سحرة فرعون.. ونعال الاستبداد!

العلة الأولى والأخطر التي عصفت بوجودنا الإنساني على مدى التاريخ اسمها الاستبداد. كانت محنة الوطن هي استبداد الفرعون وتألهه، ومعاملته للشعب معاملة العبيد، وانصياع هؤلاء العبيد لإرادته وفكره ورؤاه، وانحياز قياداتهم ونخبهم(السحرة) لما يقوله الفرعون، والدفاع عنه، وتأثيم كل صوت حر أو منطق فصيح يرفض الظلم والقهر والاستعلاء الجهول.

حفل القرآن الكريم بآيات كثيرة، تتحدث عن الفرعون وجنوده وقومه: "مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَىٰ وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ (غافر:29) ، وعن الشعب ورفضه للحق "فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ. فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ -" (الزخرف:54-55)، وعن الصفوة: "إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ (القصص:8)، وعن مصيرهم المخزي" فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ (الدخان:29)، وكان دعاء زوجة فرعون "رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (التحريم:11). ولعل هذا كان سببا لتحتلها دول العالم بدءا من الإغريق حتى اليهود.  

لا أعرف إن كانت بلادي موعودة أن تبقى هذه الخصيصة فيها على مدى العصور، أو إنها مرتبطة بقدرة أهلها على نبذ الفرعنة، والاستسلام للحق والعدل، ورفض النفاق والانبهار بما يفعله سحرة الفرعون، أيا كان ومن يشبهه (الوزير، المدير، رئيس العمل، شيخ الخفر، خولي الفلاحين..)؟ من المؤكد أن الفرعون أيا كان منصبه تسعده لغة الطبالين والمطيباتية وأعمال السحرة، وأكاذيب المنافقين.

الذين يرجعون أسباب تخلفنا إلى عوامل هامشية يكذبون علينا بل يكذبون على أنفسهم أولا، لأنهم يتركون العلة الأولى والأخطر، وهي الاستبداد.. العلة التي نبهت إليها طلائع النهضة منذ القرن التاسع عشر، وراج عنها كتاب مشهور اسمه "طبائع الاستبداد" لعبد الرحمن الكواكبي، وكتب كثيرون على مدى قرن ونصف قرن عن جريمة الاستبداد وتأثيرها على حركة البلاد والعباد. ولكن نعال الاستبداد، يواصلون مهمتهم في تحسينه، وتقبيح الشورى، والمحاورة، والالتزام بقيم الحق والعدل والإنصاف، وسماع الرأي الآخر كما يسميه الشيوعيون وأشباههم.  

خذ مثلا، أحدهم يتناول ما أثير حول ممثلة خلعت الحجاب بعد اعتزالها لسنوات، فيرى أنها تحررت من التخلف والعبودية، وحررت المصريين من الرجعية والظلام، وكأن مصر صارت بنزع حجاب الممثلة التي لم تقدم فنا حقيقيا يذكر قد نقلت المصريين إلى عصر من الحرية يخلو من السجون الضخمة التي تضم عشرات الألوف من أشراف الوطن ونبلائه- ولا نزكيهم على الله- وأنها أعادت الحياة لألف وخمسمائة من الأبرياء محكوم عليهم بالإعدام، ودفعت عن ثلاثة ألاف وأربعمائة من الأحرار شبح الموت بعد أن أحيلت أوراقهم إلى مفتي النظام.

المذكور يستخدم أساليب سحرة فرعون حين يتحدث عن الأصولية والردة، ويعيد تخلف البلاد ومشكلاتها إلى الحجاب والنقاب، ونسي الساحر أن مصر في الستينيات كانت ترتدي الميني جيب، ومع ذلك فقد شهدت انهيارا مرعبا، وهزيمة غير مسبوقة في التاريخ، ندفع ثمنها حتى الآن، وسنظل ندفعه إلى أن تعود مصر إلى هويتها الإسلامية. ولأن الساحر بينه وبين الإسلام عداوة فاجرة لا يبدي شيئا يسيرا منها تجاه أعدائنا الغزاة في فلسطين، فإنه يهوّل من أمر نزع الحجاب التي كانت ترتديه الممثلة المسكينة، فيعلن انهيار ما يسميه جماعات الإسلام السياسي، لدرجة شق رجالها ونسائها الجيوب ولطم الخدود لأن الممثلة المذكورة أنزلت علمهم الأسود ورفعت علمها الخفاق، ولأن المجتمع المستنير كله وقف يحيى علمها كما لو أنه هو علم مصر.

ساحر فرعون البائس يعلم أن الإسلام كله سياسة، وأن المسلمين مرت عليهم أحداث زلزلتهم مثل الهزائم وسرقة الحرية ومصادرة أموالهم ومؤسساتهم، فلم يهنوا ولم يحزنوا، كما أن كثيرا من العوالم والغوازي ونساء الهشك بشك (ليس الفن) تحجبن، ونزعن الحجاب ولبسن المايوه، ومثلن أدوارا مبتذلة، ولم يؤثر ذلك في مسيرة الإسلام، ولن يؤثر لسبب بسيط، وهو أن الإسلام لا يرغم أحدا على اتباعه، وبالتالي لا يكره امرأة على ارتداء الحجاب أو النقاب. الطريف أن المذكور لا يستطيع أن ينتقد زي الراهبات، ولا أن يوجه إليهن تهمة تخلف بلادهن. فبلادهن تتقدم لأنها لا تصادر الحرية ولا تكمم الأفواه، ولا تحشر الألوف من أبنائها في الزنازين، ولا تقتلهم في الشوارع والميادين والبيوت وأماكن الاختفاء القسري.

خذ مثلا آخر لأحدهم يدافع عن قتل المسلمين الأبرياء في ميدان رابعة العدوية. فيهاجم منظمات حقوق الإنسان، ويرى أنها اعتمدت على تقارير غير صحيحة، بينما العالم كله كان يشاهد المذبحة على شاشات الفضائيات على الهواء مباشرة، ولم تكن مذبحة رابعة وحدها، بل كانت هناك أخوات لها لم تتخذ منهج الاعتصام، بل كانت في المساجد والشوارع والميادين، وكان الرصاص الظالم يلاحقهم أينما ذهبوا.

ساحر الفرعون استخدم ذكاءه القاصر للزعم أن الاعتصام كان مسلحا. لو كان الأمر كذلك ما استطاعت القوات أن تمضي إلى هناك لأنها كانت تعلم أن الخسائر في صفوفها ستكون كبيرة، وكان الانصياع إلى الفض السلمي الذي قيل أن بعض القوى توصلت إليه هو الحل، ولكن القوم تأكدوا أنهم لن يخسروا أحدا، وأن المذبحة ستكون عنوانا على عصر لن يسمح بالحرية ولا الديمقراطية ولا الكلام، وأن من يفكر في ثورة يناير مرة أخرى سيلقى مصير أهل رابعة بين شهيد وجريح !

الطريف أن الساحر المذكور يزعم أن قرار فض رابعة بالمذبحة كان قرارا شعبيا في الأساس بدأ بما يسميه الثورة في 30 يونيو، وأن هذا الفض كان له تفويض خاص من الأغلبية الساحقة من المصريين في 26 يوليو 2013! وعلى فرض أن ذلك صحيح فهل يجوز قتل مصري واحد يجلس في ميدان اعتراضا على سرقة إرادته؟ إن الساحر البائس يربط فض الاعتصام بتوقيعات تمرد، والإرهاب الذي نشأ في سيناء، ويتجاهل أن حركة تمرد المجرمة كانت ممولة بالملايين من الأعراب، وأن دفع ثمن التوقيعات كان علنيا، وكان يقدر بقدر صاحب التوقيع، وكم نهب المرتزقة والنصابون وموتي الضمائر من هذه الجريمة التي لا يستطيع أحد تكرارها الآن؟ ثم ما ذنب المعتصمين الأبرياء حين يُقتلون، ولا يعلمون أن إرهابا سينشأ بعد قتلهم في سيناء؟ هل صار الدم ماء؟ يا لبجاحة سحرة فرعون! لقد خرج سكان الهرم الكبار ذات يوم احتجاجا على قتل كلب، ولكن السحرة لا يعنيهم قتل الإنسان المصري ولوكان بالآلاف. من المؤكد أن سحرة فرعون قد احتلوا أسود صفحات التاريخ حين هاجموا دين الأمة، وحللوا دماء أبنائها الأبرياء، وزعموا كذبا بعدئذ أنهم يعملون من أجل الحرية والتنوير والديمقراطية والتقدم!

يبقى أن سحرة فرعون الأولين كانوا أكثر شرفا واحتراما من نعال الاستبداد المعاصرين، حين عادوا إلى الحق، وسجدوا لرب العالمين، ولم يعبأوا بالعذاب الذي توعدهم به الفرعون!

الله مولانا. اللهم فرج كرب المظلومين. اللهم عليك بالظالمين وأعوانهم!

وسوم: العدد 787