التعفيش: مُساءَلةٌ أخلاقية قبلَ أن تكون قانونية

في قولها للملأ من قومها, إذ عرضوا عليها أنفسَهم لقتال نبي الله سليمان عليه السلام: ( إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً )، تكون صاحبةُ سبأ عبّرت عمَّا تناهى من الأخبار عن الملوك إذا دخلوا القرى عنوةً، و هي تخشى أن يكون ذلك منه أيضًا.

و ذلك أنّ ما استقرَّ في ذاكرتها الجمعية عن أخبار الغزو و الحروب، لا يبعث على الطمأنينة أبدًا، ولاسيّما في المحيط الذي كانت تعيش فيه، حيث كانت القبائل تكنس الأرض عن بكرة أبيها، و تجعلها صعيدًا جُرُزًا، و هو ما لم يسلم منه حتى العنصر البشريّ؛ فشاعت ظاهرة الأُسارى، و الإماء، و العبيد، و ذلك حينما تغير على القبائل الأخرى في حلكة الليل البهيم.

يرى الاختصاصيون النفسيون أنّ الأمم كلّما أوغلت في سُلَّم الحضارة، نزعت عنها هذه العادات الذميمة، فسليمان عليه السلام لم يقم بشيء من هواجس بلقيس، و هذه وصايا رسول الله صلى الله عليه و سلم لأصحابَه، حينما كانوا يتجهزون للغزوات و السرايا: ( لا تغدروا، و لا تغلوا، و لا تُمثِّلوا، و لا تقتلوا الوِلدان، و لا أصحاب الصوامع ).

و كان من إصلاحاته صلى الله عليه وسلم في الحرب، أنه نهى أن يُغار على العدو، و هم نائمون أو غافلون؛ لأن هذه الإغارة قد تجني على الأبرياء من غير المقاتلين، و تذهب بأنفسهم، فقد كان من عادة العرب أنهم كانوا يُبيِّتون الإغارة، يقول أنس بن مالك: ( إذا جاء النبيُّ قومًا بليل، لم يُغِر عليهم حتى يصبح )؛ و ذلك في مسعى منه لحملهم على التخلي عمّا ألفوه من أقوامهم في الجاهلية.

و لمّا كانت القرون الوسطى في أوروبا؛ تفشَّت فيهم هذه الخصال الكريه، حتى أباح الجنود المُتغلِّبون لأنفسهم ( الليلة الأولى )، في بنات الأمم التي كانت تخضع عنوة لهم.

و ما من جيش أو دولة أو جماعة أباحت لنفسها أن تعيث في الأرض فسادًا؛ إلاّ عادت أدراجها إلى وهدة العادات ( القروسطية )، و أورثت الآخرين ثأرًا مبرَّرًا على مرّ السنين، يجعل صاحبَه في مراتب الشهداء، إذا ما قضى نحبَه، و هو يدافع عن بيته و ماله و عرضه.

فالكويتيون لن يغفروا لجنود صدام سلبَهم حتى قبضات أقفال الأبواب، و من قبلهم اللبنانيون تجاه الجنود السوريين، الذين حملوا إلى بيوتهم حتى أطقم الحمامات، و كذا خصوم الحوثيين لن ينسىوا لهم حرق منازلهم حينما اجتاحوا صنعاء في شهر 9/2014.

في تفسير لهذه الظاهرة، يرى هؤلاء الاختصاصيون النفسيون، أنّ المستوى الأخلاقي الذي نشأَ عليه المرءُ، هو الدافع الأهمّ في إقدامه عليها، فلقد أُثِر عن طائفة من الجنود السوريين، و العراقيين رفضُهم مدّ أيديهم إلى أثات البيوت التي استباحها زملاؤهم، و تعاملوا مع الأمر على أنّه تدنٍ أخلاقيّ ينبغي التعالي فوقه، و بعضُهم حملَه على اتقاء الشبهات، من باب الحلال و الحرام.

و هو الأمر ذاتُه مع أفراد المجتمع الآخرين، الذين رفض كثيرٌ منهم شراء الأثاث و الأغراض المُعفَّشة، مهما كان تهاودَ المُعفِّشون في قيمتها.

لقد غدت هذه الظاهرة ممنهجة، في كثير من الأحياء التي هجرها أهلها قسريًا، بسبب الأعمال العسكرية في سورية بعد 2011، و هناك من يؤرّخ لها أيضًا في أحداث الثمانينات من القرن الماضي أيضًا، فأي إنسان يهاجر قسريًا، سيتوقع أن يتمّ تعفيش منزله بقضه وقضيضه، سواء من العناصر المنضوية مع النظام، أو من الفصائل المسلحة المعارضة؛ و هو ما ولّد نفورًا لدى الحواضن الشعبية في كلتا الجهتين، لسلبهم تحويشة العمر، التي أفنوا أعمارهم و أجسامهم حتى تحصَّلوا عليها.

و أشدّ ما كان منها ذا أثر بالغ، عندما يكون التبرير بمفهوم ( الغنائم ) لدى بعض الفصائل الاسلامية، التي قامت بالاستيلاء على مؤسسات الدولة، و بيوت المدنيين الموالين للنظام، أو ممن في حكمهم، ممن حكم عليهم الشرعيون على أنهم أعوان الظلمة، إن لم يكونوا هم الظلمة.

فلم تمتلك تلك القوى مفهومًا ثوريًا، تُحفظ فيه حقوق الدولة و مؤسساتها، و حقوق المدنيين و ممتلكاتهم؛ فتم الترويج لمفهوم الغنائم، محققين بذلك ولاء مقاتليهم، الذين اشرأبت أعناقهم إلى أملاك الناس، بفتاوى شرعييهم.

و هو ذات السلوك عند النظام، و حلفائه، و تشكيلاته العسكرية، الذين سلكوا ذات النهج و الأسلوب، و لكن بمسمى آخر هو ( التعفيش )، ولاسيّما أنّهم يمتلكون السطوة العسكرية و الأمنية، فاستطاعوا أن يوظفوا هذا المفهوم، كسلاح لا يقل عن سلاح القتل و التدمير في مواجهة المعارضة، بكل أشكالها المدنية و العسكرية، و كنوع من الحوافز، و الاغراءات لعناصرهم، و في كلتا الحالتين كان الضحية هو الشعب السوري و ممتلكاته.

إن الإقدام على شرعنة، أو قوننة ( التعفيش ) بدون شعور بتأنيب الضمير، و اعتبار هذا السلوك مسموحًا به، و بالتالي خلوه من المسؤولية الأخلاقية و القانونية، هو استلاب للقيم الأخلاقية من أي مقاتل، و توفير غطاء مادي، لسدّ العجز المالي المترتب على المؤسسات العسكرية و الأمنية، تجاه الملتزمين معها من جيش و أجهزة أمنية و تشكيلات مقاتلة من جهة، و من جهة أخرى بمثابة سلوك انتقامي من الحاضنة الشعبية للفصائل.

إنّه غيرُ مبرَّر ما تروِّج له جهات في النظام، من أنّ ( التعفيش ) ردّةُ فعل على مفهوم الغنائم الذي أبتدعته الفصائل الإسلامية، حينما التي نظرت إلى كل ما في المناطق التي تحررها من قبضة النظام هي بمثابة (غنائم)، يتم تقاسمها ونهبها.

لقد أفرزت هذه الظاهرة ظاهرةَ ( أمراء التعفيش ) على امتداد الجغرافية السورية، لدى طرفي الأزمة، و هو ما جعل كلاًّ من النظام و الفصائل على درجة واحدة في تحمّل المسؤولية في ضبط عناصرهم، و الحدّ من تجاوزاتهم، إذا رغبا في أن يكون كلٌّ منهما بديلاً مقنعًا في المناطق التي آلت إليه بعد جولات من السيطرة المتبادلة.

وسوم: العدد 774