نَكَدٌ.. ودَواءٌ

نَكَدٌ.. ودَواءٌ

مصطفى حمزة

[email protected]

حدّثني صَديقي فقالَ :  

خرجتُ هذا الصباحَ من بَيْتي مُحمّلاً – كعادتي – بجُرعةٍ من نكدِها تكفيني حتى أعودَ ! جُرعَةٍ تُزوّدني بها كلّ خروج ، بحيثُ تُنغّص عليّ ساعاتِ غيابي ولا تقضي عليّ أو تمنعني عن أداء عملي ، ولو في الحدّ الأدنى ! جٌرعةٍ قد قدّرتْها تقديرًا اكتسبتْ خِبرتَه من سنواتِ زواجنا التي قاربت خمسًا وعِشرينَ سنة !

أشدُّ ما يكون أثرُ هذا النَكَدِ صَعْبًا عليّ في أثناء الطريق من البيت إلى المَكتب ؛ فألمُ النفس وعَضّ القُرحة والأسفُ على عُمُرٍ مضى ، وطُعومٌ لئيمة أخرى يطبخها هذا النكدُ ؛ أخشى عليّ منها وأنا أقود سيّارتي ، أخاف أن أصابَ فأقعدَ أو أموتَ ؛ وأتركَها مِنْ بَعْدي بلا مُعينٍ ولا ظهيرٍ، في هذه الدنيا ذات الغُربة المُنوّعة !

وصلتُ المكتبَ ، فأسرعتُ في تشغيل حاسوبي ، وفتحتُ مِلَفَّ "العلاج من النّكدِ" الذي أحفظه فيه منذ مُدّة  .

فيما مضى من عُمرِ النكد ، لاسيّما في بداياته – أي منذ ما يُسمّى بشهر العسل – كنتُ عندما ترميني بجُرعتها ، أرميها بردّي العنيف ، ثُمّ تزيد الجرعة فأزيد ! ثمّ أقضي مدّة غيابي كلها وأنا أعدّ لمعركةٍ تبدأ بخطوتي الأولى التي أعْتُبُ بها بابَ البيتِ عند عودتي ، وتشتعل مِن ثَمّ النارُ  في نفْسَيْنِ وجِسْمَيْنِ ، وفي بيتٍ عَطِشٍ لضحكة أو بَسْمةٍ، لكلمةٍ طيّبة من زوجةٍ تُرطّب بها شِفاهَ العَيْشِ المُتشققةَ ، وتضع عن ظهرٍ وِزرًا أنقضَه !

لكنني اليومَ – ومِن بِضعِ سِنينَ– عرفتُ الدواءَ الشافي منها ، وقدْ كان – وا أسفي – بينَ يديّ من البداية ، غيرَ أنّ العَسْفَ والغضبَ وسَفَهَ الشبابِ ، والسَّعْيَ المجنونَ في هذه الحياةِ ..والشيطان ؛ كلّها حجبت عنّي فيما سلفَ الدواءَ الشافيَ ، الذي هو الآنَ لا يُفارقني ، أسْتَطِبّ بِهِ كلّ يومٍ .

فتحتُ من الحاسوب مِلفًّا فيه عشراتُ الصفحاتِ ، جمعتُها بجِدٍّ وصَبْرٍ من صَحيح المأثورِ عن رسول الله – صلّى الله عليه وسلّم - كُلّها تعبَق بخُلُقِهِ وشمائلِهِ ،عليه صلواتُ الله وسلامُهُ ، ورُحْتُ أرشفُ منها دوائي اليومي .

  قرأتُ قوله : " مَنْ كَظَمَ غَيْظاً وَهُوَ قادِرٌ على أنْ يُنَفِّذَهُ دَعاهُ اللَّهُ سُبْحانَهُ وَتَعالى على رُؤوس الخَلائِقِ يَوْمَ القِيامَةِ حتَّى يُخَيِّرَهُ مِنَ الحُورِ ما شاءَ " .

  وقرأتُ قولَ أمّنا الطاهرة عائشة - رضي اللّه عنها- : " دخلَ عليّ النبيُّ صلى اللّه عليه وسلم وأنا غَضْبى، فأخذَ بطرفِ المِفصل من أنفي فعركه ثم قال‏:‏‏ " يا عُوَيْشُ قُولي‏:‏ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لي ذَنْبِي وأذْهِبْ غَيْظَ قَلْبِي، وأجِرْني مِنَ الشَّيْطانِ " ‏‏.‏

  وقولَها عنه – صلّى الله عليه وسلّمَ - : كانَ " لا يُجزئ بالسّيّئةِ السيّئةَ ، ولكنْ يعفو ويَصفَحُ " .

  وقرأتُ قولَ عليٍّ – رضي اللهُ عنه - : " كانَ رسولُ اللهِ – صلّى اللهُ عليهِ وسلّمَ – دائمَ البِشْرِ ، سهلَ الخُلُقِ ، ليّنَ الجانبِ ، ليسَ بِفَظٍّ ولا غليظٍ ولا صَخّابٍ ولا فَحّاشٍ ولا عَيّابٍ ولا مُشاحٍ يتغافلُ عمّا لا يشتهي ، ولا يؤيسُ منه راجيهِ ..."

  وقرأتُ أنّه – صلى الله عليه وسلم – كانَ " لا تُغضبه الدّنيا ولا ما كانَ لها " .

وكانتْ جُرعةً كافية من الدواء لهذا اليوم، لأنهضَ مُنصرفًا إلى عملي ، وقدْ شُفيتْ نفسي وصَفتْ رُوحي .. إلى حِين ...