الموت

الموت

البراء كحيل

[email protected]

الموت...  ذلك الماردُ المرعبُ الذي لا يملُّ ملاحقةَ فرائسه حتّى يظفرَ بها, تلكَ الفرائسُ التي ترتعدُ فرائصها كلَّما ذُكرَ اسمه, كيفَ لا وهو العدو الذي يُعلنُ فناءَ الجسدِ وانتقالَ الروحِ إمّا إلى نعيمٍ أبدي أو جحيمٍ سرمدي.

إنَّ الحياةَ هي الثوبُ الجميلُ المزركشُ الذي ترتديهِ مُفتخراً قوياً وعلى حينِ غرّةٍ يخرجُ من الظلامِ والمجهولِ ذلكَ الشبحُ الذي ينزعُ عنكَ ثوبكَ الزَّاهي لكي يُبدلَكَ إيّاهُ قطعةَ قُماشٍ زهيدةً رخيصة لا يرتديها إلاَّ منْ غرسَ الموتُ خنجرَهُ في صدره.

إنّهُ الامتحانُ الذي لا ريبَ كلُّ النّاسِ سيخضعونَ له ولكنَّ وقتهُ ومكانهُ مجهولٌ عنهم فهو امتحانٌ يأتيكَ من غير إعلامٍ أو تنبيه فلا تشعرُ إلاَّ وأنتَ مُلقى على خشبةٍ عاجزٌ عن الحركةِ يحملكَ الرجالُ نحو الفناءِ الجسدي.

ذلكَ الكابوسُ الذي يراودُ الجميعَ ولكنّه كابوسٌ سيتحقق حتماً وستذوقُ كلُّ الخلائقِ ذلكَ الكأسَ المرَّ ومهما حاولتِ الفرارَ منهُ فإنّهُ كالظِلِّ ملتصقٌ بها مُلاحقٌ لها لا خلاصَ منه.

إنّهُ قاتلٌ مُحترفٌ لا يُميّزُ بينَ صغيرٍ وكبير, أو بين عروسٍ وعجوز, أو بين قويٍّ وضعيف, فكم من طفلٍ صغيرٍ ظنَّ أهلهُ طولَ عُمرهِ فإذ بالموتِ يُغمِضُ عينيهِ ويخطفهُ من حضنِ أمّه, وكم من عروسٍ أبدلَها بثوبِها الأبيض كفناً ونقلها من بيتِ زوجها إلى بيوتِ الأموات, وكم من مُتكبِّرٍ مُتجبّرٍ مُعتزٍّ بسلطانهِ وحرسهِ فإذ بالموتِ يتسللُ من بينِ جندهِ ويخترقُ أسوارهُ الحصينة ليحصدَ روحه بمنجلٍ منقوشٍ عليه"قاهرُ الجبابرة".

الموتُ هو الوسيلةُ التي تنقلكَ من منزلكَ القديمِ إلى منزلكَ الجديد, ذلكَ المنزلُ الذي لانوافذَ له ولا أبواب, مُغلقٌ بإحكام صغيرٌ لا يتّسع إلا لك ولبعضِ الديدان التي تلتهمُ جسدكَ الغضَّ بنهم, فأنتَ في سفينةٍ في عرضِ البحرِ تتقلبُ بينَ رياحٍ وعواصفَ وبين هدوءٍ واستقرار, فإذا ماوصلتَ البرَّ وأَرْخَيتَ الأشرعة فقد انتهتِ الرحلةُ وأنتَ الآن في دارِ أمانٍ أو دارِ شقاء.

إنّهُ ذلكَ البابُ الفاصلُ بين دارين لكنَّ مفتاحهُ ليسَ بيدكَ وليسَ لكَ من الأمرِ شيءٌ فهو بحوزة ذلك الماردِ وهو وحدهُ من يقررُ ميعادَ فتحه فإذا ما فتحتهُ فقد غدوتَ في الدارِ الثانية الأبدية فيالعجبي لمن عمّر دارَ الفناءِ وهجرَ دار البقاء!.

هو الشيءُ الغريبُ المبهم المجهولُ الغامضُ الذي لا نعرفُ عنهُ شيئاً فلا يمكنُ تجربته ولا تحليلهُ أو تفسيره ويعجزُ إلاَّ من ذاقهُ عن بيانه وتوضيحه, وكيفَ لمن وقعَ به أن يعودَ ليرويَ ماجرى له؟! وهذا هو سرُّ الخوفِ منه والرهبةِ من ذكرهِ فالإنسانُ عدو ما يجهل, ولكن إن وثقَ بقلبهِ وشعوره أنَّ ما ينتقلُ إليه خيرٌ ممّا هو فيه فذلكَ يُخففُ من رهبةِ الموتِ ويزرعُ في صدره بعضاً من الطمأنينة مع بقاءِ الكراهيةِ لذلكَ الضيفِ ثقيلِ الظلِّ الذي يدخل البيتَ بلا استئذانٍ ومن غير ميعاد, وأخيراً الموتُ هو كما أوجزَ وأحسنَ في وصفه "أبو العتاهية":

الموْتُ بابٌ وكلُّ الناسِ داخِلُهُ       يا ليْتَ شعرِيَ بعدَ البابِ ما الدَّارُ

الدَّارُ جنَّةُ خلدٍ إنْ عمِلتَ بِمَا        يُرْضِي الإلَهَ، وإنْ قصّرْتَ، فالنّارُ