حقبة "ما بعد العلم" ترحب بكم!

ليس يسيراً أن نعترف بضلوعنا في تفاعلات مارقة من العلم ومتمردة عليه، أو أننا نخضع بسهولة لتأثيرات تهيمن على وجداننا وتأخذ بألبابنا كل مأخذ رغم كل ما اكتسبناه من علوم ومعارف. لكنّ الإنكار لا يلغي الواقع الذي نخالجه بالفعل في حقبة "ما بعد العلم".

فمن حولنا تصعد نزعات "عِلْموية" طاغية لا تلتزم بالمنهجيات المعتبَرة، فهي تتجاوز المجتمع العلمي وأدواته في النظر والتمحيص والمناقشة، فلا يأتي أصحابها بدراسات وبحوث وأطروحات رصينة، أو بمقالات علمية وندوات للمدارسة التخصصية ونحو ذلك، بل ينبرون إلى مخاطبة الجماهير مباشرة لاستقطابها لفكرة تبدو مثيرة للاهتمام وحافلة بالتشويق أو مفاجئة وصادمة أحياناً. إنها الجماهير التي تقصفها وفرة هائلة من المواد والإطلالات في الشاشات والشبكات تبدو وكأنها تسعى إلى اختراع العلم والمعرفة وإعادة صياغة الفلسفة والدين والاجتماع، ونقض العلوم التطبيقية والطبية وغيرها؛ وهذا كله في حضرة جماهير لم يتم تمليكها أدوات النظر العلمي والتمحيص والتدقيق والمراجعة والمقارنة بما يكفي، وإن امتلكت هذه الأدوات فستعجز عن استعمالها مع مواد مبعثرة بمعزل عن مقومات التحقّق والتثبّت، ومع شظايا من المقاطع الشيقة المستعصية على التوثيق والتدقيق، كما تخلو بالأحرى من هوامش وإحالات ومراجع وشهادات ومعايير في النقل والاقتباس والتضمين مثلاً.

تتحدّث بعض الإطلالات بلغة تبدو "علمية" و"بحثية" و"عقلانية"؛ لكنها تكتفي بالشاشات والشبكات والمقاطع والتغريدات، ويتحاشى أصحابها - بإصرار - الكتابة والتدوين والنشر حسب الأصول العلمية والمنهجيات الضابطة. إنّ هذا مريح جداً لهم، فهو يضمن لهم ذيوعاً وتأثيراً في زمن الصورة والمشهد والتشبيك، ويحررهم من النقد العلمي الرصين والمدارسة الجادة، ويجعلهم في مأمن من النظر البحثي الفاحص، خاصة إن كان أحدهم ذا لحن ووجه نَضِر وهيئة أخاذة ولغة جسد بارعة وتظهر عليه أمارات الثقة والاقتدار، ويستعمل من فنون التأثير البصري وبلاغيات الحديث ما يأخذ بالألباب ويهيمن على الوعي ويُورث الاستلاب؛ وقد يأتي هذا باسم العلم والعقل وحرية التفكير.

تصعد الموجة التي تستعمل مؤثرات نفسية وفنون الأداء والعرض، عبر مجتمعات العالم جميعاً، فتحقق ذيوعاً وتأثيراً جماهيرياً جارفاً ضمن حقول وموضوعات؛ محسوبة في الأساس على العلوم والمعارف والتخصصات. إنها تحفل بـ"اكتشافات جديدة" واستنتاجات مذهلة أحياناً. وقد يقتطف بعضهم شذرات محسوبة من كتب منسية أو التماعات عارضة في أذهانهم، ويخرجون بها على أقوامهم في المقاطع والشاشات متحدثين بثقة، فيرتقون في عيون متابعيهم مراتب الفتوح العظيمة في ميادين العلوم والأفكار والفلسفات والعقائد، أو يصعدون سياسياً إلى صدارات الدول كما يشهد بذلك نموذج دونالد ترامب، مثلاً، الذي وعد في خطاباته وإطلالاته وتغريداته بحلول جاهزة وصارمة ومُختزلة للمعضلات المزمنة جميعاً، وعلى أميركا أن تتجرع الإحراجات اليومية في العالم تحت تأثير هذا الاختيار.

يتفاعل هذا المنحى من خلال انسياح التداول الإعلامي والتواصلي من نطاق المؤسسة إلى فضاءات الجماهير والأفراد، بما حرّره من معايير وقيود ومسؤوليات كان عليه الالتزام بها، وهو ما أطلق العنان للتضليل والتدليس والأخبار المزيّفة التي باتت معضلة عالمية متفاقمة تباشر إغراق الأفراد بكل ما يترتب عليها من تأثيرات وتسطيح للوعي.

في صميم هذه التحولات تتفاعل ظواهر تم تشخيصها، من قييل "ما بعد الحقيقة"، فالفحوى المجردة يقع تجاوزها لصالح الأسلوب والشكل والاستعمالات التي تتلاعب بنفسيات الجماهير في هذه الحقبة، مع صعود التزييف والانتحال والمبالغات. يتجلى مثل ذلك في وصفات طبية وإرشادات صحية وتوجيهات غذائية يخرج بها "خبراء" عبر الشبكات والمقاطع دون مسؤولية عن انعكاساتها ومضاعفاتها، ولهذه ما يناظرها في أمر الدين يتقدّم بها "علماء" و"مجدِّدون"، أما في التحليل السياسي فيظهر "خبراء إستراتيجيون" بمقاربات حافلة بالحتميات والقطعيات والتحيزات التي هي في الأساس موضع شك وإن كانت تلبي تطلعات الجماهير وتروي ظمأها في تقديم روايات مطمئنة أو معززة لما هو مرغوب. والقاسم المشترك مع هذه "الطائفة" على تنوّع مشاربها أنها تتوجّه إلى مخاطبة الجماهير مع تجاوز المجتمع العلمي وأروقة الاختصاص، فتنساح مزاعمها وتتفشى مقولاتها بين الناس معززة بالشواهد والوثائق والإحصاءات والاقتباسات والدراسات المضللة، دون تمليك القوم أدوات النظر العلمي أو روح التمحيص والحس النقدي، فيقع استلابُهم بسلاسة العبارة ومهارة الإشارة وبواعث الإثارة، مع السعي إلى الهيمنة على عقولهم بطريق وجدانهم بما ينطوي على نزعة علموية جارفة.

جدير بالنظر أنّ بعضاً مما يُعرَض باسم "العلم" أو "العقل" أو مما يُنسب إليهما في زمن المخاطبة الجماهيرية المرئية؛ قد لا يكون هو "العقل" عينه أو "العلم" على وجه الدقة؛ بل قد يكون انفعالاً وجدانياً يُخضِع "العقل" فيُرغِم صاحبَه على اقتناع تعسفي بأنّ مقولة ما هي "عقلية" أو أنّ زعماً بعينه هو "علمي"؛ رغم أنّ ما يأتي قد يجافي العقل أساساً وتخالجه وجدانيات ظاهرة بمواصفات مضللة. إنّ ميْل أحدهم إلى رفض قناعة ما أو مقولة أو نص، بدعوى أنّ "هذا لا يدخل عقلي!"؛ قد يكون في حقيقته رضوخاً لحشْو مُسبق استولى على وجدانه وهَيْمن على إرادته في تشغيل "العقل"؛ فلم يتحرر إدراكه من أحكام مُسبقة أو تحيّزات كامنة؛ وإن احتمى بمقولات "العقل" أو تذرّع بتعبيرات "العلم" في زمن تعلو فيه شعاراتهما المحنّطة؛ المفترقة عنهما أحياناً.

 

وسوم: العدد 760