الإمام أبو حنيفة والسياسة

الأئمة الكبار أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد، قد شهدت لهم الأمة بالخير والفضل لما حباهم الله به من علم وتقوى وذكاء وهمّة...

لقد عاشوا في مرحلة الخير الذي خالطه الدَّخَن، فقد كان الخلفاء والولاة يحكمون بشرع الله، وتظهر منهم بعض المظالم. ففي الحديث الذي رواه البخاري، ويسأل فيه حذيفةُ بن اليمان رسولَ الله صلى الله عليه وسلم: هل بعد الخير الذي ساد في عصر النبوّة وعصر الخلفاء الراشدين ثم قامت بعض الفتن التي مثّلت شراً: هل بعد ذلك الشر من خير؟ قال صلى الله عليه وسلم: "نعم، وفيه دَخَن". قال: وما دَخَنُه؟. قال: "قوم يهدون بغير هَدْيي. تعرِف منهم وتُنْكِر".

وإذا ظهر الظلم والمنكر والفساد من آحاد الرعيّة، فإن أثرها يظهر على الفرد الذي ارتكبها وعلى بعض من هم حوله، أما إذا ظهرت من الحكّام فإن شرورها قد تعمّ الأمة.

وما كان لإمام، كأبي حنيفة ومالك، أن يسكت على الظلم ولو أدّى به إلى تحمّل الأذى والمحنة والسجن.

ولقد عاش أبو حنيفة بين عامي 80 و 150هـ، عاش 52 سنة منها في العهد الأموي، و18 سنة في العهد العباسي، وتعرّض للمحنة في كل من العهدين.

في عهد بني أمية وقف مع ثورة زيد بن علي، على هشام بن عبد الملك، ورفض أن يعمل عند والي الكوفة يزيد بن عمر بن هبيرة. ففي "مناقب الإمام أبي حنيفة" للموفق بن أحمد بن محمد المكي، المتوفى سنة 568هـ: "كان ابن هبيرة والياً على الكوفة.. فظهرت الفتن.. فجمع فقهاء العراق ببابه، فيهم ابن أبي ليلى وابن شبرمة وداود بن أبي هند، فولّى كل واحد منهم صدراً من عمله، وأرسل إلى أبي حنيفة فأراد أن يجعل الخاتم في يده فلا ينفُذُ كتاب إلا من تحت يده... فامتنع أبو حنيفة، فحلف ابن هبيرة إن لم يقبلْ أن يضربه، فقال الفقهاء لأبي حنيفة: ننشدك الله ألا تُهلك نفسك، فإنا إخوانك وكلنا كاره لهذا الأمر [لم نقبل هذه الوظائف إلا مكرهين]. فقال: لو أراد لي أن أعُدَّ له أبواب المسجد لم أدخل في ذلك، فكيف وهو يريد مني أن يكتب بضرب عنق مسلم وأختم له على ذلك الكتاب!.

فحبسه صاحب الشرطة وضربه أياماً متتالية... ثم أمر ابن هبيرة بتخلية سبيله".

ثم هرب أبو حنيفة إلى مكة سنة 130هـ ثم قدم الكوفة في عهد أبي جعفر المنصور، وكان متفائلاً بقيام دولة العباسيين، ثم بدأ يكشف عن مظالمهم جهراً، وعلِمَ المنصور بذلك لكنّه غضّ الطرفَ لعلّ أبا حنيفة يكفّ عمّا يقول، لكنّ أبا حنيفة رضي الله عنه حين خرج محمد النفس الزكية بالمدينة على أبي جعفر المنصور أعلن رأيه بصراحة فجاهر بمناصرة محمد بن عبد الله النفس الزكية في دروسه، بل وصل الأمر إلى حد أن ثبط أحد قواد المنصور عن الخروج لحرب محمد النفس الزكية. [أبو حنيفة 40- للشيخ محمد أبي زهرة].

وجدير بالذكر أن الإمام مالكاً، وهو مَن هو قدراً ومكانة، كان قد أفتى بجواز الخروج مع محمد النفس الزكية، فقيل له: إن في أعناقنا بيعة للمنصور، فقال: إنما كنتم مكرهين، وليس لمكرَه بيعة. فبايعه الناس على قول مالك، ولزم مالك بيته. [ابن كثير/ البداية والنهاية 10/84].

فتعاضد الرأيان وكان ما كان من أمر اتباع الناس لفتوى الإمامين ثقة منهم في دقتهما وحرصهما على الحق.

بل جأر الإمام أبو حنيفة برأيه هذا في وجه المنصور نفسه حين سئل في أهل الموصل، وكانوا قد شرطوا لأبي جعفر أن تحل دماؤهم إذا خرجوا على بيعته، وكان قد سبقه فقهاء أحلوا للمنصور دماء أهل الموصل إلا أن يعفو. فقال أبو حنيفة للمنصور: إنهم شرطوا لك ما لا يملكونه، وشرطْتَ عليهم ما ليس لك، إن دم المسلم لا يحل إلا بأحد معان ثلاثة، فإنْ أخذْتهم أخذتَ بما لا يحلّ، وشرطُ الله أحق أن توفى به، ثم دعا أبا حنيفة وقال له: يا شيخ، القول ما قلت، انصرف إلى بلادك، ولا تُفْتِ الناس بما هو شَين على إمامك فتبسط أيدي الخوارج. [مناقب أبي حنيفة لمحمد بن محمد بن البزار 2/17].

وقد اتخذ المنصور من هذه المواقف وغيرها ذريعة لضرب الإمام أبي حنيفة وحبسه والتضييق عليه حتى مات.

ولكنْ حسبنا هنا أن نذكر أن أبا حنيفة لم يتخذ الحيلة مخرجاً، فكان يجأر بالحق غير مبالٍ بالنتائج، بل مترقباً لها محتملاً صبوراً، فهو يرفض القضاء، ويرفض الإفتاء، ويصرح بأنه رفض العطاء لأنه من بيت مال المسلمين وما كان ذلك يحل للخليفة، إنه احتسب الأمر وأشرف فيه على النهاية، والله يتولى الجزاء، ولم تخرجه المحنة عن حرصه على الحق، فهو يوصي، ساعةَ احتضاره، أن يُدفَن في أرض طيبة لم يجْرِ عليها غصب، وألا يدفن في أرض قد اتّهم الأمير بأن غصبها، حتى يروى أن أبا جعفر المنصور عندما علم بذلك قال: من يعذرني من أبي حنيفة حيّاً وميتاً. [أبو زهرة/ أبو حنيفة 53].

ولم يخسر أبو حنيفة شيئاً من متاع الدنيا لأنه زيف إذا قورن بالحق الذي يبقى، بل إن شئت قلت: ربح الإمام مكانته عند الله وعند الناس، فتحكي كتب التاريخ أن جنازة أبي حنيفة شيعها خمسون ألف رجل، صلّوا عليه، ومشوا في جنازته، بل يذكر أن أبا جعفر المنصور نفسه صلّى على قبره بعد دفنه. يقول الشيخ أبو زهرة معلقاً: ولا ندري أكان ذلك إقراراً منه بعظمة الخلق والدين وجلال التقى، أم لإرضاء العامة، ولعله مزيج من الأمرين، فقد كان أبو حنيفة عظيماً حقاً. [أبو زهرة/ أبو حنيفة 54].

وسوم: العدد 787