشباع جوعكم من العلم، ومن أراد شيء بصدق سيعينه الله تعالى على فعله".

وبتواضع من د.حرب قال:"بعد أن حصلت على الدكتوراه في تطوير منهج التربية المدنية للمرحلة الأساسية في فلسطين، أشعر بأنني قد وصلت إلى عتبة العلم فلازال أمامي طريق طويل لأسير به فالدكتوراه لن تكون أخر ما أطمح إليه".